بن محمد قسطاني
“لحظة الحكم لحظة حمق”….نيتشه
كيف يمكن تناول التلفزيون سوسيولوجيا؟
يمكن مقاربة الإنتاج التلفزي من زوايا عدة ومقاربات مختلفة، إعلامية وتقنية واقتصادية وجمالية وغيرها. أما السوسيولوجيا فتبرر تناولها للتلفزيون من زاوية كونه إنتاجا ثقافيا جماعيا واجتماعيا موجه للمجتمع في سياق زماني محدد. هو تمظهر إذا يعبر عن إدراكات فئة أو فئات لمعلومات ورسائل وقيم مبيتة وذات قصدية مدبرة، فيها المعلن وغير المعلن، كما أنها لا تخلو من خلفيات معبر عنها وأخرى صامتة، واعية وغير واعية، إلى غير ذلك من الخصائص التي تشبه أي منتوج اجتماعي آخر، مع اختلافات يفرضها الحقل الإعلامي، الخبر والتعليق والإخراج والإنتاج والنوع وغيره.
من ينتج؟ لماذا ينتج؟ متى ينتج؟ أين ينتج؟ كيف ينتج؟ ماذا ينتج؟ لمن ينتج؟
طرح مثل هذه الأسئلة يمكن أن ينير خبايا تلك العلبة السوداء التي تلعب وتتقن لعبة الإخفاء بالإظهار والإبراز. لعبة الأقنعة والتمثيل والعزل والإنارة والتفريد بالمفاهيم الفوكية الشهيرة. لأن العلبة الصقيلة التي تبدو مثل صبية حسناء ساذجة وعفوية، متزينة وعالية الماكياج واللياقة الجسدية البريئة تخفي أحيانا أدوار الغواية واللعب بعقول العشاق الهائمين، لعب يمكن أن يكون أحيانا خطيرا عندما يحد أو يعوق الديموقراطية بتعبير بورديو. هو ضحك ولعب أحيانا على وليس مع، تهريج يمكن أن يصل إلى حدود التفاهة والبؤس والذوق المنحط. بذلك يعتبر كشف المخرج والبحث عمن يشد بالخيوط وراء الكواليس أمر ذو فائدة كبيرة لفهم الطريقة التي تشتغل بها المنتوجات، لأنه عندما نعرف الخطاطات الذهنية للمالك والمنتج وصاحب خطط العمل والإستراتيجيات ندرك قصد وجودة الرسالة، ونستطيع فك شفراتها وإيقاف مفعولها أو الحد منه على الأقل. انطلاقا من أولية كون من يملك صناعة الرسالة يملك المتلقي. لكن فهم كل ذلك متعذر دون العودة إلى ربط التلفزيون بالوسائط الجماهرية كلها من جهة وتاريخها من جهة ثانية.
1_في الحاجة إلى الوسائط وإعادة الرابط الاجتماعي
ظهرت الوسائط الجماهيرية إثر الثورة الصناعية والتحضر وطغيان رأس المال، وما أنتجه ذلك من خلخلة عميقة في الروابط الاجتماعيةliens sociaux التقليدية الرحمية والأسرية، لتخلق حالة من التفكك الفردي والجماعي déliance الذي يهدد مفهوم المجتمع برمته وفق الأنوميا المعممة والانفلات من أي معيار أو قيمة أو ضبط، ليطفو على السطح مجتمع السوق والتسليع والاستهلاك والعنف والجريمة والجريمة المنظمة والجنوح والقمار والرغبة في الربح السريع والإدمان والأمراض النفسية…
الوسائط في الأصل إذا نوع من إعادة الرابط reliance وذلك بإعادة وتكثيف الاتصال بين الأفراد والجماعات والدول، بنشر الخبر التجاري والاقتصادي والسياسي. وبعد ذلك في الترفيه وتتبع الحكايات المسلسلة. فالساحات العمومية والأسواق و”البراح” العمومي لم تعد تفي غرض نشر المعلومة مع اتساع رقع المدن و النمو الديمغرافي للساكنة وتزايد فلول المهاجرين. كما أن البريد التقليدي بعربات الجياد وقوة سيقان “الرقاص” أصبحت جد بطيئة مع ظهور القوة البخارية وسكك الحديد والمراكب العابرة للقارات. أما “العطار” و”التروبادور” فقد دخلا في متحف الذكريات. نحن إذا أمام ضرورة وسائط سريعة توصل بين المتفرق بين بني الإنسان.
غير أن جدل الأشياء خلق وظائف أخرى استغلت متاح السرعة والانتشار فظهرت البروباجوندا أثناء الحرب، ثم الإشهار وأخيرا توجيه وصناعة الرأي كما في الحملات الانتخابية وغيرها.
الأمر إذا ومنذ الجينيالوجيا ذو حدين، حد إعادة الرابط والادماج الاجتماعي والمساعدة على التكيف من جهة، وأمر الرغبة والقدرة على “التضبيع” وسلب القدرة على الملاحظة والتميز وصرف النظر من جهة ثانية. هذا ما يجعلنا أمام إشكالية لقاء متناقضات الرغبة والادمان، وهو موضوع لا يبعد عن عوالم الانحراف والمرض والعصاب. من الذي يعطي للتلفزة قوتها، إنها الطبيعة المعقدة والإشكالية للصورة.
2_ في خصائص الصورة:
هناك في الصورة حضور قدر كبير من القصدية والإرادوية، والوعي المعلن والمضمر تورط في هموم ورهانات حاضرة وربما مستقبلية، ومن ثمة اقترابنا من التصورات الإدراكية والفهم والوضوح النسبي للرؤية أكثر من التمثلات شبه اللاواعية
الصورة منهجيا، أكثر الوسائل البلاغية تجسيدا وتشخيصا وإجرائية وقابلية للحكم والقياس، كما أنها وبكيفية بناءها وتشكيلها يمكن أن تساعدنا على القبض على المواقف والتوجهات ولو ببعض التعميم والاستنطاق، بحثا عن المواقف الملائمة الدقيقة وليس عن التمثلات.
لا نريد بالصورة سوى بعض حصر التمثل بشكل أكثر إجرائية، إذ الصورة محاولة نقل الواقع وترتيبه ودمجه وإضفاء الذات الاجتماعية النفسية عليه تذكرا واعيا وباللاوعي وقمع المكبوت والمسكوت عنه غير المرغوب فيه، وإبراز المستحسن والمأمول، كما أنه استدلال على وب … دون نسيان الإيحاء الذي يلعب دورا أساسيا في كل تصور وكل تمثل … كما أنها وإن كانت تريد الإبراز بالموضوع والأرضية، فهي أيضا مجال خصب للبياض والإخفاء والتحايل، ومن ثمة بعدها عن المفهوم واقترابها الشديد من الاستكشاف وعلاقتها بالمشاعر والأراء والتوجهات والمواقف. هي تمثل إذا لكنه شبه واع. “إن الصورة ليست شيئا مطابقا للموضوع في العالم الخارجي، بقدر ماهي تركيب فعال تقوم به ذهنية الفرد البشري.” يرى بياجي1
إن الطابع النصف حسي2 للصورة جد مساعد على الفضح واستكناه سلوك الحاضر وتوجه المستقبل ومن ثمة إمكانية قياس أثرها وفق:
– درجة التصوير أو القدرة على تمثل الواقع أو درجة التمثل مع الموضوع المصور وهو ما يصطلح عليه بمدى المطابقة والاقتراب أو البعد من الواقع.
– التعقد والبساطة.
– الحجم أو القدرة على التأثير والتوجيه والاستقطاب.
– الكثافة والتخلخل والقوة والضعف ( معيار التذكر والنسيان).
– الجمالية والقدرة على الإمتاع (التجانس أو اللاتجانس والتنافر).
– السياق الزمني والتاريخي، أزمنة الصورة (زمن المصور، زمن الأحداث والشخوص، زمن المتلقي ..) 3.
إن قدرة الصورة التلفزية على اختراق الفئات الاجتماعية سرعة وانتشارا، كما أن دغدغتها للمشاعر وإثارة الغرائز الأولى بتعبير بورديو4 تجعلها تستطيع تجاوز الحقل الإعلامي الضيق نحو حقول أكثر خطورة .
3_من حقل الإعلام إلى حقل الثقافة والعلم والديمقراطية
علاقة التلفزيون بالتجارة والمال علاقة أكيدة وواضحة، وبذلك فهي حقل داخل الحقل الاقتصادي بتعبير بورديو5. إن البحث عن السبق الإعلامي وتوسيع شبكة المشاهدين ليس وراءه الرغبة في النجاح الرمزي بقدر ما هو بحث في اقناع المشهرين.
أما علاقتها بالسياسة والديمقراطية والثقافة والمعرفة والعلم فهي علاقة ملتبسة. فرغم فوائدها التربوية والتحسيسية والعمل على الرفع من مستوى الحس العام والمشترك، الذي لا تخفى قيمته على أحد، إلا أن اعتمادها السرعة لا يساعد كثيرا على أن تنجح البرامج الثقافية والمعرفية التي تبدو كأنها أكلات خفيفة قابلة للاستهلاك السريع pensée jetable fast thiking بتعبير بورديو6 .
ولما كانت الصورة تريد التحكم اللطيف فهي ليس مؤهلة للتفكر بتعبير بورديو أيضا، هي صورة لا رأي لها، إنها تحمل وتعبر فقط عن رأي المنتج و المخرج، ورأي الخط التحريري. كما أن تعدد واختلاف طبيعة وفئات المتلقي تجعل الصورة لا رأي لها سوى ما يوافق هوى الجميع، رأي صالح لكل مكان ولكل زمان، رأي “باسبارتو” و”ستندار”، وقابل للاستهلاك من طرف الجميع pensée prête à porter وبذلك كله يصبح لا رأيا. الصورة أيضا لا تبدع لأنها تخاف الخروج من النمطية والمتوافق حوله، بذلك تبقى في جل الحالات في مستوى الحس المشترك إن لم يكن في أسوإ مستوياته المضلله واللاعبة على الأوتار بالشعبوية ومغازلة الجميع، الأغلبية والمعارضة واليمين واليسار والحداثي والتقليدي، إلى غير ذلك من المتناقضات التي حملت الناس على أن يسموها “التلفة”.
بكل ما سبق تضرب التلفزة الديمقراطية قي الصميم لتصبح “قمعا رمزيا”، وهي التي كان من الممكن أن تساهم في الديمقراطية المياشرة كما يرى ذلك بورديو أيضا7.
ورغم كل ما سبق تبقى التلفزة، والوسائط عامة، أمرا إمبريقيا يصعب الحكم عليه نظريا، فقابليتها للاستثمار الدمجي والإصلاحي كبيرة، كما أن قدرتها على خزن القيم ونشرها جد كبيرة أيضا. هي إذا مجال للمدافعة ومجال للرهانات، كما أنها تعبير عن هذه الرهانات. غير أن قدرا كافيا من الشجاعة في التفتح والانفتاح والتجريب، تبقى ضرورية لمجال جد محايث لليومي، مجال يستدعي الذكاء البداهي والحس العملي والملائمة قبل كل شيء. وهو ذكاء لا عفوية فيه، بل هو حصيلة التكوين وتراكم الخبرات وتجميع ربتوارات الوجه للوجه الكوفمانية كما وكيفا. ربما هذا يهب بعض العذر للهفوات القاتلة أحيانا، لأنه لايعلم ما في الخضم غير الغارق الذي يحسب القشة مركبا، وذلك حتى يكون نيتشه على صواب عندما نعت لحظة الحكم بالحمق.
الهوامش
1- الدكتور أوزي، أحمد.- الطفل والمجتمع، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 1988، ص،64.
2- نفس المرجع، نفس الصفحة
3- للاستزادة ارجع لنفس المرجع
4- Bourdieu, Pierre, Sur la télévision, suivi de l’emprise du journalisme, Ed, Raisons d’Agir, mai, 2008, pp, 6
5- Ibidem, pp, 81,82
6 – 29, 30 Ibidem, pp,
7- Ibidem ,p, 8
تحليل متمرس ينفذ إلى بواطن الأشياء بدلالات عميقة يجمع بين صور بلاغية من عالم الاتصال والتواصل الحالي وأخرى تنتمي إلى الماضي لكنهالا تقل بلاغةعن السالفة
موضوع ذو أهمية وراهنية .ويمكن أن يشكل منطلقا لعدة أبحاث، مادام البحث في الحقلين السوسيولوجي والأنتروبولوجي لم يفي الموضوع حقه.كل الشكر والتقدير للأستاذ بن محمد قسطاني.