جمال معتوق*
يعتبر علم الاجتماع الجريمة كما سماه لأول مرة العالم الإيطالي “أنريكو فيري” Enrico Ferri، من أهم التخصصات الفرعية في علم الاجتماع العام، بل أهمها على الإطلاق وذلك لما لموضوع الجريمة من صلة بعلم الاجتماع أو علم العمران على حد تسمية العلامة عبد الرحمن ابن خلدون.
ولما كانت الجريمة تشكل أحد أخطر المشكلات الاجتماعية على حياة وسلامة الأفراد والمجتمعات، فقد تعددت الاهتمامات والمحاولات العلمية للوصول إلى أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة وكذلك العوامل والعلل التي تقف وراءها.
فقد عمل العديد من الباحثين والعلماء على استنطاق هذه العوامل وذلك لوضع تفسيرات تسمح للحكومة والجبهات المسؤولة من اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة للحد من هذه المشكلة، وخاصة إمكانية التنبؤ بها وبمستوياتها واحجامها مع مرور الزمن.
ومن بين المحاولات نذكر، المحاولة الأولى والتي سعى أصحابها وهم من أنصار المدرسة البيولوجية الوراثية الإيطالية إلى تفسير هذه الظاهرة مركزين فقط على من هو المجرم ومهملين بذلك الفعل الإجرامي، ونذكر هنا العالم سيزاري لمبروزو Césaré Lombroso وتلامذته من أمثال: دي تيليو Di Tillio، انريكو فيري Enrico Ferri جرافولو Garraffolo وغيرهم من الباحثين الآخرين، وقد سميت كذلك هذه المدرسة بالمدرسة الأنثروبولوجية الجنائية.
لم تتوقف البحوث والدراسة في ميدان الجريمة والانحراف، بل نجد تيار من العلماء والباحثين قد حاولوا بدورهم ربط الجريمة والانحراف بالعوامل البيئية أو ما يسمى بكل من المناخ والتضاريس، وقد ركز هؤلاء العلماء على دور العوامل الطبيعية المناخية في سلوكيات الأفراد، وتعد هذه المحاولة من أقدم المحاولات بالرغم من انتسابها إلى كل من العالم: أدولف كيتلييه Adolphe Quételet وزميله جيري Guerry بالإضافة إلى المعلم الأول العلامة منتسكيو Montesquieu صاحب كتاب “روح القوانين” Esprit des Lois وكتاب “الرسائل الفارسية” Lettres Persanes إلا أنه في الحقيقة كما قلنا أن هناك حضور قوي لهذه المحاولة في العديد من الأعمال القديمة مثلا عند العلماء العرب من أمثال: ابن خلدون “المقدمة” ، إخوان الصفا “الرسائل”، المقريزي “إغاثة الأمة في كشف الغمة”، و خاصة القاضي والعالم صاعد الأندلسي صاحب مؤلف ” طبقات الأمم” …إلخ.
كما نجد محاولة أو تيار يسمى بالمدرسة الاقتصادية والتي أرجعت الجريمة والانحراف إلى الظروف المعيشية أي كل ما له صلة بالعوامل الاقتصادية ومن بين أنصار هذه المدرسة نذكر: كارل ماركس وزميله انجلز دون أن ننسى العالم الهولندي بونجر Adrian Bonger ولويس كوزر Lewis A. Coser ورالف دهرندورف Ralph Darenhdorf وغيرهم من العلماء الأخير، للإشارة فقط نقول أن التفسير الاقتصادي للجريمة والانحراف لا يقتصر على هؤلاء العلماء الأوربيين، بل كان موجودا عند العديد ممن سبقوهم من الغربيين وحتى العرب وغيرهم وللإشارة فقد وجد الطرح الاقتصادي حاضرا في أعمال كل من العلامة ابن خلدون، تقي الدين المقريزي في كتابه المشار إليه سابقا وكذلك أحمد بن علي الدلجي صاحب كتاب ”الفلاكة و المفلكون” الذي جاء في القرن التاسع الهجري، و حاول تفسير ظاهرة الفقر ليس بالقدر كما كان يفعل القدريون بل باللامساواة الاجتماعية و استغلال الأثرياء الفقراء ، فقد ربط كذلك صراحة الانحراف و الجريمة بالفقر، اذ نجده قد كتب قائلا: ”متى استولى القهر و الغلبة على شخص، حدثت فيه اخلاق رديئة من الكذب و التخبيب و فساد الطوية و الخبث و الخديعة …”
هذا وقد حاول أنصار تيار آخر تفسير الجريمة والانحراف انطلاقا من العوامل النفسية (السيكولوجية)، مهتمين فقد بالفرد الجاني دون المجتمع ومركزين على محطة الطفولة وكيف تعمل ما سموه بالعقد النفسية في توجيه وصقل شخصيته ومن أنصار هذه المدرسة المسماة كذلك بالمدرسة التحليلية نذكر: فرويد Freud، أدلر Adler وغيرهما من العلماء الآخرين.
هذا وقد ظهر بالموازاة تيار آخر سمي بالمدرسة الاجتماعية والتي انطلقت من التفسير الاجتماعي للجريمة والانحراف، أي أن العوامل والعلل الاجتماعية هي المسؤولة عن سلوكيات الأفراد السوية وغير السوية، وتعد هذه المدرسة والمسماة كذلك بالمدرسة السوسيولوجية من المدارس الأكثر انتاجا وتنظيرا في هذا المجال، كما أنها تتشعب إلى العديد من الفروع والمذاهب، منها ما سمي بالوسط الاجتماعي والذي يعود الفضل فيه إلى العالم الفرنسي لاكسان Lacassagne وإميل دوركايم Durkheim مؤسس الاجتماع الحديث والذي أسس لما يسمى بالنظرية اللامعيارية ومدرسة الحوليات، دون أن ننسى العالم الفرنسي جبريال تارد Gabriel Tarde صاحب نظرية التقليد والمحاكاة والتي أصبحت فيما بعد على أيدي أنصار مدرسة شيكاغو في أمريكا من أهم النظريات في تفسير السلوك الإجرامي والانحرافي.
وفي نفس السياق نذكر أعمال وجهود العالم الأمريكي إيدوين سزرلاند الفريدة من نوعها والمتمثلة في وضع نظرية الاختلاط التفاضلي والمسماة كذلك بالنظرية التفاضلية والتي كان استلهامها من خلال القراءات النقدية التي قام بها للنظريات السابقة.
;في نفس البلد -أمريكا-نجد اسهامات العالم المتميز روبيرت ميرتون Robert Merton والمتمثلة في النظرية اللامعيارية وهي في الحقيقة امتداد للنظرية الدور الكايمية ولكن من خلال اشكاليات جديدة تبحث في الثنائية الأهداف / الوسائل وتضاربها وما ينتج عنها من سلوكيات غير سوية.
ومن جهة أخرى نجد أنصار النزعة المجرمة للمجتمع، والذي ترجع مسؤولية الإجرام والإقبال عليه إلى المجتمع، وفي هذا الباب نذكر نظرية الوهم أو مدرسة “التسمية” La Stigmatisation والتي تزعمها العديد من الباحثين والمفكرين الاجتماعيين من أمثال فرانك تانبوم F. Tannenbaum، إديدوين لميرت Edwin Lemert، هارولد بيكر Harold Becker، جوفهان Erving Goffman…إلخ.
في هذا العمل سوف نسعى إلى عرض بعض الاسهامات النظرية التي نرى بأنها هامة ومفصلية في سياق تطور النظريات المفسرة للجريمة والانحراف، وعليه سوف نقدم النظريات الآتية:
– نظرية الانتقال للفعل الاجرامي: وهي نظرية في بداياتها الأولى كانت نظرية نفسية، إلا أنه مع الزمن استطاع بعض المفكرين تطويرها وإعطائها القالب النفسي الاجتماعي وأصبحت تستعمل في تفسير الجريمة والضحية وغيرها من المواضيع الخاصة بعلم الاجتماع الجنائي.
– النظرية البيئية لمدرسىة شيكاغو وهي النظريات الهامة والعلمية في سياق الممارسة السوسيولوجية، حيث عمل أصحاب هذه النظرية من أمثال: روبيرت بارك Robert Ezra Park، وليام اسحاق وتوماس William I. Thomas، أرنست بيرجس Ernest Burgess، وغيرهم من الباحثين الذين عملوا على اتخاذ من مدينة شيكاغو مخبرًا لأعمالهم وبحوثهم الميدانية، خاصة وأن هذه المدينة كانت بمثابة حقل تجريبي وتعرف العديد من أشكال الجريمة والانحراف بسبب الأزمات الحادة التي كانت تعيشها نتيجة لمعدلات الهجرة المرتفعة، الفقر، البطالة، التسرب المدرسي ، أزمة السكن، الصراع الثقافي والتغير الاجتماعي و الثقافي التي كانت تعرفه خلال بدايات القرن الماضي.
– نظرية العصبة عند العالم فردريك تراتشر، وهي نظرية وليدة الممارسة الميدانية، حيث عمل صاحبها وهو أحد التلاميذة الأوائل لعالم بارك وبيرجس، حيث قام بدراسة ميدانية في مدينة شيكاغو حول العصابة -العصبة-الاجرامية والانحرافية. كما أنه قدم تفسيرات رائدة حول ظاهرة العصابات الاجرامية والتي ما زالت صالحة إلى حد الساعة.
– نظرية الفرص المتفاوتة للعالمين كلوارد Cloward وزميله أولهين Ohlin، وهذه النظرية تعد من المحاولات الجادة، حيث عملت على التوفيق بين كل من نظرية المخالطة الفارقة (التفاضلية) عند العالم ادوين سزرلاند ونظرية اللامعيارية عند كل من اميل دوركايم وميرتون، و قد توصلا الباحثان كلوارد و اولهين الى أن التوتر الناتج عن عدم التوفق بين كل من الوسائل المشروعة والأهداف وحده غير كافي حتى تترتب عنه السلوكيات الإجرامية، بل يجب أن تتقدم الفرص الإجرامية إلى الشاب بنفسها، بمعنى أن الأصدقاء هم الذين يقودون الشاب نحو عالم الانحراف والجريمة.
– نظرية الثقافة الفرعية الجانحة عند ألبيركوهن Albert Cohen بدورها تعد بمثابة رد فعل لكل من أعمال نظريات اللامعيارية عند ميرتون ونظرية الفرص المتفاوتة عند كلاورد وزميله أوليهن، كما أنها تركز على الاحباط الناتج عن الوضع الذي يعيشه شباب الطبقة الدنيا والذين يقبلون على استبدال وتبني قيم والمعايير الخاصة بالامتثال والطاعة -الخضوع-للقانون، بقيم معادية له، وفي نظر العالم ألبير كوهين الانحراف هو استجابة جماعية لأفراد الجماعة والناتج عن تحطيم المكانة.
– نظرية التفكك الاجتماعي عند العالم سلين Thorsten Sellin: في هذه النظرية والتي لقيت شهرة كبيرة في الأوساط الأكاديمية، والتي أرجعت الجريمة إلى التفكك وضعف الروابط الاجتماعية، كما أن هذه النظرية قد اهتمت بعامل التغير الاجتماعي وما يترتب عنه من مشكلات اجتماعية ومن بينها الجريمة والانحراف.
ونظرية التفكك الاجتماعي لا تقتصر على محاولات عالم بعينيه، بل نجد أن هذه النظرية قد ساهم العديد من العلماء في وضعها، أواعتمادهم على ظاهرة التفكك الاجتماعي في تفسير الظاهرة الإجرامية، وهذا خاصة عند أنصار مدرسة شيكاغو.
– نظرية الاحتواء (التحكم) عند العالم والتر ريكلس Walter Reckless، وهي من النظريات الهامة في ميدان علم الاجتماع الجنائي والانحرافي وتسعى هذه النظرية التي تنطلق من أن الأفراد في حياتهم الاجتماعية يواجهون العديد من الاغراءات أو ما سماه صاحبها بعوامل الجذب (Attraction) تجاه السلوكات غير الاجتماعية والتي تعد المسؤولة في نظره في اقبال البعض على الجريمة والانحراف.
– نظرية التحكم الاجتماعي أو الرقابة الاجتماعية (الضبط الاجتماعي) عند العالم هيرشي Travis Hirshi: تنطلق هذه النظرية من فكرة جوهرية أن الأفعال الجانحة تنتج عندما تكون رابطة الفرد بالمجتمع ضعيفة أو متصدعة، كما أن هذه النظرية تنظر إلى الانحراف على أنه نتيجة للتحرر النسبي من الارتباطات والمعتقدات الأخلاقية التي تربط معظم الناس.
– نظرية النوافذ المكسرة (المحطمة) أو التسامح صفر لكل من العالم زيباردو والعالمين ويلسون وزميله كيلينج، ترى هذه النظرية أن غياب الضبط والردع اتجاه الجرائم مهما كان حجمها ونوعها والتسبيب من شأنهما أن يساهما في التشجيع على انتشار الجريمة والانحراف، ولهذا ينادي أصحاب هذه النظرية بسياسة اللاتسامح مع المجرمين والجرائم مهما كان حجمها.
– نظرية الضبط الذاتي عند العالم ترافيس هيرشي وزميله هياكيل جوتفريدسون: وهي نظرية جاءت بعد مراجعة ونقد النظرية السابقة التي وضعها العالم هيرشي والخاصة بالضبط الاجتماعي، حيث تسعى نظرية الضبط الذاتي إلى تفسير جميع أنواع الجرائم عكس النظرية السابقة، كما أنها تدعي بأنها نظرية عامة، بالإضافة إلى كونها تعتمد على العديد من المتغيرات منها بالخصوص متغير التنشئة الاجتماعية.
هذه بعض النظريات التي ارتأينا تناولها في هذا الكتاب، حتى يتسنى للباحثين والطلبة الاطلاع عليها والتوسع في مجال التنظير في علم الاجتماع الجنائي.
تبقى هذه المساهمة، محاولة لتناول بعض النظريات في علم الاجتماع الجنائي وتبقى القائمة طويلة بالنسبة للنظريات التي حاولت تفسير كل من الظاهرة الانحرافية والاجرامية.
*مقدمة النظريات المفسرة للانحراف والجريمة للدكتور جمال معتوق