د. الحبيب النّهدي
تقديم عام :
يستعمل العنف وفق مفاهيم مختلفة مما أدى إلى ظهور جدل حول ما يميّز المشروع من اللامشروع. ونظرا لكونه بدأ يكتسح الحياة اليومية في مختلف مظاهرها الأكثر تعقيدا والتباسا فإنّ الدراسات الكميّة والإحصائية[1] التي تركّز في معرفة النسب والمتغيّرات (الجنس،السنّ،الجهة….) على أهميتها في حصرها وضبطها فإنّها تبقى غير قادرة على فهم الأسباب العميقة للعنف التي تختفي وراء بنى لاواعيّة عرفتها البشريّة منذ وجودها وهي تغذيها الأساطير والمعتقدات والرموز أي أنّها مرتبطة بالمخيال الجماعي اللاواعي. ولفهم ذلك يمكننا أن نستعين بالمقاربة الظواهرية لمكانتها إذ‘‘طرحت المسألة من منظور جديد ثري بمعطياته وآفاقه.” وتنطلق هذه المقاربة من ‘‘دراسة التجربة الذاتية للإنسان في تفاعله العلائقي مع الآخرين فالعنف كغيره من أشكال السلوك هو نتاج علائقي أو بأكثر دقة، نتاج مأزق علائقي”[2] أي دراسة مقاصد من ينتج عنه العنف وما يثير تساؤلنا أكثر من أي وقت مضى هو ما لاحظنا من مظاهر عنف ذات أسباب لامرئيّة[3] (قتل فتاة من قبل المشعوذ لأنّه أراد استخراج الجنّ من جسدها، قتل صبيّة لاستعمال أعضائها في استخراج كنز، قتل من أجل الثأر لأنّه دنس شرف العائلة، حسد العين يؤدي إلى القتل..القتل الرحيم لإيقاف ألم لا يرجى شفاؤه) وغيرها من العبارات التي يعود بعضها إلى ماض بعيد مترسب في المخيال الجماعي[4] كان قد أشار ابن خلدون إلى البعض منه في مقدمته[5]. فإلى أي مدى يقتصر العنف على الأسباب الموضوعيّة المنظورة؟ هذا السؤال هو المنطلق لإشكالية ذلك أنّه كلّما تراجع العنف المعيش المؤسس[6] violence fondatrice (أي العنف المباح كان أسطوريا بداية أو قانونا وشرعيّا لاحقا) أدى ذلك إلى تضخيم العنف اللامشروع بحيث يتحوّل إلى نمط حياة عام لدى شرائح أوسع في المجتمع. كما أنّه كلما لم يتم استيعاب مفاهيم الحداثة في سلوك الأفراد ومواقفهم يؤدي ذلك إلى استحضار مفاهيم مغمورة في المخيال الجماعي اللاواعي ويسود العنف الفوضوي السلبي.
في تحديد معاني العنف:
من خلال متابعتنا لبعض الدراسات المتعلقة بالعنف لاحظنا أنّه من المفاهيم الأكثر التباسا في الفهم وينطوي على مفارقات مما يعني أنّنا في حاجة ماسّة إلى ضبط جهاز مفاهيميّ فهو أساس كلّ عمل موضوعي. فالمتعارف عليه -بصفة مباشرة- يتمثّل في أن العنف يمارس جسدّيا على الشخص، فهو ممارسة القوّة ضد الغير وهذا العنف يتغيّر حسب المرجعيّة القيميّة والتاريخية والثقافيّة لكلّ مجتمع. وقد لا تستعمل عبارة العنف في حدّ ذاتها وإنّما يقع التعبير عنها بعبارات مثل (القتل، الحرب، القصاص، الاستشهاد، الإرهاب، المقاومة، التضحية، العدوانيّة، الثورة.) ومن خلال ذلك نستنتج أن الهويّة هي التي تحدّد عنفها الخاص: العنف الشرعي والعنف اللاشرعي. وهذا المعطى يمثل مدخلا منهجيا ضروريا ذلك أن كلّ هويّة تدافع عن مشروعيتها أمام هويات أخرى.
في مقاربته النفسية والاجتماعيّة يرى اريك فروم أن فهم أشكال العنف الأقل مرضا هو الذي يساعدنا على فهم ‘‘الأشكال المرضية الشديدة والخبيثة لنزعة التدمير. ونستطيع أن نفرق بين الأنواع المختلفة من العنف على أساس التفرقة بين دوافعها في اللاوعي. ففهم آليات السلوك في اللاوعي هو فقط الذي يسمح لنا بفهم السلوك نفسه وجذوره ومجراه والطاقة التي تحركه”[7] ومن بين هذه الأشكال الطبيعية للعنف يمكن أن نذكر:
العنف أثناء اللعب: فهو يساعدنا على إظهار مهارات لا تهدف للتدمير فتلك الألعاب ‘‘تساهم عموما في التّحكم في الذات وفي تنمية القدرة على الإبداع والخيال. وبهذه الصفة نخفض من شغف الأطفال وعدوانيتهم وتدعّم رضاءهم عن أنفسهم”[8]
العنف الذي يقوم على الخوف وهذا ‘‘النوع من العنف يخدم الحياة لا الموت وهدفه الحماية لا التدمير”[9]
العنف ‘‘كردة فعل هو العنف الذي يتولد عن الإحباط”[10] ويكون في خدمة الحياة وليس لغرض التدمير وترافق تلك العدوانية التي تنشئ الحسد والغيرة.
العنف للانتقام والثأر هو نوع آخر من العنف كردة فعل ولكنه أكثر مرضا وتحليله يقوم على أساس لاعقلاني[11]
العنف بالسلب هو عنف مرتبط بتفاعل تصادمي بين البشر فيما بينهم وفيما بين الطبيعة وهو القضاء على الخصم (وهو الغاية تبرر الوسيلة).
المعنى الذي يتجسد من خلال التقابل بين نمطين من التفسير والتأويل عندما يكون ما أتاه الفرد لا يمثل بالنسبة إلى غيره ما قصده وليس لنا إلاّ أن نبحث عن الخلفية التي تحكم هذا التبادل بين مقاصد متضاربة ومختلفة بين شخصين وكأنّ الأمر ليس إلاّ تبادلا لمعان مختلفة في ردود الفعل والتفاعل بين البشر ويعمل أحد الطرفين على تدمير الغير وتحطيمه وليس هناك أي احترام لحقّ الاختلاف.
الاعتداء على الفرد سواء جسديا أو معنويا أو حتّى إلحاق الضرر بممتلكاته. مثل الانتهاك والتعدّي على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وقوانينه من خلال تفاعل سلبي بين أفراد المجتمع أو بين الدول.
اعتباره سلوكا يوميا يأتيه الفرد كما يمكن أن تأتيه المجموعات مثل الاغتصاب والقتل والكلام البذيء وعنف الملاعب وغيره…..
معنى يجد مبراراته في العنف الشرعي (أي القصاص) الذي تأتيه السلطة وتحتكره وتمارسه باسم القوانين وهو عقاب لمن يخرج عن سلطتها أو يمسّ بأمنها أو يمس بأمن مواطنيها داخليّا وخارجيّا.
العنف في هذه التعاريف متعدّد الأوجه ويمكن تصيف ذلك إلى مستوين المستوى الأول طبيعي لرمزيته والمستوى الثاني خطير وعشوائي لغايته العدمية.
مظاهر العنف المعيش في الحياة اليوميّة:
العنف المعيش Le vécu ملازم لليومي الذي يعيشه الإنسان في محيطه ووفق مرجعيّات مقدسة ودنيوية وما يتعامل معه من كائنات حيّة وغير حيّة، ومن غذاء وعمل ومعرفة، أي كلّ ما يحتاجه لقوام حياته وعمرانه. فهو يكتسبه بإرادته وفعله ليعطي معنى لوجوده: فلكي يؤمن حياته يلتجئ إلى استعمال ضرب من القوّة (العنف) ضدّ النبات (القلع)، وضد الحيوان (الذبح)[12] وضد الطبيعة (التحويل). بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك فالإنسان يمارس عنفه على الحيوان انطلاقا من فكرة التطيّر مثل اعتبار رؤية بعض الحيوانات نذير موت في المخيال الجماعي اللاواعي. فالكلب مثلا حينما ينبش الأرض يعتبره البعض نذير الموت و نعيق البوم نذير شؤم. ولم تقتصر ممارسة العنف على النبات والحيوان فحسب وإنّما شملت بعض الممارسات اليومية مثل تبادل الملح والغربال والخمير. فالمجتمع يكره الإعارة لبعض مواد الاستهلاك اليومي. فهل أن هذه الأفعال لا تستدعي منا تفكيرا؟ أليس في ذلك تأكيد على أن حياة الإنسان رهينة القتل والاقتلاع والحرق والأكل والتدمير؟
كما يتخذ العنف شكل العنف المديني violence urbaine الذي هو ظاهرة تتجلّى في التجمعات الكبرى وبالأخص في الأحياء المهمشة ـ لا سيما تلك التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة” أبطالها ‘‘بشكل رئيسي من شبان يتجولون ضمن جماعات ويمارسون مختلف أشكال العنف المنسوبة إليهم ضدّ النّظام العام وداخله”[13] ومن مظاهر هذا العنف عمليّات التخريب، والمواجهات مع قوات الأمن التي تتخذ أشكال التجارة غير المشروعة، وسرقة المتاجر. أمّا عن الأسباب فهناك من يعتبرها متمثلة في غياب رحابة الصدر وبالتالي لا بدّ من الحوار مع الشباب.
من خلال الملاحظة بالمشاركة نجد أن هؤلاء الشباب يستعملون عبارات عدوانية هي نفسها تمثل عنفا رمزيّا مثل ‘‘ فورتلو راسو” بمعنى أسلت الدم من رأسه ويتحاشى قول لقد أمته. وكما أن أثناء التعبير عن الحقد والنزاع في العلاقات البشرية يقول الفرد ‘‘نشربلو دمو”. كما نلاحظ استعمالات أخرى من الضروري الإشارة إليها هنا وهي الاستعمالات التي تكون نتيجة نظرة خاصة للموت بحيث نجد في بعض الأحيان في هذه التعبيرات معان فيها نزعة لأكل لحم الإنسان وذلك من خلال التعابير التالية ‘‘والله ناكلك لو ما تقولش الحق” أي ‘‘والله أكلك إذا لم تقل الحق” أو ‘‘نشويلك لحمك وناكلوا” لهذا فإنه عندما يثور أحدهم ‘‘حقدا على رجل آخر ويقسم بأغلظ الإيمان أنه عندما يراه سوف يشرب من دمه يعتبر كلامه هذا نوعا من المبالغة التي لا تعبر تماما على نية صاحبها. ولكن بعض الشعوب كما يبدو تعتبر أن التفوه بمثل هذه الكلمات يوجب على صاحبها الالتزام بها لأنها غدت بالنسبة إليه نذرا لا بدّ من تنفيذه”[14]
وإن سعى علم الاجتماع في هذا المثال للربط بين العنف والتمدّن فإنّ الانتربولوجيين يرون أن ‘‘ثقافة الشارع لا تقتصر فقط على تداول العنف بل تحمل أيضا نظرة أقرب إلى الإيجابية عن العنف الجسدي” فمن يمارس العنف يريد أن يشعر غيره أنّه يتمتع بجسد قويّ ويتمتع بحماية عضلاته المفتولة، (مثل كمال الأجسام الوشم على الزناد….كما أنّه غالبا ما يتخذ العنف طابع التسلية في التصرفات العنيفة أي أن استخدام العنف يتخذ طابعا ثقافيا تنتجه قيم وأنماط للسلوك وليس تعبيرا عن ‘‘الكره” يمارسه ‘‘شاب في أسفل التراتبية الاجتماعية ومن أصل أجنبي في آن معا، أي خاضع لثلاثة أطراف إذ غالبا ما يعتبر ‘‘الأجنبي” في هذا السياق شخص مختلف ‘‘اثنيا” أحيانا تدخل الرياضة هنا باعتبارها ملطفا بحيث تحوّل استخدام القوّة البدنيّة نحو التحكّم في الذات دون أن نتوقع بالمقابل اضمحلال ظاهرة ‘‘مرئية” أكثر فأكثر على الصعيد الاجتماعي”[15]
كنا نجد فضاءات غير مسموح فيها بممارسة العنف نظرا لقدسيتها مثل مقام الأولياء الصالحين والمقابر ولكنها تحوّلت إلى فضاء لتمظهر العنف. فقد أصبحت المقبرة تمثل فضاء خطيرا يجد فيه الشباب متنفسّا بعيدا عن أعين المراقبين لتحقيق رغبات مثل شرب الخمر والتسلية ولعب القمار وممارسة الرذيلة فكانت مسرحا لارتكاب جرائم خطيرة. فهل تستطيع القرارات القانونية للمقابر التقليص من هامشيتها حتى لا نقول القضاء عليها نهائيّا؟ وهل جاءت هذه القوانين للقضاء على مظهر الهامشية أم حاولت تأطير المقابر فأصبحت تمثّل خطرا على الفضاءات المعدّة للسكن؟ أو دمج المقابر بالسياسة المالية للدولة فتتحوّل المقبرة نفسها مصدرا من مصادر دعم ميزانية البلديّة؟ فهل هذا القانون مجرد وسيلة لتنظيم المقابر؟ أم أن الجرائم كثرت إلى اكتساحتها المقابر؟
لم تلق حظها من الدراسة العلميّة ما تسعى وسائل الإعلام إلى تضخيمها من أسباب لتحديد آليات اشتغال المخيال الجماعي في تدعيم العنف الرمزي. والأخطر من كلّ ذلك تأثيرها في نفسية المتلقي فتنقل له أفلام العنف وضحايا المجازر الجماعيّة وهو يتلقى ذلك دون تفاعليّة رمزيّة مما يولد لديه سلوكا عدوانيّا خطيرا في فعله اليوم.‘‘ففتنة الموت الكبير تطفو بصورة غامضة تحت انبثاق العنف ويضاف إلى انتشار ضروب العنف الخيالية إبراز ضروب العنف التي تنفجر في أطراف الحياة اليومية على صورة حوادث وجرائم فالصحافة الثقافية الجماهيرية تفتح أعمدتها للوقائع الممنوعة أي للأحداث الطارئة التي تبررها إلاّ قيمتها الانفعالية”[16] فتستهلك جرائم العنف والقتل والاختطاف والاغتصاب وكأن الطبيعة الحقيقية للإنسان هي العنف و‘‘من خلال عالم الجريمة يعيد القارئ اكتشاف أقل أحلامه شعورية في حالتها المعيشة والمتحققة ….وهكذا فإنّ كبار المجرمين هم أكباش فداء الجماعة”[17] وأمام حوادث العنف والإجرام نجد عبارة ‘‘اللطف” أو ‘‘الله تلطف بنا”وكأن المرء ليس له عودة إلى الظروف الموضوعية وإنّما إلى المصير البشري المحاط بكلّ أنواع العنف.
بعض مظاهر العنف اللامرئي:
لئن كان العنف الجسدي يمكن إدراكه بيسر والمشرع القانوني تعامل معه بوضوح إلاّ أنّه لم يعتمد على المقاييس الدقيقة والعميقة والتي تتعلّق بالأبعاد الرمزيّة واللامرئيّة فكثيرا ما يتم التغافل عنه لأنّه لا يقبل إلاّ ما هو موضوعي أي ما يمكن معاينته وكشفه كما لا يقرّ باعتباره منشأ خرافيا أو ميتافيزيقيا لأنّه من المسائل التي لا يقدر على إثباتها رغم أن المجتمعات التقليديّة كان لها جهازها الرمزي والمؤهلات التي تساعدها على التعامل مع هذه الظواهر الماورائية. ورغم استمرار اشتغال الجهاز المفاهيمي الماورائي واعتماد وسائل الإعلام عليه في تفسير بعض أحداث العنف التي تتجلّى في مجتمعنا فإن البحوث كثيرا ما تتغاضى عنه خاصة إذ حكمت منهجيتها صفة الموضوعيّة التي لا تعطي أهميّة إلاّ لما هو محسوس ماديّ وتستبعد كلّ التصورات والتمثلات والذهنيات والمخيال الذي له حضور متأكد فمعظم حالات العنف تُبنى على معرفة تجريدية، على موروث ذهني جاهز، قوالب مصمَّمة عن الآخرين: الوثن الذهني، بكل أوالياته ومفاعلات ارتباطه، يحلّ أو يقترن بالوثن المادي”[18]. فالعقلانيّة السحريّة هي التي ‘‘تجعل الفرد يفترض، بصورة لاشعورية، إن ذاته والواقع يخضعان لقوى غير التي يمكنه أن يعيشها بالتجربة المباشرة، بمعنى أن هناك في التجربة العادية عنصرا خارج التجربة المباشرة يتخطى العقل”[19]
عنف يعود إلى أسباب غير منظورة أي لا مرئيّة مازال له حضور في الذهنيّات التي تدفع الأفراد دون وعي منهم بل بدافع هذا العنف الرمزي ذلك أن العامل اللاعقلاني الذي يسهل مواجهة الواقع ويجعله مقبولا يقحم نفسه بشكل من الأشكال في مختلف أنواع التبرير، ولذا فلا عجب، في أيام الشدة. أن تكون هناك نزعة إلى إيجاد تفسيرات تتخطى المعطيات المباشرة وتصبح هذه النزعة ضرورة نفسية ماسة”[20]
نقصد بتلك آليات العنف التي تشرعه وتبرره:
قانون الثأر: عادة الثأر للقتيل معروفة عند الأعراب قديما، فإنّهم يزعمون أنّ روح القتيل تبقى حيال قبره صارخة طالبة ثأره حتى يقوم أحد أقارب القتيل بقتل قاتله فتهدأ وتختفي. هنا نجد الربط بين فكرة الانتقام التي تسلّطها القوى الخفيّة المتمثلة في ‘‘العبيثة” التي ليس لها وجود فعلي إلاّ في المتخيّل الجماعي وبين فكرة الثأر ضرورية ذلك أنّ هذا الانتقام يؤدي إلى فرض احترام الروح البشرية والمحافظة على توازن المجتمع وتحقيق أمن أفراده فقدرة هذا التفسير هو فرض قانون ذو طبيعة ماورائية. كما تتواصل بعض فهذه المعتقدات القديمة ترى أنّ الميت المنسيّ أو الذي مات مقتولا يهدّد دوما راحة الأحياء وقد يأتيهم في شكل أشباح في الحلم ويدخل اضطرابا على حياتهم وتتواصل ما دام لم تأت قوّة أخرى بقداستها لتثأر للقتيل. ذلك أن الثقافة التقليدية ترى أنّ الميت اللامرئي يجاور الأحياء المرئيين. ولكن الملاحظ أن الثأر كان يعبّر عن استقلالية القبائل وخروجها عن إرادة السلطة لهذا فإنّ إقرار شخصية العقوبة خاصة في الفصل الثالث عشر من الدستور التونسي[21] يمثّل تصديّا إلى ذلك لأنّ الفرد لم يعد ينتمي إلى القبيلة بل ينتمي إلى دولة تنظم العقوبات وفق القوانين عوضا عن الثأر بحيث لا تتمّ إلاّ معاقبة صاحب الجريمة . وما تنفكّ وسائل الإعلام تحاول أن تؤكّد قانون الثأر وتجعل صاحبه كأنّه استرجع حقّه ونادرا ما تؤكد شخصيّة العقوبة وفي ذلك مشروعيّة لتجاوز القانون وممارسة الثأر.
القتل بالعين والسحر: وهو ما ذكره ابن خلدون في كتابه المقدمة إذ قال ومن ‘‘قبيل هذه التأثيرات النّفسانيّة الإصابة بالعين” وبين أن القاتل بالسّحر أو بالكرامة يقتل، والقاتل بالعين لا يقتل وما ذلك إلاّ أنّه ليس مما يريده ويقصده أو يتركه، وإنّما هو مجبور في صدوره عنه”[22]‘‘ وليس كما نرى مجرد الموقف عبر عنه ابن خلدون وإنّما لأنّه يرى أنّه موضوع يشغل المجتمع كما أن قام به مرسال موس في محاولته حول ‘‘الإيحاء الجماعي حول الموت” حيث يستحق النظر فلقد توصل إلى أنّ هناك الالتقاء ما هو فيزيولوجي مع ما هو اجتماعي بحيث أنّ كلّ مجتمع يفرض على الفرد استعمالا محدّدا لتصوّر الموت من خلال ‘‘توسّط تربية الحاجيات والنشاطات التي تطبع بها البنية الاجتماعية بصماتها على الأفراد” أي ‘‘بمعنى الانعكاس الاجتماعي على الفرد، وتمثل قضية الاندماج الثقافي عبر الموت آلية ينمط بها المجتمع الأفراد بحسب صورته”. يمكن أن نذكر الذين ‘‘قضوا نحبهم ضحية العشق والحب والوجد”[23] هناك من مات من خشيته من النار فحبس نفسه في البيت حتى مات كما ‘‘يقال على ألسنة العامة من أن فلانا مات من الغيظ أو مات من الحسرة أو مات كمدا”[24] كما أن ‘‘الحزن والخوف المكدّر للحياة”[25] يؤدي إلى الموت . كما كان ‘‘العرب يربطون في لغتهم بين الموت والمعصية….المعصية ترتبط ارتباطا وثيقا بالموت”
البحث عن الكنوز الذي تقضي تقديم قربان وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك فكتب ‘‘اعلم أنّ كثيرا من ضعفاء العقول في الأمصار، يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض، ويبتغون الكسب من ذلك. ويعتقدون أنّ أموال الأمم السالفة مختزنة تحت الأرض، مختوم عليها بطلاسم سحريّة ، لا يفضّ ختامها ذلك ‘‘إلاّ من عثر على علمه، واستحضر ما يحلّه من البخور والدّعاء والقربان”[26]
قتل المريض من أجل الرحمة: Euthanasie اعتمد هذا المصطلح Francis Bacon سنة 1605 وهو رئيس القضاء في انقلترا ‘‘يقصد به حق الطبّ في تلطيف ألم من هو على مشارف الموت بطريقة تضمن له نهاية سالمة و‘‘موت حسن””[27] ولكنه اعتبر في القرن التاسع عشر خارقا لحقّ الإنسان في الحياة، لذلك كان لا بدّ من وضع تشريع ينظمه إمّا بالمنع أو بالقبول. ولقد طرحت هذه القضيّة في الغرب وبلغ صداها تونس من خلال وسائل الإعلام وإن كانت أقلّ حدّة من مسألة زرع الأعضاء. ف‘‘المسألة هي أن إنسانا ما قد يختار الموت ويقدم عليه وهذا انتحار وإنسان آخر مريض معذب يتوق إلى الموت ولكنه لا يمكن تنفيذه. ويحمل الأول أعذاره معه دون اكتراث بالآخرين ويحمل الثاني أعذاره الجليّة وهي : الألم والمرض العضال ويكترث بالأحياء بل يرجوهم أن يساعدوه على تخليصه من الحياة فلا يجرؤ أحد على ذلك”[28]. ويعاقب القانون كلّ من يقدم على قتل غيره رحمة به حتّى ولو كان طبيبا. والإسلام يحرم قتل النفس ومهما كانت الأسباب للقضاء على الآخر بالموت لأنّ إعطاء الموت للآخر مهما كان السياق الذي يوضع فيه يبقى من الممنوع المطلق”[29]. فتشخيص الموت من أصعب المهام التي يتكفّل بها الطبيب، كما أنّ ردود فعل المجتمع التونسي لا يمكن إثباتها إلاّ عبر الدراسات وسبر الآراء. ولكن نلاحظ أن المرجعيّة الإسلامية تجعل التونسي لا يرى الموت إلاّ شأنا إلاهيّا والذي يمارس القتل شفقة هو تدخل في إرادة الله[30].
نحو ثقافة مقاومة العنف:
نؤكد في دراستنا فكرة أساسية ومحوريّة وهي أنّه سجل تراجع في تعامل الإنسان مع مظهر من مظاهر تقمص أدوار العنف المشروع أي العنف الرمزي الذي يساعد الإنسان على تمثّل صورة العنف مما يرسّخ لديه عدم إمكانية استعمال ذلك ضدّ البشر. من الأسئلة التي توصلنا إليها هي: هل يمكن أن نلغي الحرب والاستشهاد والتضحية من أجل مقاومة العنف ؟ ولكي نلغي العنف هل علينا أن نجرم الإعدام ونلغيه؟ ولكي نقتلع العنف علينا أن نرفض أشكالا من الطقوس المكوّنة لجزء من هويّة المجتمع مثل الختان والأضحيّة في العيد لأنّ -حسب مرجعيات الثقافات الأخرى- يعتبر ذلك شكلا من أشكال العنف والقسوة والبربريّة باسم حقوق الإنسان وحقوق الحيوان؟.
فإذا كان فضّ البكارة في المنظومة التقليدية يعبر على انتصار الشرف والرجولة فإنّه مقابل ذلك يعتبر في المدنيّة كبت وساديّة ووحشيّة وغياب الثقافة الجنسية تجعل الأنثى موضع لذّة الرجل.
وإذا كان الثأر قانونا اجتماعيا للقصاص من المجرم أصبحت العقوبة شخصيّة فلا يحقّ بأي حال من الأحوال الثأر.
وإذا كان الختان يمثل طقسا من طقوس العبور طريقة متبعة من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة فأصبح في الثقافة المدنيّة جرح للنرجسية الذاتية. وهذه المسألة تطرح بأكثر حدّة في المجتمعات التي حافظت على ختان الإناث.‘‘فما يعتبره المسلمون واليهود وغيرهم سلوكا سلميّا (الختان مثلا) يرتبط بمعتقدات وعادات ومعايير يتقاسمها كلّ أفراد المجموعة أو على الأقل الأغلبية السّاحقة منها، إذ بإمكان الآخر الغريب عن هذه المجموعة اعتبارها سلوكات عدوانية في منتهى الشراسة والحدّة”[31]
وإذا كان الإعدام قصاص من القاتل فأنّه أصبح مسّ من الحرمة الجسديّة للإنسان وتأسست جمعيات تعمل ضدّ إلغائه[32]
الإقصاء الممارس ضد المرتدين والشواذ والمرضى بأمراض يعتقد أنّها ذات منشأ الخطيئة بينما نجد اليوم اهتماما بهذه الفئات ومحاولة مساعدتها على تجاوز أمراضها ولا يعاملها المجتمع بموقف عقائديّ.
لم يكن من الممكن وضع حدّ لحياة الإنسان حتّى وهو يحتضر فهناك أصوات الآن في الغرب تنادي بضرورة ممارسة القتل الرحيم لمن يعاني من آلام لا يرجى منها شفاء فهل يستجيب المجتمع التونسي اليوم لهذا النداء؟.
تراجع خطير لاحترام الذات البشريّة والجسدية فقد أصبح السكين رمزا لكل عنف خطير. والمعروف أن السكين هي رمز للأضحية وبه يسال الدم في الفضاء المنزلي. كان المجتمع يبحث دوما عن كبش فداء تحترم من خلاله الذات البشريّة (الكبش الذي أفدى به إسماعيل وحتّى لو كان من البشر أيضا مثل (الفتاة التي تلقى في النيل). ولكن العنف اليوم أصبح يرى حريّة الإنسان في أن يفعل ما يريد وجرائم العنف والقتل تقدّم في وسائل الإعلام على أساس أنّها تثير رغبات الناس في التمتع بمثل هذه الأحداث (ساديّة، ماسوشية). كما نرى البعض يبرر هذا العنف من تعابير عامية مثل ‘‘أش تحبو يعمل بطال، عندو حقّ مسكين”.
كلّ هذه المفارقات التي تحكم المنظومة التقليديّة والمنظومة المدنية تحتاج منا الفهم والتقصي حتّى نصل في نهاية التحليل إلى تدقيق المفاهيم بحسب تنوّع المرجعيّات. ويظلّ العنف محيّرا يثير فينا أسئلة تبحث عن أجوبة أي عن معنى له في أدّق تفاصيل الحياة اليوميّة. وتبعا لذلك ما أحوجنا إلى التساؤل: هل أن نفي العنف بصفة نهائيّة يؤدي بنا إلى إلغاء كلّ أشكال التضحية في المجتمع ومؤسسة العسكر والأمن وكلّ وسائل الضغط الشرعي؟ وهنا تبرز المفارقات التي لا يمكن تخطيها إلاّ إذا تعامل المجتمع مع مفهوم العنف في معناه الواسع وإعادة تأسيسه من جديد متجاوزا الفوضى. فالعنف اليوم يتجلّى في كلّ مكان: في الأسرة، في المدرسة، في المجتمع. وأصبحت الظاهرة تطرح رهانا على الباحث الاجتماعي لوضعها محلّ دراسة.
نعتقد أن الحلّ يكمن في تثمين دور الألعاب الرمزيّة في امتصاص العدوانيّة والعنف مثل: (تقمص أدوار البطولة، التركيز في نماذج من الشخصيات التاريخيّة التي عرفت بإلهامها في نبذ العنف في كلّ أشكاله. والتنشئة على إدماج المقدّس في الحياة العامة والتعامل المباشر مع مختلف ما هو رمزي في التضحية، في الصيد، في التعامل المباشر مع الأعمال اليوميّة مثل: (ذبح دجاجة، رؤية مشهد الأضحية، تمتين الروابط الاجتماعيّة من خلال الاحتفال)[33] كما نؤكد أن العنف الأخطر هو الذي يؤسس على أسباب غير منظورة ولامرئية ولا بدّ أن نهيء أنفسنا للتعامل معه بطريقة ثقافية رمزيّة تعيد تشكيل المخيال الجماعي وتخلصه من مظاهر العنف. وذلك بما يقابله من مفاهيم مدنيّة. فالعنف اليوم لا تتحكم فيه الحدود بل يتخذ بعدا عالميا يجد رواجا إعلاميا مؤثرا.
كما لا بدّ من مساحات حرّة يصرّف فيها الإنسان عنفه المستبطن مثل (المسرح، ممارسة الطقوس الجماعيّة الاستعراضية والألعاب الشعبيّة) ومن ثمة فالتفاعليّة الرمزيّة تلعب دورا محوريا وأساسيا في سياقات العنف المؤسس فهو يدرج العمليّة في آليات دافعيّة تحوّل العنف ضدّ البشر إلى موضوع خارج عن البشر. ولعلّ نشر الثقافة المدنيّة والتجذير في الفكر والسلوك هو وسيلة ضامنة لمقاومة كلّ أشكال العنف مثل مفهوم شخصيّة العقوبة ـ الحرمة الجسديّة ـ الحريّة والمسؤوليّة ـ ثقافة الأمن فلعلها تكون وسائل نستطيع بفضلها مقاومة العنف. هذه المنظومة القيمية والرمزيّة تمثل بيداغوجيا جيّدة في سبيل ردع الإنسان ليؤدي الأفعال العنيفة[34] فهي بالتالي تكوّن وعيه وتشكلّ فاعليّة رمزيّة تنصهر في مختلف ممارساته اليوميّة لذلك فكلما ابتعد الإنسان عن هذا النسق الرمزي التفاعلي في محيطه إلاّ تفشى العنف في أقصى معانيه من غير رادع ولا ضمير.
خاتمة:
عندما أردنا أن ندرس العنف لم يكن في وسعنا أن نتوقع هذا التعقيد لفهم هذه الظاهرة بكل متناقضاتها وأبعادها التي تتجسد في كلّ تفاصيل حياتنا اليوميّة فواجهنا صعوبات جمة في تقديم مقاربة قد يعجز هذا البحث المتواضع على أن يغامر من غير الصرامة المنهجيّة. ولهذا تبيننا منذ الوهلة الأولى أنّه ليست كلّ أشكال العنف واحدة بل العنف متعدّد حسب السياقات والمضامين والأهداف. فهو ملازم للوجود الإنساني وقد يتحوّل لدى البعض إلى نمط حياة. فنرى أنّه يتوزع اليوم على مساحات أكثر حميمية في المجتمع بين تداخل الحريّة الفرديّة والفضاء العمومي المشترك وباسم الحريّة الفرديّة أصبح الفرد يقترف ما يشبع عدوانيته. فهل يمكن إذن أن نتحدّث عن العنف الملازم لنمط الحياة العام؟ ولماذا مازلنا نجد الفرد أحيانا يتخفى وراء تقمص مظاهر الحضارة وهو ‘‘لا يستطيع أن يتخلص من بعض بقايا القيم البدويّة المتغلغلة في أغوار عقله الباطن”[35] وهل يمكن اليوم أن نبرر الموت الرحيم ونتجاوز اعتباره عنفا وقتلا؟ وهل نفصل فقط بمجرد القول بقانونيّة المسألة حتّى نطوي صفحة الموضوع أم أن الأمر يظلّ أعمق بكثير؟ هل من الممكن أن نؤسس تربية على ثقافة التسامح أو اللاعنف؟ وهو ما يستوجب منا الوسائل التي تحقق هذه الغاية والتي يرى البعض أنّها تحتاج إلى وجود شخصيّة ملهمة مثلما هو الشأن لدى غاندي وعلى المربين أن يقبلوا العنف المسلط عليهم بالتسامح. فأي أرضيّة يمكن أن تعبر عن حاجتنا إلى اللاعنف؟ وكيف السبيل لتربية المخيال الجماعي وتخليصه من مفاهيم لا تتماشى والقوانين وقيم الحداثة؟ .
هوامش:
[1] بوبر (كارل): بؤس الايدولوجيا نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي ترجمة عبد الحميد صبرة دار الساقي الطبعة الأولى 1992 ‘‘
[2] حجازي (مصطفى) : التخلّف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور الدراسات الإنسانية علم النفس معهد الإنماء العربي لبنان الطبعة 1 1976 ص: 293
[3] راجع في هذا الصدد عبد الوهاب بوحديبة: القصد في الغيرية : بحث حول التجارب العربية الإسلامية. الوسيطي للنشر تونس 2001 خاصة في النوع الثاني من الغيريّة التي أشار إليها فهو ‘‘يخصّ العلاقات بالغيب” صص: 41 ـ 45 ‘‘يقتضي الاعتقاد الشائع المستمدّ من العقيدة الإسلامية أنّ عالم ‘‘الملائكة” تسكنه كائنات أخرى غير البشر. ولئن كنّا لا نرى عادة الجنّ والملائكة -إلاّ في حالات استثنائيّة- فإنّ علاقات قد تكون إيجابية أو سلبيّة تربط بهذه المخلوقات التي تسمّى في البلدان المغاربيّة ‘‘الناس الأخرى” وتعيش معنا وحولنا، بل تداخلها. ويمكن لها أن تقدم لنا يد المساعدة بصفة خفيّة وأمينة، كما يمكن أن تغدق علينا النّعم أو تصيبنا -بالعكس- بأنواع من الأذى” وقد أبرز بوحديبة في كتابه الجنسانيّة في الإسلام ‘‘الأهميّة النفسانيّة لهذا المعتقد في وجود تلك المخلوقات وفي إمكانيّة التعامل معها حتّى على مستوى العلاقات الجنسية، كما يقرّ بذلك مبدئيّا الفقه الإسلامي إلاّ أنّه لا يعترف به” ويضيف ‘‘ومن شأن الألفة مع ‘‘الناس الأخرى” ألاّ يكون العالم خاويا أو صامتا أبدا، إلى حدّ أن القانون الإسلامي قنّن علاقاتنا بهؤلاء الناس، وأضفت عليهم العقيدة الإسلاميّة طابع الشرعيّة لمّا أدخلت ضمن أركان الإيمان التصديق بوجودهم. وعلى كلّ، فقد أثر هذا المعتقد المعيش في لاشعورنا الجماعيّ وأكسب الغيريّة بعدا بقي غالبا مطموسا. فالظاهر والخفيّ يتداولان أو تترافقان بل يتنازعان الواقع اليومي لعامة النّاس وبسطائهم” صص: 41-42 ‘‘‘‘إنّ هذا النوع الثاني من الغيريّة تأسيس في جوهره، لعلاقة نفسانيّة وحتى جسمانية مع الغيب” ص: 45
[4] ‘‘ليست من مكتسبات الفرد، بل هي مدينة بوجودها حصرا للوارثة. وبينما يتألف معظم الخافية الشخصية من عقد complexes تتألف محتويات الخافية الجامعة من نماذج بدْئية archétype يشير مفهوم النموذج البدئي، وهو معادل لا غنى عنه لفكرة الخافية الجامعة، إلى أشكال محددة من النفس تبدو ماثلة في مكان وزمان، يسميها البحث الميثولوجي ‘‘محاور” motifs وتنطبق في سيكولوجية البدائيين على مفهوم ليفي برول عن ‘‘الصور” الجمعية représentations collectives وفي مقارنة الأديان يعرّفها هوبرت وموس ب ‘‘مقولات التخيل” catégories de la imagination ومنذ زمن بعيد سمّاها أدولف باستيان ب ‘‘الأفكار الابتدائية أو البدئية” من هذه الالماعات يتضح تماما أن فكرتي عن النموذج البدْئي – حرفيا شكل سابق الوجود- لا تقف وحدها، بل هي تعرّف عليه.” انظر يونغ: البنية النفسية عند الانسان ترجمة نهاد خياطة الطبعة الأولى دار الحوار للنشر والتوزيع سورية 1997 ص:77-78
[5] ابن خلدون: المقدمة مكتبة ودار المدينة المنورة للنشر والتوزيع الدار التونسية للنشر 1984 الجزء 1 ص 398 الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر الجزء الثاني ص 464 في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي وغيرها من المواضيع الأخرى المتفرقة على كامل المقدمة
[6] حسب René Girard الرغبة في التشبه بالآخر وتقليده تفتح عالما من العنف والأخذ بالثأر ‘‘عالما لا يمكن الخروج منه إلاّ بتحويل العنف إلى ضحية قربانية Victime sacrificielle انظر قيصر الجليدي: العنف المطلق والتاريخي (خطاب المقدس والمدنس) كتابات معاصرة عدد 30 ص: 36
[7] فروم (اريك): قلب الإنسان ترجمة خالد الشلقاني دار الثقافة الجديدة 1992 ص: 21
[8] محجوب (عبد الوهّاب): السّلوك العدواني نقله إلى العربيّة نور الدّين كريديس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ‘‘بيت الحكمة” 2001 ص: 116
[9] فروم (اريك): مرجع سبق ذكره ص: 22
[10] المرجع نفسه ص:24
[11] المرجع نفسه 25
[12] فعنف الإنسان ضد الحيوان يتجلى في اصطاده لتلبية حاجياته وفق جملة من الطقوس والأدعية لهذا نجد أن النحر يخضع إلى شروط وهي النيّة والبسملة ليستباح أكله وفي غياب ذلك يعدّ لحمه نجسا يحرّم استغلاله. فالنحر هو قتل وموت سخر للإنسان ليتغذّى ويعيش ويلامس عن قرب وبنفسه تمرّغ الضحيّة في دمائها ف‘‘الصيد والتضحية هما بوضوح نقطة تداخل الحياة والموت” كما أنّه إذا ماتت بقرة فإنّ مالكيها يحزنون عليها لما تخلفه لديهم من أزمة اقتصادية.
مما يعني وجود استئناس وألفة بين الإنسان والحيوان وبمجرد موته يخلف اللوعة والحزن في القلوب ويمكن أن يعزّى صاحبها ويتضامن معه. أمّا بخصوص علاقة الإنسان بالحيوان فهي علاقة تستدعي منه أن يوظّف الموت حتّى يستطيع الانتفاع به. ولكن يجب إخضاع ذلك إلى ممارسات طقوسيّة فلا يجوز أكله من غير بسملة أو ذكر الله حتّى لا يعتبر حراما. فصيد الحيوانات وقتلها يندرج ضمن بعد رمزي وديني. يمكن أن نشير إلى أن النحر لم يعدّ في المحيط العائلي وإنّما أصبح تتمّ في المسلخ البلدي بعيدا عن الأنظار.
[13] راجع بيار بونت، ميشال إيزار: معجم الأثنولوجيا والانتروبولوجيا ترجمة وأشراف مصباح الصمد المعهد العالي العربي للترجمة الجزائر مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت صص: 671
[14] راجع المدني (سليمان) : القرابين البشرية دار الأنوار دمشق بيروت 1996 ص : 134 راجع أيضا كتابه أكلة لحوم البشر عن مخطوطة لابن فضلان دار الأنوار دمشق بيروت 1995-1996
[15] المرجع نفسه ص 671 و 672
[16] موران (ادغار): روح الزمان الجزء الأول العصاب ترجمة انطون حمصي منشورات وزارة الثقافة دمشق 1995 ص: 126
[17] نفس المرجع السابق والصفحة
[18] خليل (خليل أحمد): سوسيولوجيا العنف مجلة الفكر المعاصر العدد 27 – 28 خريف 1983 العنف في الثقافة في المجتمع ص : 19
[19] شرابي (هشام): مقدمات لدراسة المجتمع العربي دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت الطبعة الرابعة 1991 ص : 56
[20] المرجع نفسه ص : 57
[21] الفصل 13 : ‘‘العقوبة شخصية ولا تكون إلاّ بمقتضى نص قانوني سابق الوضع” دستور الجمهوريّة التّونسيّة تعليق عبد العزيز الجزيري ومصطفى الوصيف تقديم الهادي بن مراد المطابع الموحدة تونس 2006 ص : 69
[22] ابن خلدون : المقدمة علوم السحر والطلّسمات مرجع سبق ذكره الجزء الثاني 1984 ص: 630
[23] راجع قبسي (حسن): المتن والهامش تمارين على الكتابة الناسوتيّة المركز الثقافي العربي الدار البضاء بيروت الطبعة 1 1997 ص : 11 في الاستماتة كيف نقرأ لمرسيل موس وكذلك نراجع ترجمة: في المفعول الذي تحدثه فكرة الموت لدى الفرد حين توحي بها الجماعة لمرسيل موسّ صص: 323 ـ 339 يرى مارسال موس أنّ هناك فعلا أحدثه المستوى الاجتماعي في المستوى الفيزيولوجي بواسطة المستوى النفسي. وهذه العملية تتمّ بطريقة غير واعية، وهي بذلك نابعة عن التنشئة التي يتلقاها الفرد من خلال التربية والعادات والتقاليد. ويظهر ذلك باعتباره إيحاء مستمرا وثابت دون أن تتغيّر الأشكال، ولكن يمكن للنتائج أن تكون مختلفة فسيتدخل الفعل العنيف والإرادة في الموت مع إضافة عنصر التأثير الاجتماعي في الفيزيولوجي يعود إلى سبب نفسي أي أن الشخص يقضي على نفسه بفعل لاشعوري، وهذا العنف يتمثل في الموت المفاجئ فهؤلاء الأفراد يعتقدون أنهم سوف يموتون فيموتون بما فيها في ذلك من إلزام. ولهذا يصبح الموت ليس نتيجة مرض بل له أسباب جماعية معينة. وهذه الحالة تقترن عامة بقطيعة اجتماعية إمّا بالسحر أو بالخطيئة أي تحت تأثير ما هو مقدّس ذو أصل اجتماعي فالفرد يعتقد أنّه سحر أو أخطأ فيموت لهذا السبب يلاحظ مارسال موس في هذا الصدد أنّ هذه الخاصية عرفتها المجتمعات البدائية وقد توصل مرسال موس إلى أن الموت يكون حاصلا عندما يعتقد الأفراد أنّهم هالكون إثر اقترافهم لمحرم (البعد المقدّس الذي لا يمكن لمسه). وهذا الفعل أحدثه المستوى الاجتماعي في المستوى الفيزيائي بواسطة المستوى النفسي وهي عملية غير واعية نابعة من الالتزامات الاجتماعية(التربية-التقاليد). ويندرج ذلك ضمن مقولة ‘‘كلية الظاهرة الاجتماعية”وأيضا انظر الموت بالسحر والتر كانون صص: 340 ـ 351 البعض يستند على مرجعيّة دينيّة ليثبت ذلك استنادا على الآية القرآنية ‘‘وأن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون أنّه لمجنون” وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‘‘استعيذوا بالعين المؤذية فإنّ العين حق” يمكن مراجعة أيضا الطاهر لبيب: سوسيولوجيا الغزل العربي الشعر العذري نموذجا ترجمة مصطفى المسناوي عيون و دار الطليعة بيروت 1988 خاصة ص : 74
[24] نفس المرجع والصفحة
[25] نفس المرجع ص: 12
[26] ابن خلدون المقدمة مرجع سبق ذكره الجزء 2 ص: 464 هناك ملف صحفي متنوع يتحدّث عن هذه الظاهرة في سنوات الأخيرة انظر الأنوار التونسية سمعتهم يخططون لذبها في جبل وسلات لإخراج كنز الشروق الجمعة 1 أفريل 2008 ص : 18 مصادر تؤكد على وجود جثة الطفلة في منطقة أثرية بعد انتزاع احدى عينيها – الملاحظ 25 جوان 2008 الكنوز المحروسة بالجان: بين الحقيقة والوهم صص 24 – 28 حقائق 16 أكتوبر 2006 مصدّق خطفه ‘‘جن” و ‘‘رفضه” الباحثون عن الكنوز صص: 36 – 39 سيدتي يذبحون الأطفال<= لاستخراج الكنوز من تحت الأرض صص 102 – 107 حقائق 16 مارس 2000 اعتداءات جديدة على المواقع والشعوذة احدى الوسائل صص 14 – 15 الصباح الأسبوعي 10 جويلية 2006 هل اختطفت عصابة تستخرج الكنوز الملاك نادية من منزل والديها ص 10
[27]Mantz (JM) :«Douleur et Euthanasie»In Le médecin le patient Masson Paris Milan Barcelone 1994 p : 383
[28] الدبّاغ (فخري) : الموت اختبارا : دراسة نفسية اجتماعية موسّعة لظاهرة قتل النّفس دار الطليعة للطباعة والنشر-بيروت 1986 ط2ص : 101
[29] Mantz (J. M) op cit p :385
[30] Voir Labidi (Lilia) & Nacef (Taoufik) : Deuil impossible Edition Sahar Tunis 1993 p : 17-23
راجع الإعلان 9-12-1994 نجوى الكنزاري: القتل إشفاقا : هل يحق لنا التخلص من المرضى الذين يعيشون بدون أمل؟ ‘‘في شهر جانفي 1972 اقدمت فتاة تونسية تبلغ من العمر ثماني عشرة سنة تزاول تعليمها بالسنة الثالثة ثانوي بمدرسة حرة على قتل شقيقها الصغير البالغ من العمر أربع سنوات إشفاقا عليه من آلامه وقد قضت محكمة الجنايات بتونس بإدانة المتهمة وبسجنها مدّة خمسة أعوام تطبيقا لأحكام الفصل 205 () في تونس وكما رأينا سبق الحادث النص القانوني مما جعل زمرة من الأساتذة في المجال القانوني (محمد الطريطر ومنيّة طريدات وعبد الرحمان الهيلة) وقد توصل إلى ‘‘أن المشرع التونسي إذا ما فكر في أحداث نص يكون أرفق بالمتهم في حالة قتل الإشفاق فإن ذلك سيكون سابقة خطيرة قد تجر بعض المواطنين غير الواعين بتعمد قتل أبنائهم المعتوهين أو المشلولين أو المتخلفين ذهنيا للاستراحة من عنائهم متقبلين العقوبة الخفيفة التي تعتبر حسب نظرتهم وتقديرهم أحسن طريقة وأخف ضرر من إبقائهم منشغلين بحالة أبنائهم مع ما يؤملونه من تمتعهم بالعفو أثناء مدة العقوبة” راجع الطريطر (محمد): القتل ‘‘إشفاقا” مجلة القضاء والتشريع وزارة العدل تونس طبع الشركة التونيسية لفنون الرسم ديسمبر 1973 السنة الخامسة عشرة عدد 10 ص: 27
[31] محجوب (عبد الوهّاب): السّلوك العدواني مرجع سبق ذكره ص: 10
[32] راجع مثلا مجلة حقائق العدد 52 – 24 ديسمبر 2007 براءة عامر تثير جدلية إلغاء عقوبة الإعدام أو بقائها
[33] فماذا نتوقع من طفل لا يرى دماء الأضحيّة أمامه ولم يصادف يوما أن كلّف بذبح ( دجاجة ) وانفصلت هذه الممارسات عن حياته اليوم وأصبح كلّ شئ يأتيه من غير أن يعيش ذلك (فهو يتم بعيدا عن رؤيته في المسالخ).
[34] كما يمكن أن نذكر في هذا الصدد خوف العائلة ورهبتها من مجرد أن يلعب الأطفال ببعض الوسائل الحادة ويتجلى ذلك في تعبيرهم ‘‘الحديد زيد” ‘‘ماتلعبش بالسكين” ‘‘اللعب موش بالسكين‘‘ كما أن مجرد استعمال المقص في الفراغ عادة غير محبذة فهي توحي بوقوع مكروه أو شجار عنيف نهايته القتل” فهذه آليات دفاعيّة لتنشئة الفرد على استبطان اللاعنف والأمثلة عديدة ‘‘الي يلعب بالسم يموت به” ‘‘خليني نرجع على روحي خير” وعلى العكس من ذلك نجد اليوم في الصفحات الأولى من الجرائد والمجلات أن السكين أصبح رمزا للسلاح الأبيض وللقتل ويقدّم المجرم على أساس أنّه بطل. أو من خلال العبارات المنتشرة ‘‘خليني انفش فيه غيضي”‘‘خليني فش غيضي في ولادي أو كلبي أو أثاث المنزل” المثير للتساؤل ما عرّف تاريخيّا في مصر أن أهالي النيل كانوا في كلّ سنة يلقون طفلة في نهر وقربان للحمايّة من هيجانه. ونظرا أنا نفسي عاينت في كلّ صيف تقريبا غرق أطفال صغار في السدود أو الوديان وخاصة قناة مجردة نتيجة عدم إحساسهم بالخطر فالأكيد أنّ هؤلاء الأطفال لو شاهدوا طفلا يغرق ويموت لضحينا بواحد عوضا أن نضحي بالكثير ويمكن أن نقترح على متساكني هذه المجاري الخطيرة إقامة احتفال نجسد فيه طفلا يلقى في النهر ثمّ نتابع ماذا يحصل حتّى نعلّم الأطفال خطورة العنف الذي يمكن أن يسببه لنفسه والموضوع في حاجة إلى التأملّ والتفكير لأنّ الفعل البشري عامة منذ نشأته كان يستند على رمزيّة فاعلة غايتها تمكين الإنسان من الحياة. كان مجرد لجوء القاتل إلى زاوية وليّ صالح حتّى يتم بالحصانة ذلك أن هذا المكان يرمز إلى اللاعنف بما في ذلك من قوّة رادعة للفعل البشري العنيف
[35] الوردي (علي): منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته الشركة التونسية للتوزيع 1988 ص: 291