موقع أرنتروبوس

حوار شيق وقيم مع الأنثروبولوجي د. أحمد أبو زيد

حاورته أسماء الرويلي

يزدان موقع اجتماعي بالحوار الأول مع شخصية استثنائية في مجال علم الاجتماع “والأنثروبولوجيا خاصة”حيث تتلمذ على أيدي رادكليف براون وإيفانز بريتشارد مباشرة، وكان أستاذا زائرا في الكثير من الجامعات العربية والغربية، وعقد العديد من الاتفاقيات مع جهات علمية وثقافية في العالم، وترأس عدة مناصب ومثل بلده في الكثير من المؤتمرات والندوات العالمية، وله العديد من الكتب والأبحاث والمقالات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وله إسهامات رائدة في الدراسات الأنثروبولوجية العربية، وقام بإنشاء قسم الأنثروبولوجيا بجامعة الإسكندرية وهو القسم الوحيد من نوعه في كل جامعات الشرق الأوسط، و قد تخرج منه معظم الذين يتولون تدريس الأنثروبولوجيا الآن في العالم العربي، ضيفنا الأول هو الأستاذ الدكتور أحمد ابو زيد.. فحيهلا به معنا واعاننا الله على حمل مسؤولية هذه الفرصة والتي أرجو الله فيها أن لا يفلت من حوارنا إلا بأكبر قدر من الفائدة للاجتماعيين ولنبدأ معه الحوار ببسم الله مجراها…..

الرويلي: حدثنا قليلا عن بداية مشوارك التعليمي مكانه – نظامه – الجو السائد- الشخصية التي تأثرت بها إن وجدت.

أ. د. أبو زيد: حين يولد المرء وينشأ تنشئته الأولى بل ويعيش معظم حياته فى مجتمع كوزموبوليتاني مثل مدينة الإسكندرية فى عشرينات وحتى خمسينات القرن الماضى ثم تتاح له فرصة مواصلة تعليمه العالي في إحدى أرقى جامعات اوروبا ثم تتاح له الفرصة أيضا بعد ذلك لأن يعمل فترة طويلة من سني شبابه ورجولته المبكرة فى إحدى المنظمات الدولية مثل مكتب العمل الدولى بجنيف فلا بد من أن يخضع تكوين شخصيته الاجتماعية والثقافية لمؤثرات عالمية مختلفة وعلى قدر كبير من الرقي وأن يكون لهذه المؤثرات صدى فى تفكيره وفى القيم التي يؤمن بها والتي توجه حياته وسلوكياته وفى نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الأشياء والعالم الذى يعيش فيه. وأعتقد أنه كان لي نصيب من هذا كله

فقد ولدت فى الإسكندرية فى الربع الأول من القرن الماضي وعرفت منذ الصغر تلاطم الثقافات التي تمثلها الجاليات الأجنبية العديدة التى كانت تعيش فى المدينة حين كانت مصر تتمتع بغير قليل من الثراء الذى جعل منها منطقة جاذبة للهجرات الأجنبية وليست مجتمعا طاردا لسكانه الأصليين كما هو حاله الآن. وقد تلقيت تعليمي العام في المدارس الحكومية التى كانت تتمتع بسمعة طيبة للغاية فى ذلك الحين وذلك قبل أن يتغير الوضع تماما وتحتل المدارس والتعليم الخاص المكانة الأعلى نتيجة للتغيرات الجوهرية التى حدثت فى مصر مع السبعينات والتى لا داعي للدخول في تفاصيلها هنا ولكنها قلبت المجتمع المصرى رأسا على عقب . وكان تعليمى العام فى مدرسة رأس التين الا بتدائية (أربع سنوات) ثم رأس التين الُثانوية (خمس سنوات) وقد سبق ذلك كله ثلاث سنوات فى المدرسة الأولية (وهى غير الكتاتيب التى كانت تكتفي بتعليم القرآن ومبادئ الدين الإسلامى) وفيها حفظت جزءا كبيرا من القرآن الكريم ومبادئ الحساب واللغة العربية وكان لذلك فضل كبير فى تقويم لساني وإجادتي للغة العربية حتى الآن. وجاء مولدي في عائلة تنتمي إلى أكثر من عرق واحد وأكثر من ثقافة وأكثرمن اتجاه في الحياة. فالوالد ينتمي لأصول مغربية /صعيدية والأم تنتمي لأصول تركية/ مصرية. وعائلة الأب كانت تهتم بشئون المال حيث كانت تشتغل بالاستيراد من الخارج وبخاصة استيراد الفحم الوقود الرئيسي ومصدر الطاقة فى ذلك الحين بينما كانت عائلة الأم تهتم بشئون الدين والفكر – إن صح التعبير- حيث كان جدي لوالدتي بالذات من رجال الأزهر وترك وراءه مكتبة ضخمة تجمع بين شتى فروع الدراسات الدينية وأمهات كتب التراث العربي والإسلامي في الأدب والتاريخ بل وبعض المترجمات المعروفة فى عصره بل وأيضا بعض الإسطوانات القديمة للموسيقى الغربية الكلاسيكية. كان شيخا أزهريا مستنيرا وقد آلت إليّ هذه الأعمال كلها من خلال الأم الوالدة.

كان المدرسون فى مدرسة رأس التين الثانوية أساتذة غير عاديين – على الأقل بمعايير الزمن الحالي الردئ. ويكفي أن أشير هنا لأمثلة قليلة. فلا زلت أذكر بالخير أحد أساتذة اللغة العربية- الأستاذ جاد لاشين – الذى حبب إلينا جميعا اللغة العربية وكشف لنا عن جمالها وجمالياتها فى طريقة شرحه لقواعد النحو والصرف وتفسيره للنصوص القديمة العسيرة على الفهم والهضم وقراءته للشعر الجاهلى ثم تدريسه لنا الكتاب الصعب المنسوب خطأ لقدامة بن جعفر والذى حققه ونشره طه حسين وأعني بذلك كتاب (نقد النثر) ودفعنا ذلك إلى قراءة ( نقد الشعر) مع أنه لم يكن من الأعمال المقررة علينا. وفتح لى ذلك وللكثيرين من زملائي الطلاب مجالات التراث العربى الواسعة المتنوعة العريقة وأصبحت غواية وهواية رغم التخصص فى فروع أخرى متباينة. وأذكر أيضا أستاذ الفلسفة والمنطق فى السنة الخامسة من الدراسة الثانوية (السنة التوجيهية) واسمه أحمد عبد اللطيف بدر. كان يشتري في كل شهر مجلة إنجليزية اسمها True Story وكانت تنشر كما يدل اسمها قصصا واقعية وكان ينزع القصص من المجلة ويوزعها علينا نحن الطلاب ويطلب من كل منا أن يقرأ القصة التى أعطيت له ويكشف عن الأبعاد الاجتماعية والسيكولوجية والفلسفية والمنطقية فيها ويعرض ذلك للمناقشة. وكان ذلك بمثابة تربية ذهنية رائعة لم يعد لها وجود فى المدارس المصرية الآن حيث يسود أسلوب التلقين والحفظ الآليين دون إعمال الفكر. وكان لذلك تأثير قوى فى تكويني الذهني بحيث التحقت بعد حصولي على الشهادة التوجيهية بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية حيث تلقيت دروسا في الفلسفة بفروعها وعصورها ومدارسها المختلفة إلى جانب دراسات فى التصوف الإسلامي والمنطق وعلم الاجتماع وعلم النفس بل واللغة اللاتينية التي كان يقوم بتدريسها أساتذة فرنسيون …..نفس التنوع الثقافى الذي عايشته في الحياة اليومية العادية فى الإسكندرية الكوزموبوليتانية.

الرويلي: ما الشخصية التي تأثرت بها في بداية تشكيل اتجاهك الفكري؟

أ. د. أبو زيد: قد يكون من الصعب تحديد شخصية واحدة تأثرت بها فى بداية حياتي الفكرية إذ كان العصر يموج بعشرات من المفكرين والمثقفين والمبدعين ذوى التأثير العميق على الشباب الذى كان يهفو بحكم المناخ العام إلى البحث عن المعرفة بكافة جوانبها. ومع ذلك فأستطيع أن أفرد ثلاث شخصيات بالذات أسهمت فى توجيهي نحو الثقافة الرفيعة المتعددة الجوانب والتى لايقنع طالبها بالاتجاه وجهة ثقافية واحدة وإنما يؤمن بتعدد أوجهها ويحاول جاهدا أن يتعرف أكبر قدر ممكن من هذه الأوجه .
الشخصية الأولى كانت شيخ النقاد المصريين فى ذلك الوقت الدكتور محمد مندور بثقافته الموسوعية وإجادته لعدد من اللغات وآدابها الرفيعة وقدرته على التذوق والفهم وتوصيل أفكاره فى أسلوب شيق يأسر قارئه أو سامعه. وكان لمندور الفضل فى فتح آفاق الأدب العربي واليوناني واللاتيني على مصاريعها أمامي حين كنت أحضر (مستمعا متطوعا أو غاويا) دروسه فى قسم اللغة العربية بالكلية وحين تولى تدريس اللغة اليونانية لطلبة الامتياز بقسم الفلسفة فإذا به يحول دروس اللغة إلى محاضرات فى الآداب الكلاسيكية وذلك إلى جانب تعمقه فى الأدب الفرنسي وإيمانه بأن المثقف الحق هو الإنسان الناقد ذو النظرة الواسعة الشاملة.. وكانت هذه الدعوة تحمل (عدوى) البحث عن المعرفة بأوسع معانيها. ويكفى أنه أطلعنى مثلما أطلع جيلي كله على ماكان يطلق عليه الفرنسيون اسم” الشعرالمهموس” ونماذج له فى الأدب العربى وشعراء المهجر.

الشخصية الثانية أستاذ للأدب الفرنسى بالكلية وهو(إتيين مرييل ) وكنت أحضر دروسه مستمعا أيضا وفتح امامى أبواب الثقافة الفرنسية الزاخرة وعرفت عن طريقه كبار الكتاب والمفكرين والفنانين الفرنسيين بالذات ولكنه إلى جانب ذلك قام بتكوين مجموعة من طلاب الكلية من مختلف التخصصات من هواة الموسيقى الكلاسيكية وكان يجمعنا فى بيته مساء كل خميس ليقدم لنا دراسة وافية عن أحد كبار الموسيقيين العالميين مع سماع نماذج من موسيقاه وتحليلها ، ولم تكن جلساته تخلو من التطرق إلى جوانب عديدة من الفكر العالمى العميق الشديد التنوع وبذلك كانت جلساته دروسا فى التنوع والتكامل الثقافى ووحدة المعرفة وشموليتها

أما الشخصية الثالثة فهي (موظف) يوناني مثقف يعمل فى إحدى المكتبات الضخمة لبيع الكتب (مكتبة فيكتوريا) ويملكها عدد من أثرياء اليونانيين المثقفين الذين يقطنون الإسكندرية. وقد لاحظ مسيو نيكولا –وهذا اسمه – كثرة ترددى على المكتبة لشراء ماأحتاج إليه من كتب إنجليزية أو فرنسية أو عربية فإذا به ينصحنى- وهو أمر عجيب من (بائع) – بألا أشتري أي كتاب لمجرد إعجابي بعنوانه أو اسم مؤلفه أو موضوعه وأن من الأفضل أن أقرأ جانبا من الكتاب لأتعرف عليه ثم أتخذ قراري. وأفسح لي مكانا في ركن بعيد من المكتبة الواسعة وبه منضدة وترك لى حرية التجول و الاختيار والقراءة وكانت فرصة ذهبية لأن أقرأ ماأشاء فى مختلف فروع المعرفة والاطلاع على آخر نتاج الفكر الغربي باللغتين الإنجليزية والفرنسية وهذا أيضا أسهم فى تكويني الذهني وأرسى قواعد فكرة وحدة المعرفة وموسموعيتها التى لا تحدها حدود.

الرويلي: هل كان اختيارك للمجال الاجتماعي متعمدا ومدروسا أم غير ذلك؟

أ. د. أبو زيد: قد يكون اختياري التخصص في المجال الاجتماعي الواسع أو العام جاء بعد تفكير أثناء دراستي للفلسفة في مرحلة الليسانس حيث كانت مادة علم الاجتماع أحد التخصصات الأساسية لتكوين الدارس للفلسفة. وقد عرفت المدرسة الفرنسية أو الدوركايمية بتفصيل شديد خلال تلك المرحلة. أما التخصص فى الأنثروبولوجيا فكان وليد المصادفة البحتة ونتيجة لتضافر عدد من العوامل والمصادفات التى لم يكن لي دخل فيها ولكنني استمرأت الاستجابة لها والخضوع لتأثيرها والاستسلام لها تماما حيث وجدت لها صدى قويا فى نفسي.

أول هذه المصادفات الغريبة جاءت من خلال محاضرات محمد مندور فى اللغة اليونانية القديمة لطلبة الامتياز فى الفلسفة إذ تعرض للأساطير اليونانية وامتدادها فى الفكر اللاتيني وذكر بطريقة عابرة كتاب سير جيمس فريزر الشهير (الغصن الّذهبى) كأحد المصادر الهامة فى الموضوع. وهو عمل ضخم يقع فى أربعة عشر مجلدا. وصادف أن عثرت على النسخة المختصرة للكتاب وهى تقع فى أكثر من تسعمائة صفحة فى مكتبة فكتوريا ولم أتردد فى شرائها بعد أن كنت قرأت جزءا لايستهان به فى المكتبة .واستحوذ الكتاب على تفكيري تماما وكان ذلك بمثابة أول اتصال لي بالأنثروبولوجيا التي لم تكن معروفة فى مصر فى ذلك الحين (أربعينات القرن الماضى). ومن الطريف أن أذكر أنني عكفت في السبعينات مع بعض الزملاء على ترجمة هذا الكتاب المختصر وظهر جانب كبير منه وحالت بعض الظروف دون نشر الجزء المتبقي.

وفى أثناء تنقيبي بين الكتب بمكتبة فيكتوريا عثرت على كتاب طريف بعنوان (الجنس والكبت فى المجتمع الوحشي) لعالم الأنثروبولوجيا البريطاني برونيسلاو مالينوفسكى الذى لم نكن قد سمعنا باسمه من قبل. وكان ذلك إيذانا لي بأن أتوغل على استحياء فى مجال الدراسات الميدانية المتعمقة التى ينفرد بها البحث الأنثروبولوجي في المجتمعات البدائية مما أثار خيالي حول الحياة فى تلك المجتمعات وتمنيت لو أتيحت لي فرصة الإقامة والبحث فى أحدها. وقد تحقق لي ذلك حين قمت فى الستينات ببعض الدراسات فى عدد من القبائل الأفريقية فى شرق وغرب القارة وفى جنوب السودان.

وهكذا أستطيع أن أزعم أنني (اكتشفت) الأنثروبولوجيا بقراءاتي الخاصة قبل أن يأتي إلى كلية الآداب فى عام 1947 عميد الأنثروبولوجيين فى ذلك الحين الأستاذ رادكليف براون وأتتلمذ على يديه للإعداد لرسالتي للماجستير عن (الموت والشعائر الجنائزية في مصر).وليس أدل على ذلك من أنني نشرت في (مجلة علم النفس) في عام 1946 مقالين عن “التحليل النفسي للعقل البدائي” و”التحليل النفسي للأساطير”، وكنت خاضعا أثناء ذلك لتأثير كتابات مالينوفسكى وزيجموند فرويد وبخاصة كتابه عن (الطوطم والتابو) الذى استمد جانبا كبيرامن المعلومات الواردة فيه من كتاب (الغصن الذهبي).

الرويلي: هل تذكر لنا موقف أو أكثر أثر عليك وما زال عالقا بالذهن في الطفولة – وفي مرحلة المراهقة- وعند الشباب؟

أ. د. أبو زيد: عشت طفولة خالية – بقدر ماأذكر – من أية أحداث غير عادية يمكن أن تلصق بالذاكرة وهى حياة تقليدية إلى حد كبير تلعب فيها الأم الدور الرئيسي في التربية ورعاية النشأة فى الوقت الذى كان الوالد بحكم طبيعة عمله الذي يستنزف كل وقته يرقب عن بعد ولكن فى يقظة تامة كل مايدور فى بيت العائلة الكبير دون تدخل إلا حين يتطلب الأمر ذلك. ولذا فأنا من صنع أمي إلى حد كبير. ولكنني أذكر واقعتين أو موقفين تعرضت لهما فى مرحلة الصبا أثناء الدراسة الثانوية وفى مرحلة الشباب أثناء الدراسة الجامعية وكان كل موقف منهما درسا تربويا لازلت أشعر به كموجه لي في حياتى.

كانت الثلاثينات فترة كفاح شعبي في مصر ضد الاحتلال البريطاني وشارك طلاب المدارس في التظاهرات الصاخبة. وفي إحدى المرات تم تطويق المظاهرة التى خرجت من مدرسة رأس التين الثانوية وكنت أحد المتظاهرين الذين ينادون بسقوط الإنجليز وبالاستقلال التام أو الموت الزؤام (حسب الشعار الذي كنا نهتف به فى تلك الفترة). ووجدنا أنفسنا أمام الجنود الإنجليز برصاص بنادقهم من ناحية ورجال الشرطة أو البوليس المصري بهراواتهم الثقيلة من الناحية الأخرى ووجدت نفسي أتوارى مختبئا فى مدخل أحد المنازل وإذا بيد تجذبني لتدخل بي إلى المسكن حيث الأمان. وكانت اليد لسيدة فى سن والدتي ومعها بعض أولادها الصغار. وهدأت نفسي بل إنها قدمت لى بعض الشراب والطعام لأنني (زى ابنها) الذى يتعلم فى مدرسة أخرى وربما يكون مشاركا فى إحدى المظاهرات مثلي. ولم ترض السيدة أن تتركنى أنصرف بعد أن هدأ الوضع في المنطقة واستبقتني حتى يأتي زوجها لكي يصطحبني بنفسه إلى (أهلي) حسب عبارتها. وجاء الزوج فامتلأت رعبا إذ كان ضَابط شرطة من المكلفين بفض المظاهرات. وكنت حينئذ فى حوالى الرابعة عشر من عمري. وأعطاني الرجل درسا فى الوطنية وأنه كمصري يفخر بما يقوم به الشباب ضد الإنجليز وأنه لايمنع ابنه عن المشاركة بل ويشجعه على ذلك وأنه هو نفسه حين يشارك فى فض المظاهرات فإنه يفعل ذلك لأن ذلك هو واجبه وأن الواجب يعلو فوق االمشاعر الشخصية بل إنه يفعل ذلك من باب الحرص على سلامة الوطن خشية أن تتطور وتتأزم الأمور فيقوم الشباب فى حماسهم بأعمال التخريب، ثم اصطحبني حيت سلمني إلى والدتي إذ لم يكن أبى قد عاد من عمله. والمهم هنا أن تلك العائلة التى تولت حمايتي كانت عائلة قبطية وقد ارتبطت طويلا بروابط الصداقة معنا. وكان ذلك درسا موجها لى حتى الآن فى الوطنية والواجب والتسامح بين الأديان ….

في الجامعة تتلمذت فى مرحلة الماجستير كما قلت على رادكليف براون وقد جاء للجامعة بعد أن كنت قد قطعت شوطا كبيرا فى العمل فى الرسالة. كانت رسالتي عن (الموت والشعائر الجنائزية فى مصر) وفي أول لقاء سألنى الأستاذ المهيب عما إذا كنت أقرأ الفرنسية فلما أجبته بنعم ذكر لى أنه توجد فى أحد أعداد (المجلة السنوية لعلم الاجتماع) التى أنشأها إميل دوركايم مقالة عن موضوع الموت فى بعض القبائل (البدائية) بقلم الأستاذ إرتز وقال لى بالنص (ادرسها بعناية لأهميتها). ولما كنت قد اطلعت على ذلك المقال بالفعل قلت له – ربما بشيئ من الزهو- لقد قرأتها، فإذا به يقول بصرامة شديدة لاتخلو مع ذلك من الحنو والرقة “لقد قلت لك (ادرسها بعناية) ولم أقل لك (اقرأها) “. وكان ذلك درسا بليغا فيما يجب أن يفعله الدارس الجاد.

الرويلي: في مرحلة الدراسة الجامعية وبعدها هل كانت لك اهتمامات بالشأن الاجتماعي وفيما يحدث في مصر وخارجها؟

أ. د. أبو زيد: بطبيعة الحال وبحكم الأوضاع العامة التى كانت تحيط بالمجتمع المصري والظروف الخطيرة التي كان يمر بها العالم فى الأربعينات كان لابد لي من أن أنشغل بالشأن الاجتماعي والسياسي المصري وأتابع عن كثب مايحدث فى العالم وانعكاساته على مصر بل وأن أشارك مثل بقية أفراد جيلي في بعض الحركات والجهود المبذولة فى أكثر من مجال.

كانت تشغلنا من ناحية مشكلة الأمية وكيف يمكن القضاء عليها وكذلك مشكلة الحفاء، وكانتا تعتبران وصمة فى جبين مصر التى كنا شديدي الفخر والاعتزاز بها، ولذا شاركت بمجهودي وفى حدود إمكاناتي في بعض دروس محو الأمية فى بعض المؤسسات الخيرية التى كانت تميز المجتمع الإسكندراني في ذلك الحين وجمع التبرعات لتوفير الأحذية فى بعض المناطق الفقيرة، ولكنها كانت جهودا ونتائج محدودة بالقياس إلى كبر حجم المشكلتين حينذاك. وقد شهدت الأربعينات الحرب العالمية الثانية التى كانت تهدد مصر وتقترب بسرعة من أراضيها بل وتقدمت بشكل خطير من الإسكندرية وما صاحب ذلك من أحداث سياسية كانت اللبنة الأولى فى الأحداث التى أدت فى آخر الأمر إلى تغيير نظام الحكم كله . .ولم يسلم الأمر من أن أعتنق بعض المبائ والأفكار الشيوعية فى مرحلة من مراحل الحماس الشبابى وبعض شعارات الإخوان المسلمين ونداءات حركة مصر الفتاة وكان ذلك كله من أجل اكتشاف الذات، ولكنني سرعان ما كنت أكتشف زيف هذه الحركات والتنظيمات والشعارات والنداءات. وربما كنا متحمسين فى بعض الفترات لما كانت تنزله الجيوش الألمانية من هزائم بالحلفاء وبريطانيا على الخصوص ولكن دخول الجيش النازي الأراضي المصرية واقترابه من الإسكندرية غيّر نظرتنا تماما دون أن ننسى كراهيتنا للاحتلال الإنجليزي. وربما تدخلت بعض القراءات فى تعديل موقفي ونظرتي للأمور. وأذكر بالذات كتابا لكاتبة صحفية فرنسية اسمها الأول جنيفييف ولكنني نسيت باقي الاسم مع الأسف بحكم تقدمي في السن ولكن الكتاب كان بعنوان (الابتزاز أو الحرب) ويرجع الفضل فى عثوري على الكتاب لمكتبة فيكتوريا….

وبعيدا عن السياسة ومشكلات المجتمع كانت الإسكندرية مصدرا للإشعاع الثقافى ليس فقط بمن كانت تنجبهم من مفكرين ومبدعين لم يكونوا يترددون فى النزوح إلى القاهرة حيث مجال وفرص الشهرة والنجاح أكثر وأوسع، ولكن أيضا لأن الإسكندرية كانت تستقبل دائما كبار رجال الفكر والفن والأدب من فرنسا وبريطانيا وكنت أحرص على حضور المحاضرات والندوات واللقاءات التى يعقدها لهم (البيت الفرنسى) او (المجلس البريطانى) فاستمعت وبالتالي عرفت وقرأت أعمال أندريه جيد وجان كوكتو وجورج دى هاميل الفرنسيين وإيفور إيفانز كبير نقاد بريطانيا فى الأربعينات وغيرهم …. كانت حياة تموج بالحركة فى كل مجالات الثقافة. وكانت الجرائد العالمية تصل الإسكندرية فى اليوم التالى لصدورها كما كانت المكتبات الكبرى مثل مكتبة فيكتوريا ومكتبة هاشيت ومكتبة لا سيتيه دو ليفر (مدينة الكتب) تستورد أحدث الكتب والدوريات حال صدورها فى الخارج وبذلك كنت – مثل كل أبناء جيلى من المهتمين بالثقافة – على صلة وثيقة بالعالم الخارجي، وساعد على ذلك الصداقة التى كانت تربطنا بأبناء الجاليات الأجنبية الذين ولدوا وعاشوا فى الإسكندرية وتمثلوا الثقافة المصرية باتجاهاتها الشعبية… كان الهم السياسى العالمى جزءا من تكويننا الفكرى وقد تراجع ذلك الآن بشكل يثير الأسى مع الأسف الشديد.

الرويلي: هلا ذكرت لنا بعض الشخصيات التي كانت تؤثر بتوجهات الشباب ومحط أنظار لهم.

أ. د. أبو زيد: عرفت مصر في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضى مجموعة كبيرة جدا من الشخصيات الفذة التى أثرت تأثيرا قويا فى شباب تلك الفترة ووجهت حياتهم بطريق مباشر وتركت بصماتها القوية على تفكيرهم وتوجهاتهم فى الحياة …على الصعيد السياسى كان هناك مصطفى النحاس بكفاحه من أجل حكم الدستور والالتزام به من ناحية وقيادته للكفاح ضد الاستعمار البريطاني من الناحية الأخرى. وقد آمن الشباب بدعوته وساروا وراءه حتى تغير نظام الحكم فى مصر وتراجعت الأحزاب كما تراجعت الديمقراطية إلى حد كبير جدا….وكان هناك على الصعيد الاقتصادى طلعت حرب باني الاقتصاد المصري الحديث بإقدامه على مزاحمة تحكم القوى الاقتصادية الأجنبية فى مجال البنوك والمصارف وصناعة السينما وغير ذلك مما غرس الثقة فى نفوس الشباب بقدرتهم على الارتياد والنجاح وتقليص النفوذ الاقتصادي الأجنبي وترسيخ أقدام الاقتصاد الوطني وقدرته على الإنجاز …. وكان هناك الشيخ حسن البنا ودعوة الإخوان المسلمين إلى التمسك بالدين والقيم الدينية الرفيعة كأساس لبناء مجتمع جديد وذلك قبل أن تنحرف الدعوة عن ذلك المسار وتلجأ إلى العنف مما صرف عنها الكثيرين من الشباب الذين آمنو بها فى أول الأمر….وكان هناك على الصعيد الثقافى طه حسين ودعوته التنويرية للأخذ بما وصل إليه الغرب من تقدم فكري في مختلف المجالات وتأثر الشباب به كمثال ونموذج وقدوة لما يمكن أن يحققه الإنسان رغم كل العقبات والمعوقات والعاهات التى قد تصيبه وذلك بقوة الإرادة ووضوح الهدف ….وهذه أمثلة قليلة للشخصيات الرائعة التى أثرت فى الشباب فى تلك الفترة الزاخرة المفعمة بالحياة والحيوية والإيمان بالله وبالذات وبالمجتمع وبالوطن وبقوة الإرادة على تذليل الصعاب وتحقيق الذات والنجاح.

الرويلي: في الوطن العربي
هل ترى أن علم الاجتماع يمر بأزمة؟ وهل تظن أنه علم فاعل ومؤثر ويقوم بالمهام المناطة به؟ ولماذا نجد أن أغلب النظريات بوقتنا المعاصر تعود لعلماء غربيين في حين يسود التصحر عند العلماء العرب في هذا المضمار؟ وهل ترى أن هناك نظرية عربية متبلورة في الاجتماع يمكنها تفسير الواقع باقتدار؟

أ. د. أبو زيد: ليس ثمة شك فى أن علم الاجتماع يتعرض فى الوقت الحالى لأزمة طاحنة تحتاج إلى الوقوف أمامها طويلا لتشخيصها وتعرف أبعادها والبحث عن مخرج منها،وهى أزمة تواجه العلم على مستوى العالم وليس فقط فى العالم العربى ….ترجع هذه الأزمة لعدة أسباب منها مايرتبط باتساع مجال العلم ذاته على اعتبار أنه يشمل كل ماهو حادث فى المجتمع الإنسانى بأكمله بحيث تكاد معالمه تضيع. وتحضرني هنا مقولة مشهورة لعالم الاجتماع الأمريكى نيل سملزر حيث يقول فى فخر:”إنني أزعم أن هناك علم اجتماع لكل شيئ تحت الشمس” .وهذه المقولة تجد لها صدى واسعا لدى الباحثين الذين اضطروا إزاءها إلى تصنيف أو تقسيم مجال العلم المتضخم إلى “علوم”جديدة متمايزة وبعد أن كان الرواد الأوائل يتكلمون عن علم الاجتماع العائلى أو السياسى أو الاقتصادى مثلا أصبحنا نسمع عن علم الاجتماع الصناعي أو الحضري أو الريفي أو البدوي أو عن سوسيولوجيا العمل وسوسيولوجيا الجنس بل وسوسيولوجيا العواطف بل وعن تفرعات أخرى أصغر مما أفقد علم الاجتماع وحدته التقليدية إلى حد كبير وأفقده النظرة العامة الكلية التى تعطى له معنى ومبررا لوجوده. يضاف إلى ذلك تراجع النظرية السوسيولوجية فى كثير من الكتابات الحديثة نتيجة لسوء إعداد المتخصصين بحيث أصبحت تلك الكتابات أقرب في معظمها إلى التحقيقات الصحفية الخالية من التحليل العميق واستبدلت به الجداول الرقمية التى تضفي على هذه الكتابات صبغة شبه علمية زائفة. وثمة نوع من عدم الثقة المتبادلة بين الباحثين والبحوث الأكاديمية الدقيقة والعميقة – وهى قليلة نسبيا على أية حال – وبين المسئولين وأصحاب القرار الذين قلما يستفيدون من النتائج التى تصل إليها تلك البحوث الجادة وهى مشكلة تجعل الباحثين الجادين يتساءلون عن جدوى الاشتغال بذلك العلم . وفى كل الأحوال فالمشاهد بوجه عام هو ضعف أو حتى اختفاء النظرية الاجتماعية الكبرى التى شهدها القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والتى كانت مصدر إلهام للباحثين فى وضع الفروض واختيار المنهج وأساليب البحث وطرائق التحليل وإغفال الأجيال الجديدة للنظريات الكلاسيكية التى ساغها الرواد الأوائل على زعم أن الزمن تعداها وأنها أصبحت من ذكريات الماضي البعيد، وهو زعم غير صحيح.

وقد كان من الطبيعى أن يتأثر علماء الاجتماع العرب بالنظريات السوسيولوجية الغربية لأن علم الاجتماع – ومثله فى ذلك مثل الأنثروبولوجيا – نشأ –كعلم متكامل – نشأة غربية وإن كان ذلك سوف يثيراعتراضات الكثيرين من المتحمسين لعروبة العلم ولكتابات ابن خلدون. وليس ثمة شك أبدا فى عبقرية ابن خلدون وفى أهمية نظراته وآرائه فى المجتمع ولكن ذلك لايعنى أنه أنشأ (علما) متكامل الأركان بالمعنى الدقيق للكلمة. والمؤسف له حقا هو أن الأجيال المتتالية من المتخصصين فى علم الاجتماع في العالم العربي لم يحاولوا بلورة تلك الآراء وتطويرها وتنميتها من خلال الاسترشاد بها فى دراساتهم وبحوثهم والإضافة إليها كما يحدث فى الخارج وإنما اكتفوا فى الأغلب بعرضها مرارا وتكرارا فى صيغ وألفاظ مختلفة ظاهريا – إن صح التعبير- ولكنها لاتضيف شيئا جديدا. كذلك لم يحاول العلماء العرب أن يرجعوا إلى غير ابن خلدون رغم ثراء التراث الفكرى العربى والإسلامى إلا فى القليل النادر ولو فعلوا ذلك لاختلف الوضع كثيرا عما هو عليه الآن.

ويكفي أن أشير هنا إلى حالة واحدة تبين ماأقصده. وأستشهد بما فعله بعض علماء الغرب ببعض آراء ابن خلدون نفسه ونظريته عن العصبية. فقد اهتم بها المستشرق البريطانى ويليام روبرتسون سميث واسترشد بها فى دراسته وتحليله للنظام القرابى والقبلى فى الربع الخالى وضمّن ذلك كتابه الشهير الذي قلما يلتفت إليه السوسيولوجيون والأنثربولوجيون العرب وأعنى به كتاب “القرابة والزواج فى الجزيرة العربية قديما” . وقد استفاد عالم الأنثروبولوجيا البريطانى إيفانز بريتشارد الذى تتلمذت عليه فى أكسفورد من كتاب سميث ومن آراء ابن خلدون واسترشد بها فى دراسته الميدانية لقبائل النوير فى جنوب السودان وخرج بنظريته الشهيرة عن الانشقاق والالتحام التى هى فى جوهرها تطوير لنظرية العصبية. فبمثل هذا المجهود والتأمل العميق والفهم والقدرة على التحليل واتساع المخيلة تقوم النظريات وهو مانفتقر إليه فى عالمنا العربي. وقد يكون المسئول عن هذا القصور أسلوب التربية والتعليم وإغفال الاهتمام بالتراث وعدم اعتباره جزءا حيا من ثقافتنا وتكويننا الذهني الحي المتطور.

فمن الخطأ إذن إغفال التراث والقطيعة مع الماضى بدعوى عدم اتفاقه مع الحداثة، والغرب نفسه لم يقطع الصلة مع تراثه الفكري الذي بنى عليه حركته التنويرية وأخضعه للفحص والنقد والاستلهام فى الوقت ذاته وهو مالم نفعله نتيجة انبهارنا الفائق بالفكر الغربى الذى يجب على أية حال الانتقاء منه بما يتفق مع ثقافتنا وما يصلح للتشييد عليه والبناء فوقه واستخدامه في تفسير وفهم واقعنا الاجتماعي في ضوء تفكير متميز. ومما يؤسف له أيضا أننا نغفل كتابات وتحليلات بعضنا بعضا ولا نخضعها للفحص والمناقشة والنقد وهو مالا يساعد على بلورة اتجاهات نظرية متماسكة. فالنظرية تتكون عن طريق التراكم والإفادة من الآراء السابقة والإضافة إليها بينما نجد كل باحث فى عالمنا العربي يؤلف جزيرة مغلقة على ذاتها –مع بعض الاستثناءات- بل وربما يستشعر نوعا من النقص إذا هو تابع آراء غيره للإفادة منها والبناء عليها والإسهام فى تطويرها وهو مالا يساعد على قيام نظريات أصيلة. فعلماء الاجتماع العرب فى أمس الحاجة إلى أن يعرفوا بعضهم بعضا ويتناقشوا فيما بينهم ويعبروا عن رأيهم بصراحة فى الإنتاج العلمي الذي يصدر عنهم وأن يعطوا للتراث والمناقشات النظرية مزيدا من الاهتمام.

الرويلي: هل ترى أن علم الاجتماع علم خطير؟ وهل يفترض أن تتوجس الحكومات خوفا منه بدلا أن يكون صديقهم الصدوق ومرآتهم التي يرون من خلالها مكامن الداء والدواء؟

أ. د. أبو زيد: لقد سبق أن أشرت فى إجابتي عن سؤال سابق إلى انعدام الثقة بين علماء الاجتماع وأصحاب القرار وقلة التعاون بينهم وعدم الاهتمام من جانب المسئولين الرسميين بنتائج البحوث الميدانية التى يجريها العلماء والباحثون رغم أن الكثير جدا منها يلقي أضواء كاشفة على كثير من المشكلات الشائكة التى يعاني منها المجتمع ويقدم حلولا عملية لها. فقلما تهتم الحكومات العربية بالرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه ولا بالتقارير العلمية التى تصدر عن مراكز البحوث والمراكز القومية المتخصصة رغم أهميتها القصوى وهو موقف غير سليم بطبيعة الحال. والمشكلات التى تعرض لها تلك الرساثل العلمية والتقارير البحثية كثيرة جدا ومتنوعة ولاتكاد تغفل أى مشكلة من المشاكل الحياتية التى تواجه الناس والتى تتطلب المواجهة الصريحة التى لاتحب الحكومات الكشف عنها رغم خطورة بعضها على الأمن القومى….. العقلية البيروقراطية الضيقة المتزمتة تحتاج إلى تعديل وتغييرلأنها هى ذاتها من أخطر الأمراض الاجتماعية التى تعوق مسيرة العلم وتعرقل التقدم والتطور، كما أن (ثقافة) احترام العلم تنقص الكثيرين فى عالمنا العربى وينبغى غرسها فى العقول منذ الصغر.

الرويلي: تعمقت في دراسة فكر علماء الاجتماع الغربيين. ما الملامح المشتركة في فكرهم بشكل عام وما المقاييس التي يرجعون إليها في تحليلهم لما يحدث في المجتمعات؟

أ. د. أبو زيد: لقد كان لي حظ التعرف عن قرب وفى غير قليل من التعمق على مختلف مدارس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وذلك بفضل نشأتى فى فترة معينة من حياة المجتمع المصرى وسياسة التعليم الجامعى حينذاك. فقد درست بعمق علم الاجتماع الفرنسى فى مرحلة الليسانس كما تعرفت على علم الاجتماع الألمانى فى مرحلة الماجستير فى الإسكندرية بالإضافة إلى الأنثروبولوجيا البريطانية على أيدي رادكليف براون وتابعت ذلك فى أكسفورد كما ذكرت من قبل. ولكنني لم أتعرف على علم الاجتماع الأمريكى والأنثروبولوجيا الثقافية فى الولايات المتحدة إلا فى مرحلة متأخرة نسبيا.

وعلى الرغم من أنني أتبع المدرسة البريطانية فى الأنثروبولوجيا الاجتماعية الوظيفية كما أرسى قواعدها رادكليف براون ومالينوفسكى، ومع أنني حضرت لبعض الوقت محاضرات ليفى ستروس عن البنائية –أو البنيوية – فى الكوليج دو فرانس وألفت كتابا عن تلك المدرسة –إن صح اعتبارها مدرسة وليست منهجا فى البحث والتحليل- إلا أننى تأثرت فى بحوثى الميدانية وتفسيرى وتحليلى للظواهر الاجتماعية فى مجتمعنا المتغير، بما في ذلك رسالتي للدكتوراه من أكسفورد عن الواحات الخارجة فى مصر- بآراء عالم الاجتماع الألمانى فرديناند تونييس وكتابه عن” الجماعة المحلية والمجتمع” وهو كتاب لايكاد يعرفه إلا القليلون جدا في عالمنا العربى. وعلى أية حال، فإنه فى كل هذه الأعمال الكبرى والرائدة كان العامل المشترك هو الموضوعية الشديدة فى رصد الوقائع والظواهر الاجتماعية والثقافية والجرأة الشديدة والصريحة فى تناول كل الموضوعات التى نعتبرها حساسة فى عالمنا العربى والإسلامى الذى يفرض كثيرا من المحاذير على دراسة أمور الجنس والدين والسياسة وذلك بالإضافة إلى سعة أفق العلماء أصحاب تلك الكتابات والأعمال الفذة وتنوع معارفهم مما ساعدهم على التعمق فى التحليل.

بل إن الكثيرين منهم كانت له خلفية فلسفية وأدبية بل وعلمية واسعة ساعدته على الارتفاع بمستوى العرض والتحليل إلى درجة معينة من التجريد الذى يضفي على الوقائع الجزئية الملموسة والعيانية طابعا إنسانيا عاما وهو مالا نجده بطبيعة الحال فى كتاباتنا نتيجة للنقص الشائن فى إعدادنا العلمي والثقافي الشامل الذي ينظر إلى المعرفة بمختلف فروعها وتفرعاتها كوحدة كلية متكاملة.

الرويلي: ما مدى تأثركم بالرعيل الأول للأنثروبولوجيا الاجتماعية وبخاصة أنكم درستم في جامعة أكسفورد، وأقصد مالينوفيسكي وراد كليف براون وايفانز برتشرد؟:

أ. د. أبو زيد: ليس من شك فى قوة وعمق تأثري بكتابات الرعيل الأول من علماء الأنثروبولوجيا من مدرسة أكسفورد ابتداء من رادكليف براون وإيفانز بريتشارد اللذين تتلمذت عليهما بشكل مباشر إلى بقية أتباع المدرسة الذين شغلوا مناصب فى الجامعات الأخرى من أمثال ميير فورتس فى كيمبردج وماكس جلكمان فى مانشستر إلى جانب كل العلماء الممتازين الآخرين الذين درست أعمالهم حتى وإن لم أقابلهم شخصيا. ولكن قبل هذا كله كنت قد خضعت لتأثير فكر وكتابات إميل دوركايم والمدرسة الفرنسية فى علم الاجتماع ووجدت أن ثمة صلة وثيقة بين نمطي التفكير في المدرستين ولازلت حتى الآن أسير وإحدى قدمي في علم الاجتماع الدوركايمي والأخرى في الأنثروبولوجيا البريطانية الأكسفوردية.

ويظهر هذا التأثير في اتباعي بل وتحمسي للبنائية الوظيفية التى تجلت فى كتابات دوركايم حتى وإن لم يستخدم ذلك المصطلح. ويظهر التأثير – ثانيا – في اتباعي لأساليب البحث الميدانى التى وضع أسسها مالينوفسكى فى مقدمة كتابه الأساس عن “الأرجونوت سكان غرب المحيط الهادى” والتى تقتضي أن يمضي الباحث سنة واحدة على الأقل فى مجتمع البحث الصغير الحجم المحدود السكان نسبيا على اعتبار أن هذه الدراسة الشديدة التركيز كفيلة بأن تكشف عن مقومات الحياة الاجتماعية فى ذلك المجتمع على مدار السنة. وقد أمضيت أنا نفسى ثلاثة عشر شهرا فى الواحات الخارجة للإعداد لرسالة الدكتوراه وقد ألزمت تلاميذي بذلك التقليد فى بحوثهم الميدانية ولكنهم هجروا ذلك الأسلوب فيما بعد مما أصاب معظم البحوث الحالية بقدر كبير من الفجاجة والسطحية الناجمة عن التسرع. ومع ذلك فقد خرجت أنا نفسي عن ذلك التقليد.

فالأنثروبولوجيا الميدانية البريطانية كانت ولاتزال إلى حد كبير هى مشروع الباحث الواحد الذى يتوجه فى العادة بمفرده للإقامة فى مجتمع البحث وإن كانت هناك بعض حالات لباحثين اصطحبوا فيها زوجاتهم و أفضل مثال لذلك هو بول بوهانان وزوجته لورا وقد درسا معا قبيلة(تيف)في أواسط أفريقيا وحصلا على الدكتوراه من أكسفورد في الخمسينات وقد عرفتهما شخصيا حيث كانت الزوجة متخصصة أيضا في الأنثروبولوجيا ودرس الاثنان نفس المجتمع لكتابة رسالتين حول موضوعين مختلفين، أما أنا فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أشرفت على بحوث ميدانية فى مجتمعات كبيرة المساحة وكثيرة السكان وأشركت فى جمع المعلومات عددا كبيرا من الباحثين المساعدين من الجنسين تحت إشرافي المباشر وتبعا لدليل عمل يشمل “الموضوعات” التى ينبغي تغطيتها.

وأقول (الموضوعات) وليس (الأسئلة) المحددة التى يقنع فيها الباحث فى كثير من الأحيان بالإجابة التى قد لاتزيد عن (نعم) أو(لا) كما هو الشأن فى البحوث السوسيولوجية ولكننى التزمت دائما بشرط المدة. وقد طبقت أسلوب الفريق فى بحث إثنوجرافى عن شمال سيناء برمتها وشارك فيه ثلاثة وعشرون باحثا وباحثة أمضوا في المنطقة الشاسعة ثمانية عشر شهرا وظهرت حولها خمسة مجلدات فى موضوعات مختلفة. وكان ذلك في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي.

الرويلي: ما موقف الاتجاه الوظيفي الذي تمثله في تفسير التغير الاجتماعي وبخاصة في عالمنا العربي؟ ولماذا ركزت في دراساتك على البناء الاجتماعي دون قضية التغير؟ وما موقفك من الوظيفية المحدثة وبصفة خاصة في محاولتها لتجاوز نقاط الضعف في الوظيفية التقليدية وإلى أي مدى نجحت في ذلك؟

أ. د. أبو زيد: من الأخطاء الشائعة أن الأنثروبولوجيا الوظيفية التقليدية – حسب التسمية السائدة فى بعض الكتابات – لاتهتم بدراسة التغير وان المنهج المتبع والمميز لها هو منهج سكوني يقتصر على تسجيل الواقع المشاهد خلال الفترة الزمنية المحددة والمحدودة التى استغرقها البحث الميداني. وترجع هذه الفكرة الخاطئة إلى طبيعة الأعمال الرائدة التى كتبها كبار العلماء الأوائل وهى أعمال تقوم على بحوثهم فى المستعمرات الأفريقية أو بين قبائل أستراليا وسكان نيوزيلندة الأصليين وكلها مجتمعات أو جماعات قبلية كانت تعيش فى عزلة عن العالم الخارجى تحت وطأة الاستعمار وبذلك لم تكن تخضع لعوامل التغيير السريع الذى يمكن رصده أثناء تلك الفترة المحدودة. ومع ذلك فإن إيفانز بريتشارد نفسه الذي كان قد أجرى دراسته الميدانية الأولى بين قبائل الأزاندى فى السودان لنيل الدكتوراه أرسل أحد تلاميذه –كونراد رايننج – فى أوائل الخمسينات لرصد التغيرات التى طرأت على ذلك المجتمع خلال الفترة التى انقضت وحصل هو الآخر على الدكتوراه، ثم قمت أنا نفسي بمتابعة التغير أثناء دراسة ميدانية أجريتها فى الستينات. وهذا مثال واحد. وبطبيعة الحال فإن بعد المسافة بين أوربا وأفريقيا أو أستراليا ونيوزيلندة وصعوبة السفر وضخامة النفقات وعدم توفر التمويل فى كثير من الأحيان كانت كلها عوائق تحول دون التردد على المناطق التى تجرى فيها تلك البحوث مما اضطر أصحابها إلى الاكتفاء برصد وتحليل مشاهداتهم الواقعية فى تلك الفترة الزمنية المحدودة.

ولقد سبق أن ذكرت أننى أنا نفسي قمت بدراستي الميدانية للدكتوراه فى الواحات الخارجة مسترشدا بنظرية تونييس عن الجماعة المحلية والمجتمع وهي نظرية في التغير طبقتها على التغيرات (البنائية) التي يمر بها المجتمع والتى انتهت إلى قيام مايعرف الآن باسم (الوادي الجديد). والأمثلة كثيرة وليس ثمة مايدعو إلى الدخول فى التفاصيل ولكن المهم هو أن ندرك أن الظروف التى تحيط بالمجتمع موضوع الدراسة والتى تتحكم فى البحث والأوضاع السائدة فى المجتمع تتدخل بشكل مباشر فى تحديد المجال الذى يتحرك فيه الباحث. ولقد خصصت الفصل الأخير من الجزء الأول (المفهومات) من كتابي عن “البناء الاجتماعى” لدراسة (التغير البنائى ). وأظن أن في هذا ما يكفي للرد على بعض الانتقادات التى تثيرها الوظيفية المحدثة مع عدم الاستهانة بتلك الانتقادات حتى ولو كانت صادرة عن سوء الفهم –ولا أقول سوء القصد.

الرويلي: تكاثرت المنظمات والجهات التي تدعو لحقوق المرأة حتى أصبحت وكأنها أكثر من النساء في عالمنا العربي في حين لم نجد جهة واحدة تدعو لحقوق الرجل العربي فهل تظن أن التركيز على جانب حقوق المرأة وحدها دون مجمل الأسرة مصطنع أم مطلوب؟

أ. د. أبو زيد: بدأت الدعوة بالمطالبة بحقوق المرأة منذ أواخر القرن التاسع عشر فى أمريكا بالذات وكانت تنحصر فى أول الأمر فى المطالبة بالحقوق السياسية ولم تلبث الحركة أن اتسعت إلى المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة فى مختلف جوانب الحياة ثم خرجت الحركة النسوية المعروفة باسم الفيمينزم عن هذه الحدود إلى مهاجمة الثقافة السائدة فى العالم باعتبارها ثقافة ذكورية وأنه لابد من إعادة النظر فى الأوضاع العامة السائدة فى العالم والتى صاغها الرجل بما يحقق مصالحه على حساب المرأة، ولم يلبث الأمر أن تفاقم مرة أخرى فى بعض الدعاوى التى تحارب الرجل وتقلل من شأن الدور الذى يلعبه فى المجتمع وأن دوره ثانوي إذا قورن بدور المرأة التى يمكنها أن تستغني تماما عن وجود الرجل وبذلك بدا كما لو أن هناك حربا مستعرة بين الطرفين.

وقد يكون فيما ذكرته هنا نوع من التبسيط المخل ولكن المهم هو الاعتراف بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية وهي حقوق يعترف بها الإسلام بصرف النظر عن مكابرة الرجل وبعض أصحاب الفكر الرجعي الذي يتخفى وراء دعوى المحافظة على القيم إذ ليس فى ضمان تلك الحقوق وإقرارها خروج على القيم العليا وإن كان فيها رفض مشروع لكثير مما هو قائم. ومما يؤسف له أن الدعوة إلى إقرار حقوق المرأة السياسية والاجتماعية تراجعت على أيدي المرأة العربية ذاتها فى بعض الدول العربية بحيث كادت تنحصر فى بعض الأمور الفرعية مثل الخلع أو ختان الإناث وذلك على حساب القضايا الكبرى. وثمة من الناحية الأخرى ما يشير إلى تراجع الفيمينيزم ذاتها فى الخارج على الأقل عن بعض مطالبها التى تتعارض مع الدين مثل حق الإجهاض أو التحرر الجنسي المستند إلى أن جسم المرأة ملكية خاصة لها الحق فى أن تتصرف فيه كيفما تشاء.

وقد يكون من التعسف بل والمثير للسخرية أن نطالب بحقوق للرجل فى مجتمع ذكورى مثل المجتمع العربى فى مقابل حقوق المرأة إلا إذا كان المقصود بذلك حقوق الإنسان التى ضمنتها الاتفاقيات الدولية ومواثيق هيئة الأمم، وهى حقوق عامة للإنسان دون تفرقة . وعلى أية حال فإننى أعتقد أن هناك مبالغة لامبرر لها فى التركيز على حقوق المرأة وأن المشكلة يمكن التغلب عليها بالرجوع إلى الدين وفهمه على الوجه الصحيح.

الرويلي: هل مازالت نظرية شرف الرجل التي تطرقت لها في بعض كتاباتك منطبقة ومفسرة؟

أ. د. أبو زيد: أما عن نظرية شرف الرجل التى عرضت لها فى مقالي عن الشرف والعار ونوقش منذ سنوات فى أحد المؤتمرات الدولية بأثينا فإن المقصود هنا هو شرف الجماعة ككل وليس شرف الرجل كفرد. وثمة تفرقة هامة فى الثقافة العربية لانجد لها مثيلا فى الثقافات الغربية وهى التفرقة بين الشرف والعرض . فالشرف منوط بسلوك المرء فى مختلف جوانب الحياة دون تفرقة بين الرجل والمرأة كما أنه يمكن اكتسابه أو فقدانه تبعا لسيرة الشخص وتصرفاته ومراعاته للقيم السائدة فى المجتمع. أما العرض فإنه مرتبط بسلوك المرأة وحياتها الجنسية فحسب وإذا فقد فإنه لايمكن استرداده . ويحضرني هنا عبارة شهيرة عن الممثل المصري الكبير يوسف وهبي والتي يقول فيها إن شرف البنت (العرض) زى عود الكبريت (أى لايمكن استرداده بعد اشتعاله). فالمرأة هي حاملة شرف الجماعة الأبوية فى مجتمعنا العربي والإسلامي وهذا تمجيد للمرأة ودورها فى المحافظة على كيان العائلة أو القبيلة……جسم المرأة له احترامه بل وقداسته فى الثقافة الإسلامية.

الرويلي: لماذا لا يكون هناك مؤتمرات لعلماء الاجتماع العرب في موضوعات وميادين مختلفة للبحث في سبل تطوير العلم وبيان ما تتضمنه الثقافة العربية والإسلامية من حلول لمشكلات عالمية؟

أ. د. أبو زيد: الواقع أن المؤتمرات والندوات التي تعقد عن وضع العلم الاجتماعي كثيرة في كل أنحاء العالم العربي ولكنها في الأغلب مؤتمرات محلية قاصرة على علماء الدولة التى يعقد فيها المؤتمر مع استثناءات قليلة جدا مما يؤدي بالضرورة إلى الجهل بما يحدث فى الدول العربية الأخرى بكل مايترتب على ذلك من تخلف العلم بوجه عام. وربما كان ذلك راجعا إلى ضعف التمويل اللازم لعقد مؤتمرات موسعة لعلماء من كافة الدول العربية أو هذا ما نعاني منه نحن فى مصر على الأقل.. فازدهار العلم وتقدمه لن يتحققا على النحو الذى يجب أن يكون عليه بدون احتكاك عقول المشتغلين به.

ومع الأسف الشديد فإن معظم الدول العربية لها أولوياتها فى الإنفاق ولاأعتقد أن مؤتمرات عربية شاملة فى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تدخل فى قائمة تلك الأولويات. ومع ذلك فإن مشاكل الثقافة العربية والإسلامية تناقش دائما وعلى نطاق واسع جدا وبشكل شبه دائم فى مؤتمرات كثيرة تعقدها هيئات ومنظمات عربية عديدة ويسهم فيها باحثون سوسيولوجيون وأنثروبولوجيون. ولكن هذا لا يكفي.

الرويلي: لماذا لا تتواجد جهود لتأسيس قواعد بيانات للدراسات السوسيولوجية في العالم العربي والإسلامي تحت إشراف المنظمات المعنية وهل لكم اهتمام بذلك؟

أ. د. أبو زيد: عدم وجود قاعدة بيانات لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا فى العالم العربى والإسلامى مؤشر واضح على سوء وضع هذه الدراسات وتأخرنا فى إدراك التطورات التى تحدث فى العالم الخارجى والتخلف الفاضح فى ترسيخ وتقوية العلاقات بين المشتغلين بالعلم فى المنطقة وعدم اهتمام مراكز البحث فى تتبع مايحدث خارج حدود المجتمع الذى توجد فيه مثل هذه المراكز وعدم اهتمام الدول العربية والإسلامية بأوضاع العالم المتردية وعدم إدراك الدول العربية لأهمية توفرقاعدة بيانات ليس فقط بالنسبة لمعرفة حالة العلم ولكن أيضا بالنسبة لوضع الخطوط الأساسية لسياسة الدولة ومشروعات التنمية على أسس علمية سليمة.

فتأسيس قاعدة بيانات للعلم الاجتماعي على مستوى العالم العربى لايمكن أن يضطلع به باحث واحد أو حتى مركز واحد من مراكز البحوث الاجتماعية وإنما هو مشروع ضخم يتطلب تكاتف كل الجهود فى مختلف دول المنطقة وتخصيص تمويل ضخم يصعب توفيره من مؤسسة بحثية واحدة وتجنيد كثير من الجهود الجادة المثابرة ذات الإعداد الجيد للقيام بهذا العمل وتنسيق الجهود بين القائمين بذلك المجهود فى مختلف دول المنطقة حسب خطة محكمة يلتزم الجميع بها فضلا عن التفرغ للإشراف على ذلك المشروع. وهذه كلها شروط من الصعب تحقيقها فى الوقت الحالى على الأقل لعدم توفر الحد الأدنى من الاتصالات المباشرة بين المشتغلين بالعلم فى المنطقة.

ومع ذلك فقد تكون هناك بعض المحاولات المحدودة والمشكورة التى تقوم بها بعض الهيئات العلمية على المستوى المحلي أو القطري كما هو الحال بالنسبة للمشروع الذى يقوم بها المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة. ورغم أهمية هذا الجهد إلا انه غير كاف.

الرويلي: هل ترون أن هناك أمل لتحسن الأوضاع بعد قرون من الفساد الإداري والخواء الفكري والإدراك المشوش المنتشر بين غالبية أفراد المجتمعات العربية؟ وما المجال الأهم والممكن لتغيير أو تحسين هذا الواقع؟

أ. د. أبو زيد: نحن في عالمنا العربي مغرمون بالشكوى وما يطلق عليه تعبير (جلد الذات) فيما يتعلق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووصف المناخ العام الذي نعيش فيه بأنه مناخ فاسد لاينتج إلا الفساد، ونغفل الجوانب الإيجابية التى تتحقق دائما رغم وجود الفساد الذى لاشك فيه والذى لايمكن إنكاره بحال. ولو اطلعنا على أحوال العالم بأسره وتتبعنا مايكتب يوميا عن الأوضاع فى مختلف دول العالم لأدركنا أن الفساد ظاهرة عامة فى كل الشعوب والمجتمعات مع اختلاف فى المجال من مجتمع لآخر. وإذا كان تاريخ المجتمع البشري في بعض أبعاده هو تاريخ العمل والمثابرة والإخلاص والإنجاز فإنه فى بعض أبعاده الأخرى تاريخ الخيانة والغدر والكسل والفساد. ولست أقصد بهذا القول أن أهون من شأن الفساد فى مجتمعاتنا العربية أو ان أبرر وجوده وانتشاره بين مختلف الأوساط أو أن الأمر لايستحق الاهتمام به ومحاربته ومحاصرته ولا أقول القضاء عليه لأن الطبيعة الإنسانية ذاتها فيها جانب يغرى بالفساد والانحراف عن المعايير الأخلاقية بل والقيم الدينية.

وأنا أدرك أن ماأقول سوف يقابل بالرفض الناشئ عن المكابرة. ومع ذلك فإنني أرى أن إثارة الموضوع وكثرة الحديث عنه وجلد الذات هنا هو أول خطوة نحو الإصلاح لأنه يدل على الانتباه والاهتمام بما تمثله هذه (الظاهرة) من خطورة. وعلى أية حال فإن الحديث عن الفساد يكشف عن وجود درجة من الرفض والتمرد على الأوضاع القائمة ومن المستحيل أن يقوم إصلاح إلا إذا سبقه شعور وإدراك لفداحة الوضع والتمرد عليه ورفضه وهو مانشاهده الآن فى مجتمعاتنا العربية. والأمر يحتاج إلى المكاشفة وتشخيص الأوضاع بطريقة علمية موضوعية دون التباكي الانفعالي وهذه هي وظيفة مراكز البحوث. ولكن السؤال الذي لابد من طرحه هنا حتى وإن لم نجد له إجابة شافية هو: هل يسمح هامش الحرية المتاحة فى الدول العربية كلها ببحث هذه الظاهرة/المشكلة ودراستها دراسة متعمقة وإعلان النتائج بصراحة على الرأى العام ؟

الرويلي: ما أهم ثلاث مؤلفات للأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد والتي يفخر بها ويدعو تلاميذه لدراستها؟

أ. د. أبو زيد: قد يكون من الصعب على الباحث الذى يعتقد أنه بذل كل مايستطيع من جهد ووقت فى إنجاز أعماله أن يختار من بين هذه الأعمال أفضلها أو أقربها إلى قلبه. وأحب أن أعلن صراحة أنني لم أكتب شيئا قط خلال كل حياتي الطويلة لكي أفرضه على تلاميذي أو أنني كنت أضعهم نصب عيني في كتابة ما كتبت لأن ذلك كان كفيلا- في رأيي- بأن أنزل عن المستوى الذي أرتضيه لنفسي وترضاه أخلاقيات العلم لكي يتناسب ويتلاءم مع متطلبات الطلاب بينما أنا أعتقد أن على الأستاذ أن يرفع تلاميذه وقراءه إلى أعلى مستوى يستطيع هو أن يحققه دون أن يكون فى ذلك أي تعنت من جانبه. ولقد كنت دائما على يقين بأن العلم والثقافة “عسر لا يسر” وأن مطلبهما عسير للغاية وأنه إذا كان من شأن الأستاذ أن يقرِب العلم وييسره فإن ذلك لايعنى الهبوط به دون مستوى معين حتى يحقق رسالته. ومع ذلك فإذا كان من المحتم أن أختار ثلاثة من كتبي فإنني أختار كتاب “البناء الاجتماعى “:بجزأيه :المفهومات والأنساق، ثم كتابي عن ” المدخل إلى البنائية” أو البنيوية الفرنسية وقد نشره المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ثم كتابي عن “المجتمعات الصحراوية فى مصر: الكتاب الأول –شمال سيناء ” وقد سبقت الإشارة إليه.

الرويلي: ما أهم ثلاث مقالات للأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد والتي يرى أنه أبدع فيها؟:

أ. د. أبو زيد: أشير بنوع خاص إلى مقالات ثلاثة ظهرت فى أعداد متفرقة من مجلة (عالم الفكر) التى شاركت فى إنشائها فى الكويت وعملت مستشارا لتحريرها لمدة سبعة عشرعاما وهذه المقالات هى:” أزمة العلوم الإنسانية” و”لعبة اللغة” و”أفريقيا تبحث عن هوية” والمقالات الثلاث تكشف عن بعض جوانب اهتماماتي الواسعة في مجال الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.

الرويلي: بعد مضي كل تلك السنوات بالبحث العلمي والتأليف ودراسة المجتمع، ما خلاصة تجربتك الاجتماعية في فكرة جوهرية؟

أ. د. أبو زيد: بعد مضى كل تلك السنوات التى زادت عن ستة عقود أمضيتها فى التحصيل والبحث والكتابة خرجت بفكرة واحدة ولكنها عميقة وشاملة وهى الإيمان بوحدة الإنسان- بمعنى الجنس البشرى- فى كل زمان ومكان ووحدة الفكر الإنسانى والقيم بل والمعتقدات وأن الاختلافات التى نشاهدها هى تنويعات فى التعبير عن مبادئ فكرية أساسية مشتركة وأن هذا يستوجب احترام الثقافات المختلفة التى تعبر فى آخر الأمر في جوهرها عن “إنسانية” الإنسان وآدميته.

الرويلي: ما السؤال الذي كان يتوقع الأستاذ الدكتور أحمد أبو زيد أن أسأله إياه ولم أفعل؟

أ. د. أبو زيد: السؤال الذي كنت أتوقع منك توجيهه إلىّ هو: لماذا تهتم الآن وقد تخطيت الثمانين من العمر بدراسات المستقبل؟؟ الواقع أنني كثيرا ما طرحت على نفسي هذا السؤال خاصة وأنني نشرت حتى الآن (ديسمبر 2007) أربعا وخمسين مقالا بمجلة العربي الكويتية تناولت فيها أربعة وخمسين موضوعا مختلفا حول المستقبل وتوقعاته بكل مافى ذلك من خيال وإبداع وتنبؤات تستند إلى استقراء الماضي والبيانات العلمية المؤكدة وحسابات التقدم العلمي والتكنولوجي بالإضافة إلى كتابات الخيال العلمي ونظريات الفلاسفة وكبار المفكرين. ولقد كنت أجد فى هذا الاهتمام من جانبي نوعا من المفارقة لأن الشيوخ من أمثالي لهم ماض وليس لهم مستقبل أو أن مستقبلهم هو ماضيهم وما أنجزوا فيه من إنجازات قد تتذكرها الأجيال التالية إن كان فيها ما يستحق التذكر.

فالمستقبل مرتبط بالشباب وهو جوهر حياتهم. ومع ذلك فقد رأيت فى دراستي للمستقبل امتدادا طبيعيا ومعقولا ومشروعا لاهتمامي بالمجتمع الإنساني والإنسان في كل زمان ومكان وهو المجال الذي أعنى به فى تخصصي الأنثروبولوجي. وإذا كانت البحوث الأنثروبولوجية تركز على الماضى والحاضر فإن المستقبل هو الامتداد الطبيعي لهما على اعتبار أن الزمن متصل واحد متكامل وأن التمييز الثلاثي في هذا المتصل إلى ماض وحاضر ومستقبل هو تمييز مفتعل من صنع الإنسان لتيسيير حياته اليومية. ولقد كان يزعجني دائما ما يقال عن أن الثقافة العربية والإسلامية ثقافة ماضوية تخلو من تصور البعد المستقبلي وأن الإنسان العربي والمسلم أسير ذلك الماضي الذي يكبله بقيود التقاليد البالية التى تشده إلى الأرض وتشل حركته وتفرض عليه بالتالي التخلف والجمود. وكان ذلك الهاجس المخيف دافعا قويا لي لأن أتعرف على رؤى الغرب للمستقبل والمشكلات المستقبلية التى تشغل الأذهان هناك وأن أنقل ذلك إلى القارئ العربي عسى أن يثير ذلك بعض الاهتمام لديه بتلك المشكلات التى سوف تواجهنا إن لم تكن قد دهمتنا بالفعل.

ولكن هناك إلى جانب هذه الاعتبارات العملية اعتبارا آخر قد يكون أهمها جميعا وهو الرغبة العارمة التى تكاد تكون نوعا من المرض الذى لاشفاء منه وأعني بها رغبة ارتياد المجهول التى كانت وراء كل خطواتي في مجال الأنثروبولوجيا اعتبارا من ارتياد صحاري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ابتداء من إيران وحتى المغرب، أو ارتياد المجهول فى أفريقيا جنوب الصحراء سواء بين قبائل جنوب السودان أو شرق القارة وغربها، أو ارتياد ذلك المجهول الذى نتطلع إليه في خوف ورجاء وأمل والذى نسميه “المستقبل”.

في نهاية حوارنا نشكر الأستاذ القدير على تفاعله معنا ونعتذر على الإطالة عليه بحديث وددنا أن لا ينتهي وإلى لقاء آخر بإذن الله…….

أسماء الرويلي

المصدر: منتدى اجتماعي

Exit mobile version