موقع أرنتروبوس

النظرية البنائية الوظيفية

في الحقيقة أن فكرة البناء الاجتماعي ليست فكرة حديثة العهد بل أنها تمتد إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما ظهرت في كتابات ” مونتسكيو ” وحينها ، ظهرت فكرة النسق الاجتماعي على أساس أن مظاهر الحياة الاجتماعية تؤلف فيما بينها وحدة متماسكة متسقة وذلك عندما تحدث مونتسكيو عن القانون وعلاقته بالتركيب السياسي والاقتصادي والدين والمناخ وحجم السكان والعادات والتقاليد وغيرها مما يشكل في جوهره فكرة البناء الاجتماعي ([11]) . ثم ظهرت البنائية والوظيفية بصورة واضحة بشكل علمي في كتابات هربرت سبنسر في مجال تشبيه المجتمع بالكائن العضوي . فكان سبنسر يؤكد دائماً وجود التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين نظم المجتمع في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

والغاية التي كان يهدف إليها هي إيجاد حالة من التوازن تساعد المجتمع على الاستمرار في الوجود . وكان سبنسر أيضاً يتصور المجتمع على أنه جزء من النظام الطبيعي للكون وأنه يدخل في تركيبه ولذا يمكن تصوره كبناء له كيان متماسك ([12]).

وبلغت الفكرة الوظيفية ذروتها في تفكير اميل ديركايم وبخاصة في مواجهة موضوع الحقائق الاجتماعية التي تمتاز بعموميتها وقدرتها على الانتقال من جيل لآخر وقدرتها على فرض نفسها على المجتمع . والنظم الموجودة في المجتمع من سياسية واقتصادية وقانونية وغيرها تؤلف بناء له درجة معينه من الثبات والاستمرار ([13]).

وقد تبنى الكثير من علماء الانثروبولوجيا هذه النظرية وأشهرهم راد كليف براون. فهو يرى أن البناء يتألف من كائنات إنسانية وأن كلمة ” بناء ” تشير بالضرورة إلى وجود نوع من التنسيق والترتيب بين ” الأجزاء ” التي تدخل في تكوين ” الكل ” الذي نسميه ” بناء ” وكذلك يوجد روابط معينة تقوم بين هذه ” الأجزاء ” التي تؤلف ” الكل ” وتجعل منه بناء متماسك متمايز . وبمقتضى هذا الفهم تكون “الوحدات الجزئية ” الداخلة في تكوين ” البناء الاجتماعي ” هي ” الأشخاص ” أي أعضاء المجتمع الذي يحتل كل منهم مركزاً معيناً ويؤدي دوراً محدداً في الحياة الاجتماعية .

فالفرد لا يعتبر جزءاً مكوناً في البناء ولكن أعضاء المجتمع من حيث هم ” أشخاص ” يدخلون كوحدات في هذا البناء ويدخلون في شبكة معقدة من العلاقات . فرادكليف براون يستخدم مفهوم البناء الاجتماعي بمعنى واسع لأنه يدخل فيه كل العلاقات الثنائية التي تقوم بين شخص وآخر مثل العلاقة بين الأب والابن أو العلاقة بين الشعب والدولة وغيرها([14]).

ولكن ايفانز برتشارد يقف موقف المعارضة من رادكليف براون ويرى أن العلاقات الاجتماعية التي تتميز بالثبات والاستقرار هي التي تدخل في البناء واستبعد العلاقات الثنائية التي ذكرها رادكليف براون . فالعلاقة الثنائية علاقة طارئة مؤقته قد تنتهي بموت أحد الطرفين . ويستبعد ايفانز برتشارد ايضا من البناء الزمر الاجتماعية الصغيرة مثل الأسرة التي تتكون من جيلين لأنها لا تلبث أن تختفي كوحدة بنائية متمايزة . أما الذي يدخل في البناء بالنسبة له فهو الجماعات الكبيرة المتماسكة الدائمة كالقبائل والعشائر التي تستمر في الوجود أجيالاً طويلة رغم ما يطرأ على مكوناتها من تغيرات . فالبناء عند ايفانز برتشارد يتألف من العلاقات الدائمة التي تقوم بين جماعات من الأشخاص الذي يرتبطون بعضهم ببعض ارتباطاً وثيقاً منظماً ([15]).

ويرى راد كليف براون كذلك أن البناء الاجتماعي ليس إلا مجموعة من ” الأنساق الاجتماعية ” والأنساق هي الأجهزة أو النظم التي تتفاعل فيما بينها داخل إطار البناء الكلي الشامل . والنسق عبارة عن عدد من النظم الاجتماعية التي تتشابك وتتضامن فيما بينهما في شكل رتيب منظم . كما أن النظام عبارة عن قاعدة أو عدة قواعد منظمة للسلوك يتفق عليها الأشخاص وتنظمها الجماعة داخل البناء .

ويرى راد كليف براون أن علاقة النظم بالبناء علاقة ذات شطرين :

1 – علاقة النظام بأفراد الجماعة داخل البناء الاجتماعي .

2 – علاقة النظام بسائر النظم الأخرى التي تتعلق بالنسق وبالبناء الاجتماعي .

فمثلاً النسق القرابي يتألف من عدد من النظم المتعلقة به كنظام التوريث والنظام الأبوي والنظام الأموي وهكذا . ومن مجموعة الأنساق القرابية والاقتصادية والسياسية والعقائدية وغيرها يتألف البناء ([16]).

ويميز راد كليف براون بين ” الصورة البنائية ” و ” البناء الواقعي ” . فالصورة البنائية هي الصورة العامة أو السوية لعلاقة من العلاقات بعد تجريدها من مختلف الأحداث الجزئية رغم إدخال هذه التغيرات في الاعتبار . أما البناء الواقعي فهو البناء من حيث هو حقيقة شخصية وموجودة بالفعل ويمكن ملاحظتها مباشرة .

والبناء الواقعي يتغير بسرعة واستمرار بعكس الصورة البنائية التي تحتفظ بخصائصها وملامحها الأساسية بدون تغير لفترات طويلة من الزمن وتتمتع بدرجة من الاستقرار والثبات ([17]).

هذا بالنسبة للبناء أما الوظيفة كما ذكرها العلماء الوظيفيون هي الدور الذي يلعبه الجزء في الكل أي النظام في البناء الاجتماعي الشامل . أي أن درجة الاستمرار والاطراد في البناء هي التي تحقق وحدته وكيانه ولا يمكن أن تتم إلا بأداء وظيفة هذا البناء أي الحركة الديناميكية المتمثلة في الدور الذي يلعبه كل نظام أو نسق في داخل البناء . فالوظيفة في البناء هي التي تحقق هذا التساند والتكامل بين أجزائه بحيث يفقد النسق أو البناء الاجتماعي معناه المتكامل لو انتزع من نظام ما ([18]). أما راد كليف براون فيرى أن فكرة الوظيفة التي تطبق على النظم الاجتماعية تقوم على المماثلة بين الحياة الاجتماعية والحياة البيولوجية فالوظيفة هي الدور الذي يؤديه أي نشاط جزئي في النشاط الكلي الذي ينتمي إليه . وهكذا تكون وظيفة أي نظام اجتماعي هي الدور الذي يلعبه في البناء الاجتماعي الذي يتألف من أفراد الناس الذين يرتبطون ببعضهم البعض في كل واحد متماسك عن طريق علاقات اجتماعية محددة ([19]). ومن التعريفات الشهيرة للوظيفة ذلك الذي قدمه ميرتون حيث قال : إنها تلك النتائج أو الآثار التي يمكن ملاحظتها والتي تؤدي إلى تحقيق التكيف والتوافق في نسق معين([20]).

والوظيفة قد تكون ظاهرة أو كامنة أي ليس بالضرورة أن يكون لكل ظاهرة وظيفة أو وظائف واضحة أو مقصودة . ولذلك على الباحث الاجتماعي أن يبحث عنها من خلال تحليل المناشط الاجتماعية . ويعتبر بارسونز مفهوم الوظيفة اساسيا لفهم أي نسق من الأنساق الاجتماعية ، فالوظيفة تمثل النتيجة المنطقية لمفهوم النسق فهي توضح طبيعته وتعمل على تكيفه مع بيئته . ورغم تعدد أراء العلماء حول مفهوم الوظيفية إلا أنهم يجمعون فيما بينهم على بعض القضايا التي تشكل في جملتها الصياغة النظرية للوظيفية في علم الاجتماع وقد حصر ” فان دن برج ” هذه المفاهيم في سبعة قضايا هي :

1 – النظرة الكلية للمجتمع باعتباره نسقا يحتوي على مجموعة من الأجزاء المتكاملة .

2 – رغم أن التكامل لا يكون تاما على الإطلاق إلا أن الأنساق الاجتماعية تخضع لحالة من التوازن الديناميكي .

4 – أن التوازن والانحرافات والقصور الوظيفي يمكن أن يقوم داخل النسق .

5 – يحدث التغير بصفة تدريجية تلائميه .

6 – يأتي التغير من مصادر ثلاثة تتمثل في تلاؤم النسق وتكيفه والنمو الناتج عن الاختلاف الوظيفي والتجديد والإبداع .

7 – العامل الأساسي في خلق التكامل الاجتماعي يتمثل في الاتفاق على القيم([21]).
([11]) إسماعيل ، زكي ، محمد ، 1982 ، الانثروبولوجيا والفكر الإنساني ، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع ، جدة ، ص228.

([12]) أبو زيد ، أحمد 1982 ، مرجع سابق ، ص11.

([13]) نفس المرجع ، ص 11.

([14]) نفس المرجع ، ص 14-16.

([15]) نفس المرجع ، ص23-24.

([16]) إسماعيل ، زكي محمد ، 1982 ، مرجع سابق ، ص 235.

([17]) أبو زيد ، أحمد ، 1982 ، مرجع سابق ، ص17-18.

([18]) إسماعيل ، زكي محمد ، مرجع سابق ، ص 240.

([19]) وصفي ، عاطف ، 1977 ، الانثروبولوجيا الاجتماعية ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت ، ص 47.

([20]) نيقولا ، تيماشيف ، نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها ، ترجمة محمود عودة وآخرون ، دار المعارف ، ص 331.

Exit mobile version