ترتبط مفاهيم التنمية بالتقسيم المركزي-أوروبي ، حيث يصنّف المركز ما عداه أنه بحاجة للتنمية (المدرسة التطورية لم تندثر تماماً) ، لذا الإنطلاق ضمن الأنثروبولوجيا (وأنثروبولوجيا التنمية ضمناً) ، يتطلب من الباحث أن يلتزم بشروط ثلاثة أساسية :
- شرط الشمولية : أن يكون شاملاً لكافة العوامل والتفاصيل ،
- شرط المقارنة : تاريخية (بين ما كان وما أصبح في ذات المكان الجغرافي) ، وجغرافية (بين هنا وهناك في ذات التاريخ) ،
- شرط النسبية : وهي محاكمة الواقع المعاش – الثقافة ضمن شروطها ، لا ضمن شروط المركزية-الأوروبية !
هذا الشرط الأخير هو ما يمكن لأنثروبولوجيا التنمية أن تدلو بدلوها فيه !
فهل تتعارض التنمية مع النسبية الثقافية ، خصوصاً إذا كانت التنمية مفروضة من الخارج ، وليست حركة ذاتية “طبيعية”؟!
إن شروط التطور والنماء تختلف من منطقة إلى أخرى ، وما ينفع في بلد لا ينفع في آخر ، وإستجابات السكان تختلف أيضاً ، إذ لا يمكن لنا بناء مستشفى مثلاً ، والسكان يؤمنون بالأرواح المسبّبة للداء ! هل ندمّر ثقافتهم بإعتبارها غير علمية ، أم نلتزم إطاراً توفيقياً بين عاداتهم الإستشفائية ، ليصلوا بعد جيلين أو ثلاثة إلى الحالة “الطبيعية” ! [كتاب ” الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية” يوضح هذه المسألة ، كما أن قصة “قنديل أم هاشم” للكاتب المصري “يحيى حقي” تتحدث عن الديناميكيات المحلية ، وكيف يمكن التوفيق بينها وبين الحداثة].
إن التنمية علم قائم بذاته ، وعلينا كباحثين في الأنثروبولوجيا أن نوظفه في خدمتها ، فنلتزم معه شروطها المنهجية لا شروطه ، وبالتالي نستخدم مفاهيمها لا مفاهيمه .
إن مقاربتنا الأنثروبولوجية تختلف من حيث الأسلوب ، وطرح الإشكالية ، وإعتمادها أكثر على الأبحاث النوعية لا الكمية، كما بكتابة التقرير النهائي !
تعتبر المدرسة التفاعلية الرمزية أن المجتمع كحقيقة موضوعية يعاد إنتاجه من خلال التفاعل الرمزي بين الفاعلين الإجتماعيين ! ليصبح هناك مجتمعات/ثقافات تبعاً لهذه التفاعلات وطبيعتها وديمومتها !
لذا النظر الأنثروبولوجي ، يهتم بمقاربة التنمية من منظور من تقع عليهم (بالمعنى الحرفي لكلمة وقوع) ، هي تسقط من علو ، من الخارج ، وهو عليه أن يتقبلها لأن هذا ما تقوله المركزية الأوروربية ! وما تروّج له !
إذا أردت أن تصبح متحضّراً مثلي ، عليك أن تلتزم ذات الخط التطوري الذي إلتزمته ! حتى ولو كانت شروط التنمية المفروضة تتطلب هجر ثقافتك أو تسطيحها ! حتى ولو تطلب نبذ شخصيتك وهويتك الثقافية !
لكن التنمية من المنظور الأنثروبولوجي ، هي تنمية ذات منحى إنساني ، حيث يشكل الحفاظ عليه وعلى إرثه جوهرها!
نريد أن نبني مصنعاً ، هذا جيد ، لكن ، هل هذا ما يحتاجه أبناء المجتمع المحلي ؟ هل نحافظ على التنوع البيئي ؟ والثقافي ؟ ألن تُدخل طبيعة العلاقات داخل المصنع “المحليين” في دوامة تغير متسارع لا يشبههم ! فحركتهم ذات تراكم معين ، وبإنشاء المصنع نحرف توجهها ، عبر تبديل القيم الضامنة لها !
التنمية ، ليست مفهوماً محايداً ، وتحتاج إلى وعي شروط إستخدامها ، مِن قبل مَن ؟ وإلى مَن ؟ وكيف ؟ وأين ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟!
فالتنمية هي فعل معايرة ! والمعيار الذي نقيس عليه يخضع لمن أطلق المصطلح !
هو نامي ، على طريق النمو ، متخلف …؟
وهل هي مصطلحات حيادية ؟ أو إقتصادية خالصة ؟ أم تحمل معاني أيديولوجية ؟
إن الحيادية غير ممكنة ! لكن ، كباحث أنثروبولوجي ، يمكن أن تكون موضوعياً ، بمعنى أن تلتزم بمعطيات الحقل ! أن تلتزم بالتوصيف الموضوعي له ، فما تكشفه هو ذات ما سيكشفه باحث آخر !
لاحقاً ، قد نختلف على الطريقة الأمثل للتنمية ، لكن هذا الإختلاف لن يكون ناجماً عن إختلاف بالمعطيات ! أو إنحراف بالتوصيف ! بل بقراءة تحليلية نظرية (وفلسفية) ، وإستشراف للمستقبل ومآلاته !
مفاهيم الهيمنة واللامساواة ، يجب أن يوازنها مفهوم العدالة الإجتماعية ، والإنطلاق من الأولى للثانية مطلوب وضروري ، وفهم وجود الأولى ضروري لنحصد الثانية !
لا يمكن التلطي خلف إدعاءات الحيادية ، كما لا يمكن تجاهل وجودها ! أو إعتبار التنمية بادرة حسن نية !
والباحث الأنثروبولوجي عليه – في هذه الحالة – أن يكون أميناً ومؤتمناً على الإحتياجات الحقيقية للمجتمع المحلي ، لا على جداول وإحصائيات المركزية-الأوروبية !
فالحيادية كذبة ، تؤسس للخضوع ، وهو مخالف لفكرة الأنثروبولوجيا – كما أراها وأتمناها – !
في عصر الإنحطاط هذا ، علينا أن نشخّص دورنا وأن نختار موقفنا بدقة ،
إما أن نكون مع الإستكبار ، فنلتزم مفاهيمه ومصطلحاته وتصنيفاته …
وإما أن نقف مع المستضعفين …
ولهذا الحديث تتمة …