انتقال المجتمع من الإبل إلى السيارات

 

د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

عاش الإنسان في جزيرة العرب آلاف السنين وهو متآلف مع أنواع من الحيوانات التي تخدمه في تنقلاته أو اقتصاده أو تحقق إرادته القوية، وقد انصهرت هذه الحيوانات في البيئة وتكيفت مع الإنسان حتى انعكست على شخصيته، فصارت مجالاً خصباً لمنح معاني القوة والرجولة والفخر لأهل الإبل، والفروسية لأهل الخيل، والبساطة لأهل الأغنام.

وعندما حلت السيارات محل الإبل والخيل في التنقل أعاد الإنسان إنتاج فكرته عن منح ألقاب القوة والرجولة والفخر على امتلاك أنواع السيارات بحسب قوتها ومنافعها وقدرتها على تحقيق إرادته القوية.

وقد حظيت الإبل بأهمية خاصة لدى الحضر والبدو لقدرتها على التوغل في الصحراء أو قطع مسافات طويلة في قوافل التجارة، ولتحملها التقلبات المناخية والصبر على الجوع والظمأ، كما أنها تتوافق مع طبيعة الإنسان وتشبع إرادته وتؤدي وظائف اجتماعية واقتصادية وقتالية، ومع مرور الزمن تحولت إلى أداة تحدي، ثم إلى مرجلة من خلال تكثيف معاني القوة والندرة على مالكها، ثم صارت أداة فخر نخبوي لعجز الطبقة الوسطى عن امتلاكها. وهذه الصورة الذهنية المتخيلة تتكرر عند امتلاك الخيل أو امتلاك الأنواع القوية من السيارات.

وتركز هذه المقالة على تحولات الصورة الذهنية الشعبية في لحظة الانتقال من استخدام الإبل إلى استخدام السيارات، وإذا ورد شيء من تاريخ دخول السيارات للسعودية أو الإشارة إلى بعض موديلاتها، فهو استطراد لأغراض التوثيق.

الدهشة والمقاومة

بدأ سوق السيارات في السعودية عام 1926م بتأسيس “الشركة الشرقية”، وهي نتيجة لقاء بين جون فيلبي ومستر فيشر في جدة، وأخذ فيلبي الأذن من الملك عبدالعزيز، وأسس الشركة برأسمال قدره 25 ألف جنيه إسترليني موزعة على خمسين ألف سهم، وطرح أسهم الشركة في السوق السعودي، وحصلت الشركة الجديدة على وكالة سيارات فورد، وبدأ توريدها عام 1929، وكانت عبارة عن شاحنات نقل[1].

وكتب عن هذا الموضوع أطروحة دكتوراه بعنوان “من الجمل إلى الكاديلاك: التنقل الآلي والاستهلاك والعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والسعودية” (2014)، وأشار فيها إلى أن دخول السيارات إلى السعودية جاء نتيجة جهود الدولة بعناية مباشرة من الملك عبدالعزيز، وتسهيلات للتجار لتوريد السيارات، ثم بجهود شركات السيارات وشركات عالمية وفي مقدمتها أرامكو التي أسهمت في تأسيس بنية تحتية للسيارات في المنطقة الشرقية، ثم توسعت لإنشاء شبكة طرق داخل المملكة، وتضمنت تأثير انتشار السيارات على ظاهرة الصيد بإطلاق النار على الحيوانات منذ دخولها السوق السعودي، والتغلب على صعوبات السفر بدون طرق سريعة، ومشاريع التنمية الجديدة[2].

وقد سمعت من بعض الرواة أن أصحاب الجمال المتخصصين في نقل الأشخاص والبضائع بين المدن بمبالغ متعارف عليها، ويسمون “الجماميل”، تضرروا من سرعة انتشار سيارات النقل الكبيرة وعمل كثير منها في النقل العام بين المدن والقرى، لسرعتها وقوتها وتميزها بالراحة والسعة، فرفعوا برقيات للملك عبدالعزيز يطلبون منعها؛ لأنها ألحقت الضرر بسوقهم. إلا أن سوق السيارات كان ينمو أكبر من سوق النقل بالإبل، فانهارت واختفت هذه المهنة.

وعندما دخلت السيارات في السوق السعودي كانت لحظة صادمة للذهن، ولم يكن التعامل معها بوصفها وسيلة نقل يمكن أن تستقر في المجتمع، وإنما لتكون جزءاً من هوية المجتمع وأحد وسائل تغييره، لذلك قوبلت بالترحيب الشعبي السريع؛ نظراً لأن نتائجها سريعة، ولا تحمل فكرتها أي تعقيد أو طلاسم يمكن أن يساء تفسيرها، ثم مقاومتها مثل ما حصل مع دخول تقنية: البرقيات واللاسلكي والهاتف. وقد قضت على جميع الأسواق المنافسة لها مثل: الجماميل، وعمال رصف طرق الإبل والأدلاء.

وبالتالي دخول السيارات أحد أكبر العوامل المادية التي غيرت النظام الاقتصادي والاجتماعي والإداري، كما غيرت أساليب الاتصال والتواصل بين الناس والأسواق والمنتجات الزراعية والحيوانية، ولا يفوقها إلا اكتشاف النفط. وقد أدى دخول السيارات إلى تغيير كثير من القيم، وأصبحت سرعة تنقل السيارات دافعة لسرعة انتقال الأفكار والنمو الاقتصادي، كما أعادت توازن القوى بين البلدان من جهة وبين الحضر والبدو، إذ يوجد اختلاف وتباين كبير بين رؤية الحضري للإبل بوصفها وسيلة نقل عامة وتجارية، ورؤية البدوي الذي يراها أحد أشكال الوجاهة والقوة، ويعدها جزءا من هويته الاجتماعية، وذلك لأنها قللت من شظف حياة البادية بسهولة التنقل وسرعته، وكثافة الحمولة من الأشخاص والبضائع والماء والغذاء؛ مما حقق لهم الراحة والتوغل في اكتشاف مجاهل الصحاري ومناطق الربيع من جهة، وسرعة التحضر والاستقرار من جهة أخرى، وقد انعكست هذه الرؤية على الأجيال فيما بعد.

ولم يكن دخول السيارات مهيأ؛ لأن الأرض غير معبدة، ولذلك تستغرق السيارات أياماً لقطع مسافات يمكن قطعها الآن في ساعات، فقد كان يكثر التغريز عند قطع الرمال، والتوقف لردم الطرق في بعض الأودية، أو لجر السيارة بالحبال إذا علقت في حفرة، وكان من أهم العدد التي ترافق السيارات: الحبال وأكثر من إطار وعدد ميكانيكية. وتعد الشاحنات الصغيرة (اللوري) من أقدم السيارات، وكانت تمتلئ بالركاب، وقسم الحوض إلى دورين وقد تصل إلى ثلاثة، يفصلهما ألواح خشبية سميكة، دور سفلي للأغنام، ودور للنساء وعلوي للرجال.

نماذج من أجيال السيارات

من مبادئ شركات السيارات، في دراسات السوق، إجراء دراسات دورية ميدانية لكل منتجاتها، للتعرف على السيارات المرغوبة للفئات الموجهة لهم لتطويرها، والسيارات غير المرغوبة لإصلاح سلبياتها. ويعد السوق السعودي من أهم الأسواق التي تكلف شركات السيارات الباحثين بإعداد تقارير من واقع المعايشة، وهي غير ما يطلب من الوكلاء والموزعين بصفة دورية، ويمكن اعتبار المنافسة بين بعض منتجات تويوتا ونيسان من أهم المنافسات في حقبة السبعينيات وما بعدها، حتى حسمت لصالح تويوتا في جيب لكزس، وظهور لاعبين جدد في السيارات ذات الحوض.

1- جيل الفرت

من أهم أجيال السيارات وأقدمها، ووقد ارتبطت أنواع سيارات الفروت القديمة في الذاكرة الشعبية بالتهريب والمطاردات وتحدي دوريات الشرطة، وقد كان أول وكيل لسيارات الفورد ويسمى شعبياً “الفرت” كان المستشرق البريطاني جون فيلبي، الذي أسس “الشركة الشرقية” في جدة، وهي أول شركة مساهمة في السعودية، وبدأت أعمالها عام 1926، ثم استطاع فيلبي، بحكم علاقاته الواسعة أن يحصل على وكالة مصانع فورد الجديدة، وبدأ توريد سيارات فورد إلى جدة منذ عام 1929 لتنافس سيارات شيفروليه التي دخلت السوق السعودي قبلها[3]، وتمكن فيلبي من الحصول على امتياز من الحكومة السعودية باحتكار استيراد سيارات فورد التي يمثلها، وبالتالي القضاء على منافسه سيارات شيفروليه وإخراجها من السوق. وقد وافقت شركة فورد على تزويد الحكومة بكل ما تحتاجه من سيارات، على أن يكون التسديد على أقساط، ولكن امتياز الاحتكار لم يستمر بسبب نشوب الحرب العالمية وعجز شركة فورد عن الوفاء بالتزاماتها، كما توقف فيلبي عن تمثيل الشركة في السعودية[4].

كانت سيارات فورد المرغوبة شعبياً من سلسلة موديل F، وهي المخصصة للشاحنات الصغيرة، إلا أن موديلات الستينيات كانت الأشهر والأكثر استخداماً، بسبب قوة الماكينة وبعض الإصلاحات على الشكل الخارجي، ويسمى “الفرت”، و”الهاف”، وزادت شهرته بعد قدرته على اختراق صحاري النفود والدهناء والربع الخالي، واستخدم للتهريب، سواء للبضائع الممنوعة أو للتهرب من الجمارك، يقول الشاعر:

يا تلّ قلبي تلة عبيد للهاف       تله ولد زايد بدارٍ مخيفة

ويقول عن الفرت:

ألا يا نديبي فوق ينطح التهريب       ليا عد مية قام يلعب دركسونه

ويقارن شاعر بين قوة الفرت وعجز الشفر “شيفروليه” عن اختراق رمال الصحراء:

الفروت الطيبة يا اهل التماني    من بغى يضوي عشيره قبل ليله

الشفر عزمه كما عزم الهداني    لا ضرب له رملةٍ ما فيه حيلة

واستخدم الفرت وكثير من السيارات آنذاك في التوسع في رياضة الصيد والقنص، لقدرته على التوغل في الصحراء واكتشاف مواقع قنص جديدة، وقد تسبب ذلك في زيادة كثافة الصيد الجائر[5] والاحتطاب العشوائي.

2- جيل الجمس في الستينيات

يوجد سيارات أقل أهمية وشعبية من الفرت، مثل “الشفر” و”الدوج” و”الجمس”. ولم تكن الجمس مرغوبة شعبياً، وإنما كانت تستخدمها الشرطة وبعض مؤسسات الحكومة، ثم نسيها الناس، ولكنها أعيدت بشكل سريع وقوي مع ظهور “مسلسل رشاش” الذي كان للجمس دور رئيس فيه.

اشتهر هذا الجمس شعبياً بقوة ماكينته وقدرته على التوغل في الصحراء، كما كانت تفعل الإبل قديماً، يقول سالم بن محمد، من عنيزة:

يا راكب اللي يشدي الريح وان سار        مصرّح له رخصةٍ واستمارة

جمس جديد تو بديه به غبار       من مصنعه توه وصل للتجارة[6]

اشتهر موديل 1964م، الذي يعد أفضل من الموديلات السابقة، وزاد من الترويج له أغنية طاهر الأحسائي التي مطلعها:

الله على الجمس لولا وارد الستين       يا ليت ما بدلوا روده وسكانه

يا ليت شالوا مقصاته مع الجنبين    خلوه سسته على الدنقل كما اخوانه

ربحان يا من شرى من أربع وستين    ما يشتكي نبضة البطناج ربانه

ثم أخذ في وصف أمنياته في تطوير الجمس بدقه، وذلك لأنه صار سيارة لا بديل عنها آنذاك.

3- جيل الجيب

أنتجت شركة جيب الأمريكية سيارات جيب في الأساس تلبية لاحتياج الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، ثم اشتهرت سيارة الجيب بوصفها سيارة للنقل الخاص، ولكنها أكثر قوة وأقل حجماً من النقل العام، وحققت مبيعات عالية، ورسمت صورة ذهنية شعبية قوية حتى الآن، وذلك بأن كل سيارة تحمل ذات المواصفات الشكلية تسمى جيب، حتى وإن كانت من منتجات شركات تويوتا ونيسان وفورد وغيرها.

4- جيل لاندكروزر

أنتجت شركة تويوتا لاندكروزر في الحرب العالمية الثانية تلبية لمتطلبات الجيش الياباني رداً على سيارات جيب الأمريكية، ولكن هزيمة اليابان أخرت المشروع، ثم استكملت صناعة السيارات لأغراض مدنية، ولكن بمواصفات لاستخدام الجيوش للتنقل في المناطق الوعرة. ولذلك زاد انتشاره بين أبناء الطبقة الوسطى في السعودية والخليج.

5- جيل جيب لكزس

يعد جيب لكزس أحدث نسخة مطورة يمكن أن تحمل معها سمات امتلاك الإبل النجيبة التي تتمتع بالقوة والجمال والفخر وتحقيق معاني الإرادة والندرة والرجولة، إضافة إلى التكيف مع الصحراء ومع المدينة. وصار الآن امتلاك جيب لكزس والقدوم به في المناسبات الرسمية، محاكاة وإعادة إنتاج صريحة للحضور بالإبل النجيبة ذات المواصفات الرفيعة التي تعد أحد أشكال المباهاة الاجتماعية.

ولم تستطع الشركات إنتاج سيارة تضاهيها، حيث تنتج بعض الشركات جيوب تتمتع بالقوة ولا تتمتع بالجمال والوجاهة مثل: نيسان ومرسيدس وجيب، بما فيها الجيوب الجديدة من السيارات الصينية والكورية التي تتمتع بجمال التصميم ورخص الأسعار ولكنها لا تتمتع بالقوة والوجاهة.

يلحظ أن مسابقات عرض مزاين الإبل السنوية اتخذت تقاليد جديدة، بحيث تسير المنقية، وهي الإبل المنتقاة، ويسير خلفها مجموعة سيارات من نوع جيب لكزس لإدخالها إلى ساحة المنافسة على الفوز بجائزة أفضل أنواع الإبل، وهذه الصورة الذهنية الجديدة تحمل معها سمات القناعة بالتماثل الكبير بين الإبل وجيب اللكزس.

6- وصم الوانيت بالعراوي

عندما أنتجت شركة نيسان سيارة داتسون ذات الحوض، المعروفة شعبيًّا باسم ددسن أو الونيت المخصصة للنقل الصغير، كانت نسخة مصغرة للجمس والهاف، لأنها معدة لاستخدام المدينة، لذلك لم تكن ملائمة لحياة البادية لعدم قدرتها على التنقل السريع ولا التوغل في الصحارى، كما تفعل الجمس والجيب، والشاص، ولذلك وصمت بلقب (العراوي)، وهو لقب انتقاص، وسرعان ما وصمت الذاكرة الشعبية بالعجز وضعف الهمة، وهي الوصمة التي يوصم بها ملاك الأغنام، فكلاهما لا يحظى بصورة ذهنية شعبية جيدة في حياة البادية، بسبب اشتراكهما في محدودية التنقل والضعف وانخفاض السعر، وعجز ملاكها عن مجاراة أصحاب الإبل قديماً وأصحاب الجموس والجيوب حديثاً، ومن الأبيات الشهيرة التي صدمت بعجز العراوي قول الشاعر:

لعنبو ذا الوجه يا وارد عراوي     كيف غرزتي بنا وانتي جديدة؟

وقد ذهبت سمعة الوانيت نتيجة صورة ذهنية رسخها فيها أبناء البادية لمقارنتهم بها بالموديلات الأقوى، في حين أنها لم تكن موجهة لهم، ولا مصممة لاختراق الرمال.

التفحيط والتطعيس

يعد التفحيط ظاهرة عالمية، وهي مهارات استعراضية خطيرة بالسيارات وتمارس في الشوارع العامة، وهي أقدم عادات اللعب بالسيارات. أما التطعيس فهي رياضة رملية صحراوية نشأت متأخرة، وتكاد تكون محتكرة في صحارى السعودية والخليج، وتمارس بعيداً عن الأحياء والشوارع، وهي تتضمن إعادة إنتاج الحياة القاسية لسيارات الستينيات التي تعاني من شدة اختراق الصحارى، ولكن الشباب يمارسون التطعيس الآن بنظام الترفيه والتحدي ولإثبات الذات في تحقيق الإرادة والإمتاع.

تكتسب ظاهرتا التفحيط والتطعيس من قوة السيارات وكثافة الجماهير، وهي تمارس من جميع الطبقات الاجتماعية تقريباً. ولكن هوية التفحيط أكثر خبرات، من حيث بروز مشاهير المفحطين وتوثيق أسماؤهم على جدران الشوارع وعلى وسائل التواصل، وكثرة حركات اللعب بالسيارة ومسمياتها، مقارنة بمشاهير المطعسين ومسميات حركات التطعيس.

المظهرية

يعرف اليوم مستوى الطبقة الاجتماعية للأفراد من أنواع سياراتهم أو من تميز لوحات سياراتهم، وقد أكدت كثير من الدراسات على قوة تأثير الاستهلاك المظهري في تغيير الصورة الذهنية عن الأشخاص، وتعد دراسة ثورشتاين فبلن في كتاب “نظرية الطبقة المترفة” من أهم الدراسات في هذا المجال.

تستخدم السيارات الفخمة في مجالات عديدة لبناء صورة ذهنية للأفراد في المجتمع، وكثيراً ما يلجأ إليها بعض أصحاب المهن مثل المحامين الذين يستهدفون تولي القضايا المالية الضخمة، في اقتناء سيارات فارهة لإيمان كثير منهم بأن حسن تقديمهم لذاتهم أمام موكليهم من خلال السيارة والملبس تؤثر إيجاباً على تحديد سعر أتعابهم على القضايا التي يتولونها، وذلك تبعاً لإيمان رجال الأعمال بمبدأ: أن فخامة المركب والملبس ينعكس على فخامة المنطق والقدرة على حل المعضلات.

أنسنة السيارة

اعتاد الشعراء منذ العصر الجاهلي حتى عصر دخول السيارات إلى جزيرة العرب في منتصف القرن العشرين أن يكون مطلع قصائدهم في وصف راكب الناقة، وغالباً ما يتركز الوصف في قوة الناقة في نقل رسالة الشاعر وفي جمالها وسرعتها. وتحولت أدبيات افتتاحيات القصائد الشعبية من قول الشاعر (يا راكبٍ من فوق حمرا نجيبة) أو أي وصف للإبل، إلى: (يا راكب فوق جمس) مثلاً، ولم يرصد في القصائد أي توجس من السيارات، واستعانت المقالة منه بما يؤدي الغرض من إيضاح الفكرة.

وتؤكد القصائد التي قيلت في السيارات أنها شكل من أشكال الاستئناس الجديد ومحاكاة للقصائد التي قيلت في الإبل؛ وذلك لأن الشعراء ينظرون للسيارة بوصفها كائنا حيًّا مثل الصديق الوفي، الذي يتمتع بسمات القوة والجمال والسرعة والفزعة عند الحاجة وحسن الرفقة في السفر.

وكثر إنتاج السيارات التي تناسب الإنسان اجتماعياً واقتصادياً، واستطاع كثير منها أن تملأ الفراغ الكبير الذي تركته شركات سيارات الفرت والجمس والجيب والشفر والدوج، بعد أن شغلته في خمسينيات القرن الماضي، وتحولت من النقل العام الذي كان يحاكي حملات القوافل إلى النقل الخاص الذي يحقق الفردانية والرفاهية والخصوصية.

التقيت في الرياض بأحد الباحثين الأوروبيين المتخصص في دراسات الشباب السعودي، وقد كان مكلفاً من شركة أمريكية متخصصة في صنع السيارات، وطلبت منه معرفة أسباب زيادة إقبال الشباب السعودي على سيارات جمس الحوض في السعودية، على الرغم من انخفاضها خارج السعودية، وسألته: ألا يمكن معرفة ذلك من الوكيل والموزعين؟ فقال: إن رغبة الشركة أن أعيش أياماً مع ملاّك هذه السيارة والتعرف على المزاج الشعبي حولها واستخداماتها، وقد رتب فعلاً لقضاء أيام في بعض محافظات منطقة الرياض والتنقل مع الشباب ممن يملكون هذه السيارة.

ختام

لم تحظ السيارات بالدراسات التاريخية والاجتماعية الكافية، مع أنها موضوع ثري للتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا، ومن المهم تكثيف الدراسات حول رؤية الإنسان للسيارات وتطورها والصورة الذهنية لبعض أنواع السيارات، والعوائد الاجتماعية على ملاكها، وعلاقتها بهوية الدولة، في حالة الدول المصنعة للسيارات، وعلى المجتمع والأفراد، لانغراسها في الذاكرة الشعبية والتصاقها بالإنسان وقدرتها على التكيف مع ظروفه في الصحراء وفي المدينة، وتوسع مجالاتها من الخدمة إلى المفاخرة والوجاهة الاجتماعية، والرفاهية، وكونها سلعة اقتصادية، ولها تأثير كبير في إنتاج الأدب الشعبي الجديد.

[1]  خيري حماد، عبدالله فيلبي: قطعة من تاريخ العرب الحديث، بيروت: المكتب التجاري للطباعة، ط 1، 1961، ص 265 وما بعده، يلحظ نقص المعلومات وتضاربها في أدبيات تاريخ الاقتصاد وسوق الأسهم السعودي، بما في ذلك المعلومات الصادرة عن هيئة السوق المالية التي تكتفي في نشراتها بالإشارة إلى اسم الشركة وتاريخ تأسيسها بعيارة “تأسست اول شركة مساهمة سعودية في عام 1934، وهي الشركة العربية للسيارات”، وكلاهما خطأ.

[2]  Paul Reed Baltimore, From the Camel to the Cadillac: Automobility, Consumption, and the U.S.-Saudi Special, PhD thesis, UNIVERSITY OF CALIFORNIA Santa Barbara, 2014, pp. 69: 71.

 

[3] خيري حماد، عبدالله فيلبي قطعة من تاريخ العرب الحديث، بيروت: منشورات المكتب التجاري للطباعة، ط 1، 1961، ص 266

[4] خيري حماد، عبدالله فيلبي، مرجع سابق، ص 269

[5] محمد بن سليمان اليوسفي، رواد الصحراء، الرياض: المؤلف، ط 1، 2007، ص 30

[6] محمد العبودي، معجم السفر والترحال عند العامة، ص 34، 201؛ كلمة يشدي: يشبه؛ وبديه: الشكل الخارجي للسيارة