بقلم: إيفانز برتشارد
ترجمة: أسامة عبدالرحمن النور
نسق طبقات العمر
مؤسسة قبلية أخرى هي نسق طبقات العمر، وهو نسق ينال قدراً من الأهمية الاجتماعية لدى النوير أكثر من أي من الشعوب النيلية في السودان. يمر الأطفال النوير إلى مرحلة الرجولة عبر امتحان قاسٍ وسلسلة من الطقوس مرتبطة به. تجرى تلك التلقينات حيثما توفر عدد كافٍ من الأطفال في سن 14-16 سنة في قرية أو منطقة. الشبان الذين تم تلقينهم في سنوات متتالية ينتمون كلهم إلى طبقة عمر واحدة، وهناك فترة أربع سنوات فاصلة بين آخر دفعة من طبقة الملقنين والدفعة الأولى لطبقة الملقنين اللاحقين، خلال الأربع سنوات الفاصلة هذه لا يتم تلقين أي دفعة من الأطفال. تكون مدة التلقين مفتوحة على مدى ست سنوات، بحيث أنه بالإضافة إلى الأربع سنوات الفاصلة، تكون هناك عشر سنوات بين بداية كل طبقة عمرية وبين بداية الطبقة التى تسبقها وتلك التى تليها. لا تنتظم الطبقات العمرية بصورة دائرية.
طبقات النوير العمرية هي مؤسسات قبلية بمعنى، على الأقل في القبائل الكبيرة، أن كل أقسام القبيلة لها الفترات المفتوحة والمنغلقة نفسها وتسمى الطبقات بالأسماء نفسها. وهي أيضاً المؤسسات القومية للنوير الأكثر خصوصية، ذلك أن ندوب التلقين هي علامات مجتمعهم ووسام سيادتهم. إضافة، رغم أن كل قبيلة كبيرة لها تنظيم خاص بها لطبقتها العمرية، فإن القبائل المتجاورة تنسق طبقاتها زمنيا واسميا، بحيث أن النوير الغربيين، والنوير الشرقيين، والنوير الوسطيين ينزعون إلى الانقسام إلى ثلاثة أقسام في هذا الشأن. لكنه حتى عندما يسافر الفرد من ركن من أرض النوير إلى ركن آخر، يمكنه بسهولة أن يدرك الطبقة المماثلة لطبقته في كل منطقة. إن نظام الطبقة العمرية، بالتالي، مثل نظام العشيرة، ففي حين أن له مضمونه القبلي فإنه غير مقيد بخطوط التفلق السياسي.
يوجد في كل قبيلة فرد له شرف افتتاح التلقين وإغلاقه وأن يعطى التسمية لكل طبقة عمرية. ينتمي هذا الفرد إلى واحدة من سلاسل النسب التى لها علاقة طقوسية بالأبقار ويعرف هؤلاء الأفراد بـ “رجال الأبقار”. يفتتح فترات التلقين ويغلقها في منطقته وتحذو المناطق الأخرى لقبيلته حذوه . بمجرد أن يتم افتتاح الفترة، فلكل قرية ولكل منطقة أن تلقن أطفالها وقت ما تشاء. لا ترتبط الطبقات العمرية بنشاطات مشتركة ولا يمكن القول بأن لها وظائف سياسية. ليس هناك مراتب “للمحاربين” و”للكبار” ينشغلون بإدارة البلاد، وليست الطبقات العمرية وحدات عسكرية، إذ يقاتل الفرد مع أعضاء مجتمعه المحلى، غض النظر عن عمره. ليس هناك تدريباً تعليمياً أو أخلاقياً في طقوس التلقين، كما وليست هناك قيادة في الطبقات العمرية.
لا يوجد عادة أكثر من ست طبقات عمرية في وقت واحد، طالما أن ست طبقات تغطى حوالي خمسة وسبعين عاماً. وكلما ماتت طبقة يظل اسمها عالقاً في الذاكرة لجيل أو جيلين. وتصبح كل طبقة الأكبر سناً مع مرور الزمن، من ثم يرتقى الفرد من مرتبة دنيا إلى مرتبة وسطي، ومن مرتبة وسطي إلى مرتبة عليا في مجتمعه بوصفه عضواً في جماعة. بالتالي يمثل التراتب في نسق الطبقات العمرية المزيد من التجسيد لمبدأ التشرح الذى لاحظناه خاصةً مميزة لنسق القرابة والنسق السياسي للنوير. هناك تراتب في داخل كل طبقة عمرية، لكن هذا ليس على القدر نفسه من الأهمية، ذلك أن الطبقة ترى نفسها، ويراها الآخرون، مجموعةً غير منقسمة في علاقتها بالطبقات الأخرى، وتصبح أقسامها متداخلة كلما ارتقت الطبقة إلى مرتبة أعلى. بمجرد أن تكتمل الطبقة فإنها لا تغير عضويتها، لكن الطبقات تغير باستمرار مواضعها في علاقتها بالنسق ككل. هناك كذلك نسبية فيما يتعلق بتلك الطبقات التراتبية أشبه بما لاحظناه في الأقسام القبلية والعشائر، حيث أنه في الوقت الذى تحتفظ فيه بخصوصيتها يكون هناك انصهار موضعي لطبقتين بالنسبة لطبقة ثالثة. يبدو ذلك واضحاً بصورة خاصة في الاحتفالات. سواء عدت الطبقة دنيا أو مساوية إنما يعتمد ليس فقط على مرتبتها في بنية الطبقة العمرية، لكن أيضاً على مرتبة طبقة ثالثة معنية في أي وضع، وهي نزعة ناتجة عن العلاقة بين الطبقات العمرية والأجيال.
الدور الأكثر بروزاً للطبقات العمرية في تحديد السلوك يكمن في الطريقة التى تتأثر بها الواجبات والمصالح خلال الانتقال من الطفولة إلى الرجولة. أيضاً فإنَّ كل ذكر من النوير يكون، بفضل وضع طبقته في البنية، في حالة أولوية، أو مساواة، أو دونية بالنسبة لكل رجل آخر من النوير. بعض الرجال يكونون “أبناء له”، وبعضهم “إخوة له”، وبعضهم “آباء له”. دون الدخول هنا في التفاصيل، يمكننا القول بأن سلوك الرجل تجاه الرجال الآخرين في مجتمعه يتحدد إلى حد بعيد بأوضاعهم المحددة في نسق الطبقات العمرية. بالتالي فإن العلاقات العمرية، شأنها شأن العلاقات القرابية، هي محددات بنيوية للسلوك. يمكن عد نسق الطبقة العمرية، إضافة، مؤسسة سياسية طالما أنه، إلى حد بعيد، متشرح قبلياً وطالما أنه يقسم القبيلة- فيما يتعلق بأعضائها الذكور- إلى مجموعات على أساس العمر والتي تكون في علاقة محددة بين بعضها الآخر. لا نعتقد، على كل، أن له تطابقاً مع البنية القبلية القائمة على التشرح الإقليمي الذى سجلناه. النسق السياسي الإقليمي ونسق الطبقة العمرية كلاهما متماسك في ذاته ويتداخلان في حالات، لكنهما لا يعتمدان على بعضيهما الآخر.
الضغائن والنزاعات الأخرى
يعمل النسق السياسي، في اعتقادنا، عبر مؤسسة الضغينة التى تنظم عن طريق ميكانيزم يعرف بـ “الزعيم جلد النمر”، لقب نحتفظ به، رغم أن كنية “زعيم” مضللة. هذا الشخص هو واحد من أولئك المتخصصين الذين يهتمون، وفق قدرات طقوسية، بفاعليات مختلفة لحياة النوير الاجتماعية والطبيعة. الزعماء جلد النمر ينتمون إلى سلاسل نسب معينة فقط، رغم أنه ليس كل أعضاء سلاسل النسب تلك يمارسون قوتهم الطقوسية الموروثة. في معظم أنحاء أرض النوير، لا تشكل سلاسل النسب فروعاً من عشائر سائدة.
عندما يقتل شخص فرداً آخر، عليه أن يتوجه فوراً إلى زعيم، ويقوم الأخير بجرح يده حتى يسيل الدم. وإلى أن توضع علامة الكين هذه، يتوجب على القاتل ألا يأكل و لا يشرب. إذا خاف من الثأر، كما هو الحال دائماً، فعليه أن يبقى في منزل الزعيم، لأنه مكان مقدس. خلال الشهور القليلة اللاحقة على الزعيم أن ينتزع من أقرباء القاتل وعداً بقبولهم دفع تعويض لتجنب الضغينة ويقنع أقرباء القتيل بأن عليهم قبول التعويض. خلال هذه الفترة لا يشرب أعضاء الفريقين ولا يأكلون من إناء واحد، كما ولا يحق لهم الأكل، بالتالي في منزل الطرف الثالث نفسه. يجمع الزعيم من ثم الأبقار- حتى وقت قريب يتألف التعويض من حوالي أربعين إلى خمسين بقرة- ويأخذها إلى منزل القتيل، حيث يقوم بأداء طقوس الأضحيات المختلفة للتطهير والتكفير. هذا هو الإجراء المتبع لتسوية الضغينة، وقبل الإدارة الحالية (يقصد الإدارة الاستعمارية- أسامة) كان هذا هو التقليد المتبع، ذلك أن النوير شعب مضطربون يقدرون الشجاعة كأعلى فضيلة ويمتلكون مهارة في القتال.
مثل هذا الوصف الموجز، يمكن أن يعطى المرء انطباعا بأن الزعيم يحكم في القضية ويفرض إطاعة قراره. لا يطلب من الزعيم إصدار حكم: لا يخطر للنوير أن مثل ذلك ضرورة. يبدو أنه يفرض على أقرباء القتيل قبول التعويض بإصراره، حتى لو استدعى ذلك تهديدهم ولعنهم، لكنه أمر متفق عليه أنه سيفعل ذلك، حتى يحتفظ أقرباء الفقيد بسمعتهم. الشئ الذى يبدو أنه يحتل الأهمية هو الاعتراف بالعلاقات المجتمعية بين الأطراف المعنية، وبالتالي الالتزام الأخلاقي بتسوية المسألة عن طريق قبول الدفع التقليدي، والرغبة لدى الطرفين لتجنب، في الوقت الراهن على أية حال، المزيد من الضغائن.
تؤثر الضغينة بصورة مباشرة على الأقرباء الأبويين في الطرفين. فالفرد لا يطلب الثأر في الأقرباء الأمويين أو الأقرباء الأبويين الأباعد. مع ذلك، نعتقد أن للضغينة محتوى اجتماعي أكثر اتساعا وفي ذلك تكمن أهميتها السياسية. علينا بداية الاعتراف أنه يسهل تسوية الضغائن كلما صغرت المجموعة المعنية بالأمر. عندما يقتل الفرد أحد الأقرباء أو جاراً قريباً، فإن المسألة تسوى بسرعة بدفع التعويض، عادة بمعيار مخفض، يتم تقديمه وقبوله بسرعة، ذلك أنه عندما يقع القتل داخل القرية فإن الرأي العام يطالب بتسوية فورية، حيث أنه جليّ للكل أنه في حالة السماح بممارسة الثأر فستصبح الحياة المشتركة مستحيلة. في الجانب الآخر من الميزان، حين يقع القتل بين أقسام أولية أو ثانوية للقبيلة، فإن هناك فرصة قليلة لتسوية سريعة، وذلك لبعد المسافة، ولأن الثأر لا يمكن تحقيقه بسهولة، ومن ثم تتراكم الضغائن غير المسوية. مثل أعمال القتل تلك عادة ما تكون نتيجة الاحتراب داخل القبيلة الذى يقتل فيه العديدون. لا يضع هذا صعوبة في التوصل إلى تسوية فحسب، بل تستمر العداوة المتبادلة بين الأقسام التى تسببت في الاقتتال، طالما أن الاحتراب يشمل ليس فقط الأقارب الأبويين للقتيل، وإنما مجتمعات محلية بأكملها. الضغينة، بوصفها خياراً بين الثأر المباشر وقبول التعويض، بدون الحاجة إلى تسوية فورية، لكنها تتطلب حسماً في نهاية المطاف، هي بصورة خاصة شرط شائع بين قرى الإقليم نفسه. أقرباء القتيل ليسوا ببعيدين للدرجة التى تعيقهم من توجيه ضربة لأقرباء القاتل، وبعيدين عنهم بما يسمح باستمرار حالة عداء بين المجتمعات المحلية التى ينتمي لها الطرفان. المجتمعات بكاملها تشترك في العداء بالضرورة، رغم أنها ليست خاضعة لحظر (تابو) صارم مثل المفروض على الأقرباء الأبويين الأقربين للقتيل والقاتل، ولا هي مهددة بالثأر. مع ذلك، فإن أعضاءها، في العادة، يرتبطون بعلاقات أموية وثيقة بتلك القيم وعليهم أن يقدموا العون في حالة انفجار قتال مفتوح. في الوقت نفسه فإن تلك المجتمعات تربطها صلات اجتماعية، بحيث أن ميكانيزم الزعيم جلد النمر يتم استخدامه في نهاية المطاف لمنع الاضطراب الكلى. تتخذ الضغينة بالتالي طبيعة سياسية وتعبر عن العداوة بين شرائح سياسية.
التعارض المتوازن للشرائح السياسية، باعتقادنا، يتم الحفاظ عليه عبر مؤسسة الضغينة التى تسمح بحالة عداوة مستترة بين المجتمعات المحلية، لكنها تسمح أيضاً بانصهارها في جماعة أكبر. نقول بأن العداوة مستترة لأنه حتى عندما تحسم الضغينة يكون هناك نزوع غير منقطع للثأر، لكن أقرباء القتيل يمكن أن ينتهزوا أية فرصة سانحة لتنفيذ هدفهم؛ و، أيضاً، فإنه حتى بعد قبول التعويض يمكن للأسى أن يفجر الضغينة مجدداً، ذلك أن النوير يقرون بأن الضغينة من حيث الإحساس تستمر إلى الأبد. الزعيم جلد النمر لا يحكم ولا يقاضى لكنه يعمل وسيطاً تنهي عن طريقه الجماعات، الراغبة في إنهاء العداء السافر، تسوية فعلية للضغينة. الضغينة، بما في ذلك الدور الذى يقوم به الزعيم، هي بالتالي بميكانيزم تحافظ به البنية السياسية على نفسها بالشكل المعروف لنا.
الزعيم جلد النمر يمكنه أيضاً أن يعمل وسيطاً في النزاعات المتعلقة بملكية الأبقار، ويمكنه هو وكبار السن من الطرفين التعبير عن وجهة نظرهم بشأن وقائع القضية. إلا أن الزعيم لا يستدعى المتهمين ذلك أنه لا يمتلك لا محكمة ولا سلطات قضائية و، إضافة، لا وسائل له لفرض الإذعان لقراره, كل ما بمقدوره فعله أن يذهب مع المدعى وبعض كبار السن من جماعة المدعى إلى منزل المتهم طالباً منه ومن أقربائه مناقشة الأمر. فقط في حالة قبول الطرفين بالخضوع للتحكيم يمكن تسوية الأمر. أيضاً، ورغم أن الزعيم بعد التشاور مع كبار السن، يمكنه أن يصدر حكماً، فإن هذا الحكم يمكن التوصل إليه بالاتفاق العام، بالتالي، ينبع من اعتراف جماعة المتهم أو جماعة المدعى بأن العدالة تقف مع الطرف الآخر. نادراً ما يطلب من الزعيم العمل وسيطاً، وليس هناك من أحد آخر له سلطة التدخل في النزاعات، والتي تسوى بطرق أخرى غير الوسائل القانونية.
بالمعنى الحرفي للكلمة، ليس لدى النوير قانون. ليس هنالك فرد له وظائف تشريعية أو قضائية. هناك مدفوعات تقليدية مستوجب دفعها للفرد المتضرر الذى أصابته جروح معينة- الزنا مع زوجته، أو مع ابنته، والسرقة..الخ- لكن تلك المدفوعات لا تؤلف نظاماً قانونياً، ذلك أنه لا توجد سلطة مكونة ونزيهة تقرر في صحة وخطأ النزاع وليس هناك سلطة خارجية يمكنها فرض مثل ذلك القرار في حالة صدوره. إذا كان الحق إلى جانب فرد، و، بفضل ذلك، ينال دعم أقربائه وأنهم مستعدون لاستخدام القوة، فإنه ستكون له فرصة جيدة لأن ينال ما يستحق، إذا كان الطرفان يعيشان بالقرب من بعضيهما الآخر. الطريقة المعتادة لأن ينال الفرد حقه أن يذهب إلى حظيرة المستدين ويأخذ أبقاره. مقاومة المستدين تعنى المخاطرة بالقتل والضغينة. يبدو أن الكيفية التى يسوى بها النزاع تعتمد إلى درجة بعيدة على الوضعيات النسبية للأشخاص المعنيين من الأقرباء ومن الطبقة العمرية في الأنساق والتباعد بين مجتمعاتهم في البنية القبلية. نظرياً، يمكن للفرد أن ينال التعويض من أي عضو في قبيلته، لكن، في الواقع، هناك فرصة غير كبيرة لفعل ذلك إلا في حالة أن يكون الفرد عضواً في مجتمع محلى ومن الأقرباء. تتفاوت قوة القانون تبعاً لوضعية الأطراف في البنية السياسية، وبالتالي فإن “قانون” النوير هو نسبى في المقام الأول، مثل البنية نفسها.
خلال العام الذى أمضيته مع النوير، لم أسمع قط بقضية أديرت، سواء أمام فرد أو مجلس للأكابر، وتملكني الإحساس أنه من النادر للغاية للفرد أن ينال تعويضاً إلا عن طريق القوة أو التهديد بها. وكما أنه لم يكن للنوير قانون، فإنهم كذلك يفتقدون حكومة. فالزعيم جلد النمر لا يمثل سلطة سياسية كما وأن “رجل القطيع” والوسطاء الطقوسيين الآخرين (الأخصائيين الطوطميين، وصناع المطر، وملاك الفتش، والسحرة، والمقدسين وغيرهم) لا يمتلكون وضعاً ولا وظيفة سياسية، رغم أنهم يمكن أن يكونوا متميزين ومهابين في منطقتهم. الرجال الأكثر نفوذاً في قرية هم في العادة رؤساء عائلات مشتركة، بخاصة عندما يكونوا أثرياء بالأبقار، ويتمتعون بشخصية قوية، وهم أعضاء في العشيرة الأرستقراطية. لكنهم لا يحتلون وضعاً ووظائف محددة. كل نويرى نتاج تنشئة مساواتية صارمة، ديمقراطية عميقة، وتسهل إثارته لممارسة العنف، ويعد نفسه صالحاً مثله مثل جاره؛ والعائلات، والعائلات المشتركة، في الوقت الذى تنسق فيه نشاطاتها مع نظيراتها في القرية، تنظم شؤونها وفق ما تراه. حتى في حالات الحملات، يكون هناك القليل من التنظيم، وتنحصر القيادة في مجال المعركة ولا تكون مؤسسية ولا دائمة. تصبح مهمة سياسياً فقط عندما تدار الحملات من قبل الأنبياء ويكونوا هم المتحكمين فيها. لا وجود لأخصائيين نوير يمكن أن يقال أنهم وسطاء سياسيون ويمثلون، أو يجسدون، وحدة الجماعات المحلية وخصوصيتها، وباستثناء الأنبياء، لا يمتلك أي أحد أكثر من مجرد الشهرة المحلية. كل الزعماء، بهذا المعنى المبهم للأفراد المتنفذين في المنطقة، من البالغين سن الرشد، وباستثناء بعض النبيات العارضات من النساء، كلهم من الرجال.
ونسبة لأن أنبياء النوير كانوا بؤرة المعارضة للحكومة (الاستعمارية – أسامة)، فإنهم كانوا في حالة اختفاء وتحت المطاردة، خلال زيارتي لأرض النوير، ولذلك لم أتمكن من إجراء ملاحظة دقيقة لسلوكهم. يتوحد النوير في القول بأن ظهور الأنبياء لم يسبق نهاية القرن الماضي (التاسع عشر- أسامة) وهناك بينة تشير إلى أن ظهورهم ارتبط بانتشار المهديَّة. غض النظر عن ذلك، لا يوجد شك في أن الأنبياء المتنفذون ظهروا في أزمان التغلغل العربي إلى أرض النوير وأنه بحلول أزمان الاستعمار البريطاني كانوا قد اكتسبوا احتراما وتزايد تأثيرهم أكثر من أي أشخاص آخرين. لا تشن أية حملات واسعة بدون مباركتهم ومبادرتهم وعادة ما يقودون بأنفسهم تلك الحملات، وينالون جزءاً من الغنائم، وأشرفوا إلى حد بعيد على توزيع المتبقي منها. رغم أنه يبدو أن هناك بينة تشير إلى أن الأنبياء المبكرين لم يكونوا أكثر من وسطاء طقوسيين، فإن أنبياء لاحقين يبدو أنهم أخذوا في تسوية النزاعات، على الأقل في مناطقهم الخاصة. على كل، فإن أهميتهم السياسية تكمن في مجال آخر. فلأول مرة جسد فرد واحد، حتى ولو كان ذلك في شكل روحي أساساً، وحدة قبيلة، ذلك أن الأنبياء كانوا بالضرورة رموز قبلية، مع أن ذلك- وهذه الحقيقة ليست ذات أهمية سياسية- عادة ما امتد نفوذهم إلى ما وراء حدود القبيلة وجلب إلى درجة بعيدة الوحدة وسط القبائل المتجاورة خلافاً لما كان يبدو في السابق. وعندما نضيف بأنه كانت هناك نزعة لدى الأرواح التى تتملك الأنبياء إلى الانتقال- بعد وفاتهم- إلى أبناء أولئك الأنبياء، فإننا نكون محقين في الاستنتاج بأن التطور نحى باتجاه درجة أعلى من الفيدرالية بين القبائل وباتجاه ظهور قيادة سياسية، وتفسير تلك التغيرات بالرجوع إلى التدخل العربي والبريطاني. كانت المعارضة بين النوير وجيرانهم دائماً مقطعية (عدوان داخلي في إطار العصبية بالمفهوم الخلد ونى- أسامة). لكنهم الآن أصبحوا مواجهين بعدو قوى مشترك (عدو خارجي بالمفهوم الخلد ونى- أسامة). عندما قضت الحكومة “الاستعمارية”- أسامة) على الأنبياء، فإن هذا التطور أمكن كبحه.
خلاصة
وصفنا بإيجاز وحللنا ما نعتقد أنه النسق السياسي للنوير: العلاقات بين الشرائح الإقليمية في إطار نظام إقليمي والعلاقات بين ذلك وأنظمة اجتماعية أخرى في إطار بنية اجتماعية شاملة. اختبرنا العلاقات البين قبلية، والعلاقات بين الشرائح القبلية. تلك العلاقات، إلى جانب الصلات القبلية والبين قبلية مع الشعوب الأجنبية، هي ما نعرفه بأنه النسق السياسي للنوير. في الحياة الاجتماعية يندمج السياسي مع أنساق أخرى، بخاصة نسق العشيرة ونسق الطبقات العمرية، وناقشنا العلاقة التى تؤسسها مع البنية السياسية. كذلك ذكرنا تلك التخصصات الطقوسية ذات الأهمية السياسية. النسق السياسي تمَّ ربطه بالظروف البيئية وأنماط الحياة.
دستور النوير فردى وحر للغاية. انه دولة لا رأسية، فاقدة لأية أجهزة تشريعية وقضائية وتنفيذية. ومع ذلك، فإنها بعيدة عن أن تكون فوضوية. لها شكل مستمر ومتماسك يمكن تسميته “فوضوية منظمة”. غياب حكومة مركزية وبيروقراطية في الأمة، في القبيلة، وفي الشرائح القبلية يلاحظ بدرجة أقل في غياب أى أشخاص يمثلون وحدة تلك المجموعات وخصوصيتها.
ليس ممكناً من واقع دراسة مجتمع النوير وحده، إذا كان ذلك ممكناً بحال، تفسير وجود مؤسسات سياسية وغيابها من منطلق علاقاتها الوظيفية مع المؤسسات الأخرى. على أفضل وجه يمكننا القول بأن خصائص اجتماعية محددة يبدو أنها كانت متوافقة. الظروف البيئية، ونمط الحياة، والتوزيع الإقليمي، وشكل التفلق السياسي يبدو متوافقاً. كذلك وجود العشائر مع بنية سلاسل النسب ونسق متطور للطبقات العمرية يبدو متلازماً مع غياب سلطة سياسية وتراتب طبقي. الدراسات المقارنة وحدها يمكن أن تظهر عما كانت مثل هذه التعميمات صحيحة و، إضافة، عما إذا كانت مفيدة. لا نستطيع هنا مناقشة تلك المسائل لكننا نقول فقط، في الختام، أن التوافق الذى ندركه في بنية النوير السياسية هو عملية صيرورة أكثر منه عملية مورفولوجية. تتألف العملية من نزعات مكملة باتجاه التفلق والانصهار والتي، تتفاعل بالمثل في كل الجماعات السياسية عن طريق سلسلة من الضمينات والاستثناءات المتحكم منها عبر الوضع الاجتماعي المتغير، تمكننا من التحدث عن نسق والقول أن هذا النسق محدد بصورة متميزة عن طريق التعارض النسبي بين شرائحه.