موقع أرنتروبوس

حوار مع الأنثروبولوجي طلال أسد

Talal Asad
Talal Asad

حوار مع الأنثروبولوجي طلال أسد

السلطة الحديثة وإعادة تشكيل التقاليد الدينية

 

أجرى المقابلة: صبا محمود
نقلها إلى العربية وقدم لها: مصطفى الحرازين

إننا ما نكاد نعمل النظر في هذه المقابلة/ النص، حتى ندرك مظاهر الجِدة العالم المجتهد، وحتى نتبين مراتب من الحجاج تسمح باستئناف النظر الانتروبولوجي بما يحفظ شروط التفكير المبدع. ولا نغالي إن قلنا أن مظاهر الجِدة هذه

لا تنفك تشد رحلها إلى قصد يتنكب السيرة الثابتة والسُنةِ السائرة في بلادنا حول الإسلام وحول علاقته بالحداثة تنكباً كاملاً وينأى عنها النأي كله. أما العلامة أو الأمارة على بلوغ هذا القصد فهي قيام طلال أسد بمعاودة التفكير في العبارة الانتروبولوجية السائدة عن الدين، حيث إن المشهور هو أن هذه العبارة إنما تحصل على وجه التخلص من أثر التدبر الفكراني الذي يتأسس على التلازم بين ما هو قائم وحاضر ومشهود وبين دلالته في اللغة الدينية وعلى اللغة الدينية، أو قل على التلازم بين “الإخبار النصي” الذي يتولى تبليغ المقاصد المتضمنة في التلفظ الديني ، و”الإخبار التداولي” الذي يتولى الإشارة إلى صلة هذا التلفظ بالممارسات الملموسة التي تقع في مجال تداولي متعدد المراتب، لتستوي سبيلاً يتوجه بالعبارة الدينية عن هذا التلازم جاعلة منها تدبراً يقتصر على ترديد الإخبار التداولي ولزوم هذا الإخبار دون تعديه إلى غيره. وما كاد طلال أسد يتغلغل في مفهوم الإخبار التداولي، حتى وجد أنه يُستعمل على معنى “الإخبار الإجماعي”، فكان أن شرع يُقلَّب النظر في حصيلة المفاهيم التي حصلت لهذه العبارة بفعل التفكير في حقل التداول الإسلامي، ليجد أنها قد بُنيت على مقتضى هذا الضرب من الإخبار، ففيها من المفاهيم ما وُضِعَ بغير موجب التعدد، فكان حشواً أو لغواً، وفيها من الخِطابات ما يدل على العجز الانتروبولوجي أو الحصر المنهجي. وللتمثيل على ما وُضِعَ من المفاهيم من غير قيام داعي التعدد في المجال التداولي الإسلامي، يذكر طلال أسد مفهوم التقليد، الذي تنحصر دلالته بحسب الأدبيات الشائعة في الدعوة إلى ماضي أساسي يقاس به التاريخ اللاحق ويُرد إليه. فيما تفتح معاودة التفكير في هذا المفهوم من قبل طلال أسد الباب أمام إعادة تشكيل واسعة لمقتضيات النظر في حقل التداول الإسلامي وكذا في الممارسات التي ينتجها ويقتضيها اشتغال هذا الحقل؛ وهو ما يفتح بدوره التفكر الانتروبولوجي في الدين على إمكانيات غير معهودة وآفاق غير مسبوقة، لا تفتأ تجهز هذا التفكر ببعد نظر يرجحه على مجاوزة المنوال السائد.

غير أننا لا نكاد ندعي هذه الدعوى، حتى يعترض علينا من يرى أن هذا المنوال لا ينفك يتبع طريقاً حقلياً في وضع مفاهيمه، وبناء أشكال عبارته، وصوغ سبل حجاجه، وأن هذا هو، بالضبط، الفارق بين العبارة الانتربولوجية والعبارة الاستشراقية التي لا تفارق التوسل بالمفاهيم الكتبية والممارسات المكتبية كلما شرعت في إنشاء تلفظاتها وبناء أحكامها. وعليه فإذا جاز أن يحل مثل هذا الاشتغال ساحة العبارة الاستشراقية، فإنه لا يجوز أن يحل ساحة العبارة الانتروبولوجية لظهور تعلقها بالسياق الظرفي للتلفظ الديني. وعليه لا يفتح هذا السياق المجال أمام إعادة صوغ هذه العبارة ولا يسعى إلى مدها بأسباب الدوام والتوسع فحسب، بل يحملها في الوقت نفسه على التنكر الجذري للتجريد بوصفه تدبراً فكرانياً.

وغالب الظن أن وجود هذا الجانب الحقلي في الممارسة الانتروبولوجية هو الذي ورَّث النصوص المكرسة لهذا الاعتراض الاعتقاد بأن المنوال الانتروبولوجي حول مفهوم الدين إنما هو عبارة عن شبكة من الخِطاطات العملية التي لا تكف عن المرور من تنقية إلى أخرى، ومن تمحيص إلى آخر، حتى تستوي متحركية منهجية لا تلبث ترد إلى منطق الحقل وقد اسستب له الأمر واستقر. غير أن التوسل بمفهوم الحقل لحمل الإخبار التداولي على معنى الإخبار الإجماعي والتنكب لما يحمله على القيام بالإخبار التداولي والدعوة إليه لا يتلاءم مع منطوق الممارسات التداولية وحرفها، ذلك لأن الحقل لا يتوصل إلى استحقاق الإخبار عن هذه الممارسات إلا من جهة صلته بما يسميه طلال أسد “العمليات الاستطرادية”، التي لا يني يستعملها في مواجهة الخطاب الإجماعي الذي لا يرسم أفقاً غير أفق التشابه والتجانس. فحتى يبرز طلال أسد اقتران معنى الحقل بمعنى التعدد ويصرف عنه احتمال الدلالة على مجرد الانتقال من القاعدة إلى الخطة أو قل من المنطق النظري إلى المنطق العملي، فإنه يستعمل مفهوم العمليات الاستطرادية ليكتسب الحقل بذلك دلالة جديدة تدور على تخليص التداول الديني من الرسو على تركيب يدخل تحت المتناغم والمتجانس، فالعمليات الاستطرادية هي كل نشاط تداولي كان الأصل في مقاربته هو اللاتجانس. لذا كان الإخبار الاستطرادي، إذا جاز التعبير، في قلب محاولة طلال أسد لإعادة التفكير في مفهوم التقليد. فإذا اندفع المرء في تأمل العلاقة بين التقليد والحداثة بحسب التصورات المألوفة، فقد يبدوا له أن التقليد متصفاً بخاصية زمانية، أي أنه تابع للزمن؛ حينئذ يجوز أن يتوهم أن التقليد أعراض تنقضي بالفراغ من عملها بدون بقاء أثر أو قيمة، فلا يكون السعي في التقليد والإلحاح في طلبه، والحالة هذه، إلا بقصد تأسيس الراهن على قواعد موضوعة وطرق مخطوطة ومبادئ مسطورة، تلوح من خلالها نزعة قسرية وتوجيهية تمهد لنظام اجتماعي قوامه إبدال الحياة الغنية بحياة فقيرة ومقيدة بقيود النواهي والأوامر؛ بينما تنهض الحداثة في وجه الاعتداد بالتقليد وفي وجه الاستظهار به، وهي بذلك لا تفارق الإقرار بجدة التاريخ المعاصر وباستحالة رده إلى سالف معهود. ولم يلبث الوهم هذا أن شاع وانتشر وتلقاه جمهور المثقفين في بلادنا بالقبول والمجاهرة في استعماله لرمي الإسلام بسهام التحقير ولرذل قدرته على التعبير. وهو ما يشتغل طلال أسد بالاعتراض عليه، وقرينة الاعتراض هذا، أن التقليد لا يخضع لتقضي الزمن، ذلك لأن الأزمنة: الماضية والحاضرة والمستقبلية تحمل في طياتهما، كل على طريقته الخاصة، معنى امتداد التقليد وتواصله، وما ذلك إلا لأن الأصل في التقليد ليس هو الحضور الزماني وإنما هو الحضور الاستطرادي، وبهذا، تصير هذه الأزمنة عبارة عن فضاء مفتوح لها الحضور الذي يمتد فيها جميعاً ويمتد فينا؛ وحتى يبين طلال أسد هذا التواصل الحضوري للتقليد، لجأ إلى معاودة النظر في الدعوى التي تزداد رسوخاً من أميل دوركابم إلى إرنست غلنر الذي تبلغ أوجها عنده، وهي استواء التقليد مسودةَ نظام اجتماعي يقوم على التجانس وعلى نشر هذا التجانس نشراً من غير حد أو قيد، وهو ما يمهد لظهور التشابه، أي ظهور ما يلغي التنوع في الجماعة وينظم دورته ويُملي شرائطه، ليؤكد على أن التقليد هو بالأساس نشاط استطرادي يكرس نفسه لمخاطبة الماضي مع المستقبل، وهو ما يجب أن يحملنا على الاعتراف باستواء التقليد وجهاً من وجوه الحياة الاجتماعية وليس مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

وحتى نكون على بينة بشأن الأسباب التي تؤدي إلى تغييب أثر العمليات الاستطرادية في تشكيل التقليد، يمهد طلال أسد إلى ذلك بالإشارة إلى ما أشتهر بين الانتروبولوجين ومُنظري الدين من فصل للعبارة الدينية عن مجالها التداولي، وقد ورد هذا الفصل عند بعض مُنظري الدين، الذين قرروا أن العبارة الدينية أشبه بنظام عقائدي لا تداول معه، إذ ليس فيها إلا الأفكار المجردة التي لا تستوفي شروط وصل التلفظات الدينية بمستويات الممارسة التداولية؛ وقد كانت حجتهم الكبرى في ذلك هي ما توصلت إليه الكتابة الانتربولوجية حول مفهوم الدين، لاسيما ما درج منها على سُنن العقلانية، من أن الفرق بين التلفظات الدينية والممارسة التداولية يرجع إلى أن الأولى يستولي عليها الطابع التجريدي، بينما الثانية يستولي عليها الطابع الملموس، فقابلوا بين المجرد والملموس بما يوافق التقليد العقلاني بشأنهما، وهو أنهما مُنفكان ومنفصلان؛ وما هذه المقابلة إلا لراسخ اعتقادهم بأن العبارة الدينية ليست في شيء عمليات تداولية، وإنما هي أصلاً ترتيبات مجردة تعتمد الصيغة التقعيدية للمجال الاجتماعي للأفراد وذلك من خلال مجاوزة السياق التداولي والظرفي والفعلي والإحالي، وهو هوية الأفراد، ومحيطهم الفيزيقي، والمكان والزمان اللذان يتم بهما التداول، وكل ما يتشكل من ممارسات لأفراد موجودين في العالم الواقعي بما يؤدي إلى الإجماع الذي يتعذر معه التفريق بين ما هو صحيح وما هو زائف، فلا سبيل إلى إلحاق الممارسات الملموسة التي ليس تحتها إلا التنوع ولا تتحصل على المشروعية إلا بمقدار خضوعها لمنطوقات عبارية تميز بين صادق/ زائف بها، وإنما الواجب إلحاقها بنظم المعرفة العقلانية التي تنطوي وحدها على التنوع وعلى خطاب تفويضي يمكنها من الفصل المذكور. وإزاء هذه الصيغة لا يتردد طلال أسد في إيراد الاعتراضين التاليين. الاعتراض الأول، وهو اعتراض انتروبولوجي مخصص للقول بأن العبارة الدينية لا تنفصل عن الممارسة التداولية، بل لا تنفصل عن الممارسات الملموسة، أما وجه اتصال الممارسة التداولية بالعبارة الدينية، فيتجلى في كون العبارة الدينية فيها من الإشارة إلى الأفكار المجردة بقدر ما فيها من الإشارة إلى البرامج التي تعتبر ضرورية لتشكيل الممارسات الملموسة. أما الاعتراض الثاني، فهو اعتراض لغوي مخصص للقول بعدم جواز الحكم على الممارسات الملموسة بأنها معقولة أو غير معقولة، بل منجزة بصورة جيدة أو بصورة سيئة، وقد ورد هذا الاعتراض عند فيلسوف اللغة البريطاني “جون أوستن” في كتابه: How to Do Things With Words، أي كيف تصنع الكلمات الأشياء، حيث قرر أن الممارسات لا تتبوب على الجمل الخبرية وإنما تتبوب على الجمل الإنشائية، وأنه لا يجوز اللجوء إلى المنطوق العباري صادق/ زائف لتقرير صلاحية الجمل الإنشائية، ذلك لأن صلاحيتها ليست في صحتها وإنما في إنجازيتها. وبناءً على هذه الصلة، يذهب طلال أسد إلى أن التلفظات الدينية تتعلق أصلاً بالمستوى التداولي، لأنه يشتغل بالإشارة إلى “الواقع الاستطرادي”، الذي يصل هذه التلفظات بمختلف أنواع الممارسات الملموسة، فيما تشتغل الأفكار المجردة بالإشارة إلى “التشاكل الديني” الذي يقطع التلفظات الدينية عن الممارسة الاستطرادية، ولا يفتأ طلال أسد يردد في تآليفه أن التقليد الديني نشاط استطرادي.

ومتى استتب للتقليد قوامه الاستطرادي، بطلت التحليلات الانتروبولوجية، التي ترى في التجانس وجه الإسلام الملتئم حول لغة الأمر وبها، والتي تذهب في الوقت نفسه إلى أن سحب الجملة الدينية من التداول لا يفضي إلى تبديد هذا التجانس فحسب، بل إلى نقل بادرة الحداثة والتمهيد لانتشارها أيضاً. ومعه تبطل المحاولات الإسلامية المعاصرة التي تسعى إلى تقريب مفاهيم القانون، الدولة الحديثة، المجتمع المدني، والديموقراطية من المجال التداولي الإسلامي دون أن ترى في انطواء التقليد الإسلامي على مثل هذه الممارسة الاستطرادية، ما يحملها على التعثر أو الحيرة.

يعمل طلال أسد استاذاً في جامعة John Hopkins في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وتشكل فكرة غياب التناظر بين الغرب والمجتمعات غير الغربية، إضافة إلى مفاهيم السلطة والدين في المسيحية والإسلام، نواة مشروعه الأنتروبولوجي.

— — — — — — — —

غالباً ما تُفهم الحركات السياسية/ الدينية المعاصرة، كالحركات الإسلامية، من قبل علماء الاجتماع بوصفها تعبر عن تقليد يعرقل تقدم الحداثة. ولكن إذا أخذنا على محمل الجد التحديات الثقافية الراهنة التي تشتغل بالاعتراض على الثنائية الجامدة حداثة/ تقليد، وبما هي دعوة في الوقت نفسه إلى حصر التجارب الأوروبية الغربية للحداثة، هل تعتقد أن هذه الحركات تحملنا على معاودة التفكير في الحداثة؟ إن كان الأمر كذلك، كيف؟

ط.أسد: أعتقد أنها يجب أن تحملنا على معاودة التفكير في أشياء كثيرة. إننا نقف على قدر كبير من الردود والمعالجات ينهض بأعبائها داخل الجامعات الغربية أناس صرفوا عنايتهم إلى تحليل هذه الحركات. غير أنه ما يزال يغلب على العديد منهم الصدور عن فرضيات تسدل حجاباً بينهم وبين مساءلة الحداثة من مختلف وجوهها. على سبيل المثال، لا ينقطع هؤلاء عن وسم هذه الحركات بميسم “الرجعية” و”التلفيق” مفترضين أن الحداثة الغربية تتعدى فكرة المثال الذي يجب أن يحكم التطورات الراهنة، لتستوي سبيلاً أصيلاً لا يشذ عنه أي تقليد. إن واحداً من متعلقات وجود هذه الحركات يجب أن يحملنا على أن نضع في مرمى السؤال الإشكالية المألوفة التي يتواجه عندها التقليد والحداثة، والتي لا تزال تلقى رواجاً. على سبيل المثال، يقيم العديد من الكتاب تصوراً لهذه الحركات في مصر وإيران يركزون فيه على حداثتها الجزئية وعلى أن اشتغالها بالدمج بين التقليد والحداثة إنما يفسر تعثرها وفقدانها السوية. وهو وصف يجعل من الحركات الإسلامية، بطريقة أو بأخرى، حركات تقليدية على افتراض أن “التقليد الحقيقي” جامد، تكراري، وغير عقلاني. بهذه الطريقة لا يتم حد هذه الحركات بالركون إلى جهازها المصطلحي الذي يتداخل فيه التقليد والحداثة كلحظتين أصيلتين وإبداعيتين في الوقت نفسه. ولهذا فإن تطور الحركات السياسية/ الدينية يجب أن يحملنا على معاودة التفكير في النموذج الغربي الأوحد للحداثة العلمانية. وربما رام قوم مواجهة هذه الحركات من مختلف هيئاتها، وهي مواجهة ممكنة شرط أن يصار إلى إنجازها على مقتضى ما ينزل من هذه الحركات منزلة الأصول الخاصة، فهو عمل غير ذي نفع أن نسعى إلى نصب المفاهيم الكلية للحداثة معياراً وحيداً للنظر في الأشياء كلها. لكن ما تقدم هو بالضبط نوع من فكر بدئي يجري عليه الناس كلما قصدوا تحليل الحركات الدينية المعاصرة.

يبدوا أنك تستعمل مفهوم التقليد على نحو مغاير لما هو رائج في العلوم الاجتماعية. حتى أن فكرة “مجتمعات/ ثقافات هجينه”، التي ذاع صيتها في العديد من الدوائر الثقافية، لا تفارق بدورها الإشارة إلى تعايش التقليد والحداثة دون أن يكون هناك وجه ضرورة لتهميش المعنى المعياري المتعارف عليه لهذه المفاهيم.

ط.أسد: نعم، يعمد العديد من الكتاب إلى وصف مجتمعات معينة بأنها هجينه، بحيث ينطوي كل مجتمع من هذه المجتمعات على نصابين، نصاب حديث والنصاب الآخر تقليدي. لكنني، رغم ذلك، لا أوافقهم الرأي، فأنا أعتقد أن بسط الكلام في مفهوم التقليد يجب أن يحملنا على الاعتراف باستواء التقليد وجهاً من وجوه الحياة الاجتماعية وليس مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. ومن وجهة بالغة الأهمية، ليس التقليد والحداثة حالتين متنابذتين في مرتبة الثقافة والاجتماع، وإنما هما حيثيتان مختلفتان للوضعية التاريخية. إن عدداً من الأشياء التي يجري التفكير فيها بوصفها أشياء حديثة إنما ترتبط بوثيق صلة بتقاليد لها جذورها في التاريخ الغربي. فعندما يتحدث الناس عن الليبرالية كتقليد، فانهم يقرون بكونها تقليداً يوفر سبلاً من الحجاج، ومعاودة الصياغة، كما والمواجهة مع تقاليد أخرى، بما يسمح بإدراج المشاكل المعاصرة ومناقشتها ضمن التقليد الليبرالي. لهذا يعتقد الناس أن الليبرالية كتقليد هي مفهوم مركزي بالنسبة للحداثة. ولكن كيف ينزل ما هو تقليدي مكانة مركزية بالنسبة للحداثة؟ وبكلام أجلى، فان الليبرالية لا تتعين بكونها مزيجاً من عناصر تقليدية وأخرى حديثة. إنها تقليد يرسم وجهاً مركزياً من وجوه الحداثة الغربية. وإن كونها تقليدية لا يجعلها أقل من الحديث حداثة. ورغم ما تواجهه الليبرالية من نقد داخل الغرب وخارجه، فانه ما يزال لها على الأرجح وقع التقليد الغالب في مضمار السياسة والأخلاق على صعيدي الفكر والممارسة. إلا أن هذا التوجه ما يزال غير مطروق من قيل السواد الأعظم من علماء الاجتماع ممن يصرفون عنايتهم إلى دراسة ما يسمى مجتمعات/ ثقافات “تقليدية” في المجتمعات غير الأوروبية عموماً وفي العالم الإسلامي خصوصاً. هذا ما أقصده جزئياً بالقول أن علينا معاودة التفكير في مفهوم التقليد. بهذا المعنى يمكننا النظر إلى الإحياء الإسلامي المعاصر، بوصفه محاولات لاستحضار التقاليد الإسلامية القابلة للتكيف وربطها بالحداثة بما هي وضعية يختبرها العالم الإسلامي راهناً، لا بل أكثر من ذلك، أي بوصفه محاولات لصياغة سبل ممانعة ومناجزة ليس فقط مع الغرب، بل أيضاً مع التاريخ الإسلامي. وهذا لا يعني أن المسلمين فد أفلحوا في ذلك، بل انهم على الأقل يحاولون وبطرق مختلفة

عندما تتعرض بالنقاش لتجارب تاريخية مختلفة من الحداثة، هل تعني أن هناك حداثات مختلفة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار انطواء مشروع الحداثة على نزعة مركزية شكلت مداراً للوصف والتحليل من قبل مثقفين كميشال فوكو. كيف يمكننا أن نوفق بين النموذج الحداثوي الأوروبي، الذي يقدمه منظرو الحداثة ومنتقدوهم في آن، مع مختلف التجارب التاريخية للحداثة؟

ط. أسد: إن رأس ما ندخل به في هذا الموضوع هو أنه، انطلاقاً من كوننا نعيش في المجتمع الغربي المعاصر، وانطلاقاً من كوننا نحيا في عالم الغرب فيه هو الغالب، يكتسب مفهوم الحداثة، دلالة إيجابية معينة. إن عدداً من المشتغلين بالاعتراض على ما يعتقدونه قيماً مركزية تتأسس عليها الحداثة، على سبيل المثال ما يسمى بالمابعد حداثيين، لن يمضوا قي هذا الاعتراض شوطاً أبعد من أفق إستراتيجية دفاعية. إن قطاعاً ضئيلاً من النقد المابعد حداثي سوف يولي اهتمامه إبقاء مفاهيم الحداثة، كالمساواة الاجتماعية، حرية الكلام، حق الفرد في تشكيل مثاله الخاص، مطروحة على بساط الجدل. ففي الواقع، ينحو مفهوم “ما بعد الحداثة” نحو رسم “الحداثة” كمرحلة في مسار مميز. لذلك ربما كان من باب التدبر التكتيكي القول بتكثر أشكال الحداثة بدل أن نضع الحداثة في تعارض مع شئ يقابلها. وبكلمات أخرى، فان حمل التاريخ الغربي الخاص (الذي هو خاص ومحدد من جهة حده وتعريفه) على معنى شئ يدعي العالمية وقد أصبح عالمياً أمرلم يخضع للفحص بصورة كافية بحسب ما أعتقد. إن وزناً أيديولوجياً يعطى للحداثة ليس فقط عندما بتم حدها كنموذج عالمي شامل، بل حتى عندما تقتصر على كونها مجرد شكل من التغريب.

أعتقد أننا نواجه وفي مستوى واحد مشكلة الحداثة، بما هي مفهوم يحيل إلى شبكة متكاملة من الميول، المواقف، التقاليد، والممارسات..إن بعض هذه الأشياء قد تكون مترابطة عضوياً فيما لا يقبل البعض الآخر مثل هذا الترابط. فمن حين إلى آخر، يفكر الناس في الحداثة بوصفها نوعاً محدداً من بنية اجتماعية (التصنيع، العلمنة، الديمقراطية.. الخ)،وفي أحيان أخرى كتجربة سيكولوجية (جورج زيمل في “الحاضرة والحياة الحديثة” )، أو كحالة فنية جمالية ( بودلير في “رسام الحياة الحديثة” ). وفي بعض الأحيان يجري التفكير في الحداثة كنوع من مشروع فلسفي (بالمعنى الذي ذهب إليه يورغن هابرماس وتوجه شطره) وفي أحيان أخرى كتجسيد لأخلاق ما بعد كانطية. فهل أن هذه التحديدات بالضرورة مترابطة؟ إنها مترابطة انطلاقاً من افتراض مضمر يقوم على الاعتداد بتساوق بعض هيئات الحداثة (العلم الحديث، السياسة الحديثة، الأخلاق الحديثة.. الخ)، تاريخياً في بعض الأصقاع الأوروبية للتأكيد على أن مجمل هذه الأشياء لا بد أن تتساوق في بقية العالم. وهذا الافتراض هي نوع غريب من الوظائفية وشغله الشاغل. فيما يكشف لنا التبصر في سياقات أخرى حقيقة لزوم علماء الاجتماع جانب الشك والحذر حيال هذا الافتراض، لكن هذا ليس ما نحن بصدده الآن.

ولذلك فإن جزءاً من المشكلة يبقى في أن نقرر إذا ما كانت الحداثة تقليد فريد، بنية استثنائية، أو شبكة متكاملة من المعارف العملية، أما إذا وقع قرارنا على أن الأمر يقود إلى الدمج بين هذه التصورات، فهل يعني هذا بعد ذلك، أن ما نحن بصدده يجئ مجيء القواعد الأخلاقية أم أنه يجري مجرى التوافق التداولي؟ وبعبارة أخرى: ما هي المعايير المتوسل بها في حمل الفرد، طريقة الحياة، المجتمع، على ما هو حديث؟ من أين تنحدر هذه المعايير؟ هل هي ببساطة وصفية أم معيارية؟ وإذا كانت وصفية، هل يمكن إحالتها إلى جوهر ثابت لا يحول ولا يزول؟ أما إذا كانا معيارية فمن أين تستمد سلطتها. مثل هذه الأسئلة تقتضي منا إعمال النظر واستفراغ الجهد قبل أن نقرر بما يفيد التبيين، إذا ما كان هناك أصناف متنوعة من الحداثة؛ أو في حال وجود صنف واحد، إذا ما كان هذا الصنف قابل لأن يؤخذ منفصلاً عن التغريب أم لا. وأنا لم أعثر لهذا السؤال على إجابة كافية من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع على حد سواء.

والآن عندما يتكلم فوكو عن الحداثة، فان هذا الكلام ينصب في جملته، وبشكل مخصوص على وصف تطورات ترتبط من حيث طبيعتها بالفضاء الغربي. ففي حقيقة الأمر لم يصرف فوكو عنايته إلى التاريخ غير الغربي. أو إلى معارضة عالم الغرب بعالم آخر مختلف في اللغات والثقافات. وهو لم يوجه اهتمامه إلى التقاليد الأخرى. وكما تعرفين، فقد جاء المنظور الفوكوي مجيء التشديد على القطيعة والتنكب للتواصل. غير إن التفكير في هذه القطائع أمر ممكن، بالطبع، إذا ما أُخذت في لحاظ تموضعها ضمن أشكال تواصلية معينة، ولقد أفلح فوكو إلى حد ما في تحليل هذه القطائع وفهمها. لكنه بطريقة أو بأخرى، قد استنكف في تحليله للحداثة، التطرق إلى المعتقدات والممارسات اليونانية والمسيحية المبكرة. لقد حصل لفوكو بتحليله للحداثة القدرة على صياغة التقليد الغربي بكل ما يزخر به من انفصالات وقطائع، لكنه رغم ذلك، لم يفكر وبطريقة نسقية في مفهوم “التقليد” في ذاته.

لقد ذهبت أيضاً في كتابك: جينالوجيات الدين أن الحداثة مشروع غائي يبدوا محفوزاً بنزوع غلاب إلى معاودة تشكيل التاريخ، الأمة، المستقبل. لقد ادعيت بأن”النشاطات التي تحافظ على الأوضاع الثابتة والأوضاع السائرة سرعان ما تنعطف على مناهضة المستقبل”(1). ألا أوضحت لنا ما عنيته بذلك؟

ط. أسد: لقد عنيت ذلك بقصد التهكم، بالطبع. أعتقد أن ما قلته هو أن الأنشطة التي تنزع إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة، أي على استمرار الحياة اليومية، لا تحظى برأي البعض، بنصيب في تشكيل التاريخ، رغم ما يتطلبه ذلك من جهود مديدة. وعليه يصار إلى حد الحركات الموسومة بميسم “الرجعية” بحدود تسلكها في محاولات ترمي إلى”مناهضة المستقبل” أو إلى “إعادة عقارب الساعة إلى الوراء”. وإنني أعتقد هنا أن المحامين عن الحداثة والمدافعين عن حدودها إنما ينخرطون بشكل ظاهر وصريح في نوع من التقضي التاريخي، وفي نوع من الصياغة الزمنية للحياة الاجتماعية هما وسيلة المستقبل وذخيرته للتقدم بنا نحو الأمام. إن مقصودي مما تقدم هو أن مبتدأ الحداثة يكمن في أنه بالوسع توقع المستقبل، بعد أن تصير رغبتنا في حدوثه أكيدة وموثوفة، وبعد أن نكون، على الأقل، على دراية باتجاه هذا المستقبل المأمول والمرغوب.وهكذا يصبح المستقبل نوعاً من الجذب الأخلاقي لا يفتأ يشدنا نحوه. فمن ناحية، تعقل البشرية في ضوء حقها في تشكيل قدرها(الجماعي). ومن ناحية أخرى يستوي التاريخ حركة قائمة بذاتها ومتحركية مركزها من نفسها، والكلام الذي لا يندرج في هذه الخِطاطَة ولا يتبوب عليها، فهو افتراضات يترجح أصحابها بين استحقاق اللوم الأخلاقي أو الحكم باندراجهم عملياً في نوع من الهزيمة الذاتية، أو الاثنين معاً. ويجد مفهوم التاريخ ركنه الركين في هذه الفكرة الكلية والمتناقضة إلى حد ما، فيما تنصب الجملة، التي أشرتِ أليها في معرض سؤالك، معياراً للنظر في كل المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات غير الغربية. لقد تعرضت بالملاحظة وعلى نحو مختصر للمصادر الانتقاصية والمألوفة حيال ما حدث ويحدث في إيران، وحيال مضامين الشعائر الدينية القديمة، الخ. لكنني لم أقصد بملاحظتي الحجز بين القوم وبين نقد، أو قولي إن شئت، شجب ما حدث ويحدث في إيران . إن ملاحظتي هي أن من ينهضون بهذه المهمة النقدية، إنما يستعملون مفهوماً “للتاريخ” و”لتشكيل التاريخ” لا يخلو من الغرابة.

عند مفترق النظر إلى العلاقة التي تقوم بين التجارب الحداثية الغربية وغير الغربية، يرد إلى ذهننا تقليدان فكريان مختلفان: نظرية مدرسة التبعية التي شاعت في السبعينات والنظرية المابعد كولينالية الأكثر جدة، والتي يتبوء فيها مشروع دراسات التابع المتعلق بجنوب آسيا مكانة هامة. ويبدو أنه في حين يشدد منظرو مدرسة التبعية على الكيفية التي مكنت للحداثة من التأثير في المجتمعات غير الغربية وتقويض ما تسعى إليه هذه المجتمعات من تجارب تنموية، يولي المنظرون الما بعد كولينالين من أمثال (كترجي، يراكاش، شكرابرتي) اهتمامهم الخصوصية الثقافية والتاريخية لتجارب الحداثة غير الغربية. فعلى سبيل المثال، أشار كترجي إلى أن إبراز التجربة الليبرالية في أوروبا الغربية غالباً ما يستوعب مفاهيم تتعلق بأشكال من الحكم والاجتماع تشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات غير الغربية، لكن هذه المفاهيم ظلت دون المتفكر به النظري في التحليلات التي تتناول الحداثة، راديكالية كانت هذه التحليلات أو ليبرالية. كيف ترى العلاقة بين هذين التقليدين الفكريين وما يكرسانه من مضامين في سبيل فهم ثقافي وتاريخي لتجارب مخصوصة من الحداثة؟

ط.أسد: نعم، بالطبع، فان الهيئة التي يتهيأ بها الغرب إنما تعود إلى علاقته بغير الغرب، والعكس بالعكس. وإذا كانت الحداثة من وجهة نظر البعض تستوي بمحل الأبنية السياسية، الاقتصادية، والمعرفية التي تختص بها الدول الأوروبية، فان هذا الاستواء في معظمه يبقى غامضاً ما لم يحال إلى مضمار العلاقة إلى تربط أوروبا بالعالم غير الغربي. وهي وجهة كان قد اجترحها، وعلى طريقتهم الخاصة، منظرو مدرسة التبعية ممن وجهوا عنايتهم إلى التطورات الجارية في العالم الثالث. لكن علينا أن لا نبالغ في طرحنا هذا. إن ما أقصده هنا هو أن هناك بعض التجارب التي لا يمكن فهمها انطلاقاً من علاقة غرب/ غير غرب، كما أن مفردة “غير غرب” لا تنقطع بدورها عن نظرة سلبية إلى المجتمعات غير الغربية. إنه لأمر مهم أن لا تغيب هذه العلاقة عن بالنا، لكنها بذاتها لا تخبرنا بالشيء الكثير عما تتضمنه. فهناك تجارب لا نقوى على فهمها إلا من حيث ارتباطها بنوع آخر من العلاقات، من قبيل علاقة شعب ما بتاريخه المميز.

أعتقد أن الفصل بين المجتمعات القادرة على التطور الاقتصادي أو تلك العاجزة عنه هو ما اتخذ منه منظرو مدرسة التبعية معياراً حجاجياً وذلك استناداً إلى بعض النماذج الاقتصادية القائمة على مؤشرات مخصوصة. وهذا ما يوضح سلفاً طبيعة هدفهم. ولذلك فان العديد من الذين ألقوا الحجة ضد نظريات التحديث قالوا بامتناع التنمية الاقتصادية في الدول الطرفية وذلك لما يربطها من صلات بالمركز الرأسمالي. أما أولئك الذين يدافعون عن تقليد التبعية فيميلون إلى التساؤل عن جدوى قطع الصلات وتخطي المرحلة الرأسمالية والانطلاق دفعة إلى التنمية الاشتراكية، أو بالمقابل عن جدوى التحالف مع الرأسمالية الوطنية التي اعتبرت ضرورية لتحقيق تنمية اقتصادية كاملة أو ناجزة. (ومن الواضح أن هذا يكرر الجدل الذي جرى قديماً بين البلاشفة والمناشفة). غير أن هذا الجدل لم يكن يدور إطلاقاً حول المآل المفروض على جميع البلدان. فالقول المأثور هو أن جميع الدروب تؤدي إلى روما، غير أن روما لم تكن بالتأكيد إلا واحدة. وعندما نعبر إلى مرتبة القضايا الثقافية والأخلاقية فانه يصبح من الأصعب تحصيل الحجة على صحة هذا الافتراض.

وفي حين بات النقاش السياسي في الغرب حول الدول الليبرالية/ الديمقراطية، يقبل بدون تمحيص بما وصلت إليه الأمور الآن ، يدور النقاش حول العالم الثالث مدار البحث عن مسار السياسة والأخلاق ووجهة كل منهما. وهو ما يقتضي منا ملاحظته والوقوف عليه. حتى أنه لو تم الاتفاق على أن بعض التغيرات في حال حدوثها قمينة بتحسين أوضاعاً معينة داخل المجتمعات الغربية (الفقر المنتشر في المدن، العنصرية..الخ) فان العادة قد جرت وما زالت تجري بفرضية نزول هذا النظام مكانة لايسبقه إليها نظام آخر. ويبدو أننا أمام الادعاء التالي: نعم نعاني من وجود العنصرية، لكن هل هناك ثمة مكان على وجه البسيطة لا تفشوا فيه العنصرية؟ إننا في الغرب، وعلى الأقل، نملك نظاماً يفتح سبلاً متعددة للكفاح السياسي من أجل المساواة، بينما يغيب هذا التوجه عن بصر وبصيرة أنظمة سياسية أخرى. والافتراض هنا، أنه حتى في حال إنجاز ما يلزم من تغيرات للقضاء على انتشار الفقر والعنصرية الممؤسسة والتحكم بلعبة القوة الدولية، سيظل النظام الغربي على ما هو عليه. وإذا ما عقدنا العزم وبصورة جذرية على تدشين مستقبل جديد، فان الفرضية تقضي باستحالة تحصيل هذا المستقبل في غير مضمار النظام الغربي الحديث والراهن.وبناءاً عليه جرى التفكير في “الحداثة” الغربية بوصفها مستودعاً لتكثرات مستقبلية إيجابية وبطريقة لا تتوفر عليها فضاءات ثقافية أخرى. وهذا ما لم يخطر على قلب منظري مدرسة التبعية، بسبب تركيزهم على كيفية خلق الظروف المؤاتية واللازمة لنشوء اقتصاد إنتاجي صناعي بما يؤدي إلى مراكمة الثروة العامة وزيادة الرفاه المادي.وهذا هو جوهر ما عنته الحداثة بالنسبة لمنظري مدرسة التبعية (أو بالنسبة لهؤلاء الذين استعملوا وعن قصد هذا المفهوم). أما الآن فهي تعني نظاماً حكومياً (الديمقراطية التمثيلية، الانتخابات الدورية، جماعات الضغط البرلمانية، عمليات الاقتراع المستمرة، العروض الإعلامية الموجهة.. الخ) ونزعة فردية تطبع المجال الأخلاقي، القانوني، الجمالي.. الخ. إن التشديد على الفرد بوصفه ناخباً، شخصية أخلاقية، ومستهلكاً، سواءاً لبضائع السوق أو القطاع العام، لا يفتأ ينزل مكانة مركزية بالنسبة للرواية الليبرالية حول الحداثة. ولكن ألا يعني ذلك الإيمان بمستقبل بلا حدود. (غير أن من يقول ذلك ليس بالمناسبة كمن يقول “بإيمان بنمو غير محدود”، وهو على كل حال ما ليس رائجاً الآن).

ويقول كترجي قولاً حقاً بالمطلق حيث يشير إلى أن الحداثة الليبرالية لا تنتبه بما يكفي إلى فكرة الجماعة. وهذا ما كان مورد شكوى الاشتراكيين (وبالطبع المحافظين). وحتى أن بعض الليبراليين، من المتأثرين بالفكر الهيغلي، انتقدوا فكرة التعاقدية الفردية غير المقيدة (غرين Green وبوسانكويت Bosanquet على سبيل المثال). غير أني من الذين يعتقدون بالحاجة إلى فهم فكرة الجماعة من حيث موجوديتها التاريخية. ولا يجوز في آي لحاظ أن نسمح لأنفسنا بالانزلاق داخل ثنائية الفرد في مقابل الجماعة. حيث لا تكتسب هذه المواجهة التي تقابل بين هذين المبدأين صداً تأصيلياً إلا من الغلبة التي استطاعت لغة الليبرالية أن تحرزها لنفسها.

فهل أن ها هنا في هذه الحال إمكانية حقيقية لخيارات مختلفة؟ أم أن الدول العظمى سترغم ما تبقى من الدول على تبني هذا النموذج الذي وحده يتمتع “برجحان العقل” و”نظافة الأخلاق” ..أي النموذج الليبرالي في الاقتصاد والأخلاق والسياسة؟ وهذا ما لا أعرفه. ولكن ما أقوله هنا هو ما من شئ يحملنا على قبول تعريفهم للحداثة الذي هو إنما لتقييدنا وإعاقتنا. وهو أمر يختلف عن ادعائنا امتلاك ما يلزم من مصادر مادية وأخلاقية لممانعة حقيقية ولصياغة مبدعة لخياراتنا الخاصة..وذلك بغض النظر عما إذا كان يطيب لنا أن نطلق صفة الحداثة على هذه الخيارات أم لا.

معلوم أنك لا تنقطع، في إطار تناول ثقافات مخصوصة بالدرس والتقويم، عن التشديد على ضرورة استعمال مفاهيم نظرية لا تنفصل عما تموج به هذه الثقافات من ممارسات وافتراضات أو ما جرى مجراها. إن اشتغالك بالدين، بهذا المعنى، يشبه إلى حد كبير العمل الذي نهض به كاكرابرتي، المؤرخ الهندي من قسم دراسات التابع، والذي مداره الحركات التي ينتظم بها أفراد الطبقة العاملة الهندية، حيث صب كاكرابرتي نقده على مفهوم الصراع الطبقي مركزاً على عدم بلوغه القدرة على تعليل الروابط وأشكال التضامن غير الليبرالية. إلى أي حد تعتقد أن مهمة تحليل الحركات السياسية/ الدينية تعرقلها مشكلة مشابهة تتمثل في التوسل بمقولات مفهومية غير مناسبة؟

ط.أسد: إن واحداً من الأشياء القيمة التي جاءت بها ما بعد الحداثة يتمثل في مساعدتنا على لزوم جانب الشك حيال “المرويات الكبرى”. فحالما نتخلى عما جرت عليه العادة برؤية كل شيء في إطار علاقة تربطه بسبيل عالمي يوصل إلى المستقبل المفترض والذي هو من اكتشاف الغرب. بعد ذلك، قد يكون من الممكن وصف الأشياء بالركون إلى عالمها المصطلحي. وهذا ما يشكل أيضاً مدار مشروع أنثروبولوجي بارز. فمن واجب الأنثروبولوجي أن يصف أوجه الحياة ومسالكها بعبارات مناسبة. وهو لكي يباشر الشروع في هذا العمل عليه، على الأقل، التوسل بعبارات جوهرية لا تنفصل عن الممارسات الاجتماعية، المعتقدات، الحركات، التقاليد، التي تنتظم عليها الشعوب موضوع الدرس الأنثروبولوجي، وأن لا تكون على علاقة بمستقبل تدفع نحوه دفعا. إن هذه “العبارات الجوهرية”ليست هي الشيء الوحيد الذي يمكن التوسل به واستعماله..بالطبع لا. فهناك أيضاً مفاهيم الشعوب نفسها والتي يجب أن تحمل على محمل الجد بوصفها ركناً مركزياً من الأركان التي ينضبط بها مسعى للوصول إلى فقه مناسب لحياتها. وهذا ما يثبت لنا لماذا كان كاكرابارتي على حق في نقده استعمال مقولات مفهومية، كمقولة الوعي الطبقي، وذلك في لحاظ أنها لا تقيم وزناً للشعوب نفسها.

وأكرر، هذا لا يعني القول أنه علينا الامتناع تماماً عن استخدام عبارات لا يتحصل معناها مباشرة بالنسبة للشعوب موضوع الدرس الأنثروبولوجي. غير أن المشكلة التي يثيرها استعمال مفاهيم كمفهوم الوعي الطبقي لأغراض تفسيرية تكمن في أن نحول نوعاً مخصوصاً من التغيير التاريخي إلى أصل معياري. فالمعارضة السياسية وكذا النشاطية السياسية تكونان ” أكثر تطوراً” إذا ما انتظمتا على مقتضى مفهوم الوعي الطبقي، وهما ” أقل تطوراً” إذا ما جرى استعمالهما على مقتضى غير ذلك. حيث تنزع الماركسية إلى نصب السياسة الطبقية جوهراً للحداثة، فيما يُنظر إلى الحداثة نفسها بوصفها شكلاً أكثر تطوراً للمجتمع المتمدن.

وحالما نضرب صفحاً عن الروايات الكبرى، كما وعن التاريخ المعياري، يمكننا أن نبدأ تساؤلنا لا “بما يجب على هذا الشعب أو ذلك أن يفعل؟”بل “عما يستهدفه من هذا العمل؟ ولماذا”.وعلينا أن نتعلم كيف نوسع هذا السؤال بعبارات تاريخية مخصوصة. وهذا ما ينطبق دون ريب على محاولاتنا لفهم الحركات السياسية/ الدينية عامة والحركات الإسلامية خاصة. وهو من العته أن نسأل لماذا لا تتجه هذه الحركات إلى حيث ما يرسم لها. غير أن هذا بالضبط ما يسأله المثقفون حين يتساءلون: “ما الذي يدفع الناس في هذه الحركات إلى ما يتصرفون به من لا عقلانية ورجعية”.

تأسيساً على حوارنا حول الدولة والجماعة، هل من حيثيات تدفعنا إلى القول بان الحركات الإسلامية المعاصرة تتمثل رئاية للدولة تميزها عما هو مألوف من صيغ تقوم على الأمة، تداول الرأي، والإجماع؟

ط.أسد: إن السؤال عن تصور مختلف للدولة، هو ما يزيح الستر عن وجه من الوجوه التي يدور عليها الفكر الإسلامي والذي يستلزم مزيداً من الاشتغال على الأصول. فلدي شعور بأننا في حاجة إلى معاودة التفكير بطبيعة السياسي وبطريقة أكثر جذرية من تلك التي اعتمدتها الحركات الإسلامية. ولقد خطى الإسلاميون، إلى حد كبير، خطوات عريضة على طريق قبول الدولة التحديثية (ونموذج الدولة الغربية) وترجمة هيئاتها ومقاصدها بمفردات إسلامية، وهم غالباً ما يسلمون ببساطة بمقاييس الدولة/ الأمة الحديثة مكتفين بالقول بوجوب ضبطها من قبل جماعة من أهل التقوى. لذلك فنحن بحاجة إلى ترسيخ فكرة أكثر جذرية قبل أن ندعي أن للمسلمين تصورهم المميز للدولة.

ولكني لا أريد، على الرغم من ذلك، أن أبالغ في القول برسو هذه الحركات على مقاربة جامعة ومتجانسة. فهناك خِطَاطَات لمحاولات مهمة تهتم بمعاودة التفكير التي قصدناها وتتوجه شطرها. فعلى سبيل المثال، حاول الغنوشي، الزعيم الإسلامي التونسي الذي يعيش في المنفى، مؤخراً توفير الحجة على المشروعية السياسية التي تجوز تعدد سبل الاستدلال على مقاصد النص. وبمعنى من المعاني، فان القول بتعدد مقاصد النص هو تماماً جزء لا يتجزأ من التقليد الإسلامي (وعلى ذلك يجمع السنة والشيعة). حيث حاول الغنوشي، إذا فهمته جيداً، إضفاء الطابع السياسي على الترتيبات التقليدية لجعلها أكثر سيولة وأكثر انفتاحاً بغية تخليصها من الاستواء على معنى واحد لا يداخله التداول ولا التفاوض. ومنطلقاً من التمييز الكلاسيكي بين النص من جهة، وتفسيراته من جهة أخرى، يعتبر الغنوشي أن هذه الأخيرة تتحصل، بما هي نتائج النص، في قلب الحلبة السياسية. وهذا ما يستدعي إشغال رأي الناخبين، مع أو ضد، في تأييد أو رفض سياسات تستتبعها التفسيرات المقدمة وكذلك تخويلهم الحق في معاودة النظر والعدول عن الرأي. وبكلمات أخرى، فان التضمينات السياسية التي تتشكل على مقتضاها مقاصد النص (ولا نعني هنا “معاني النص” نفسه) سوف تكون مجالاً للتداول إن قبولاً أو رفضاً مثلها في ذلك مثل أي مشروع أو تشريع مقترح. وما هو واضح أن ذلك يحتاج إلى مزيد من التوسع في الصياغة والإيضاح في البيان لتوفير المعاني للمقاصد السياسية.

هل أن عناصر هذا النوع من التفكير هي جزء من التقليد الإسلامي الاستطرادي؟

ط.أسد: أعتقد أنها كذلك بالتأكيد. وهذا ما يدور عليه مبدأ الاجتهاد، وهو مبدأ ينبني عليه الاستدلال الأصيل الذي لا ينفك عن التقليد. ولقد بات الكلام في هذا المبدأ شائع التداول بين المسلمين اليوم، غير أنه غالباً ما يستعمل من أجل تقريب القيم الليبرالية الحديثة من حقل التقليد الإسلامي بدواعي واهية. وأنا أعتقد أنه لا بد من استعماله في حوار، يوفر التقليد مرجعيته، مع المسلمين الآخرين حيث يسعى المتحاورون إلى صياغة حلول للمشكلات التي يعتبرها المسلمون الآخرون تحديات تواجه التقليد.

لقد توليت، في كتابك الأخير، النظر في ممارسة النصيحة في السعودية، وإشهارها مثالاً بارزاً للنقد العام ضمن التقليد الإسلامي، والذي يختلف بدوره عن النقد العام في صيغته الليبرالية (2). فهل لك أن تحدثنا عن ذلك، انطلاقاً من تعليقاتك حول حدود بعض التقاليد الفكرية المخصوصة وإمكانية ممارستها؟

ط.أسد: نعم، ثمة اختلاف بين النصيحة والنقد العام في صيغنه الليبرالية. فعلى سبيل المثال، تكف النصيحة عن كونها حقاً يخول المرء أو النظام نقد النظام السياسي و/ أو الملك لتصبح واجباً. وعلى محو مماثل، فان أعباء النهوض بالنقد ليست موكولة إلى جماعة صفوية. إنها ما يجب على كل مسلم أن يمارسه، كما أنها ما يجب على علماء الدين أن يعاودوا التداول بما تقوم عليه من قواعد نظرية في كل زمان ومكان. وانطلاقاً مما تقدم، تعتبر النصيحة شكلاً نقدياً لا يفارق التقليد، وهو ما يدفع إلى القول بعدم تحصل القدرة على ممارسته إلا لمن كانت درايته بالممارسات الإسلامية المناسبة لا تحتمل طعناً ولا شبهة فراغ. وأنه لنقد مغاير عن ذلك الذي قد يتمكن من القيام به شخص قادم من خارج دار الإسلام، غريب عنها كلياً، حتى وأن افترضنا أنه تحصن بفطنة الجدل المنطقي، وبشبكة من المفاهيم الأخلاقية الشاملة. لذلك، فهو يختلف كلياً عن النقد العام والمجرد الذي يتميز به رجال السياسة المتنورين.

بناءاً على ما تقدم، هل أنت من المعتقدين بقدرة تقاليد معينة على مواصلة مسارها دون أن تدخل، على وجه الضرورة، في حوار مع تقاليد أخرى..ونشير، بصدد هذه الأخيرة، إلى التقليد الليبرالي الغربي المتعلق بالنقد السياسي والعام؟

ط.أسد: لا، ليس هذا ما أقوله، فما ذهبت إليه، في المقام الأول، هو أن النصيحة كما وصفتها في كتابي، إنما هي شكل نقدي لا يُبلغ إلا متى كان الناقد متآلفاً مع التقليد السائد الذي يصدر عن ممارسات إسلامية منمذجة وكذلك مع الوضعيات الاجتماعية المخصوصة التي تطبق هذه النماذج في إطارها. ولكن غالباً ما يجري توسيع هذه النماذج وتعديلها كلما شرعت الأوضاع الاجتماعية في التبدل والتغير. وهذه العملية، في الحالة التي أناقشها على صلة وثيقة بالتطورات التي مرت بها الدولة السعودية الحديثة. فالعديد من ممارسات هذه الدولة إنما تتشكل على هدي ممارسات الدولة/ الأمة الحديثة. وهذا ما يرخي بظلاله على مختلف وجوه “الحياة لخاصة”. وبكلمات أخرى، بدأت الأوضاع الاجتماعية الجديدة في التأثر بمختلف هيئات التقليد السياسي الغربي. وقد لزم عن ذلك، أن انخرط الخطاب الديني الوهابي في عملية معقدة تهدف إلى تكييف أو رفض أجزاء من هذا التقليد.ولهذا فان أصول النصيحة وان كانت متمايزة تماماً عن المبادئ الليبرالية فان مجال النصيحة وهدفها قد تعدلا تعديلاً كبيراً. وهو ما لن أسمه حواراً مع التقاليد الأخرى، بل استتباعاً لها بالتأكيد. فأنا لا أرى كيف يمكن لأي تقليد غير غربي أن يبقى في منأى عن تأثير الحداثة، ذلك لأن هذه الأخيرة أمست وجهاً يحكم إيقاع الحياة في المجتمعات غير الغربية.

هل تعتقد أن الصياغة البروتستانتية المابعد إصلاحية للدين، بوصفها نظاماً عقدياً داخلياً لا تتوفر فيه شروط القدرة الكافية لترتيب الحياة السياسية والاجتماعية على هيئات ومراتب، قد أثرت أو غيرت من طبيعة النقاش الإسلامي في هذا القرن؟ إن كان الأمر صحيحاً، فما هي طرائقها في ذلك؟

ط.أسد: حسناً، أعتقد أنها إلى حد ما قد أثرت، ويظهر هذا التأثير جلياً في ضوء نزوع الحركات الإسلامية الإصلاحية إلى تبني النموذج العقلاني الغربي الحديث أو حتى عندما اقتنع مناصرو الإسلام أن هذا الدين سيكون بالتمام والكمال عندما يجري على قياس ورسم المعايير الغربية للعدالة والأخلاق. ويصبح هذا التأثير صريحاً عندما تدفع الشريعة للتآلف مع القانون الغربي ومناط ممارسته، أو عندما تُخضع لمؤسسات الدولة الحديثة. حيث تعتبر هذه الدولة منطلقاً لحركتين متمايزتين تماماً: حركة تحمل الإيمان الديني على ما يدخل في الشأن الخاص (بالمعنى القانوني والسيكولوجي)، وحركة تدعو إلى وضع ناصية الوظائف العامة للدولة الحديثة بيد رجال الدين.

غالباً ما كان النظر إلى أمر التقليد الإسلامي يهتدي بسبل حجاجية تبنيه على مقتضى التسامح والتعددية فيما كان الانصراف عن هذا الوجه والغفلة عنه ظاهر حيال التقليد الإسلامي، ومن هذه الحيثية يبقى مفهوم التسامح غريباً عن الإسلام. كيف يمكنك الرد على ذلك؟

ط.أسد: حسناً، إن أول ما يجب توكيده هنا هو أن هذا المفهوم ليس صنعة ليبرالية حديثة. ولئن حصل للتقليد الليبرالي القدرة على إرساء تعددية المصالح الفردية على أوفق القواعد وأوثقها. فانه، بالمقابل، بقي في مادون هذه القدرة حيال ما يحفظ على الأقليات والمجموعات الإثنية حقها في تمثيل نفسها. وإذا كانت الليبرالية تستوي على شبكة نظرية تمثل اجتهادا صريحاً في ملائمة السلوك الإنساني مع مقتضيات الإرادة الفردية، فلا يحجز بين الفرد وإرادته حاجز، فإن هذه الشبكة لا تدلنا على مفهوم التعددية في صيغنه الراهنة. ومعلوم أن الليبرالية لا تنقطع عن التنظير “للمصالح” المتعددة، وهي مصالح يمكن التوسل إلى تناولها وتدبرها وضبطها أثناء العمليان الانتخابية، كما ويمكن التفاوض حولها خلال عمليات صياغة وتطبيق السياسات الحكومية. غير أن هذا النوع من التعددية يبقى شديد الاختلاف عن تلك السبل الحياتية المتنوعة التي هي بمثابة الخِطاطَات المسبقة التي تعين المصالح الفردية دون أن تتعين بها أو حتى تتعين كأهداف لها.

ولنقل الآن أن التقليد الإسلامي، كغيره من التقاليد غير الليبرالية، إنما يتأسس على تعدد الأقوام والملل.. خاصة (وليس حصراً) التقاليد الإبراهيمية[ أهل الكتاب]. وهو ما يقال، بالطبع، في نزوعه إلى استيعاب مختلف التأويلات التي تتشكل بالاتصال الدائم مع النص القرآني، على اختلاف صورها وكثرتها من غير شقاق ولا فرق. فثمة قول مأثور تدور عليه الشريعة، هو:”اختلاف أمتي رحمة”. وهذا بالضبط ما ينبني عليه مفهوما الاجتهاد والإجماع. حيث يسمح هذان المبدآن، بما هما أنماط لتطوير وإسناد التقليد الإسلامي، بتشكل حقل من الاختلافات المتناسقة، وهو ما يبقى مغاير تماماً للتجانس المفروض.

وإنه لمن الطبيعي حين يكون الالتئام هو المبتغى أن يبقى الاختلاف مقيداً. وإذا لم يكن التسامح مرادفاً لغياب حد الاختلاف، فهذا يعني أن لأي تقليد ديني حداً لا يمكن التسامح حيال من يتجاوزه. وهذا ما يعني ببساطة أن هناك نوعاً من الاختلافات يمتنع تأليفها مع تقليد معين دون الإضرار بمزاج لحمته. ولكن، بالطبع، هناك مواضع وأسباب متعددة لمثل عدم التسامح هذا. وتبعاً لذلك لا يمكننا أن نرى في أي خروج عن التسامح مورداً للعنف والتعسف.

وبشكل إجمالي، كانت المجتمعات الإسلامية أكثر تآلفاً مع سبل التعددية، بالمعنى الذي أشرت إليه، من المجتمعات الأوروبية. غير أن هذا لا يرتب الحكم بنزول هذه المجتمعات مكانة لا تضاهى. كما إنني لا أريد القول بأن المسلمين وحكامهم لم ينتهكوا قواعد التعددية وانهم لم يتحاملوا أو لم يضطهدوا غير المسلمين عندهم. كل ما أريد قوله هو أن”مفهوم التعددية” ليس غريباً عن الإسلام.

عند الكلام عن التعددية التأويلية داخل التقليد الإسلامي، يسلك بعض الدارسين مسلكاً قوامه التفريق بين التقليدين الصوفي والسلفي. لقد اشتغلت بالاعتراض على هذا المسلك الذي يباشر النظر في هذين التقليدين متوسلاً بثنائية مبسطة تميز تميزاً واضحاً بين: ريفي/ مديني، شعي/ نخبوي، شفهي/ نصوصي، منكراً عليه قدرته على النظر في التقليد الإسلامي نظراً صحيحاً ومناسباً (3). ولما كان من الصعوبة بمكان إنكار الاختلافات الجوهرية بين الفكريين الصوفي والسلفي. فهل من سبيل إلى تناول هذه الاختلافات وتدبرها دون أن ننزلق إلى داخل هذه الثنائية المبسطة؟

نعم، لا ينفك بعض الدارسين، وعلى نحو غير ملائم، عن لزوم هذه الثنائيات المبسطة والاستمرار عليها من غبر تعديها إلى غيرها.إنه لأمر صحيح من وجهة نظر بعض التقاليد الإسلامية، كالتقليد الوهابي الذي يسود السعودية اليوم، خروج الفكر الصوفي من مسرح التقليد الإسلامي المركزي ومن فضائه ومسالكه. غير أن الصيغة التي تُعرف التقليد الإسلامي المركزي انطلاقاً من الحنبلية السعودية لا تعتبر صيغة سلفية بالمعنى الدقيق، ذلك لان الإسلام الوهابي يرتبط ارتباطاً مميزاً بدولة مخصوصة ..حتى عندما يتشكل كلغة معاصرة تتصدى للنظام. وهذه مسألة معقدة، ولا أنوي الدخول في التفاصيل هنا. غير أن كل ما أريد قوله هو أننا نكون على خطأ حين نرجو حمل الإسلام على خيارين فقط..الخيار الصوفي والخيار السلفي.فالبنسبة لبعض المصلحين كمحمد عبده، ليس التصوف والسلفية مقولتين متنابذتين. وهو، كأحد مؤسسي الحركة السلفية، غالباً ما كان يُظهر قبوله بالتقليد الصوفي. وهو ما يستحيل معه فقه علاقته بجمال الدين الأفغاني من بعض وجوهها، بما في ذلك الوجه الذي يدور على تبادلهما للغة الحب الصوفي في بعض الأحيان، إلا في مضمار تآلفهما مع التصوف. لقد إعتقد عبده بحاجة الإسلام الضرورية إلى بعض الإصلاحات، لكن دون أن يخلو النهوض بهذه الحاجة من تناغم مع التقليد الصوفي. وهذا المنحى ليس جديداً، فالمصلح القروسطي الكبير الإمام الغزالي كان نصوصياً (نخبوياً إذا أردت) وصوفياً في الوقت ذاته.

أعتقد أن النقد السلفي للتصوف إنما ينكب في جملته على مخالفة الأخير لركن عقدي هو مسند التقليد الإسلامي وقطب رحاه، ألا وهو: الفصل بين الله والإنسان. لقد استمعت إلى الانتقادات التي تستبعد إمكانية الاتحاد الكامل مع الله بوصفها مغايرة لإمكانية الانفتاح الكامل عليه. وهي نقطة حاسمة بالنسبة للذين يشتغلون بالاعتراض على التصوف بحسب ما أعتقد.

وثمة نقاش هام دارت فصوله، وبطريقة عفوية، في القرن الثامن عشر بين محمد بن عبد الوهاب (المصلح العربي) وبين قاضي قضاة تونس (الذي لم أعد أتذكر اسمه)، وقد انتحى هذا النقاش ناحية التركيز على ما يسمى عبادة قبور الأولياء والتي هي نتيجة من نتائج التقليد الصوفي وثمرة من ثمراته بحسب بعض المصلحين. ولقد توجه الجدل حول هذا الموضوع شطر السؤال عما إذا كان التردد على القبور والتوسل ببركات الأولياء نوع من أنواع العبادة أم نوع من أنواع الزيارة. وقد ذهب القاضي التونسي إلى عدم استواء هذا التوسل شكلاً تعبدياً، وعليه ليست زيارة قبر النبي في مكة من العبادة في شيء، فلا يخص المسلمون النبي بالعيادة (العبادة لا تكون إلا لله) بل بزيارة قبره، بوصفها نوعاً من أعمال التقوى والطاعة التي تجلب البركة. وأن لم يقتنع محمد بن عبد الوهاب بهذا الجدل، واحسبه كذلك، فان ما يبقى مهماً هو حصول مثل هذا الجدل. ونذكر هنا أن نزوع بعض فصائل الحركة الإسلامية إلى تكفير المسلمين الآخرين هو نتيجة من نتائج هذا الجدل ولازمة من لازماته. وهو على ما هو عليه من سوء، يأخذ هذا التكفير صفة الحكم شبه الشرعي التي تنزل بموجبه عقوبات فعلية.

إن ما يبعث على الغرابة والعجب هو أن يكون هؤلاء الذين يرمون، من داخل الحركات الإسلامية، الآخرين بسهام التكفير هم أنفسهم الذين يقيمون الحجة على غيرهم بأن الاجتهاد في الإسلام لم يوصد له باب. وعليه فان الفكرة المركزية التي ينبني على مقتضاها هذا المفهوم، بوصفه تمريناً على النقاش كما وعلى معاودة الاعتبار لمبدأ المناظرة، تبدو وكأنها على طرف نقيض مع نوع من التحديد يقوم مقام تجويز التكفير.

ط.أسد:نعم، إن العديد من المسلمين سوف لن يترددوا، بالطبع، في رفض ولوج الاجتهاد من باب مقدمات تأويلية غير مقدماته التي رفع عليها. وبالمناسبة ينزل الاجتهاد من المذهب الحنبلي التقليدي مكانة مركزية لا يسبقه إليها مذهب آخر بحسب أهل السنة..الذين يؤكدون على أن باب الاجتهاد لم يغلق قط. وهم لا ينفكون يعيدون إعلان هذا المبدأ وإشهاره بإلحاح وقصد لا يتركان مجالاً للشك، غير أن ذلك لا يحجز بينهم وبين إظهار تصديهم لما يعتبرونه استعمالاً اعتباطياً له. وهو ما يرسم أفقاً من التشابه بينهم وبين الخوارج الذين عاشوا في القرن السابع، والذين لا يُحلون تكفير المسلمين الآخرين وحسب، بل يحلون أيضاً حربهم. وهم، من هذه الحيثية، لا يألون جهداً في البرهان على أن باب الاجتهاد مفتوح أمام أشياء دون أشياء، وأمام أمور دون أخرى، ذلك لان بسط الكلام في أشياء معينة في ضوء الممارسة الاجتهادية لن يفتح باباً غير باب الكفر. لهذا السبب تبقى المسألة الأساسية هي:كيف نعَّين حدود المفاهيم، وما هي الفاعلية التي تلزم عن مثل هذا التعيين.

عند إعمال النظر في تقاليد معينه، غالباً ما يَنصُب منظرو الدين تعارضاً بين التدين الربوبي وبين منظور تقليدي لا ينقطع عن التشديد على الممارسات الجسدية الصحيحة، وعلى الفهم الحرفي للنصوص..الخ. ومن ناحية أخرى، لا ينفك المنحى الربوبي عن الفهم المجرد لفكرة الألوهية، للنصوص المقدسة، كما وللأصول العامة التي تتأسس عليها العقيدة الدينية. ومن هذه الوجهة، تصرف النظريات الدينية، التي تحتذي على المثال التطوري، عنايتها إلى الربط بين هذا المنحى الربوبي وبين الصياغة المابعد تنويرية للدين، والتي تظهر فيها المسيحية المابعد إصلاحية بمظهر المثال والنموذج، بينما لا يفارق الإسلام، الهندوسية، وأشكال محددة من اليهودية، الجهر بالربط بينه وبين الفهم الحرفي للنصوص(4). وحتى لو رفضنا الاسترشاد بالنموذج التطوري أداة لتفسير التطورات الدينية عير التاريخ، فإن ذلك لا يعني القول بعدم وجود اختلافات واضحة لجهة التركيز على الممارسات الجسدية الصحيحة في العديد من هذه التقاليد الدينية. وإذا ما أخذنا بالاعتبار تركيزك على ضرورة إدخال المتحركية التاريخية إلى متن مفهوم الدين، كما وعلى العلاقة التنابذية بين الخطاب الديني والممارسات الجسدية (وبشكل خاص في المسيحية القروسطية)، فهل من سبل تقترحها لمقاربة هذا التصنيف للتقاليد الدينية بوصفها إلهية و/ أو حرفية؟

ط.أسد: أعتقد إنها مقابلة زائفة، ذلك لأن المبادئ والأفكار المجردة قد ارتبطت على الدوام بتقاليد دينية متنوعة: كالتقاليد الإسلامية، اليهودية، والمسيحية ما بعد إصلاحية، كما أنها استمرت على لزوم هذا الارتباط من غير انفصام. وبناء عليه، فان ما ينكشف أمامنا، هو أن الأفكار المجردة فيها من الإشارة إلى اللاهوت بقدر ما فيها من الإشارة إلى البرامج التي تعتبر ضرورية لتعليم الممارسات الملموسةembodied practices . ولقد تحدثت مفصلاً عن هذه البرامج في كتابي: جينالوجيات الدين. بهذا المعنى، يرتفع التعارض بين الأفكار المجردة والممارسات الملموسة. وتتولى هذه الملاحظة إبراز السبيل الذي تطورت عبره الفضائل المسيحية في سياق رهبني، كما أنها تتولى وبشكل مماثل، إبراز السبيل الذي يؤسس النصيحة في الإسلام كممارسة ملموسة، كما حاولت أن أبين في كتابي. غير أن جماع هذا التعارض ومؤداه يكمن في نزول التركيز على الإيمان الصحيح من قبل المسيحية البروتستانتية (وفي الأديان التي تحتذي على مثالها) رتبة تفوق الانتهاض بممارسات مخصوصة، وتعلو عليها درجات لا تطوى. غير أن ذلك لا يعني أن الإيمان، بكل ما في الكلمة من معنى، كان مقطوع الصلة بالماضي المسيحي أو بالتقليد الإسلامي. فكل ما في الأمر، أن الإيمان قد استحال الآن حالة داخلية بحتة، حالة نفسية خاصة، تتنكب الممارسات اليومية وتسعى في هذا التنكب ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. رغم ذلك، فقد فتح التركيز على الإيمان الداخلي الباب واسعاً أمام ظهور خطابات نسقية تشكل اليوم جوهر الدين، كما تشكل بنية نظامية تجعل من إمكانية تقييم الأديان ومقارنتها ببعضها البعض أمراً ممكناً. حيث تقوم هذه الصيغ النسقية، هذه النصوص، الآن مقام الصياغة العامة للدين.

ولهذا أعتقد أن ما تقدم يجب أن يحملنا على التخلي عن التعارض بين الأفكار المجردة والممارسات الملموسة لصالح نوع آخر مداره التعارض بين المتحركية التاريخية للقابليات الأخلاقية/ الدينية التي تتولى مهمة تهذيب بعض الوضعيات الجسدية (بما في ذلك الانفعالات)، كما وتهذيب العادات، الطموحات، والرغبات، بالتأدب، من ناحية، وبين شبكة من الصيغ الإيمانية المغرقة في التجريد، و”النصوص” التي تميز نفسها بزعمها الرسو على المعاني الضرورية والكافية للوصول إلى جوهر الدين، من ناحية أخرى.

والآن، بمقدار ما نشرع في إرساء التدين الحديث على أساس شبكة من الصيغ الإيمانية المجردة، التي لا تعلو مكانتها ولا تضطلع بدور بارز في تدبير الناس لحياتهم الفعلية، فإننا نتحصل على ظاهرة غريبة قوامها، ورود المسيحيين وغير المسيحيين وكذلك الملحدين على ممارسات وشعائر ورسوم اجتماع واحدة بلا خلاف أو فرق. ومن هذه الحيثية، تُباين الصيغ الإيمانية المجردة الممارسات الملموسة على اختلاف أنواعها. لذلك فالتعارض الأساسي الذي يجب أن لا يغيب عن بالنا إنما هو التعارض الذي يقوم بين هذا النظام العقائدي الفكراني المجرد، الذي ينأى عن أي علاقة مباشرة يمكن أن تربطه بأشكال الممارسة الملموسة، وبين الحياة التي تنتظم حول التعلم التدريجي للمارسات الأخلاقية والدينية الصحيحة والتمكن منها وإتقانها.ولا يشكل هذا النوع من التدين خاصية بارزة من خصائص الدين الحديث الذي يطبع بطابعه المجال الأوروبي وحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من سعي راهن لمقاربة الدين بوصفه شبكة من الصيغ الإيمانية، الأمر الذي يجعل من مقارنة الأديان ببعضها البعض وكذلك الحكم على شرعيتها أمراً ممكناً. غير أن هذا الوضع يتناقض جذرياً مع وضع آخر تظهر فيه الممارسات الملموسة بمظهر الوسيلة اللازمة لتطوير الفضائل الدينية، إن لم نقل هي نفسها فضيلة دينية.وفي نهاية المطاف، إذا جاز لنا الكلام عن أشياء معينه على أنها معقولة أو غير معقولة، صحيحة أو زائفة، عقلانية أو غير عقلانية، وإذا جاز أن يحل مثل هذا الكلام ساحة صيغ إيمانية معينة، فلا يجوز أن يحل ساحة الممارسات الملموسة. فالممارسات ليست صيغ. وكما بين أوستين في كتابه الموسوم: كيف تصنع الكلمات الأشياء How to Do Things with words، تكف الممارسات عن الدخول في باب الجمل الخبرية لتدخل في باب الجمل الإنشائية. وإننا نكون على خطأ حين نحاول الحكم على الجملة الإنشائية فيما إذا كانت صحيحة أو زائفة، وإننا بدلاً من ذلك، نتساءل عما إذا ما كانت منجزة بصورة جيدة أو بصورة سيئة، بفعالية أو بغير فعالية. لهذا السبب فإن هذين السيايقين اللغويين يثيران هنا أنواعاً مختلفة من الأسئلة. وهذا هو التعارض الذي يجب أن لا يغيب عن بالنا، وهو ما يشكل جزئياً موضوعاً للفصلين اللذين خصصتهما للحديث عن طقوس الرهبنة.(5)

وفي الإسلام، وهذا ما يهمنا، إذا كان المسلمون بجادلون حول وجود عقيدة يتمثل بها الإسلام الحقيقي، وإذا لم يكن للإجابة على هذا السؤال أي أثر على كيفية اكتسابهم خبرتهم في الحياة، وعلى كيفية تطويرهم للفضائل الإسلامية المميزة. فإننا لن نجد والحالة هذه، أي فارق في أن تكون تلك العقيدة متشبهة بالعقيدة المسيحية أو غير متشبهة، ذلك لأن المسألة هنا تدور على سبل الحياة. وهذه نقطة يجب أن لا تغيب عن بالنا. لكن السؤال الحاسم، كما يبدو لي، هو التالي: هل ثمة أصول وقواعد عملية تهدف إلى تطوير شبكة من الفضائل المميزة (والتي يتم التشديد عليها دينياً) والتي تُظهر لنا كيف يبني ويشكل أحدهم حياته الخاصة؟ وهذا ما قصدته بالممارسات الملموسة.

لما كانت المسيحية القروسطية تحل في كتابك محل بؤرة الاهتمام والتركيز، فإن لدي ميل في معرفة إذا ما كنت تعتقد بوجود هذا النمط من الممارسات الملموسة في أرجاء العالم الإسلامي المعاصر، حيث العناية بالممارسات الجسدية الصحيحة تعبر عن السبيل الذي يرسي حياة الناس على قواعد يومية؟

نعم، أعتقد أن الممارسات الجسدية الصحيحة لا تنقطع عن التعبير عن هذا السبيل في العديد من المناطق. ولقد حاولت الوقوف على بعض وجوه هذه المسألة عبر إعمال النظر في الصياغة الوهابية للأخلاق على صعيدي المفهوم والممارسة(6)، بوصفها مغايرة للصياغة الما بعد كانطية. وإننا ما نزال نشهد، وإن بدرجات متفاوتة، وجود هذا النمط من الأخلاق في بعض أرجاء العالم الإسلامي، رغم أنه بدأ يتآكل هناك تدريجياً كما هو الخال في الأماكن الأخرى. كما أعتقد أن الحركات الإسلامية الحديثة على بينة، بطريقة ما، بأن السعي في طلب الممارسات الجسدية الصحيحة ومدها بأسباب الدوام والتوسع أمراً بالغ الأهمية، وهو ما يجذبها إلى مواصلة العناية بهذه الممارسات والعمل على صيانتها أينما وجدت كما ومعاودة تأسيسها متى تعرضت للتفكك والتآكل. غير أن الإسلاميين غالباً ما يربطون، وبطريقة غير ملائمة، بين وجود هذه الممارسات وبين السعي إلى تشكيل الدولة الإسلامية التحديثية. وهي مسألة، كما تبدو لي شديدة الإشكالية، ويكاد يحظى هذا الحكم بالنسبة لي بشتى أنواع المبررات. وعلى أية حال، فإن تعلم القابليات والممارسات الأخلاقية ليس من اختصاص الدولة التحديثية أصلاً. غير أنه وحتى الآن ما تزال معظم الحركات الإسلامية معنية بالاستيلاء على هذا المركز الذي تجسده الدولة الحديثة بدلاً من محاولة الانفكاك عنه أو تفكيكة.

وفي الختام، أود بسط الكلام في بعض الوجوه التي جهد كتابك لبلوغها وإجلاء حدودها وإظهارها، والتي ربما تعتبر من أكثر الأشياء إثارة للجدل، من حيث أنها تحل مفاهيم القوة والفعالية، التي لا تنفك الكتابات الثقافية الراهنة عن تكرارها والترويج لها، محلاً مركزياً. إن واحداً من أكثر الأشياء إثارة للغضب، على سبيل المثال، هو توجيهك حد النقد إلى علماء الاجتماع الذين لا يفارقون الإشارة إلى ثنائية الإخضاع/ القبول والتوسل بها أداة لتحليل علاقات الهيمنة(7). وإذا أخذنا بعين الاعتبار توكيدك على الطابع الإشكالي لمثل هذه المقاربة، هل من خيارات أخرى تتيح لنا التفكير في علاقات الهيمنة…إذا كان من غير الممكن مقاربتها انطلاقاً من مفاهيم الإخضاع والقبول؟

ط.أسد: حسناً، إن الباعث على معارضتي لهذه الثنائية والدافع شطرها يكمن في صدور نموذج الإخضاع/ القبول عن فرضية مدارها أن شيئاً يُدعى الوعي يبقى جوهرياً لتفسير البنى والتبدلات الاجتماعية. ولقد حظيت هذه المسألة بنقاش مختصر في المقدمة التي وضعتها لكتاب: جينالوجيات الدين، حيث يسعى القوم هنا إلى تثبيت نوعين من الوعي (وعي بالإخضاع والقهر ووعي بالرضا والقبول)، وهم يفترضون أن الهيمنة، على سبيل المثال، تفسر بمفردات القوة والقبول في آن معاً. وما يستشرفه ذلك هو أقرب إلى أن يكون أحد العناصر التي تتأسس عليها رؤية ماركس، وهو ما سميته في مكان آخر، وإن بطريقة غير مرضية تماماً: “بنى العزل “. والواقع أن هناك بعض الوضعيات التي تتميز ببساطة في أنها لا تعطيك أية خيارات، بل ترغمك على القيام بأشياء معينة. غير أن هذا لا يعني أنكِ مرغمة على فعل شئ، بل يعني ببساطة أن لا خيارات لديك حيال الانتهاض بهذا الشي سوى الخيارات المتاحة؛ أو على الأقل، تكف القوة عن المثول في نظام للإخضاع جلي القواعد والأسس لتستوي ممارسة موكولة إلى الواقع الحدثي والعرضي. وهذا يشبه إلى حد كبير الوضعية التي يرى فيها لاعب الشطرنج أن القيام ببعض النقلات أثناء اللعب أمر جائز وممكن، وهو لذلك يسمح لخصمة القيام بنقلات معينة، وفي نفس الوقت يحول بينه وبين القيام بنقلات أخرى. وبكلمات أخرى، هناك بعض الظروف والأوضاع القابلة أو غير القابلة لتتبدى مباشرة في وعي من ينخرط في هذه الأنشطة، غير أنها تضبط وتشكل دائماً بنية أفعاله/ أفعالها الخاصة. أما إذا كانت هذه الأفعال تتم على مقتضى الإكراه المصطنع لطرق تحمل على التسلط على الفرد، أو على مقتضى الترغيب الذي يسدي التوجهات على قدر واقعه مراعياً خصوصياته في التفكير والسلوك، فذلك مسألة أخرى. ولكن ما هو حاسم هنا: هو ما يجد المرء نفسه، بمعنى ما، مرغماً على القيام به من حيث تشكل وتداخل الوضعيات والإمكانيات، وليس بما يتعامل معها من وعي أو من حالات تتصف بالغبطة والغضب أو بالامتعاض والرفض. غير أن هذا لا يعني، بالطبع، بأن الناس لا وعي لهم، بل يعني أننا نكون على خطأ حين نرجو التوسل بالوعي لفهم ما تقوم عليه حياتنا من نماذج ومثالات متغيرة، وبدلاً من ذلك، ينبغي علينا أن نوجه النظر شطر الظروف التي تتولى نمذجة ومعاودة تشكيل إمكانيات الفرد في إطار هذه الحياة.

ولكن ربما رأى البعض، باسم الذات، بأن هذه الوجهة من النظر تستوي موقفاً بنيوياً يسدل بين الفرد وبين الفاعلية ستارة من المنع والإنكار… حتى أنك ميزت تميزاً واضحاً بين الذات والفاعلية. كيف ترد على هذه الانتقادات التي لا ترى في تحليلاتك إلا صيغ بنيويةضاربة في حتميتها؟

ط.أسد: حسناً، سأرد على هذه الانتقادات من عدة وجوه، أولاً، وقبل كل شيء، إذا كانت هذه الانتقادات لا ترى في مثل هذه التحليلات سوى قراءة تلفظ الفاعلية وتخرجها من دائرة الإمكان، فإن ما يبقى حاسماً هو معرفة إذا ما كان هذا الضرب من القراءة شائع التداول أم لا. ذلك لأنني لا أعتقد أن علينا أن نعطي “الفاعلية” الأولوية في إطار تفكرنا لمجرد أننا نهوى فكرة الفاعلية…كما لا أعتقد أن علينا أن نتنكب المقاربة النظرية التي لا تعطي الفاعلية مداها الذي به يكون ظهورها واكتمالها. وذلك لأننا وبكل بساطة لا نوافق، من الناحية الأخلاقية، على الوضعيات لا تسمح للأفراد بتشكيل سبل حياتهم. وأنني أعتقد، بالمقابل، أن على المرء أن يمضي إلى إظهار وإبراز مفهوم الفاعلية الذي يعد بمنزلة الدعامة الأساسية الذي يستند إليه أي مسعى لوصف وتحليل الأوضاع الأمبريقية. غير أن المعنى الذي تنطلق منه النظرية لتعطي الفاعلية مجالها ومداها يظل مختلفاً تماماً عن ذلك الذي تعطي من خلاله الأوضاع المتحققة الفاعلية مجالها ومداها. وإذا كانت الأوضاع، في بعض الحالات الخاصة، لا تفتح مجالاً للمرء ليصنع حياته بنفسه، كما هي حالة السجين، فلا نلومن النظريات على ذلك. إذ ما يحول دون أن يمتلك السجين هذا الضرب من المجال للرؤية إنما هو بالضبط وضعية السجن. إنه لمن الخلف أن نشتكي من النظرية، فيما عنصر الإكراه والإجبار يتمثل بالوضعية-في-العالم، وبالطبع تمثل فئة السجناء مثالاً متطرفاً في هذا السياق. وعليه يتوجب على المرء أن ييمم شطر الوضعيات التي تتجلى بفتح الباب واسعاً أمام تشكل الأداء الفعال بقصد اختبارها وتحليلها.

يتحصل مما أسلفنا، أن القول بوجود وضعيات تتصف بالإكراه والإجبار لا ينتهي بالمرء إلى تمسك ضمني بمفهوم البنية ورهن أفعاله، قوة وضعفاً، إنجازاً وتعثراً، بها من غير تحفظ، بل ينتهي به إلى ضرورة توجيه النظر إلى بنية الإمكانيات التي تقوم على خلق بواعث تحض على الفعل وتحمل عليه. وإذا تفكرنا مجازاً بمثال الحرب بما هو النموذج الأشد تعقيداً وفظاظة والذي يدلل على وضعية قريبة من لعبة الشطرنج من حيث قواعده، فإننا لن نجد سوى التفاوت الكبير لإمكانيات الفعل في الزمان والمكان، حيث يحظى أحد جانبي الحرب بمروحة واسعة من الخيارات، بينما لا يحظى الجانب الآخر إلا باليسير. وهذه أيضاً هي الحالة التي نشهد فيها تشكل نظم القسر والإكراه بأجلى صورها …حيث لا يحظى أحد الطرفين إلا باليسير من الفعالية أو أنه لا يحظى بشيء.

إن بعض المدافعين عن الفعالية يعجزون عن إدراك بأن لبعض الناس وفي بعض الظروف فعالية أكبر من البعض الآخر، ولقد غلب على طلاب “الخطاب ما بعد كولينالي”، في السنوات الأخيرة، الدعوة إلى معاودة النظر في العلاقات التي تربط القوى الأوروبية بالعالم الثالث بما يسمح لهذا الأخير بممارسة الفعالية والمقاومة. وربما كان هذه الدعوة جيدة، لكن الأمر المهم هنا هو أن نبسط النظر في الخيارات المتاحة. وعلينا أن لا ننسى أبداً، أن إرساء الاستعمار وتأسيسه أبان القرن التاسع عشر، على وجه التحديد، كان يعني كسباً لطرف وخسارة للطرف الآخر. وإذا كنا متيقنين أن صفة الفاعل تنطبق بالتواطىء على الاثنين (المُستعمِر/ المُستعمَر )، علينا أن نقبل بأن فعالية الأولى مدخل للسلطان والقدرة، فيما فعالية الثاني تفقده ذلك…بما يسمح للفاعل المُستعمِر بأن يفرض تدريجاً على الفاعل الذي يستعمره معظم مفرداته السياسية والاقتصادية ومبادئه الأخلاقية. غير أن هذا لا يعني، بالطبع، أن الأول يفرض وبصورة مطلقة وكاملة أفكاره المجردة على الثاني. بل يعني أن علينا البحث عن سبل مناسبة للتعامل نظرياً مع حالات الاختلال التاريخي التي تنشأ عن انكسار التوازن والتناظر.

وعلىَّ أن أقر بأنني في حقيقة الأمر ائنف من هذه الاحتفالية المستمرة “بالفعالية” التي نجدها في علم الاجتماع المعاصر،حيث باتت الفاعلية كلمة لقطة.وعلى أية حال، فإن هذا الوله”بالفاعلية” إنما يعود إلى بدء ليبرالي مشهور يدور على التمكين للنزعة الفردية وإنجازها واقعاً لا تحوم عليه شبهة من نقد. حيث تُعطى قدرة الأفراد على تشكيل أنفسهم، وعلى تغيير سبل حياتهم، أولوية أيديولوجية عل العلاقات التي يتشكلون ضمنها ويتموضعون ويستمرون في إطارها. أما العبارة المبتذلة، التي نئنفها جميعاً… والتي تتجاهل هذا الأمر فهي… بإمكانك أن تعيد تشكيل نفسك إذا أردت ذلك فعلياً، وكل ما يلزمك لذلك إنما الإرادة القوية الكافية.

ونحن لا نكاد نمعن النظر فيما أثير من أسئلة واعتراضات وردت على مفهوم الفاعل، وعلى ما ذكره أصحابه من أوصاف تخصه وقواعد تحدده وإخلالات تضره، حتى نتبين صدور هذه الأوصاف والقواعد عن فرضية تربط ربطاً وثيقاً وجلياً بين الفاعلية وبين الذات، وبينها وبين الفرد الموسوم/ الموسومة بالوعي. وحتى لو اعتبرنا أن الفاعل لا ينفصل عن هيئة الجماعة ولا يخرج من تآلفها، فإن ما لا ينفك القوم عن تكراره هو أن تشكل الفاعل وحفظ قوامه ليس منوطاً بأية هيئة جماعية، بل منوط باستمرار استلهامه لفكرة الذات، وبمعنى ما للفرد الذي تفارق إرادته إرادات الآخرين. إن صراع الإرادات، الذي يشد النظر إلى المصالح المتعارضة، هو دليل الفرد وسبيله إلى الفعالية الصحيحة. غير أن هذه الوجهة من النظر تبدو لي شديدة الإشكالية، ولقد تحدثت مبكراً عن الطابع الإشكالي لفكرة “المصالح”.ويبقى من المفيد، هنا، الإشارة إلى أن هناك فعلة اجتماعيون،كما هو الحال في الشركات، الحكومات، الجيوش… الخ لا يملكون إنية قابلة للتموضع، أو إرادة تمتد في التواصل. ذلك لأن الإنجازية كمبدأ للفاعلية لا تُرد إلى مفهوم الذاتية ولا تُحمل عليه. فنحن نستجيب لشركة تجارية من الناحية القانونية والأخلاقية ونعتبرها بمثابة فاعل لمجرد أنها تعمل وتفعل (أو أنها لا تصلح للفعل …وهو ما يعتبر نوعاً من الفعل) بطريقة مخصوصة، ولمجرد أن هذا الأمر يقتضي عواقب عملية. إن القول بنزول الفعل بالنسبة لأشياء معينة منزلة المعيار والقضية، لا ينفك عن المحاججة بإسناد مسؤولية هذا العمل إلى فاعل مخصوص. وفي السياسة، القضية هي شيء تدافع عنه، تؤيده، أو تعارضه. وعليه أن تنهمك في قضية معينة يعني أن تسهم في تكوين فعالية. ولا حاجة بنا هنا إلى التوسل بأفكار ومفاهيم الوعي…بتنويعاتها المتراوحة بين صحيح وزائف على حد سواء. وما يهمنا هنا، هو أن كل جماعة وكل موقع في المجال الاجتماعي يدعم، بما هو نموذج، نوعاً من الممارسات (الممكنة)، وإن هذا الأمر لا يؤول إلى بعض العواقب الأخلاقية، بل قد يتحول إلى أهداف للمداخلة السياسية.

الهوامش

(1) Talal Asad, Genealogies of Religion: discipline and Reasons of power in Christianity and Islam (Baltimore: John Hopkins UP, 1993) p19.
(2) Asad, p200-238.
(3) Talal Asad, The Idea of Anthropology of Islam, occasional papers (Washington D.C: Ctr. For contemporary Arab Studies, Georgetown, 1986).
(4) See, e.g., Robert Bellah, Beyond Belief (New York: Harper, 1970).
(5) Asad, Genealogies p83-170.
(6) Asad, Genealogies p200-238.
(7) Asad, Genealogies p14-16
*Modern Power and the Reconfiguration of Religious Traditions / Interview with Talal Asad

 

Exit mobile version