د. لوشــن حسين
جامعة بجاية / الجزائر
– مقدمــة
أول ما نلفت النظر إليه، جدية الطرح التي بدت واضحة في الإشكالية، والأهداف الخاصة بالموضوع القائم للحوار، الذي يتوقع أن يكون معمقا ومجديًِا علميا وواقعيا.
وطبقا لهذا التوجه الباحث عن مخرج، يُمكن للمجتمع من إمتلاك شروط الإنتقال النوعي والنجاح مستقبلا، وذلك بإجادة التعامل المحكم والموجه، مع القضايا الشائكة والمصيرية التي أفرزتها الألفية الثالثة، والمنخرطة ضمن سيرورات غير منقطعة، وتمتد لتشمل الإنسان بالمفهوم الواسع، وهي:
1- قضية المواطنة
وتُـَرد إلـى
– الإنتماء
– الإستقرار
– التضحية
– العمل
2- قضية الخصوصية الثقافية
وتتعيـن فـي
– التعلم والعلم
– الإبداع والإبتكار
– المرونة والإنفتاح
– الوعي والتحضر
3- قضية التنوع الثقافي
وتتوطن بـ
– المشاركة الفاعلة والفعالة
– المنافسة الخلاقة والإيجابية
– التطور والتقدم المثمر
– التفوق والإستمرار
وحتى لا نكون من المغالين، نعتقد أنه من الصعب إن لم نقل المستعصي، كسب هذه الرهانات المحورية، المتحركة بين قطبيتي :
– إما إثبات قوة الذات، والإعتزاز بإرادتها وعطائها اللاّمحدود زمانيا ومكانيا وإنسانيا
– وإما قبول ضعف الذات ووهنها، والإعتراف بإتكالها وتبعيتها اللاّمشروطة، فكرًا ووجدانا ومادّة ومصيرًا
إذن، التكامل بين هذه القضايا الجوهرية، لا يتم إلا من خلال ترشيد إستعمال العناصر الضرورية التي تتوقف عليها، وبالتالي الإرتقاء بالمجتمع إلى المرتبة الرفيعة، من حيث التكوين والتنظيم والموقع، والشأن الثقافي والإجتماعي والحضاري، أو الوجود المعزّز بكل ما تستلزمه عملية البناء، وبوتائر ثابتة وآليات متجددة.
أولا- شرح الوحدات الأساسية للتحليل
إن فك التركيبة الثلاثية المسلكية، للموضوع الذي نحن بصدد معالجته، يفرض علينا توظيف و تنضيج مجموعة من المفاهيم، نعدها وحدات مهمة في التحليل، وهي:
1-المواطنة La citoyenneté
يدل مفهوم المواطنة، حسب ما جاء في موضوعات ومعاجم علم الإجتماع، أنها… المكانة أو العلاقة الإجتماعية، التي تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي وهو الدولة ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني مهمة الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة عن طريق القانون، كما يحكمها مبدأ المساواة، لذلك استخدم المصطلح في علم الإجتماع، للإشارة إلى إلتزامات متبادلة من جانب الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على بعض الحقوق السياسية والمدنية نتيجة إنتمائه إلى مجتمع سياسي معين، لكن عليه في نفس الوقت أن يؤدي بعض الواجبات(1)، وتبقى هذه العلاقة مستمرة، ما دام الفرد يقطن في أرض معينة حدودها سياسيا وإكتساب الحقوق المختلفة وبعدل وإنصاف.
وبالنسبة للمواطنة في جانبها السوسيولوجي، تتعدى البعدين السياسي والقانوني، إذ يصبح من حق الفرد تشكيل علاقات تفاعلية وتبادلية، تمنحه تدريجيا تعزيز أدواره ومكانته بين الأفراد الآخرين، وحتى داخل المؤسسة التي ينشط بها، بصفة منظمة ورسمية وبإتجاه تحقيق أهداف خاصة وعامة، ويكون لها نفع فردي وجماعي ومجتمعي.
والفكرة التي يجب الإفصاح عنها، أنه كلما كان للفرد موقع معنوي وإجتماعي، وسياسي وقانوني ومادي معتبر ومحترم، وإطار للعيش الآمن والمستقر والحر…، كلما ولدت لديه هذه الامتيازات التي تمنحها إياه اà>لدولة، الشعور العميق بالإنتماء لوطنه، ومنه الإعتزاز بامتداده وهويته وأصالته وتاريخ بلده وشعبه.
وفي كل الحالات، المواطنة الحقيقية تتكون عبر الزمان والمكان، وكلما تجدرت في نفوس الأفراد أكثر، تحولت صرح قوي ممثل في الإلتحام ليس فقط بالدولة، وإنما بالأمة وبوحدة قيمها ومبادئها، وثقافتها ومجدها الحضاري العريق.
2-الإستراتيجية La stratégie
يقصد بمفهوم الإستراتيجية من الناحية السوسيولوجية،… الخطة المحكمة والمحددة، والتي يتعين فيها الإتجاه الرئيسي للحركة(2)، بحيث تتطلب من كل الفعاليات الموجودة، بدءا بالفرد الذي يجد نفسه ملزما بالإرتقاء إلى الموقع الأفضل في النسيج الإجتماعي، لكن شريطة حرصه على إختيار أنجع الآليات والأساليب، التي تقوده إلى إمتلاك شروط الوحدة والقوة الذاتية والآخرية المتوازنة.
وبالمقابل، لابد أن يعمل إلى جانب الجماعة المهيكلة، والتي يتفاعل ويتكيف معها في البيئة الإجتماعية، مع ضمان تطوير سبل بلوغ النجاح، لأجل خدمة المصالح الخاصة، والمصلحة العليا للمجتمع، هذا الأخير الذي من المفروض أن يتدخل، فيهيئ مجموعة القوانين والتنظيمات والمعايير، والإجراءات العلمية والملموسة، قصد بعث روح التعاون والإنتماء والتضحية لدى الجميع.
وطبقا لهذا التصور، تبقى الإستراتيجية التي تخص والمواطنة، وكذلك الخصوصية والتنوع الثقافي، تتحرك دائما نحو تصميم خطة متكاملة، يكون من بين أقوى محكماتها، العناية بحفظ وحدة الكائن الإجتماعي المتمدن، سواء الفرد أو الجماعة أو المجتمع، إلى جانب رسم محددات الأفكار والسلوكات، والممارسات التي تصنع الثقافة، والمعبّر عن وحدة خصوصياتها ومن جهة ثانية تعكس التنوع الغني بالعطاء والإبداع…
وحين التدقيق في هذه الرؤية، نقول أن القضايا الثلاث المذكورة، كي يتم تشكيلها وتحويلها إلى واقع معاش، فذلك ما يستوجب إستراتيجية واضحة ومرنة، تلتقي فيها مختلف العوامل والأسباب، والتي يُفضل أنها تؤدي للنجاح والتفوق في أغلب الأمور، التي تخص مكانات الأفراد من دون إستثناء، والموقع الثقافي والحضاري للدولة والأمة.
3-الخصوصية الثقافية La Spécificité culturell
يوجد شبه اتفاق بين الكثير من المنظرين والباحثين، وذلك في تحديدهم للثقافة، أنها… مجمل النشاط البشري، الذي لا يشكل تعبيرا بحتا عن الصفات البيولوجية للأجناس (الإنسان)، ويستخدم المصطلح كتجريد شمولي، يضم في إطاره الأفكار والممارسات والفنون المهارية المادية والرمزية، لجماعات بشرية محدّدة من جميع الأنماط، وبهذا فهو يستعمل بالمثل بالنسبة للجماعة المتمايزة والممتدة عبر الزمان والمكان(3)، بدليل أن الوجود الإنساني يقتضي بالإكتساب، قيام المركبات الثقافية في جانبي الحياة الفكرية والمادية.
ومادامت الثقافة في عمق أبعادها الضيقة والواسعة، تفيد كل ما صنعه الإنسان بعقله وبيده وبحسه المرهف، وبتوظيف مهارته وإبداعاته، وتوجيه خبراته وكفاءاته فغنها بذلك لا تخرج عن إطار الإدارة الحرّة و الخلاقة، والكيفية التي يسلك ويُعبّر بها كل من الفرد والجماعة والمجتمع، سواء بالنسبة للأفكار والتصورات، وأيضا القيم والإنطباعات والمواقف، والفنون والرموز والابتكارات…، وهذه العناصر وغيرها عديدة، هي ما تطبع الثقافة بالخصوصية.
أي، أن الخصوصية في الثقافة ستعطيها القوة والتماسك، لأنها في الأخير تعكس وحدة الإرادة والتفكير والتدبير…، لكل الأفراد والجماعات التي تنتمي لمجتمع معين، وفي سياق نفس التوجه… فإن المعالم الواضحة لهُوية الثقافة، وبخصوصياتها في الفكر والقيم والصنائع، ستظهر عند وجود الإختلاف، أو عند المقاربة مع الثقافات الأخرى، وإن الوعي بهذه المسألة، لا يحصل إلا عند المواجهة مع ثقافة تغيب فيها المعايير المطلوبة(4)، وساعتها لا تأتي الثقافات على خط أو ملمس واحد وثابت.
وتبقى مسألة الخصوصية في الثقافة، تساعد على نمو وتطور مناشط الجميع داخل المجتمع، وكلما زادت درجة الإبداع والإنفتاح، أمكن للثقافة أن تستمر في الزمان والمكان، وتحقق بالتالي قيمة مكانتها في الكيان الفردي والجماعي والمجتمعي.
4-التنوع الثقافي La diversité culturelle
تحديد مفهوم التنوع الثقافي، حسب ما جاء في إعلان اليونسكو العالمي، وفي المادة الأولى والتي تخص التنوع الثقافي بوصفه تراثا مشتركا للإنسانية، أن… تتخذ الثقافة أشكالا متنوعة عبر الزمان والمكان، ويتجلى هذا التنوع في أصالة وتعدد الهويات، المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية، والتنوع الثقافي بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري، وضرورة للتنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية، وبهذا المعنى، فإن التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية. وينبغي الإعتراف به، والتأكيد عليه لصالح أجيال الحاضر والمستقبل(5)، ونص المادة يطرح قضية جوهرية.
نراها تتعين في إعطاء الفرص كاملة، لكل ثقافة كي تعبر عن هويتها وخصوصيات عناصرها، حتى تصبح معروفة بأنماطها الفكرية والقيمية والخلقية، واللغوية والسلوكية والفنية…، في حالة إلتقائها ومقاربتها بباقي الثقافات، التي تتمثلها المجتمعات هنا وهناك.
وفي هذا الإطار، فإن التنوع الثقافي يقدم إشارات ضمنية، تكشف عن قدرة الأفراد في المجتمع على الإبداع، وصنع متطلبات ومستلزمات الحياة بالإرادة الخالصة، إضافة إلى الإستفادة الفردية والجماعية من مناهل القيم والمعتقدات والعادات والتقاليد، هذه العناصر التي تساعد الأشخاص على التفاعل والتفاهم والانسجام، وأيضا تحرر ملكاتهم وطاقاتهم وتعززها، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وإزاء التنوع الثقافي المحصن بالمواطنة الموجهة استراتيجيا والخصوصية، سيجد الفرد نفسه مطالبا بالتعبير عن أفكاره، وممارسا لمناشطه وإبداعاته، كما يستطيع أن يكتسب حقوقه في مختلف ميادين الحياة، ومن ثم ينتقل لينخرط في فضاء المشاركة في الحياة الثقافية، وهو نفس المكسب الذي ينطبق على المجتمع، لما تتعدد وتتنوع ثقافات المجتمع العالمي، خصوصا في الآونة الأخيرة.
اتضح لنا، بعدما قمنا بالشرح المختصر لوحدات التحليل، أنها تحمل ثنائيات ضمنية، لا يمكن فصلها عن بعضها، وتتعين فيما يلي:
1- المواطنة والوطنية
والتي تمتد بين الولاء والإستقرار، ونزعة الإنتماء والتمسك والدفاع في السرّاء والضراء
2- الخصوصية والتميع الثقافي
وتتجسد في الإرادة الحرة والمستقلة، في الإبداع والصناعة والتكوين، والمنمطة في التفكير والسلوك والممارسة، أوالإرادة المقيدة والشخصية التي في حالة ذوبانها وتبعيتها، وغير القادرة على إثبات الجدارة عبر الزمان والمكان
3- التنوع والجمود الثقافي
وينعكس في إمتلاك شروط الإبداع والعمل والنهضة، ومن ثم تحقيق النمو والتطور والتغيير المنشود، وكلها ميزات يُعبر عنها الأفراد والمجتمع، بالمشاركة الفعالة والإيجابية، وإما بحالة الركود والإتكال والإستهلاك، والاتجاه نحو الإندثار والتأخر عن الركب الثقافي والحضاري.
ومن هنا، سوف يأتي تناولنا للأفكار والمسائل في هذا العمل، النابع من المقاربات العلم اجتماعية، لا يخرج عن المسلمات التي أكدنا عليها في هذه الخطوة الرئيسية.
ثانيا: الأبعاد الخاصة بتعيين المواطنة
المواطنة موضوع واسع النطاق، ولا يقتصر على تحديد نظري مستقل، لكن الراجح عند رجال الفكر، أنها معطى تقبل فيه النمو والتطور، وتتجذر أكثر كلما تهيأت لها الظروف والأسباب المواتية، بحيث تصبح لها أبعاد عديدة، ومن بين أهم ما يُعينها مايلي:
1-الوطن بعد ضروري للمواطنة
منذ أن بزغ نور حياة الإنسان على وجه الأرض، وهو يبحث عن مستقر يُؤمّن فيه لنفسه شروط حفظ النوع البشري، والإنتشار والأمان والبقاء، وقد زاد تطلعه، لما انتقل من مرحلة المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي (الدولة).
وفي المرحلة الثانية، وبحكم ما يسمى في القانون الدولي، ظهور إرتسام الحدود السياسية لكل دولة، بمعنى تثبيت المجالات الرئيسية للأقاليم السياسية من الناحية البرية والبحرية والجوية.
وداخل نطاق هذا التحديد يقوم الوطن، وهنا تبدأ مسيرة الفرد المواطن، ترتبط أكثر بالأرض والأسرة والمنزل، والأبوة والأمومة والأخوة، والجماعة والدولة والأمة، وتدريجيا تتحول هذه الكيانات لتتأصل في نفسيته وذهنيته ووجدانه وتنتج لديه قناعة أن الوطن جزء ثمين لا ينفصل عن هويته ومواطنته.
وإذا امتلك الوطن معنويا واجتماعيا شخص المواطن، فحينها سوف تتأكد مقولة… أن الإنسان يُدرك جيّدا، أنه في حالة كونه بلا وطن، يكون والعدم سواء، وتتلاطم به الأمواج، ويبقى ضائعا بين الأمصار(6)، ولذلك فتمسك الأفراد والجماعات بكل ماله صلة ضمنية وشكلية بالوطن، فإنما مؤاده وجود دولة وأمة قوية، وموّحدة بشريا وفكريا وتاريخيا، ثم مقوّمة قانونيا وسياسيا وثقافيا، و متضامنة ومعززة إجتماعيا في الزمان والمكان وبلا إنقطاع.
2-السيادة بعد رئيسي للمواطنة
المواطنة نسيج لعلاقة فعلية، ودائمة بين طرفين مهمين هما الدولة والفرد، ومحصّنة بعناصر ومقتضيات مختلفة، ويمكن التعبير عنها بالحقوق والواجبات.
ومادامت الدولة طرف محوري في تجسيد المواطنة، فإنه يتعين عليها منح حقوق الحياة، والتي يستفيد بها المواطن طيلة عمره، مثل حق العيش والصحة والتعليم، والعمل والمسكن والتمثيل، والمشاركة والتملك، والتعبير عن آرائه وإنشغالاته، وممارسة المناشط القادر عليها وتبادل المصالح، وهذا كله في إطار من الحرية والديمقراطية، والعدل والمساواة بين الجميع، أفراداً كانوا أو جماعات أو فئات وشرائح إجتماعية.
وإذا رجعنا إلى الفرد، وهو طرف جوهري في تأسيس المواطنة، فإنه يستوجب عليه مادام قد أخذ حقوقه من الدولة، السيّدة في إعطائها إياه، أدائه لمجموعة من الواجبات، مثل إحترام النظام وطاعة القوانين، وإلتزام الضوابط التنظيمية والعرفية والقيمية، ودفع الضرائب والمحافظة على الثروات والممتلكات والتراث، وتقديم الخدمات بإخلاص…، إلى جانب المشاركة الفعالة في تنمية وتطوير الدولة والوطن، شريطة أن تتحقق إرادته الحرة والخيّرة، وساعتها تكون سيادته عنصر فاعل في تعميق مواطنة.
وفي شأن المواطنة المدعومة بالسيادة المتداولة بين الدولة والأفراد، يقول ديفيد ج