موقع أرنتروبوس

ثقافة الفن التّشكيلي في الوعي العربي: نخبوية التّجربة

ثقافة الفن التّشكيلي في الوعي العربي: نخبوية التّجربة

إيمان طهّاري

ما من شكّ أن يكون لتركيبة المجتمع العربي وطبيعة تعامله ورؤيته للفن، الشأن الهام في تحديد الوضع الذي يقف عنده الفن التشكيلي في البلاد العربيّة وإبراز لأهمّ ميزاته. ولعلّ في وقوفنا عند واقع ثقافة التّشكيل العربي الحديث، ما يمكن أن يوضّح لنا المسار الذي ينخرط في خضمّه الفن العربي وتأمّل في العقليّة الثقافيّة العربيّة وموقفها من المسألة التّشكيلية. ففي النظر في طبيعة الوعي الثقافي التشكيلي للمجتمع العربي، مقوّم أساسي ورهان من بين عديد الرهانات التي تفسّر خاصيات المنظومة الفنية التشكيلية العربيّة، وعرض لإشكاليّة مركزيّة من بين إشكاليّاته المتعدّدة، والتي تتعلّق بموقع التشكيل العربي من الوعي الثقافي في المجتمع العربي.

فهل يمكننا الحديث في هذا السياق عن فن عربي متجذّر في وعي الفرد العربي، ليكون ضرورة وجزء من ثقافته اليوميّة، حتّى يتسنّى لنا الحديث عن منظومة فنيّة عربيّة ثابتة ومستقلّة؟ أم كانت المحاولات التشكيليّة مجرّد لغة بصريّة مسقطة على الثقافة العربيّة، ساهمت في بلورتها بعض المواقف والأحداث التاريخيّة والاجتماعيّة، التي فرضت بدورها تدخّلات من قبل أطراف أخرى في ظلّ المساعي الرّامية إلى تركيز لغة تشكيلية عربية مستقلّة؟ وهي على هذا النّحو، بالتالي كوكبة من الاستفهامات التي نطرحها ونحاول الإجابة عنها، بالرجوع إلى واقع التشكيل العربي والوقوف عند الظروف العامّة التي انخرط فيها.

اتّضح المشهد التشكيلي في البلاد العربيّة بمشروع قومي تحديثي تجسّدت معالمه منذ خمسينات القرن العشرين، والذي تزامن مع الاستقلالات السياسيّة، رغم بداياته التي ساهمت في بعثها الموجات الاستعماريّة التي شملت عديد البلدان العربيّة. حيث وكما أورد “عفيف بهنسي”: “أصبح ظهور الفن الحديث في البلاد العربية، أكثر وضوحا بعد أن تجسّدت النهضة الثقافية بالدعوة القوميّة التي انتشرت في جميع البلاد العربيّة، والتي أدّت إلى التحرّر السياسي، وها هي تنادي بالتحرّر الثقافي“. إنّها لحركيّة تشكيليّة نشيطة عبّرت عن رغبة جامحة في بلورة واقع تشكيلي عربي مستقلّ وبنّاء، ينشد التحديث ويواكب التحوّلات الفنية العالمية والغربيّة في مستواها التقني والنظري. لذلك تعدّدت الممارسات التعبيريّة والبنى التصويريّة بشتّى أنواعها في عديد الدول العربيّة، في سياق حاول فيه الفنان العربي تكريس وجوده وإثبات هويّته الفنية وإبراز موقعه من المنظومة التشكيلية العالمية، ليصبح هاجسه الأوّلي خاصّة في ظلّ التحوّلات المتعدّدة التي شهدها الوطن العربي والتي شملت جلّ الميادين والأنشطة. هو في حدّ ذاته الواقع الذي أشار إليه الدكتور “عفيف بهنسي” عندما ذكر في هذا السياق: “بعد أن تطوّرت الحياة الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة في البلاد العربيّة هذا التطوّر السريع خلال هذا القرن، أصبح السؤال عن ملامح الوجود الحضاري العربي ملحّا يرد من الشرق ومن الغرب، بل هو يصدر أيضا عن العربي ذاته الذي يريد أن يعرف نفسه وموقعه من الحضارات العالميّة“. وهي بالتالي إشكاليّة من بين عديد الإشكاليات التي طرحها الفنان التشكيلي العربي وحاول الاستعلام حولها وكشف خباياها، مثلها مثل العديد من القضايا التي طرحت في خضمّ هذا المشروع الفني العربي الحديث، والتي كانت نتاجا للحركيّة الهامّة والنّشيطة للممارسة التشكيليّة في ظلّ محاولات البحث الفني الجاد والوعي الذي تمكّن منه عديد الفنانين التشكيليين العرب، عندما أصبح التشكيل منطلقهم التعبيري وهاجسهم ولغتهم الثقافيّة.       

  تجذّر الفن التشكيلي في كيان ووعي الفنان العربي الذي تجاوز حدود الممارسة والفعل المجرّد، ليبحث في المواضيع والخامات والأساليب والرؤى وليطرح قضايا ويؤسس لمناهج وينظّر لقيم تعكس هواجسه. فتميّز الفن التشكيلي العربي بطابعه النخبوي الذي رسمت ملامحه فئة معيّنة فتيّة وشابّة في بدايات التجربة، فئة ما انفكّت ساعية لتأسيس لغة تشكيلية عربية، تمثّلت في شخوص الهواة والمتقنين للفعل والفنانين الممارسين للفن والمنظّرين والمؤرّخين والنقاد المهتمّين بالشأن الجمالي العربي. هو واقع  قد عكس موقع الفن التشكيلي من ثقافة المجتمعات العربيّة ومن وعي الذات العربيّة، خاصّة عندما يكون الفنّ موضع اهتمام فئة دون أخرى وعندما تتفاوت درجات التلقّي والنّظر إلى الفن واستيعابه من قبل المجتمع. فالخطاب التشكيلي العربي في بوتقة هذه الأفكار، خطاب شكّله فنانون وممارسون ومنظّرون حرصوا على تكريس مقوّمات فن عربي وأحسّوا بضرورة السير وتتبّع خطى الحداثة والمحدّثين، وهو ما عكسته تراكمات التجارب الفنية في أنحاء المجتمع العربي وفي المهاجر والمنافي. واقع يدفعنا للتساؤل ما إن استطاعت هذه التجارب والمساهمات والإنتاجات التشكيلية العربيّة برمّتها أن تعكس لغة تشكيلية نابعة من المجتمع ومتغلغلة في كيان الشخص العربي ووعيه وثقافته؟

لعلّنا نجد بعض الإجابات حول هذه المسألة في مقولات بعض الدارسين لقضايا ومشاغل الفن العربي الحديث والمعاصر وإشكالاته، وفي إطار هذه المسألة يرى “شاكر لعيـبي” أنّ: “الثقافة التشكيليّة لم تعد بعد مكوّنا من مكوّنات الوعي الثقافي، ومن الثقافة العامّة الضروريّة للفرد المتوسّط. وإذا ما زعم بعضهم بأنهم لا ينطقون ولا يعرفون سوى اللغة البصريّة أداة للتعبير، فإنّ قواعد عامّة لهذه اللغة لم تصر بعد جزءا من ثقافتنا“. يبدو أنّنا إزاء طرحين هامّين قد أفاد بهما “شاكر لعيبي”، يتمحوران في ثنائيّة أساسها الوعي الإيديولوجي الثقافي، وهنا يتحدّد موقع الفن من الذات ومن العقليّة العربيّة، وفي جانب آخر موقع الصورة من عين الفنان ورؤيته. مسافة وهوّة عميقة يمكن أن نحدّد بها علاقة الذات ونظرته للفن التشكيلي في إطاره العام ووعيه له من جانب، وكيفيّة تلقّيه للعمل التشكيلي من جانب آخر. ولكن ما يهمّنا في هذا الشأن وبشكل مباشر، مسألة الإدراك الثقافي العربي للفن التشكيلي وعلاقة الفرد بالفن في المجتمع العربي الحديث.

يبدو جليّا إزاء ما نشهده في مجتمعاتنا العربية الحديثة أو المعاصرة، على الهوّة والقطيعة بين الفنّ بأساليبه وأشكاله المختلفة وبين المجتمع ونقصد في ذلك الفرد العربي، في واقع كانت فيه هذه الذات في مجملها مجرّد متلقّ سلبي غير مكترث بما يقع حوله من إجراءات وملامح وظواهر فنيّة. سلوكات اجتماعيّة تقف عند المشاهدة الجافة والسطحيّة لبعض الأعمال في أروقة المعارض أو التظاهرات الفنية، تكتفي بحدود الفرجة التي يمكن أن تتبعها دهشة واستغراب أو صمت أو تهكّمات ونفور واشمئزاز وعدم تجاوب وتواصل مع المنتجات الفنيّة، وغيرها من الأساليب المستفزّة التي تؤكد طبيعة العلاقة التي تربط الفرد بالفن التشكيلي العربي ونظرته إليه. “وتبدو هذه الحقيقة من خلال الشواهد الماديّة التي تتمثّل في إحجام الناس اليوم عن اقتناء الأعمال الفنيّة، وفي عزوفهم عن تزيين مساكنهم، بينما كانوا في الماضي يتسابقون لاقتناء التحف الفنيّة ويتباهون بامتلاك الخزفيات والفضيات والسجاد والمخطوطات المنمنمة، وتزدهي بيوتهم بأجمل الزخارف العربيّة الجداريّة ممّا نراه ماثلا حتّى اليوم“، ليكون بذلك الفن وفق هذه الحقائق المقدّمة، محورا لا يمكن أن يشمل إلاّ الفنان والباحث في هذا المجال بدرجة أولى والمثقّفين. وهو السياق الذي تناوله “بيار فرانكستال” خاصّة عندما خصّ الفنانين بالذكر وبتحمّلهم مسؤولية وهاجس الفن والإبداع، فيقول معلّلا: “الفنّانون اليوم مثلما في أي عهد، يشكّلون الشريحة الخاصّة في المجتمع، إنّها شريحة القوم الذين تعود إليهم سلطة إظهار الممكنات (الطاقة الكامنة) والحاجات التي تختصّ بذويهم بواسطة شكل محسوس“.

إنّ في انحصار التّواصل مع الفن والوعي به عند بعض الأفراد دون غيرهم، ما ينذر بواقع يكون فيه الفن شكلا دخيلا على ثقافة المجتمع العربي. وليس القصد بذلك  طمس تاريخ فنوننا الأولى وما جاء مع الحضارات القديمة والفنون العربيّة الإسلامية على وجه التّحديد التي احتفت بجماليات فنيّة وإبداعيّة خلاّقة، بقدر ما نقصد بهذا المعنى (الدخيل)، التأكيد على أنّ الفن صفة غير منغرسة ومتجذّرة فينا ونابعة من ثقافتنا، فهي دخيلة على وعي الأفراد، وقيمة غير مندرجة عفويا في مجتمعاتنا العربيّة ومنغمسة في سجّل عاداتها وتقاليدها، فالرسم المسندي على سبيل المثال وكما ذكر الدّكتور “فاتح بن عامر”: ليس من عادات المجتمع العربي ولا من الفنون ومن الحرف المتداولة ضمن نشاطه الثقافي والاجتماعي. كما أنّ فن اللوحة ليس من القيم المتبادلة في هذا المجتمع“. وضع مخالف لما ميّز المجتمعات الغربيّة، التي رأت في الفنون التشكيلية نزعة إنسانيّة وطريقا للمعرفة ولفهم العالم. فكان الفن جزء لا يتجزّأ من ثقافة الإنسان الغربي ووعيه وإدراكه، وقيمة ثابتة من بين قيمه ومعتقداته، ليكون هاجس التّجديد والتطوير والبحث في الفن وقضاياه شاغل الثقافة الفنيّة الغربيّة التي ما انفكّت تطوّر أساليبها وموادها الفنيّة منذ عصر النهضة حتّى يومنا هذا، بعد أن تمكّنت من نشر ثقافة الفن في المجتمع الغربي الذي أصبح لازمة وظاهرة متوطّنة في بداهة الفرد الغربي.

هي ملامح ليست بغريبة عن الواقع الذي احتفت به جمالية الفن العربي الإسلامي، التي تجاوزت بخصائصها كل ما من شأنه أن يرسم سمات القطيعة بين الإنسان والفن. فقد نبع الفن العربي الإسلامي من ثقافة وجدت في فن العمارة والتصوير والرقش والزخرفة والمنمنمات وغيرها من الممارسات الفنيّة ضالّته، وأسلوبا امتدّت تعاليمه إلى حياته اليوميّة. فكان الفن لغة الذات في تلك الفترة التاريخيّة، في سياق عبّرت فيه التمثّلات والتعابير الفنيّة المختلفة عن قناعات الإنسان العربي وأفكاره، خاصّة فيما يتعلّق بعلاقته بالمقدّس، ليضحى الفن آلية للتعبير عن قناعات ذاتية ووسيطا أساسيا بين الذات والمقدّسات. وهي من الدوافع الجوهريّة التي جعلت من الفن لغة ثقافيّة محايثة وملازمة للفنان والمسلم عامّة وجزء من وعيه وإدراكه.

لئن اختلفت المقاصد والتصوّرات بين الفن الغربي والفن العربي الإسلامي في مستوى الأهداف التي ينشدها كلاهما من وراء التواصل مع الفن وجعله لغتهم التعبيريّة ووسيطهم الثقافي بدرجة أولى، فقد اشتركا في مستوى أوّل في جعل الفن في خانة الحدث وقيمة ثقافية أساسيّة نابعة من ذواتهم، وفي التمكّن في مستوى ثان من ترسيخ معالم فنيّة ثابتة ومستقلّة وتأسيس لغة جماليّة تركت آثارها في تاريخ الفنون التشكيلية على مرّ الزمن. ولعلّ من بين الأسباب الرئيسيّة التي ساهمت في ازدهار الفن سواء العربي الإسلامي أو الغربي الذي تزامنت بداياته مع عصر النهضة، ثقافة المجتمع التي تشرّبت مقوّمات الفن وجعلته عنصرا من عناصرها اليوميّة الاجتماعيّة، في واقع مجتمعات جعلت الفن التشكيلي في خانة الحدث.

يثير فينا هذا الواقع حيرة عميقة خاصّة فيما يتعلّق بمراجع الفنون الإسلامية وتاريخها المزدهر شكلا ومضمونا، والتي كان فيها الفن جزءا من ثقافة المجتمع. هو واقعنا العربي الإسلامي الأصيل الذي قدّم نماذج ومفاتيح التقدّم والازدهار الفني، لا نجد أثرا له في واقع الفن العربي الحديث والمعاصر، الذي يتنازل عن أهمّ مفعّلاته وذلك فيما يتعلّق بمسألة الوعي الثقافي للفن وخصوصيّاته.

ربّما كان لانحطاط الدولة الإسلاميّة منذ العهد العثماني الأثر الكبير في التخلّي عن عديد المبادئ والقيم الجوهريّة والسقوط في دائرة التراجع المعرفي والفكري، إلاّ أنّ مفعّلات أخرى ساهمت في تعميق الهوّة بين الفرد والفنّ لعلّ من أبرزها السياسة الاستعمارية التي شملت عديد البلدان العربيّة والتي فرضت أساليبها ومقوّماتها بأشكال وأساليب مختلفة، إلى جانب عقيدة المنع الدينيّ والدخول في بوتقة المحرّمات، فهي من بين الوقائع التي أثّرت في المجتمعات العربيّة في علاقتها بالفن، والتي كانت لها الفاعليّة في انقلاب العقلية الثقافية العربية وفي التشويش على الوعي الثقافي الفني للإنسان العربي في ظلّ المجتمع الحديث والمعاصر. واقع أثّر بدوره وتباعا على الخطاب النظري وفي ذلك التّنظير النقدي التشكيلي العربي، لعلاقته المباشرة بالممارسة والفعل الإبداعي وبالوعي التشكيلي والثقافي العربي. فإذا ما عكس الواقع المحلّي العربي نظرة لا مبالاة للإبداع ومكوّناته من قبل المجتمع، ما عدا نخبة معيّنة بادرت بالفعل في محاولات اللّحاق بالركب الحضاري، ما من شكّ في أن تتأثّر المنظومة التّشكيليّة العربيّة ككلّ بهذه الحقائق المترسّخة في وعي وسلوك الفرد العربي.

 

Exit mobile version