الباحث الانثروبولوجي السوري المغترب سليمان خلف
الباحث الانثروبولوجي السوري المغترب سليمان خلف: الصور النمطية السلبية التي تشكلها الشعوب تجاه الآخر يمكن ان تتغير بتغير الظروف.. علينا تطوير ثقافة التسامح ومد جسور التعارف والتقارب بين الامم للارتقاء بالانسان
أخذته العواصم فحلق في أجوائها، وتحت جناحيه يخفق حبه للوطن، يعود إليه باحثاً بين الفينة والأخرى، كي يقدم منه نماذج بحثية علمية يكتبها بالإنكليزيةالتي تمكنت منه وتمكن منها، أختار دراسة الثقافات الإنسانية بشكل مقارن (الأنثروبولوجيا) ونال فيها شهادتي الماجستير والدكتوراه، ذلك هو الباحث السوري الأستاذ الدكتور سليمان نجم الخلف، مواليد الرقة قرية تل السمن 1946، ، فما بين (لندن، وبيروت، ولوس انجلوس، والكويت، وستوكهولم، والدوحة، وأبو ظبي) أمضى أكثر من أربعين عاماً في الغربة وما يزال، وتلقت بحوثه كبريات الجامعات الغربية، ووضعتها في مناهج دراساتها العليا، وتعتبر الانثروبولوجيا علما مستحدثاً جدا في الجامعات السورية ولا يزال يدرس في حدود ضيقة ضمن قسم علم الاجتماع ولا يوجد فيه مختصين، وبهذا تكتب للدكتور سليمان خلف الريادة في هذا التخصص العلمي الذي ينظر إليه اليوم بأنه أوسع العلوم الإنسانية والاجتماعية في كل الجامعات العالمية .
(تشرين ).. التقت بالدكتور سليمان خلف خلال زيارته لأهله في الرقة قادماً من أبو ظبي حيث يعمل هناك خبيراً في مجال الثقافة والتراث، وأجرت معه الحوار التالي:
ہ للبدايات آمالها وآلامها، حبذا لو حدثتنا عن هذه البدايات، وإلى ما انتهيت بعد أربعين عاما؟
ہہ للحديث شجون، فقد غادرت قريتي الحدباء (الجايف) أواخر عام 1965م بعد أن أنهيت الثانوية العامة إلى مدينتي (كامبردج)و(مانشستر) البريطانيتين حيث أنهيت تعليمي في اللغة الإنكليزية استعداداً لدراسة الطب البشري، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فحالت ظروف دون ذلك، وحظيت بقبول في الجامعة الأمريكية في بيروت، فدرست علم الاجتماع والانثروبولوجيا بين عامي 1968، و1972، ونلت الإجازة بامتياز، وحصلت على منحة دراسية بصفة معيد أثناء تحضيري لرسالة الماجستير في تخصص الانثروبولوجيا، وقدمت بحثي الذي كان بعنوان (الزعامة القبلية وسياساتها في شمال شرق سورية) وهو دراسة اجتماعية مقارنة لنظام المشيخة عند قبيلتي الفدعان من(عنزة)، والعفادلة من (البوشعبان) في محافظة الرقة، وقد اعتمدت الدراسة على المشاهدات و المقابلات الميدانية في سياق دمج المجتمع السياسي السوري العام، وركزت الدراسة على وصف وتحليل نظام المشيخة التقليدي، وكذلك التحولات التي مر بها هذا النظام في منتصف القرن العشرين.أنجزت الرسالة عام 1975، ونلت عليها شهادة الماجستير، ومن ثم عملت في مدرسة الشويفات الوطنية في لبنان، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت لمدة عامين، وغادرتها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية إلى جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوسUCLA خريف عام 1977، حيث بدأت بالإعداد لنيل شهادة الدكتوراه، وحصلت أثناء دراستي على منحة دراسية بصفة معيد، و عملت في التدريس لمدة عام وتفرغت بعد ذلك لإنجاز رسالة الدكتوراه، والتي كانت بعنوان (التحولات الاقتصادية و الاجتماعية في الريف السوري المعاصر)، وكانت مادة الرسالة عن قرية (حاوي الهوى) في محافظة الرقة حيث تسكن مجموعة من أقربائي فيها، فزرت القرية مراراً لجمع المادة العلمية، ثم أنجزت رسالتي عام 1981، ثم عملت مباشرة بعد ذلك في جامعة الكويت لمدة /9/ سنوات متتالية، وكانت آنذاك الكويت تتمتع بمناخ أكاديمي وثقافي متميز مقارنة بالدول الخليجية الأخرى والبلاد العربية، حيث استقطبت عدداً كبيرا من الأكاديميين المتميزين من أغلب الجامعات العربية، وأسست عدداً من المجلات العلمية الرفيعة التي اعتبرت ولا تزال الأفضل في العالم العربي من ناحية رصانتها العلمية وعمق معالجتها للموضوعات التي تنشرها، مثل مجلة العلوم الاجتماعية، والمجلة العربية للعلوم الإنسانية، وتزوجت في الكويت من سيدة بريطانية كانت تعمل في جامعة الكويت، وأنجبت منها ولدين (رمزي، وسامي)، وبعد الاجتياح العراقي للكويت 2/آب/ عام 1990، انتقلت إلى جامعة ستوكهولم في السويد بصفة أستاذ زائر لمدة نصف عام، والنصف الثاني قضيته في إنكلترة، ثم حصلت بعد ذلك على وظيفة في جامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين، وعملت زوجتي في دبي، ودرس أولادي في مدارس بريطانية في دبي وتخرجوا منها، وهم الآن يدرسون في جامعات بريطانية، الأول (رمزي) حصل على البكالوريوس في عام 2007 في علوم الحاسوب من جامعة كامبردج وتخرج بامتياز، وهو يحضر الآن لنيل شهادة الدكتوراه في نفس الجامعة، و الثاني (سامي) يدرس إدارة أعمال قسم السياحة في جامعة (بليموث)غرب لندن .
وأمضيت /8/ سنوات في مجال التدريس والبحث في جامعة الإمارات ثم انتقلت بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية للإطلاع وكتابة بعض البحوث عن مجتمعات الخليج العربي، حيث تهيأت لي فرصة جيدة لمدة سنة كاملة بصفة أكاديمي زائر في جامعة هارفرد الشهيرة في مدينة كامبردج الصغيرة بالقرب من مدينة بوسطن . ثم عدت إلى الأمارات وعملت في جامعة الشارقة لمدة خمس سنوات. ثم كانت التجربة الأخيرة في جامعة البحرين لمدة عام ونصف، وعدت بعدها إلى أبو ظبي للعمل حالياً كخبير في مجال الثقافة والتراث في هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وتعنى هذه الهيئة بتطوير الحياة الثقافية في أبو ظبي خصيصاً وفي الإمارات عموماً، وتنصب اهتماماتها على توثيق وتحليل كل جوانب التراث وتطوير الحياة الثقافية والتراثية في الإمارات .
ہ ماذا قدمت من بحوث خلال هذه الفترة الطويلة ؟
ہہ لدي اليوم رصيد بحثي وافي، إذ أن لي عدد كبير من البحوث العلمية المنشورة في مجلات علمية غالبيتها باللغة الإنكليزية في بريطانية وأمريكا والخليج العربي .وأشير لك إلى أن اهتماماتي البحثية قد ركزت على المجتمعات الخليجية التي بدأت تتغير وتتبدل وتتشكل بسرعة مذهلة، نتيجة للثورة النفطية التي أفرزت فيها تحولات ومظاهر اجتماعية واقتصادية كبرى، وبالتالي فقد مثلت بالنسبة لي مواطن بحث جذابة ومثيرة وشيقة، بسبب بروز ظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة كلية، ومن الموضوعات التي كتبت عنها بحث بعنوان (ظهور دولة الرعاية والرفاه في الخليج الكويت أنموذجا)، ونشرت بحثاً أخراً عن المجتمع الخليجي وظهور تصورات الخيرات اللامحدودة وانعكاسات هذا التصور على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الاجتماعية المتشابكة، وقمت بتحليل العلاقات التي تتشكل بين المواطنين والوافدين، وبين المواطنين أنفسهم، ونشرت بحوثاً أخرى عن ظاهرة الرياضات التراثية مثل سباق الهجن، التي أصبحت ظاهرة ثقافية اجتماعية سياسية تتخطى كونها فقط سباقات للإبل، و نشرت عنها ثلاثة بحوث عن ثقافة الهجن وتطورها في سياق تطور مجتمع الإمارات الحديث .
ہ كان وطنك سورية ميدان بحث لك في رسالتيك في الماجستير والدكتوراه ..هل من تفصيل عنهما ؟
ہہرسالة الماجستير كما أسلفت كانت بعنوان (الزعامة القبلية وسياساتها في شمال شرق سورية)، وهي توثيق اجتماعي وصفي لكيفية تشكل الزعامة التقليدية في المجتمع العشائري في منطقة الجزيرة والفرات، وركزت الدراسة على قبيلتين متجاورتين هما (الفدعان) من عنزة، و(العفادلة) من البوشعبان، وانخراط هذه الزعامة في سياق تشكل بناء مجتمع الدولة في سورية، ومثلت الدراسة وصفا اثنوجرافيا للزعامة في صورتها التقليدية، وكذلك أحوال تشكلها في ضوء تغير الأحوال الاقتصادية والسياسية على مستوى الدولة (الوطن)، وفيها إشارات إلى الانتخابات النيابية في الخمسينات والستينات، وتأثيراتها على هذا النمط القيادي التقليدي .
أما رسالة الدكتوراه فكانت بعنوان(التحولات الاقتصادية و الاجتماعية في الريف السوري المعاصر) وهي عن قرية (حاوي الهوى) في محافظة (الرقة) وهي توثيق للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في مجتمع القرية على امتداد 40عاماً، منذ ظهورها في أواخر الأربعينات حتى مطلع الثمانينات، وتمثل الدراسة توثيق وتحليل للتغير الذي حدث للقرية بدءا بالثورة الزراعية في منطقة الجزيرة والفرات إذ بدأت هذه القرية بإنتاج محصول القطن الذي وجه إلى السوق. وهذا بالطبع يختلف عن أحوال الفلاحة التقليدية التي كانت متنوعة، وموجهة للاستهلاك الذاتي، وما يفيض يرسل به إلى السوق، أيضاً تم في الرسالة رصد العلاقات الاقتصادية بين الملاكين والفلاحين وتطورها خلال هذه الفترة، وأيضاً تم توثيق وتحليل التحولات الاجتماعية والثقافية كما تمثلت في بناء المدارس في القرية والتحاق أعداد متزايدة من أبنائها في التعليم في المدينة، ثم إلى الجامعات، وبأمكاننا القول : إن هذه التحولات أفضت اليوم إلى ظهور جيل جديد من الشباب والرجال المثقفين، الذين يملكون مؤهلات علمية مهنية متنوعة، ظهر بينهم عدد كبير من الأطباء والصيادلة، و المهندسين والمحامين والمدرسين .وبالتالي مثل توثيق هذه التحولات صورة جيدة للتطور الاجتماعي والاقتصادي في قرية ريفية مثل حاوي الهوى، ورصدت أيضاً تأثير دمج القرية في التنظيم السياسي والحضري، ودخول الشباب في التنظيم الحزبي وكوادره .
ہتنقلت كثيرا بين العواصم العربية والأجنبية، ما أثر ذلك على خبرتك وتخصصك المهني والعلمي ؟
ہہإنها ايجابية بصورة عامة، والسبب يكمن في أن دراسة الانثربولوجيا تهتم أساسا بدراسة الثقافات الإنسانية والتعرف عليها عن كثب، وبالتالي فان المجتمعات المتعددة التي عشت بها، وعملت فيها، مثلت معطى ايجابي لتخصصي في الانثروبولوجيا، لأن العيش في الثقافات المختلفة يكسب الإنسان معارف معمقة وصادقة عن الشعوب ومعارفها وثقافاتها، وكذلك بالنسبة للبحوث التي اهتممت بها، خاصة بالنسبة للخليج، فقد نتج عنها عدد يفوق العشرين بحثاً، واغلبها الآن يدرس في الجامعات الغربية لطلبة الانثربولوجيا على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا .
ہ ماهي أثارتجاربك الشخصية المهنية في تكوين شخصك ونظرتك تجاه العالم ؟
ہہ إن الفصول والمحطات المختلفة في رحلتي العلمية والمهنية والحياتية التي امتدت عبر42 عاما قد أكسبتني معارف كثيرة ووسعت آفاقي الفكرية والفلسفية تجاه الآخر ونحو الحياة بصورة عامة، إن العيش في ثقافات مختلفة يدفع بالإنسان ليكون عدة أشخاص في آن واحد إن جاز التعبير، إذ تتغير نظرته نحو العالم بعيدا عن المحلية أو التعصب، أو الأصولية، أي نحو التفكير الحر، ونحو النظر للآخرين من منظور ثقافة التسامح والتعايش، وهذا المنظور نحتاجه اليوم في سياق مظاهر العولمة وتحول عالمنا إلى قرية إنسانية كبيرة. الآن أقول إنني ابن هذه البلدة الذي ينظر إلى العالم من منظور فلسفي واسع حيث صار بامكاني التعامل مع الآخر بأريحية وسهولة وتسامح، فلم اعد أنظر الى الغرب أو الشرق بنفس النظرة التي ينظر إليها ابن عمي الذي بقي في القرية، وهذا ليس مستغربا لأن الإنسان يكتسب من تجاربه المتنوعة و تتشكل ذاته باستمرار في خضم هذ التجارب وتراكمها .
ہ ماهو علم الانثروبولوجيا الذي شغفت به وعملت به طوال كل هذه السنين ؟
ہہ إن علم الانثربولوجيا هو العلم الذي يعنى به تحديداً علم الإنسان، أي دراسة الثقافات الإنسانية بصورة مقارنة، حيث يدرس هذا العلم أشكال التشابه والتباين بين الثقافات الإنسانية والأسباب التي أدت إلى بروز هذه الثقافات وأشكالها وتحولاتها . كما تهتم بدراسة الحياة الاجتماعية بعامة، مثلها مثل علم الاجتماع. وتركز تحديدا على دراسة النظم الاجتماعية مثل نظام القرابة والنظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام التربوي، والعادات والتقاليد والموروث الثقافي والفلكلور الشعبي بصورة عامة . باختصار تهتم الانثربولوجيا الثقافية والاجتماعية بدراسة الثقافة والمجتمع وأشكال التداخل بينهما في آن واحد .
ہ في تصورك ما هي الأسباب الكامنة وراء اهتمام الغرب بالشرق ؟
ہہ هذا الموضوع ليس جديد إذ أن الشعوب اهتمت بمعرفة بعضها البعض عبر التاريخ من أيام اليونانيين وما قبلهم، أما الأسباب التي حدت بالغرب ليهتم بالشرق بصورة عامة فالدوافع كثيرة، ومن أهمها مع ظهور الحضارة الغربية الصناعية الحديثة ظهرت الحاجة لمعرفة الشعوب الأخرى. وجاء ذلك نتيجة لعصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي بدأها البرتغاليون والأسبان في القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر. وقد تبع ذلك حركة توسع غربية كبيرة جدا تمثلت في بناء الإمبراطوريات الغربية الحديثة، أسبانيا والبرتغال واكتشاف الأمريكيتين، ومن ثم جاءت الإمبراطورية البريطانية والهولندية و الفرنسية. وبعبارة أخرى، بدأت الدول الصناعية الكبرى تندفع خارج القارة الأوربية نحو العالم معززة بقدرات علمية واقتصادية وصناعية وتقنية جديدة مكنتها لتمضي قدما في توسعها عبر العالم . وعلى مستوى التمكين نلحظ على سبيل المثال هولندا وهي بلد صغير بنت إمبراطورية كبيرة في الشرق، وهناك دوافع اقتصادية سياسية متداخلة تنافسية بين هذه الدول بحيث لم يبقى بلد أو جزيرة في العالم لم يصل إليها الغرب ويحتلها ويحولها إلى مستعمرة، ويسهم في الوقت ذاته إلى إدخال فيروسات التحديث فيها .
ہ كيف جاء الاهتمام الانثربولوجي من قبل الغرب لدراسة الشرق أو العالم بصورة عامة؟
ہہ يقال إن علم الاجتماع الحديث ظهر في أوربا في منتصف القرن التاسع عشر لدراسة التحولات والقضايا والمشاكل التي افرزها المجتمع الأوربي الصناعي، بينما ظهرت الانتربولوجيا في نفس الفترة منذ قرابة 150عاما لمعرفة الثقافات والشعوب الأخرى التي بدأ الغرب يصل إليها ويكتشفها ويحتلها ويديرها . وبالتالي فقد اهتمت الانتربولوجيا في بداياتها المبكرة على دراسة الشعوب غير الأوربية، وبخاصة دراسة الشعوب والثقافات البدائية للتعرف على أصول وتطور الثقافة الإنسانية بعامة . وقد استمر هذا الاهتمام الانثربولوجي في دراسة الآخر الغير أوربي حتى منتصف القرن العشرين، وإنما توسعت الاهتمامات الانثربولوجية اليوم لتدرس كل الشعوب في كل زمان وكل مكان، ومنذ الخمسينيات ظهر انثربولوجيون عرب أصبحوا يدرسون مجتمعاتهم العربية وانثربولوجيون أوربيون يدرسون مجتمعاتهم الأوربية.
ہ من وجهة نظرك كمتخصص بالثقافات الإنسانية، ما أثر الحروب على المجتمعات ؟
ہہ الحروب بحد ذاتها تمثل تجارب إنسانية مؤلمة لأنها تعتمد على استخدام العنف بالتعامل مع الأخر.أما بالنسبة الى آثارها وتداعياتها بالنسبة للجماعة والمجتمع فأغلبها سلبية إذ يتم فيها تدمير للطاقات البشرية والاقتصادية والاجتماعية وهي مكلفة على كافة المستويات.ولعل تداعياتها كوني مررت بتجربتين في لبنان والكويت فان التداعيات السلبية لها لا تزال حاضرة حتى هذا اليوم في لبنان والكويت والعراق . إن تجربتي الشخصية في بلدان عاشت مآسي الحرب تحضر في وعيي بقوة تلك الآثار السلبية للصراعات والحروب في المجتمع الإنساني. وبمعزل عن الأسباب والدوافع التي سببتها أصلا، فاقتصاد الحرب يحرم المجتمع من إمكانيات وفرص التنمية الحقة والمستدامة، إذ أن الطاقات والقدرات المجتمعية توجه نحو الدفاع والمغالبة بدلاً من صناعة الإنسان بالمعنى العلمي والحديث للعبارة .
ہ ماهي نظرتك اليوم للأخر ؟
ہہ إن العيش في ثقافات وبلدان مختلفة ولد وعزز في نفسي فلسفة التسامح وقبول الآخر بسبب التجربة الذاتية، فان نظرة هذا الإنسان سوف تتأثر بهذه التجارب وتتشكل في سياقها في نهاية المطاف، وعملية التشكل هذه تدفع بالإنسان ليرى الآخر من زوايا ومنظورات أخرى كثيرا ما تغيب عن الآخرين الذين لم يمروا بهذه التجارب. فعلى سبيل المثال نعرف بعض الأسباب التي دفعت بالمستشرقين أو الغرب للاهتمام بالشرق إنما هناك أسباب أخرى. إن معرفة هذه الأسباب تأتي من خلال المعايشة لهذه الشعوب ومعرفتها عن قرب، وبصفتي متخصصاً في هذا العلم ألاحظ أن نظرتنا السياسية تجاه الغرب كونه مستعمرا غازيا محتلا ومتحديا تحجب عنا في أحيان كثيرة لنعرف هذا الغرب على مستوى الثقافة وعلم النفس والحياة اليومية والمدنية والفلكلورية. لا بل تأتي نظرتنا ملونة بدرجة كبيرة بسبب هذا الحجاب، التجارب الذاتية تمكن الإنسان الذي يعيش في الثقافات الغربية ليرى من خلف الحجب في أحيان كثيرة ما وراء هذه الصورة النمطية المقولبة، وعلينا أن نتذكر إن هناك بعداً ايجابياً لمجيء الغرب إلى الشرق . فالنهضة الحداثية في المجتمع العربي والمجتمعات الشرقية الأخرى قد جاءت نتيجة الاحتكاك مع الغرب ونتيجة البرامج التي أوجدها الغرب في مستعمراته، إضافة إلى المنافع الاستعمارية التي تأتى له من نتيجة لهذا الاحتكاك الحضاري .
والصورة التي نجمت بعد أحداث 11 أيلول نحت منحى الصورة النمطية السلبية تجاه العرب والإسلام نتيجة لتداعيات هذا الحدث الكبير، أن تداعيات هذه الصورة السلبية قد أثرت على أشياء كثيرة منها العلاقات بين الدول، والسياحة والسفر، ودراسة الطلاب وصعوبة الحصول على الفيزا، وإجراءات التفتيش المعقدة في المطارات عبر العالم، إنما علينا أن نتذكر الصورة النمطية وبخاصة القاتمة منها تتشكل نتيجة أحداث وظروف تاريخية معينة تمر بها الشعوب، وهي ليست صورة ثابتة، إذ هي بحد ذاتها نتاج تاريخي وبالتالي هناك إمكانيات لتبديل مثل هذه الصورة بين الغرب والشرق، وبين الغرب والعرب في ضوء تحول العلاقات السياسية والاقتصادية بين المجتمعات، ونأمل أن يتم ذلك في المستقبل القريب وكل الأطراف الداخلة في تشكيل هذه الصورة مسؤولين عن تحويلها إلى صورة أفضل علنا نطور ثقافة التسامح ومد جسور التعارف والتقارب بين الأمم للارتقاء بالإنسان وإمكانياته النبيلة والرائعة، أي لتحقيق إنسانية الإنسان أينما كان.
المصدر : صحيفة تشرين السورية 20/08/2008