بقلم: إيفانز برتشارد
ترجمة: أسامة عبدالرحمن النور
النظام القبلي
ما هي قبيلة النوير؟ أكثر سمة بادية بوضوح هي وحدة منطقتها وانغلاقها، ويلاحظ ذلك بصورة أكثر وضوحاً في فترة ما قبل الاستعمار مما هو عليه الأمر اليوم. يتفاوت عدد سكان القبيلة من بضع مئات وسط بعض القبائل الصغيرة إلى الغرب من النيل- إذا ما عدت تلك بالفعل قبائل، إذ أن القليل جداً من البحث قد أجرى في تلك المنطقة- ليبلغ عدة آلاف. يبلغ سكان معظم القبائل ما يزيد عن 5.000 نسمة والأعداد الأكبر 30.000 و 45.000 نسمة. كل قبيلة مكتفية ذاتياً من الناحيَّة الاقتصادية، لها مراعيها الخاصة، وإمدادات مياهها، وأحواض صيدها، والتي يجوز لأعضائها فقط الحق في استغلالها. وللقبيلة اسمها الذى يرمز إلى تفردها. لدى أفراد القبيلة إحساس بالوطنية: يفتخرون بانتمائهم لعضوية القبيلة ويعدونها أعلى من القبائل الأخرى. وسط كل قبيلة توجد عشيرة سائدة توفر إطاراً للقرابة يقوم على أساسه المركب السياسي. وتنظم كل قبيلة أيضاً بصورة مستقلة نظام التراتب العمري الخاص بها.
لا تختلف القبيلة عن أقسامها في أي من تلك الصفات المذكورة. التعريف غير المعقد يقول بأن القبيلة هي الجماعة الأكبر التى لا بدَّ وأن تحل الخلافات بين أعضائها بالتحكيم وأن عليها أن تتحد بمواجهة الجماعات الأخرى من النوع نفسه وضد الأجانب. في الحالتين الأخيرتين لا وجود لمجموعة سياسية أكبر من القبيلة وكل المجموعات السياسية الأصغر هي أقسام منها.
هناك قانون داخل القبيلة؛ هناك آلية لفض النزاعات والتزام أخلاقي لاحتوائها عاجلاً أم آجلاً. إذا قتل الشخص زميلاً له في القبيلة، يمكن منع أو حجب الضغينة بدفع أبقار. بين القبيلة والقبيلة ليست هناك وسائل للجمع بين الأطراف في النزاع ولا يقدم التعويض كما انه غير مطلوب. بالتالي إذا قتل فرد من قبيلة فرداً من قبيلة أخرى، فإن العقوبة يمكن أن تتخذ فقط شكل حرب قبلية. يجب ألا نفترض أنَّ العداءات داخل القبيلة يمكن حلها بيسر. هناك سيطرة معتبرة على الثارات داخل القرية، لكن كلما كبر حجم الجماعة المحلية كلما أصبحت التسوية أكثر صعوبة. عندما يدخل قسمان كبيران من القبيلة في عداوة، فإن فرص التحكيم الفوري والتسوية تكون نائية. تختلف قوة القانون باختلاف المسافة في البنية القبلية التى تفصل الأشخاص المعنيين. مع ذلك، طالما أن الإحساس بالجماعة يظل باقياً والعرف القانوني معترف به رسمياً داخل القبيلة، غض النظر عن التقلبات والتناقضات التى قد تظهر في العلاقات الفعلية بين أفراد القبيلة، فإنهم يظلون يعدون أنفسهم مجموعةً متحدة. من ثم إما أن يتم الإحساس بالعداوات وتسويتها، بالتالي الاحتفاظ بوحدة القبيلة، أو أنَّ العداوات تظل غير محسومة بحيث يفقد الناس الأمل والتطلع إلى التسوية وأخيراً يتوقفون عن الإحساس بأن عليهم تسويتها، بحيث تنحى القبيلة إلى التفلق لتظهر قبيلتان جديدتان.
كذلك علينا ألا نفترض أن الحدود السياسية للقبيلة هي حدود العلاقة الاجتماعية. يتحرك الناس بحريَّة في كل أرض النوير ولا يتحرش بهم إذ لم يرتكبوا جريمة دموية. يتزوجون، وبدرجة أقل، يتاجرون عبر الحدود القبلية، ويقومون بزيارة أقاربهم المقيمين خارج قبيلتهم نفسها. الكثير من العلاقات الاجتماعية، التى ليست هي بالتحديد سياسية، تربط أعضاء قبائل مختلفة. على المرء أن يذكر فقط أن العشائر نفسها توجد في قبائل مختلفة وأنه في كل مكان يتم تنسيق الفئات العمرية. كل نويري له حق ترك قبيلته والاستقرار في قبيلة جديدة، والتي يصبح من ثم عضواً فيها. في أزمان السلم يحق حتى للغرباء من الدينكا زيارة أرض النوير دون أن يتعرضوا لأذى. إضافة علينا أن ندرك أن مجمل شعب النوير يمثل جماعة واحدة، غير منقسمة إقليمياً، في إطار ثقافة مشتركة وشعور بالخصوصية والتميز. لغتهم المشتركة وقيمهم تسمح بالاتصال فيما بينهم. بالطبع، قد نتحدث عن النوير أمة، لكن فقط في محتوى ثقافي، ذلك أنه لا يوجد تنظيم سياسي مشترك ولا إدارة مركزية.
إلى جانب كونهم المجموعة الأكبر التى يعترف فيها بالالتزامات القانونية، فإن القبيلة هي أيضاً المجموعة الأكبر التى عادة ما تتحد في حالة شن هجوم أو في حالة الدفاع. يقوم شبان القبيلة، حتى وقت قريب، بحملات غزو جماعية ضد الدينكا ويشنون الحرب ضد قبائل النوير الأخرى. كانت الغزوات ضد الدينكا متكررة الحدوث؛ في حين كانت الحروب بين قبائل النوير فيما بينها أقل حدوثاً. نظرياً، إذا كان قسمان من قبيلتين مختلفتين في حالة عداء، فيمكن أن يعتمد كل قسم على دعم أقسام أخرى من القبيلة نفسها، لكن عملياً فإن الأقسام الأخرى لا تشترك. تتلاحم القبائل المتجاورة في حالات ضد الأجانب، بخاصة ضد الدينكا، رغم عدم وجود التزام أخلاقي لفعل ذلك، ويكون الإتحاد قصير الأجل، وينفذ الحلفاء مهامهم بصورة مستقلة، حتى في حالة التعاون.
في الوقت الراهن، يتاخم النوير من الغرب والجنوب الدينكا، الذين يبدو أن لهم النوع نفسه من النظام السياسي الخاص بهم، أي أنهم يؤلفون مجموعات قبائل بدون حكومة مركزيَّة. منذ أقدم الأزمان كان النوير في حالة احتراب مع الدينكا وكانوا دوماً هم المهاجمون. نعرف أنه في النصف الأول من القرن الماضي (القرن التاسع عشر- أسامة) تدفقت موجات من النوير من موطنها إلى الضفة الغربية للنيل مجتاحة أرض الدينكا إلى الشرق من ذلك النهر وأنهم احتلوا وامتصوا السكان في معظم ما هو الآن أرض النوير الشرقية (ميز النوير بين ناث سيينج ” الوطن الأم”، أو أرض النوير الغربية، وناث دوار، “المهجر”، أو أرض النوير الشرقية). الاحتراب بين الشعبين استمر حتى يومنا هذا لكن لا يبدو أن هناك تغييراً كبيراً في المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية، هذا إذا ما وثقنا في خرائط الرحالة المبكرين. إذا كان لنا أن نعرف لماذا تؤلف القبائل الشرقية مجموعات أكبر عدداً ومساحة مقارنة بالقبائل الغربية، فإن الهجرات باتجاه الشرق تمثل حقيقة لا بدَّ من أخذها في الحسبان مع تلك الهجرات الموثقة في أوقات أسبق، ذلك أنه يجوز افتراض أن الصراع من أجل الاحتلال والاستقرار، وامتصاص الدينكا بصورة غير مشهودة، كان لها تأثيرها على الحشود المهاجرة.
إلى الشمال، فإن النوير يحتكون بدرجات متفاوتة بالعرب، وبقبائل جبال النوبا، وبمملكة الشلك القوية، وببعض الجماعات الصغيرة في دار فونج (البورون والكوما)؛ في حين يتاخم النوير من الشرق والجنوب الشرقي الجالا في إثيوبيا، والأنواك، والبيير. متى ما دخل النوير في علاقات مع تلك الشعوب فقد كانت عدائية الطابع.
تطفّل عرب شمال السودان من قانصي الرقيق هنا وهناك في الأجزاء الممكن الوصول إليها من أرض النوير في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، لكنهم لم ينجحوا في أي مكان في أن تكون لهم اليد العليا أو، بالطبع، أن يتركوا تأثيراً ملحوظاً على النوير، الذين عارضوهم بشدة وقاوموا لاحقاً الحكومة المصرية، التى لم تقم بعمليات جادة ضدهم. كذلك بالمثل تعامل النوير مع الحكم البريطاني بعدم احترام حتى تم كسر معارضتهم وإخضاعهم تحت إدارة صارمة بفعل عمليات عسكرية طويلة بين 1928 و 1930. باستثناء هذه الحلقة في تاريخهم، يمكن القول بأن النوير قد وصلوا في علاقاتهم الخارجية حالة توازن وحالة عداء متبادل يتم التعبير عنها من وقت لآخر في الاحتراب.
تنقسم القبيلة إلى شرائح إقليمية تعد نفسها جماعات منفصلة. نشير إلى تقسيمات القبيلة الأولية والثانوية والثالثة بمصطلح شرائح. الأقسام الأولية هي شرائح من قبيلة، والأقسام الثانوية هي شرائح من قسم أولى، والثالثة هي شرائح من قسم ثانوي. تنقسم الثالثة إلى قرى وتنقسم القرى إلى مجموعات منزليَّة. عضو قسم ثالث ²Z من قبيلة B يعد نفسه عضواً في جماعة Z² بالنسبة لـ Z¹، لكنه يعد نفسه عضواً في Y² وليس Z² بالنسبة لـ Y¹. بالمثل، يعد نفسه عضواً في Y، وليس Y²، بالنسبة لـ X. يعد نفسه عضواً في قبيلة B، وليس عضواً في قسمها الأولى Y، بالنسبة لقبيلة A. بالتالي، في مخطط بنيوي، هناك دائماً تناقض في تعريف مجموعة سياسيَّة، ذلك أن الفرد هو عضو فيها بفضل عدم عضويته في مجموعات أخرى من النوع نفسه الذى يقف خارجه، وهو بالمثل ليس عضواً في الجماعة نفسها بفضل عضويته في شريحة منها تقف في تضاد مع شرائحها الأخرى. بالتالي يعد الفرد عضواً في مجموعة سياسية في حالة واحدة وليس عضواً فيها في حالة مختلفة، على سبيل المثال فهو عضو في قبيلة بالنسبة لقبائل أخرى وهو ليس عضواً فيها من حيث أن شريحة قبيلته تقف في مواجهة شرائح أخرى. لدى دراسة الدستور السياسي للنوير، يكون من الضروري من ثم النظر إليه سوياً مع دساتير أعدائهم كنظام سياسي واحد، ذلك أن الخاصة البنيوية الجلية للمجموعات السياسية للنوير تكمن في نسبيتها. الشريحة القبلية هي مجموعة سياسية بالنسبة لشرائح أخرى من النوع نفسه، وتؤلف كلها بصورة مشتركة قبيلة فقط بالنسبة لقبائل النوير الأخرى وبالنسبة للقبائل المجاورة الأجنبية التى تؤلف جزءاً من نظامهم السياسي، وبدون تلك العلاقات فإن معنى قليلاً يمكن إلصاقه بمفاهيم “قبيلة” و “شريحة قبلية. إنَّ التمييز والتفرد لمجموعة سياسية بالنسبة لمجموعات من النوع نفسه هو تعميم يشمل كل جماعات النوير المحلية، من أكبرها إلى أصغرها.
العلاقة بين القبائل وبين شرائح قبيلة والتي تمنحها الوحدة السياسية والتميز هي علاقة تضاد. التضاد بين القبائل، أو الإتحادان الفيدرالية للقبائل، والشعوب الأجنبية، يتم التعبير عنه من جانب النوير من خلال الغارات المتعمدة والمستمرة، التى تشن بصورة متهورة وعنيفة. وبين قبائل النوير، يتمثل هذا التضاد في حروب فعلية أو بقبول حقيقة أن النزاع لا يمكن، أو لا يجب، حسمه بأية وسائل أخرى. في الاحتراب القبلي، على كل، يظل النساء خارج مدى القتل والاسترقاق. بين شرائح القبيلة نفسها، يعبر عن التضاد من خلال مؤسسة الضغينة. الاقتتال بين أفراد من القرية نفسها أو المعسكر ينحصر إلى حد بعيد في الاشتباك بالهراوات. العداء ونمط التعبير في تلك العلاقات المختلفة يتفاوت في الدرجة وفي الشكل الذى تتخذه.
تتفجر الضغائن عادة بين أقسام القبيلة نفسها وهى تكون في المعتاد طويلة المدى. تكون تسويتها أكثر صعوبة كلما كبرت الأقسام المعنية. في إطار القرية تسهل التسوية وفي إطار الأقسام الثلاثية للقبيلة يمكن تسوية الضغائن طال الزمن أم قصر، لكن عندما تشمل الضغائن مجموعات أكبر يمكن ألا تتم تسويتها إطلاقاً، بخاصة إذ قتل أفراد من أي من الطرفين في معركة كبيرة.
القسم القبلي له معظم خصائص القبيلة: الاسم، والإحساس الوطني، والنسب السائد، والتميز الإقليمي، والموارد الاقتصادية وما إلى ذلك. كل قسم هو قبيلة مصغرة، وتختلف الأقسام عن القبائل فقط من حيث الحجم، ومن حيث درجة التكامل، ومن حيث أنها تتحد في حالة الحرب وتعتمد مبادئ للعدالة مشتركة.
قوة الإحساس المرتبط بالمجموعات المحلية يكون بصورة تخطيطية متناسباً بحجمها. الإحساس بالوحدة في القبيلة أضعف من إحساس الوحدة داخل أقسامها. كلما صغرت المجموعة المحلية كلما زادت الصلات ترابطاً بين أعضائها وكلما أضحت تلك الصلات أكثر تضامناً وضرورة للإبقاء على حياة المجموعة. في المجموعة الكبيرة، مثل القبيلة، تكون الصلات نادرة، وقصيرة الأجل، ومحدودة. أيضاً كلما صغر حجم المجموعة كلما كانت العلاقات أشد ترابطاً وتنوعاً بين أفرادها، حيث علاقات الإقامة خيطاً في شبكة علاقات نسب أبوي، ونسب أموي، ونسب تصاهري. تصبح العلاقات بالدم والزواج أقل كلما اتسعت المجموعة.
واضح أننا عندما نتحدث عن قبيلة النوير إنما نستخدم مصطلحاً نسبياً، لأنه لا يكون دوماً سهلاً القول، وفق المعيار الذى نستخدمه، عما إذا كنا نتعامل مع قبيلة ذات شريحتين أوليتين أو مع قبيلتين. إن النظام القبلي كما يعرف في التحليل السوسيولوجي يمكن، بالتالي، يمكن أن يقارب أي طرح بياني غير معقد. القبيلة هي تمثيل لنزعة شرائحية مميزة للبنية السياسية ككل. السبب الذى يجعلنا نتحدث عن المجموعات السياسية للنوير، وعن القبيلة على وجه الخصوص، كمجموعات نسبية ونذكر أنها لا يسهل وصفها بمصطلحات المورفولوجيا السياسية، هو أن العلاقات السياسية ذات طابع ديناميكي. إنها في حالة تبدل دائم باتجاه أو آخر. الحركة الواضحة باتجاه التفلق. نزعة القبائل والشرائح القبلية إلى التفلق والتضاد الداخلي بين أجزائها يتم توازنها بالنزعة باتجاه الانصهار، توحد المجموعات واندماجها. هذه النزعة للانصهار موروثة في الطبيعة الشرائحية لبنية النوير السياسية، ذلك أنه بالرغم من أن كل مجموعة تنزع للانقسام إلى أجزاء متضادة، فإن تلك الأجزاء تنزع للاندماج بالنسبة للمجموعات الأخرى. من ثم فإن التفلق والاندماج هما عنصران لمبدأ الشرائحية نفسه وأنه يتوجب إدراك قبيلة النوير وأقسامها بوصفها علاقة بين هذين النقيضين، مع ذلك نزعتين مكملتين. البيئة الطبيعية، ونمط الحياة، ونمط التوزيع، وبؤس الاتصالات، والاقتصاد غير المعقد وغيرها، تفسر إلى حد ما واقع الانقسام السياسي، لكن النزعة باتجاه الانقسام الشرائحى يبدو موروثاً في البنية السياسية نفسها.
النسق القرابى
الوحدة القبلية لا يمكن إدراكها من واقع أي من الحقائق التى ذكرناها، مأخوذة إفرادياً أو في جماعها، لكن ذلك يكون ممكناً فقط بالإشارة إلى نسق القرابة. عشيرة النوير ليست مجموعة غير متفرقة من الأفراد يعترفون بقرابتهم المشتركة، مثل الكثير من العشائر الأفريقية، لكنها شرائحية بدرجة عالية. الشرائح هي بنيات وراثية، وبالتالي فإننا نشير إليهم كمجموعات سلسلة نسب وإلى العشيرة كنظام خارجي الزواج يتتبع أصلهم إلى سلف مشترك. الخاصة المميزة لسلسلة النسب هي أن علاقة كل عضو بالأعضاء الآخرين يمكن تثبيتها بمصطلحات وراثية. علاقته بأعضاء سلاسل أنساب أخرى من العشيرة نفسها هي، بدورها، معروفة، طالما أن سلاسل النسب مترابطة وراثياً. من ثم فإنه في الرسم التخطيطي أدناه تمثل (A) عشيرة متشرحة إلى الحد الأقصى من سلسلتي النسب (B) و(C) وتتفرع هاتين السلسلتين بدوريهما إلى سلاسل أساسية (D) و(E) و(F) و(G). بالطريقة نفسها، تمثل سلاسل الأنساب (H) و(I) و(J) و(K) شرائح لسلسلتي النسب (E) و(F)؛ وتمثل (L) و(M) و(N) و(O) سلاسل نسب هي شرائح لسلسلتي النسب الصغريين (H) و(J). العشيرة في جماعها هي بنية وراثية، أي أن الأحرف اللاتينية تمثل أشخاصاً ترجع العشيرة وشرائحها أصلها إليهم، ومنهم يتخذون في العادة أسماءهم. لا بدَّ وأنه كانت هناك أكثر من عشرين عشيرة من هذا النوع في أرض النوير، دون الأخذ بالحسبان العديد من سلاسل النسب الصغيرة ذات الأصول الدينكاوية.
إن سلسلة نسب النوير هي مجموعات أبوية النسب، وتؤلف كل الأفراد الأحياء المنحدرين، عبر الذكور فقط، من مؤسس ذلك الخط المحدد. منطقياً، تشمل أيضاً الأفراد الأموات المنحدرين من المؤسس، لكن أولئك الأموات يحتلون أهمية فقط من حيث أن وضعهم الوراثي يفسر العلاقة بين الأحياء. القرابة الأبوية المتسعة يعترف بها إلى أبعد مدى يمكن تتبعه، بحيث أن عمق سلسلة النسب يكون متوافقاً دوماً مع عرضها.
عشيرة النوير كونها بهذا القدر من الشرائحية لها الكثير من الخصائص التى وجدناها في البنية القبلية. سلسلة أنسابها هي مجموعات متمايزة فقط بالنسبة إلى بعضها الآخر. بالتالي، في الرسم التخطيطي أعلاه، تمثل (M) مجموعة فقط في مواجهة (L)، وتمثل (H) مجموعة فقط في مواجهة (I)، وتمثل (D) مجموعة فقط في مواجهة (E) وهكذا. دوماً هناك اندماج لسلاسل الأنساب مكملة للفرع نفسه بالنسبة لفرع مكمل، أي في الرسم التخطيطي، (L) و (M) ما عادتا تفصلان سلستي نسب دنيتن، لكنهما سلسلتا نسب واحدة صغيرة، و(H) في مواجهة (I)، و(D) و(E) ما عادتا تفصلان سلسلتي نسب رئيستين، لكنهما سلسلتا نسب أساسيتين، و(B) في مواجهة (C). بالتالي فإن سلسلتي نسب متساويتين ومتعارضتين تمثلان مركب بالنسبة لسلسلة ثالثة، بحيث أن الفرد هو عضو في سلسلة نسب بالنسبة لمجموعة محددة وليس عضواً فيها بالنسبة لمجموعة مختلفة. سلاسل النسب بالتالي هي مجموعات نسبية، مثلها مثل أقسام القبيلة، ومثلها، هي مجموعات دينامية. من ثم فإنه يمكن وصفها فقط بمصطلحات القيم والأوضاع.
ليست سلاسل نسب النوير مشتركات مجتمعية متموضعة رغم أن أعضاءها عادة ما تربطهم علاقة بالموقع ويتحدثون عن الموضع كما لو أنه كلياً مجموعة أبوية النسب. كل قرية نوير ترتبط بسلسلة نسب، ورغم أنَّ أعضاءها عادة ما يؤلفون نسبة قليلة من المجتمع، فإنها تلتصق بهم بحيث يمكننا التحدث عنها تجمعاً لأشخاص متجمعون حول نواة أبوية النسب. التجمع لغوياً يتطابق مع النواة من خلال تعريف مجتمع القرية باسم سلسلة النسب. فقط بالرجوع إلى قواعد الزواج الخارجي وبعض النشاطات الطقوسية يتوجب على المرء عد سلاسل النسب مجموعات مستقلة كلياً. في الحياة الاجتماعية عموماً، فإن سلاسل النسب تؤدى وظيفتها في إطار المجتمعات المحلية، في كافة المستويات من القرية إلى القبيلة، وكجزء منها. لا نستطيع هنا مناقشة الطرق التى تصبح بها مجموعات الإقامة شبكة للروابط القرابية- الزواج، والتبني، وغيرها من الاحتمالات- ولكن النتيجة تنحى لأن تكون أن مجموعة محلية هي أموية النسب تتجمع حول نواة أبوية النسب، قواعد الزواج الخارجي هي المبدأ الفاعل في هذه النزعة.
عشائر النوير في كل مكان متفرقة، بحيث أنه في كل قرية أو معسكر يجد المرء ممثلين لعشائر متنوعة. تحركت سلاسل نسب صغيرة على امتداد أرض النوير واستقرت هنا وهناك وجمعت نفسها حول عناصر أبوية غير مترابطة في مجتمعات محلية. الهجرة وامتصاص الدينكا كانت ظروفاً عملت لمصلحة انتشار العشائر واختلاطها. كونهم كانوا غزاة، ورعاة مراحيل ولا يدينون بعبادة السلف، فإن النوير ما كانوا أبداً مقيدين بنقطة معينة لا بالضرورة ولا بالإحساس.
مع ذلك، هناك علاقة مباشرة بين البنية السياسية ونظام العشيرة، ذلك أن العشيرة، أو سلسلة النسب الكلية، ترتبط لدى كل قبيلة، التى تحتل فيها موقعاً سائداً وسط المجموعات أبوية النسب الأخرى. فضلاً عن أن كل شريحة منها تنزع للارتباط بشريحة من القبيلة بحيث يكون هناك تواصل، وعادة توحد لغوى، بين أجزاء العشيرة وأجزاء القبيلة. بالتالي إذا قارنا الرسم التوضيح 2 بالرسم التوضيحي 3 وافترضنا العشيرة A هي السائدة في القبيلة B، فإن سلسلتي النسب B و C تتوافقان مع الأقسام الأولية X وY؛ سلسلتا النسب الرئيستان D وE تتوافقان مع القسمين الثانويين X¹ وX²؛ سلسلتا النسب الرئيستان F وG تتوافقان مع القسمين الثانويين Y¹ وY²؛ وسلسلتا النسب الفرعيتين J وK تتوافقان مع الأقسام الثالثة Z¹ وZ².
نتحدث عن عشيرة سائدة في القبيلة بوصفها العشيرة الأرستقراطية، رغم أنه، باستثناء في محيط توسع النوير شرقاً، تمنح سيادتها المرتبة أكثر من كونها تمنح الامتياز. يؤلف أعضاؤها أقلية- عادة أقلية ملحوظة- في القبيلة. لا يعيش كل أعضاء العشيرة الأرستقراطية في القبيلة التى تسود فيها عشيرتهم، لكن الكثيرين منهم يوجدون في قبائل أخرى. لا ترتبط كل العشائر بالقبيلة بهذه الصورة. يعد الفرد أرستقراطياً في القبيلة التى تسود فيها عشيرته فقط. إذا عاش في قبيلة أخرى فلن يكون أرستقراطياً هناك.
هناك بالتالي في كل قبيلة نوع من التراتب الاجتماعي. هناك الأرستقراطيون، ونوير من عشائر أخرى، ودينكا، لكن تلك الفئات لا تمثل طبقات وتعد الفئتان الثانية والثالثة صنفين أكثر من كونيهما مجموعتين. الدينكا الذين تم امتصاصهم في مجتمع النوير ينحدرون في غالب الأحيان في نسقهم القرابى بالتبني والزواج، ولم يؤد الاحتلال إلى تطور الطبقات والطوائف. يمكن إرجاع ذلك، احتمالا، وجزئياً على أية حال، إلى حقيقة أن الدينكا، مثلهم مثل النوير، هم رعاة مراحيل في الأساس وأنهم في جوانب أخرى يعيشون نمطاً حياتياً شبيهاً.
دون أن نقدم كافة البينات ودون ادعاء أية مؤهلات، نحاول تفسير لماذا تتشرح عشائر النوير، بخاصة العشائر السائدة، إلى سلاسل نسب أكثر بكثير مما هو معتاد لدى الشعوب الأفريقية. في وجهة نظرنا، تتشرح العشائر لديهم لأن البنية السياسية التى يرتبطون بها متشرحة بالطريقة التى وصفناها. الالتزامات الاجتماعية وسط النوير تتجلى في الأساس من خلال تعبير قرابي وتتحدد العلاقات المتداخلة للمجتمعات المحلية في إطار القبيلة طبقاً لعلاقة النسب الأبوي. بالتالي، كما تتشرح القبيلة كذلك تتشرح العشيرة معها وتصبح نقطة الافتراق بين أقسام القبيلة نقطة الانحراف في بنية سلسلة نسب العشيرة مرتبطة بكل قسم. إنه، كما أتضح لنا، فالعشائر وسلاسل أنسابها ليست مجموعات مشتركية متميزة، لكنها متضمنة في المجتمعات المحلية، والتي تؤدى وظيفتها بنيوياً من خلالها. والأمر كذلك، ليس مدهشاً أنها تتخذ شكل الدولة التى تمنحهم وجوداً مشتركاً.
تلك العشائر التى ترتبط بقبائل لها عموماً امتدادات وعمق في سلسلة نسبها أكبر من تلك العشائر غير المرتبطة بقبيلة، وكلما كبرت القبيلة كلما زادت أهمية هذا الارتباط بالنسبة للنوير. إنه في القبائل الأكبر، مساحة وتعداداً، وفي تلك التى تمددت أكثر واستوعبت أجانب أكثر، مثل اللو، والجاجاك الشرقيين، وقبائل الجاجوك، نجد الاهتمام الأكبر بالوضع المتميز والسائد للعشائر الأرستقراطية. بالطبع، تؤثر العلاقات السياسية ليس فحسب على شكل العشيرة البنيوي، مقسمة إياها إلى شرائح على خطوط التفلق السياسي، إنما أيضاً يجوز القول بأن نظام العشيرة يمارس بدوره فاعلية مناظرة على البنية السياسية. في ارتباك سلاسل نسب الأصل المختلف للعشيرة وفي شبكة من الصلات الأموية النسب، فإن البنية السياسية تتخذ شكلاً متوافقاً، في لغة القرابة،بجعل عشيرة واحدة- نظام واحد لسلاسل القرابة- يتوافق مع القبيلة وبنيتها في مواجهة الشرائح. فكما أن الفرد عضو في شريحة قبلية في مواجهة شرائح أخرى في المرتبة نفسها وأيضاً عضو في الوقت نفسه في القبيلة التى تضم كل تلك الشرائح، فهو أيضاً عضو في سلسلة نسب بمواجهة سلاسل نسب أخرى في نفس المرتبة وأيضاً عضو في الوقت نفسه في العشيرة التى تضم كل سلاسل النسب تلك، وهناك توافق صارم بين هذين المركبين للانتماء، طالما أن سلسلة النسب محتواة في في الشريحة والعشيرة في القبيلة. إضافة، المسافة في بنية العشيرة بين سلسلتي نسب لعشيرة سائدة تنزع إلى التوافق مع المسافة في بنية القبيلة بين القسمين الذين ترتبط العشيرتان بهما. بالتالي فإن نظام سلاسل النسب للعشيرة السائدة يمكن النوير من التفكير في قبيلتهم في الشكل المتوافق لبنية العشيرة. في كل شريحة تمنح صلات شبكة القرابة وحدة وتماسكاً عبر العلاقة المشتركة بسلسلة نسب العشيرة السائدة التى تقيم هناك، وبما أنَّ سلاسل النسب المنفصلة تلك هي مركب في علاقتها بالعشائر الأخرى فإنَّ مجمل القبيلة ينبني حول إطار أبوي النسب كلياً. رغم أن الأقسام قد تنزع إلى الانسحاب والانقسام، فإن قيمة أبوية، تتقاسمها سلاسل النسب السائدة محتواة فيها، تبقى.
…يتبع