كاتب من مصر
أولاً: في البحث عن إطار شامل
قضية المنهج في دراسة عناصر التراث الشعبي لا تنفصل عن مسألة الجمع (الذي يكفل توفير المادة الميدانية أو التاريخية.. وغيرها وتصنيفها وحفظها)، ولا عن التوجه النظري الذي يتبناه الباحث. ومع أن مثل هذا التلازم واضح ومحل اتفاق في أغلب العلوم الاجتماعية والإنسانية، إلا أنني أزعم أن هذا التلازم بين الجمع، والمنهج والنظرية أقوى وأوضح ما يكون في علم الفولكلور.
ولو حاولنا بسط علاقة التلازم هذه فربما نفكر في باحث يتبنى نظرة وظيفية (تركز النظر على معرفة دور العنصر الشعبي في حياة ممارسيه)، فقد لا يبدي أدنى اهتمام بالحصول على معلومات تاريخية عن هذا العنصر، تدل على ما اعتراه من تحولات عبر الزمن، وإنما سيركز على بيانات «حية» معاصرة، وسوف يتبنى لذلك منهجاً سوسيولوجياً (اجتماعياً) يتتبع حركة هذا العنصر على خريطة المجتمع الذي يدرسه.
بالمثل نجد الدارس الذي يتبنى صيغة معينة من التوجه التاريخي (كنظرية إعادة بناء التاريخ، أي استخدام عناصر التراث الشعبي في رسم صورة دقيقة للتطور التاريخي لجماعة معينة)؛ مثل هذا الدارس ستكون مادة بحثه الرئيسية معلومات عن العنصر – أو العناصر – التاريخية المستمدة من عصور مختلفة. ولن تكون بيانات الحاضر «الحية» أكثر من بيانات مرحلة تطور، ضمن سلسلة من المراحل التي ينوي إخضاعها للدرس والتحليل. ومصادره للحصول على هذه المادة سوف تختلف بالقطع عن تلك التي يستعين بها زميلنا الوظيفي الذي أشرنا إليه.
أما إذا كان الباحث يتبنى نظرية حديثة – بل هي الأحدث – تنظر إلى التراث ككيان حي يستمد مقومات وجوده من شتى المصادر، ويخضع لكثير من المؤثرات، ويقف دائماً في موقع الصدارة من الحرص على الاستجابة لاحتياجات الناس المعيشية في كل عصر، ينفعل بها ويؤثر فيها.. وهو في خضم هذا التفاعل الحي المستمر يُسقط بعض عناصره (التي تعجز عن مواكبة التطور) ويشدد قبضته متمسكاً بعناصر أخرى، ويستعير عناصر غيرها، ويعيد تفسير بعضها، أو يعيد تسمية بعضها…إلخ. إذا كان هذا الباحث يفعل ذلك فهو يتبنى نظرية إعادة إنتاج التراث. وفي هذه الحالة سوف يهتم بجمع المادة الشعبية التاريخية والمعاصرة بنفس القدر، وسوف يتبنى مناهج التحليل التاريخية بنفس قدر اهتمامه بالمناهج السوسيولوجية. وهكذا تتأكد هذه الرابطة العضوية بين عمليات جمع المادة الشعبية، ومناهج تناولها، ونظريات تفسيرها وتحليلها.
ولهذا يصبح من الطبيعي أن تتناول ورقتنا عن «المنهج في دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد» ثلاثة أقسام رئيسية هي:
1- جمع وتصنيف المادة الموجودة في الواقع والمستمدة من المصادر التاريخية المتاحة.
2- مناهج تناول هذه المادة الشعبية، من حيث تحليلها وتفسير دورها في حياة الناس.
3- الإطار النظري العام الذي تدور داخله عمليات الجمع والتحليل، والذي يرسم حدود المفاهيم التى نتعامل فيها في بحثنا. وهي هنا المعتقدات والعادات والتقاليد.
وهذا التعدد في ركائز أي دراسة فولكلورية رصينة قد يثير لدى البعض مشكلة تحديد أولوية أي منها على الأخرى: هل الأنسب البدء بتبني رؤية نظرية، أم اتخاذ سبيل منهجي بعينه، أم أنه يتعين علينا أن نجمع مادتنا (الميدانية والتاريخية) ونهيئها للبحث قبل أن نتصارع على النظريات وعلى الأساليب المنهجية. لقد أكدت في السطور السابقة أن التلازم بين هذه الركائز الثلاث هو العرف السائد في شتى العلوم الاجتماعية، ومعنى ذلك أن طرح مسألة الأولوية هو طرح في غير محله.
ولكنى مع ذلك ألفت النظر إلى خصيصة ينفرد بها علم الفولكلور، أولاً بسبب طبيعته الخاصة (أنه لا يتعامل إلا في مادة حية – أو كانت حية – متداولة بين الناس)، وثانياً بسبب مرحلة تطوره في عالمنا العربي، ولا أغالي إذا قلت على المستوى العالمي أيضاً. هذه الخصيصة تدفع أهل هذا العلم دفعاً إلى تركيز الجهد على جمع المادة الميدانية والتاريخية.
وقد يتساءل البعض: أليس الأجدر بنا أن نطور لأنفسنا رؤية نظرية إلى موضوع العلم نفسه – وهو التراث الشعبي – ونتفق على أبعاد تلك الرؤية، ونحاول أن نروج لها بين الباحثين، ونعمل على الالتزام بها، ثم ننتقل بعد ذلك إلى تأمل واقع الممارسة الشعبية، والاهتمام بجمع المادة من الميدان أو من غيره من المصادر؟
أود أن أوضح بادىء ذي بدء أن تدقيق العمل الميداني، وتطوير أساليب جمع المادة الشعبية من الميدان لا يتعارض مع أي جهد نظري يبذل، ولا يعد تحيزاً لمنظور دون آخر. فالجهود النظرية يمكن أن تتنوع، والمحاولات النظرية يمكن أن تتعدد، والخلافات حول النظرية يمكن ألا تحسم سريعاً، وفي غضون وقت منظور. ولكن المادة المتاحة أمامنا في الميدان لن تظل ماثلة إلى مالا نهاية، وهي حتماً إلى زوال، طال الزمن أم قصر. لذلك يتعين علينا أن نجند كل جهد ممكن لجمع أكبر حشد من المادة. إننا نريد هنا حملة قوية لجمع تراثنا الشعبي. فلنتكلم إذن عن أساليب الجمع وأدواته.
ثانياً: الجمع الميداني يأتي أولاً
وهكذا يتعين الاتفاق على ضرورة أن نجند كل جهد ممكن لجمع أكبر حشد من المادة الميدانية والمواد المكتبية الموثقة عن شتى العناصر الشعبية. وقد اجتهدنا في سياق سابق لكى نلقي الضوء بالتفصيل على أساليب جمع المادة عن عناصر التراث الشعبي وأدواته، ولذلك سنشير فقط إلى الخطوط العامة، باعتبار تلك المصادر متاحة لمن يريد أن يستزيد1.
ويأتي على رأس تلك الأدوات دليل العمل الميداني، الذي يقسم كل عنصر أو مركب عناصر تراثي إلى عدد من الجزئيات التى نطرح عنها أسئلة متتابعة، أو نسجلها كرؤوس موضوعات لتذكير الجامع الميداني وتنبيهه إلى عناصر الموضوع. والميزة الأخرى لهذا الدليل أنه يكون أداة لتقنين عملية الجمع وإدخال قدر من التوحيد والتنظيم في العناصر المجموعة، بما يخدم- فيما بعد- عمليات التصنيف والمقارنة والتحليل.
وقد يعمد الدارس إلى جمع مادة علمية عن واحد أو أكثر من العناصر التراثية باستكتاب أحد أبناء الثقافة أو المجتمع المحلي الذي يدرسه؛ استكتابه تقارير عن بعض عناصر الحياة الشعبية في مجتمعه وعن سمات مواطنيه وخصائصهم الروحية والأخلاقية. وقد استخدم رواد علم الفولكلور هذه الطريقة في الخارج، وفي بعض البلاد العربية.
إلى جانب هذا نحن نعرف أن حضارتنا العربية الأصيلة تنفرد بميزة الثراء الواسع في المدونات على نحو يفوق أي حضارة إنسانية أخرى. ولذلك يمكن أن نقول دون مبالغة إن المدونات كمصدر للمادة الفولكلورية العربية تمثل مصدراً ثرياً ورئيساً يفوق الوضع المعروف في أي حضارة أخرى. فالحضارة العربية تعرف كتب الطبقات (تراجم الأشخاص) التي تتناول جوانب الحياة لآلاف الشخصيات البارزة الذين عاشوا على مسرح الحياة الإسلامية. كما تعرف الكتب الموسوعية التي تغطي كافة جوانب المعرفة والتي أبرزت جوانب التراث الثقافي في عصرها (ابتداء من ضرب الرمل وأساليبه حتى طرق مخاطبة الملوك، والقواعد الواجب اتباعها عند إبرام المعاهدات بين الدول…إلخ). وتعرف حضارتنا الموسوعات الطبية والنباتية، وكتب الرحلات الضخمة التى تفوقت على كل ما سبقها في حديثها الفني الخصب عن أكثر حضارات الأرض على أيامها.
وتمثل متاحف الفولكلور مصدراً مهماً لحصول الدارس على كثير من عناصر المادة الشعبية الأصيلة، خاصة تلك العناصر ذات الطبيعة المادية كالحلي، وقطع الزي، والأثاث، وأدوات العمل…إلخ.
أما الملاحظة المشاركة فتمثل مصدراً لا غناء عنه لدارس التراث الشعبي. وقد أكدنا في أكثر من موضع أنه لا حيلة للفولكلوري والأنثروبولوجي إلا أن يكون ملاحظاً مدققاً شديد الانتباه إلى كل التفاصيل، وإلى كل ما تقع عليه عينه، ليس الغريب فقط وإنما حتى الشيء المألوف الذي اعتادت عيناه أن تقع عليه كل يوم.
ومما يدعم هذه القدرة – التي لا ندعي ولا يدعي أحد أنها «فطرية» أو «ولادية» – المران الكثير، والاجتهاد في تدريب الذاكرة على الاحتفاظ بالتفاصيل، وتكرار الرجوع إلى الشيء الملاحظ أكثر من مرة لاستكمال ملاحظة بقية عناصر الشيء المدروس.
كذلك مما يساعد دارس الفولكلور على ملاحظة ما تقع عليه عينه ملاحظة جيدة أن يتمتع بحصيلة وافية في مختلف مجالات الثقافة العامة (خاصة المادية منها)، والثقافة الفنية (الرسمية منها أيضاً)، والأدبية واللغوية…إلخ. فهذه كلها ليست عديمة الصلة بأي دراسة أو جمع يجريه حول أي موضوع مهما بدا بعيداً عنها في الظاهر.
وقد عرضنا بالتفصيل في دراسة سابقة أنواع الملاحظة المشاركة أو مستوياتها ومناسباتها، وكذلك آلياتها وقواعد ممارستها ممارسة صحيحة. ولكننا نود أن ننبه هنا إلى لب الموضوع، وهو أن الملاحظة هي الأسلوب الرئيسي والأساسي لجمع المادة الفولكلورية من الميدان، وهي التي تزود الباحث بذخيرته الأساسية من الخبرة، وتخلق لديه عمق العالم المتخصص.
والملاحظة بهذا الشكل أداة أساسية للباحث في علم الفولكلور أياً كان تخصصه الفرعي داخل العلم، ولكنها أكثر ما تكون فائدة وأشد ما تكون ضرورة لدارس العادات الشعبية. فالعادات ممارسات حية، لا يمكن أن تختزل في نص أو تتمثل في أداة معينة، ولكنها جماع ذلك كله، تتجسد أمام الباحث في سلوك. حقيقة أنها تصدر عن معتقد معين، وتتوسل بأدوات معينة وترتبط بصيغ وعبارات بالذات، ولكنها حركة درامية تعرض نفسها للملاحظة بكل جلاء.
الأرشيف: بعد أن تتوفر المادة الميدانية والتاريخية عن شتى عناصر التراث الشعبي يتعين إخضاعها لعملية تصنيف وفهرسة. وهناك عشرات من نظم التصنيف والفهرسة التي طبقت وشاعت في معاهد الفولكلور المختلفة حول العالم. وبصرف النظر عن مزايا هذا النظام وعيوب الآخر، فالأمر الجوهري فيها جميعاً هو إخضاع تصنيف كل المواد– في أرشيف معين- لنظام موحد مقنن.
فتضارب أسس التصنيف في داخل نفس الأرشيف (كأن يتبع نظاماً معيناً في تصنيف بيانات عناصر التراث الروحية، وآخر في تصنيف بيانات العناصر المادية)؛ هذا التضارب إن حدث يهدم الأرشيف ويشل فاعليته في خدمة البحث العلمي. والسبب البسيط لمثل هذا الفشل أن الممارسة الشعبية – أياً كان مجالها – هي بطبيعتها مركبة ومتداخلة مع شتى المجالات. فممارسة الاحتفال بسبوع المولود يدخل في مكوناتها معتقدات، وعادات، وطقوس محددة، وعناصر دينية، وموسيقى وغناء، وموكب بترتيب معين، وأزياء، وأشياء مادية…إلخ. لهذا قلنا إن التصنيف والفهرسة يجب أن تنهض على أساس واحد ومقنن.
والمادة التي يحويها الأرشيف ستكون بطبيعة الحال متنوعة بتنوع الممارسات الشعبية، ففيها نصوص (لدعوات أو أغان أو رقى…إلخ)، وفيها تسجيلات صوتية وموسيقية، وفيها صور فوتوغرافية وشرائط فيديو، وفيها عينات لعناصر مادية شعبية…إلخ. وقد أصبحت مهمة التصنيف والفهرسة أكثر يسراً ودقة بعد التخلي عن الأسلوب الورقي في الحفظ والتحول إلى الوسائل الإلكترونية الحديثة (وضعت مكتبة الإسكندرية أرشيفاً رقمياً للمواد الفولكلورية بها).
وأحدث وسائل جمع المادة الشعبية وتصنيفها – بعد دليل العمل الميداني – هو مكنز الفولكلور، الذى صدر منه حتى الآن مجلدان في ألفي صفحة، من وضع مصطفى جاد، وتحت إشراف محمد الجوهري وفتحي عبدالهادي2.
وقد عرفت العلوم الاجتماعية- ومن بينها علم الفولكلور- خلال العقد الأخير طريقة جديدة لجمع المعلومات عن بعض عناصر التراث الشعبي الروحية: كالأدب الشعبي، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات. وهذه الطريقة هي التواصل عبر الإنترنت، الذي يتم عبر ما يعرف بالفضاء الإليكتروني Cyber Space، حيث يطرح الباحث عبر موقعه أو موقع مؤسسته العلمية (منتدى إليكتروني) نداءً للتواصل معه بالحديث أو موافاته بمعلومات عن موضوع معين: كالأساليب الشعبية في التداوي، أو اللجوء إلى المشعوذين، أو كما فعل كاتب هذه السطور وزملاؤه في جمع مادة عن: لغة الحياة اليومية. وسوف يضطرد بنجاح هذا الأسلوب في جمع المادة الشعبية في المستقبل المنظور بسبب سعة تغطيته وانخفاض تكلفته.
ثالثاً: نحو ضبط المفاهيم
المعتقدات والمعارف الشعبية
تدل صفة «الشعبية» هنا على ما تدل عليه في عبارة «الأغاني الشعبية» أو «العادات الشعبية»…إلخ، أي أننا نقصد – بالنسبة للمعتقدات – تلك التي يؤمن بها الشعب فيما يتعلق بالعالم الخارجي والعالم فوق الطبيعي. وليس من الأمور ذات الأهمية الرئيسية – مع أننا نوليها عنايتنا عند الدراسة وفي التحليل – ما إذا كانت هذه المعتقدات في الأصل معتقدات دينية (إسلامية أو مسيحية أو غير ذلك)، ثم تحولت في صدور الناس إلى أشكال أخرى جديدة بفعل التراث القديم الكامن على مدى الأجيال، فلم تعد بذلك معتقدات دينية رسمية بالمعنى الصحيح، أي أنها لا تحظى بقبول وإقرار رجال الدين الرسميين.
وفي ظل حركة المد الإسلامي، التي تتنامى على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، نشهد عملية فرز للمعتقدات الشعبية، تنكر بعضها مما لا يتفق «وصحيح الشرع»، وتبرز الطبيعة الإسلامية للبعض الآخر. بل نجد نفراً من الباحثين الإسلاميين فى العلوم الاجتماعية مؤخراً يستخدمون تلك المعتقدات ذات الأصل الإسلامي الصحيح لإثبات «سلامة الفطرة الشعبية».
ويمكن القول دون مبالغة إن بعض أولئك الباحثين الإسلاميين المهمومين بإثبات اتفاق «الفطرة الشعبية» مع «الفطرة الإسلامية» قد اتجهوا إلى تناول واحد من المعتقدات الشعبية الأوسع انتشاراً، وهي تكريم الأولياء، التي كان أصحاب مثل هذه التوجهات في الماضي يؤكدون بإصرار على تصادمها مع «صحيح الدين» وعلى أنها تخطو بالفعل على طريق «الشرك بالله»، وإن بدرجات متفاوتة. والمفاجأة المذهلة أن يتحمس هذا الفريق (الذى مازال قليل العدد، وحديث السن نسبياً) لإثبات أن «الشعب» فى تقربه إلى الأولياء وتكريمه لهم لم يكن يصدر عن تصور لتلك المخلوفات كقوة عليا قادرة على تلبية طلباتهم أو إجابة دعواتهم، وإنما يعي أفراد الشعب – في نظر هذا الفريق من الباحثين – أن مجيب الدعوات هو الله، والمانح والمانع هو الله، وأن أولئك الأولياء ليسوا سوى شفعاء أو بشراً مطلوب مساعدتهم ومساندتهم. ومن الناحية الشكلية لا عجب ولا تناقض في هذا التصور، ففى المعتقد الإسلامي الصحيح «يسمع» الموتى دعوات زوارهم، و«يردون» عليهم تحيتهم…إلخ. كما أن الدعاء والإلحاح في الطلب هو سمة المؤمن الواثق من الإجابة…إلخ.
وفي مجال المعتقدات الشعبية يتوسل الإنسان إلى القوى العليا، كالآلهة والأرواح والفتش والأولياء…إلخ، عن طريق الصلوات والدعاء. كما يسترضيها بواسطة الأضاحي والقرابين، ويتوسل إليها بالنذور والحج والزيارة. ويستعين بها للحصول على البركة ولتحقيق أغراضه من العمليات السحرية التي يمارسها. ويعرف التراث السحري آلاف الصيغ والدعوات للعن القوى الشريرة أو استرضاء القوى الخيرة واستعدائها على الشر.
ولكن هل يمكن أن ينجح مثل هذا العلاج التلفيقي المتعسف، الذي ينتزع الظواهر من سياقها، ويسعى لدعم موقف كلي وعام (إيديولوجي) عن طريق ليّ عنق الحقيقة في تفسير ظاهرة جزئية محدودة، سوف يثبت للكافة أنه مجانب للصواب، ومجاف لروح العلم. إن المعتقدات الشعبية هي الخريطة الكلية – بيد الشعب – لتفسير الكون، وفهم الظواهر الطبيعية العادية والشاذة: كتصورات الناس عن الزلازل، والبرق، والخسوف، والشهب… وكذلك تصوراتهم عن أسرار بعض الظواهر الفيزيقية والنفسية: كالأحلام، والنوم، والميلاد، والموت، ورؤية المستقبل بأنواعها ووسائلها المختلفة. ودون حاجة إلى الاستطراد في ذكر كل مجالات الاعتقاد الشعبي وتشعباته، ربما يكفي القول بأن المعتقدات الشعبية إرث مشترك بين كل الناس في كل مجتمع وفي كل عصر، ريفيين أم حضريين أم بدواً، أميين أم متعلمين، أغنياء أم فقراء…إلخ. وتعلمنا بحوث علم الفولكلور أن أكثر العناصر الاعتقادية الشعبية انتشاراً سواء في الماضي والحاضر، في العالم القديم والجديد، وعند الشعوب البدائية والمتقدمة هي: أساليب التنبؤ بالمستقبل ومحاولة استطلاع الغيب (الكهانة، والتنبؤ، التفاؤل والتشاؤم…إلخ). وتبلغ هذه العمومية وسعة الانتشار مدى بعيداً يجعل الباحثين يصفون كثيراً من المعتقدات الشعبية بأنها لا تاريخية، بمعنى أنها لا تنتسب إلى مرحلة تاريخية معينة، أو أنها من صنع فرد بعينه، على نحو ما ننظر إلى بعض منتجات الفن الشعبي التي توصف بهذه السمة أيضاً. وهي فوق كون بعضها لا تاريخية، فإنها جميعاً ذات طبيعة إنسانية عامة. ولكن برغم هذه الحقيقة العامة إلا أننا يجب أن نطرح على أنفسنا في كل مرة نتصدى فيها لدراسة موضوع من موضوعات المعتقدات الشعبية سؤالاً عن تاريخها، وعن ظروف العصر الذي ظهرت فيه، والمؤثرات التاريخية التي عدلت فيها…إلخ ذلك من مشكلات التحليل التاريخي.
العادات والتقاليد الشعبية
لا يوجد ميدان من ميادين التراث الشعبي – بعد الأدب الشعبي – حظي بمثل ما حظي به ميدان العادات الشعبية من العناية والاهتمام. وقد تمثلت هذه العناية وهذا الاهتمام في الدراسات الفولكلورية والسوسيولوجية العديدة من ناحية، وفي عمليات الجمع والتسجيل من ناحية أخرى.
والعادة – فيما يتصل بتعريفها – ظاهرة أساسية من ظواهر الحياة الاجتماعية الإنسانية. هي حقيقة أصيلة من حقائق الوجود الاجتماعي، فنصادفها في كل مجتمع، تؤدي الكثير من الوظائف الاجتماعية الهامة، عند الشعوب البدائية، كما عند الشعوب المتقدمة، عند الشعوب في حالة الاستقرار، وفي حالات الانتقال والاضطراب والتحول. وهي موجودة في المجتمعات التقليدية التي يتمتع فيها التراث بقوة قاهرة وإرادة مطلقة، كما أنها استطاعت أن تحافظ على كيانها ووجودها في ظل مجتمعاتنا العلمانية المتطورة، وابتكرت لذلك عديداً من الأشكال والصور الجديدة التي تناسب العصر.
وقد كان البعض يتصور في الماضي أن العادات الشعبية «الحقيقية» لا توجد إلا حيثما يوجد الإنسان التقليدي بعقليته السحرية الخرافية فوق الطبيعية وقبل المنطقية، على خلاف إنسان العصر الحديث الذي يعيش حياة عقلية رشيدة في كل أو معظم جوانبها. ولم يعد البحث الفولكلوري الحديث يشارك أصحاب هذا الفريق رأيه، ويرى أن هذه المقابلة بين الإنسان «التقليدي الخالص» والإنسان «العقلي الخالص» مقابلة زائفة ليس لها أساس من الواقع، فالإنسان وحدة واحدة، ذو طبيعة اجتماعية متجانسة، وهو ككائن اجتماعي يخضع دائماً أبداً لسطوة التراث، سواء اتسعت دائرة هذا الخضوع أو ضاقت. فالعادات الشعبية ليست كما أوضحنا مشكلة تاريخية، وإنما هي مشكلة معاصرة ذات صلة مباشرة بواقعنا، فهي قطعة من ذواتنا ومن واقع حياتنا، طالما كنا نعيش في مجتمع إنساني، ولذلك نستطيع تناول العادات في وجودها الراهن، وانطلاقاً من الحاضر. ولن نستطيع أن نفهم العادات الشعبية بمعناها الواسع فهماً كاملاً ومنصفاً إلا إذا نظرنا إليها كتعبير عن واقع إنساني اجتماعي يتخذ من العالم الواقعي موقفاً معيناً، قد يتفق مع موقفنا، وقد يختلف معه في كثير من الحالات. هذه النظرة هي الكفيلة بوصولنا إلى فهم سليم لطبيعة العادات الشعبية، فمن خلال هذا الموقف – الذي يمثل حقيقة أساسية من حقائق النفس الإنسانية – تنمو العادات كتعبير ظاهري عن هذا الوجود الداخلي.
ويشير هذا الاتساع الكبير لميدان العادات الشعبية على مدى تنوع وتعدد أساليب التناول العلمي المنهجي للعادات. وهو تنوع يكاد يجعل من المتعذر الإحاطة بهذا الميدان إحاطة كاملة، إن من حيث تعدد موضوعاته ومجالاته، أو في الكثرة اللامحدودة لما أنجز فيه فعلاً من بحوث علمية.
وإذا أردنا أن نلخص السمة الأخص للعادات والتقاليد قلنا: العادة الاجتماعية هي في المقام الأول فعل اجتماعي، فليست هناك عادة اجتماعية خاصة بفرد واحد فقط، إنما العادة تظهر إلى الوجود حيث يرتبط الفرد بآخرين ويأتي أفعالاً تتطلبها منه الجماعة أو تحفزه إليها. عندئذ فقط نكون بصدد «عادات اجتماعية» أو «عادات شعبية».
ومن هنا تختلف العادة – كفعل اجتماعي – عن إحدى أدوات العمل (التي تمثل تجسيداً لثقافة مادية)، أو عن أغنية شعبية (التي تمثل عنصراً من عناصر ثقافة روحية)، وبالتأكيد عن المعتقد الشعبي. فهي لا تتم إلا في إطار عملية تفاعل اجتماعي. وهذه الطبيعة الاجتماعية المميزة للعادة تجعلها مهمة بنفس القدر لبعض العلوم الأخرى التي يدور اهتمامها حول السلوك الإنساني، وفي مقدمتها: علم الاجتماع وعلم النفس.
من هنا لا تكون العادة الاجتماعية فعلاً يتتابع تلقائياً ويتم كيفما اتفق، أو حسب هوى من يمارسه، وإنما هو يتطلب انتظاماً وتكراراً محدداً. كما يلزم لممارسة العادة وجود جماعة، هي التي تضطلع بأدائها وتضبط إيقاعها وتحدد أبطالها، وتخلع عليها المعنى المقصود. وللعادة – كما قلنا – تتابع محدد له بداية .. ومسار .. ونهاية، يتعين أن تكون جميعها معلومة للجماعة التي تمارسها بمسمياتها ورموزها…إلخ.
وقد ترسخ هذا المعنى الخاص للعادة الاجتماعية في الدراسات الفولكلورية المبكرة في مفاهيم: التراث، والاستمرارية، ودلالة العادة وضرورتها…إلخ. وفي غير قليل من الحالات نجد أغلب تلك المفاهيم وقد تم تحميلها بشحنة من التفسيرات المزيفة ذات الطبيعة الإيديولوجية المنحازة. فكثيراً ما اندفع بعض الدارسين الألمان – في الحقبة النازية (فترة ما بين الحربين العالميتين) – في إثبات وتأكيد الأصل الجرمانى لهذه العادة أو تلك. وغير بعيد عنهم كان مسلك كل الدارسين السوفييت في الحقبة الستالينية، الذين تعسفوا تعسفاً ظاهراً في إثبات نشأة التراث الشعبي الشائع بين الطبقة العاملة تعبيراً عن «نضالها» و«طموحاتها»، الأمر الذي يعني إهمال – بل وإنكار – ما لا يتفق منها مع هذه التفسيرات. وفي نفس الإطار يمكن أن ننظر إلى المحاولات المعاصرة لبعض الكتاب «أسلمة» التراث الشعبي، وإهمال أو إنكار ما لا يتسق منها وهذه الرؤية، على نحو ما سلفت الإشارة.
معنى ذلك أن تفسير العادة أو المعتقد كعنصر حي يتداوله أفراد جماعة معينة في سياق عملية التفاعل لا يجوز أن يتم إلا في ضوء ما تخلعه عليه تلك الجماعة من مكانة وما تعزوه إليه من تفسيرات. لأن كل تفسير من «خارج» سياق الممارسة الاجتماعية هو على الأرجح تفسير فاسد، أو على الأقل مناوىء للعلم.
التقاليد: اعتاد دارسو الفولكلور الأوائل ألا يدققوا في البحث عن فروق دقيقة بين مفهومي العادة والتقليد، وكثيراً ما كانا يعدان مترادفين. وكان فريق من الفولكلوريين الأوائل يعدون التقليد عادة ميتة، فقدت معناها، وباتت تمارس دون وعي بمدلولها، وتشيع وسط الدوائر الأكثر بساطة أو «تخلفاً».
واتجه البعض – في العقدين الأخيرين – إلى إسناد مكانة أعلى للتقليد، وقدرة على توجيه العادة، بحيث جعلوه قريباً مما نسميه اليوم القيمة أو المعيار. وقد قبل هذا الفريق – ضمناً أو صراحة – تعريف التقليد كقوة معيارية، وكظاهرة تتطلب الامتثال الاجتماعي، فهي في ذلك رائدة للقانون. ومن هنا يأتى تعريف فيكمان للتقليد بأنه ذو طبيعة معيارية، يستمد سلطته رأسياً (أي تاريخياً) وأفقياً (أي اجتماعياً).
ولكن فولكلوريّ القرن التاسع عشر والثلث الأول من العشرين لم يقتصروا على هذه الرؤية البريئة المنزهة عن التحيز. وإنما نظروا إلى التقاليد بوصفها قوة الاستمرار لكل ما هو أخلاقي وسليم..إلخ. ولأن التقليد ليس شيئاً ملموساً كالعادة– لأنه ليس فعلاً وليس مقرراً كالقانون- فاعتبر أنه لابد وأن يكون مستمداً قوته وسطوته من مصدر خارج البشر، ومتمتعاً بقوة تفوق قوة الفاعلين الاجتماعيين، إنه بمسمى آخر: «السنن الأخلاقية». والنتيجة الطبيعية لهذا التصور النظري أن التقليد عنصر دائم غير قابل للتغير، وأنه مرادف للثبات والاستمرار في حياة الجماعة.
ولكن العلوم الاجتماعية القريبة من علم الفولكلور – كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا – لم تول اهتماماً للتمييز بين العادة والتقليد، على نحو ما نجد في كتابات ماكس فيبر، وفرديناند تونيز، وتيودور جايجر، وجورج هومانز وغيره فيما بعد. وأولوا اهتمامهم لتناول العادات والتقاليد في إطار العادات الفردية والسنن الأخلاقية، والموضات…إلخ.
ومؤخراً – خلال النصف الثاني من القرن العشرين – تجدد اهتمام علم الفولكلور بالتفرقة بين العادة والتقليد، كثمرة من ثمار اتصال الفولكلوريين الوثيق بعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا. ويمكننا أن نميز في إطار هذه المناقشات المنهجية بين تيارين رئيسيين: يتبنى أولهما مفهوم الفعل الاجتماعي، ويعتمد ثانيهما على نظريات الاتصال. فالعادات «وقائع اجتماعية، ورموز، وصور تتجلى فيها جوانب الحياة الاجتماعية للجماعة»، ويمكن تفسيرها في ضوء المتغيرات البنائية والوظيفية.
رابعاً: وحدة المنهج في علم الفولكلور
إذا كان الهدف الذي تسعى دراسة الفولكلور إلى تحقيقه واحداً، فإن السبل إليه يمكن أن تتعدد وتتنوع. وكما هو الحال في العلوم الأخرى لا يعرف الفولكلور منهجاً واحداً شاملاً. فقد تتابعت اتجاهات البحث – على طول تاريخ هذا العلم – الواحد بعد الآخر، وهي الآن قائمة الواحد منها إلى جانب الآخر. ويرجع ذلك دون شك إلى الظروف التاريخية التي مر بها العلم، وإلى تعدد وتنوع موضوعات دراسته.
ويمكننا أن نميز على وجه الإجمال – ومن قبيل التبسيط – أربعة اتجاهات في الدراسة. هي الاتجاه الجغرافي، والاتجاه السوسيولوجي، والتاريخي، والسيكولوجي. ويساعد كل من هذه الاتجاهات – من ناحية معينة – على خدمة الهدف المشترك بينها جميعاً، ألا وهو تفسير العلاقـات القائمة بين الشعب والثقافة الشعبية. ولا يمكننا أن نكتفي بالاعتماد على واحد فقط من هذه السبل المنهجية الأربعة. ومن ثم يمكننا القول في الواقع إنها تكوّن مجتمعة «المنهج الفولكلوري» أو «منهج الدراسة الفولكلورية» بمفهومه المعاصر. ولكننا نلاحظ هنا أن المنهجين التاريخي والجغرافي يركزان – في المقام الأول – على الثقافة الشعبية نفسها. بينما تتجه أنظار المنهجين الآخرين – وأعني السوسيولوجي والسيكولوجي – مباشرة إلى حامي هذه الثقافة الشعبية.
ويعتبر المنهج التاريخي أقدم مناهج دراسة الفولكلور جميعاً. ويعرف بهذا الاسم، أو باسم: المنهج التاريخي اللغوي، نظراً لارتباطه الوثيق بالدراسات الأدبية واللغوية في مراحل تطوره الأولى. ويرجع الاعتماد عليه في الواقع إلى المراحل الرومانسية الأولى من تاريخ دراسات الفولكلور في أوروبا. وكانت المأثورات الشعبية الأدبية هي أول عناصر التراث الشعبي التي طبق الفولكلوريون الأوائل المنهج التاريخي في دراستها. ونذكر أنفسنا هنا باقتراب هذه المأثورات الشعبية الأدبية من المفهوم الأنجلوأمريكي.. فولكلور، والمفهوم الفرنسي «التراث الشعبي» Traditions Populaires. وسيظل الاتجاه التاريخي في دراسة التراث الشعبي ركناً أساسياً من أركان الدراسة الفولكلورية لاغنى عنه. طالما أنه يعتمد – كما هو الحال في علوم تاريخية أخرى – على الشواهد الأدبية والمتحفية التي ترجع إلى عصور غابرة، ويحاول تفسيرها. فهذا الاتجاه أساسي في كل حالة تكون فيها حاجة إلى تعقب أصل بعض عناصر التراث الثقافي الشعبي، من أجل توضيح معنى غامض أو مجهول لأحد عناصر التراث المتداولة في الحاضر، وبيان علاقات التراث الشعبي التقليدي بالتحولات التاريخية التي طرأت على الثقافة الرسمية (أو الفردية كما يصفها ريشارد فايس). وما من شك في أن الغلو في الاعتماد على المنهج التاريخي قد ينطوي على خطر الإغراق في التتبع لبعض المشكلات الفرعية التفصيلية مما يحجب عن ناظرَي الباحث رؤية السياق الحي للحياة الشعبية الحاضرة، وما تضطرم به من تنويعات وتشكيلات متعددة. هنا تفقد الدراسة الفولكلورية حيويتها وتتحول إلى دراسة جافة تفتقر إلى حرارة الحياة، لا يعنيها سوى التتبع لأثري لمشكلات جزئية لا تستطيع مهما حاولت أن تقدم لتاريخ الثقافة سوى ملاحظات هامشية لا غناء فيها.
ولذلك انتبه رواد علم الفولكلور إلى ضرورة استكمال النظرة التاريخية – التي تسعى إلى تحديد البعد الزماني للظاهرة الشعبية المدروسة – بالنظرة الجغرافية، التي تعمد إلى تعيين البعد المكاني لنفس الظاهرة. فمن خلال الجمع بين البعدين الزماني والمكاني في النظر إلى الظاهرة المدروسة، تتكون لدينا صورة حية متحركة لهذه الظاهرة. ومن الثابت أن الارتباط الجغرافي لعناصر التراث الشعبي، أي ارتباط هذه العناصر بظروف المنطقة والجماعة التي تسكن مكاناً معيناً، ذو تأثير حاسم على هذه العناصر بينما نعرف أن الإبداع الثقافي الرسمي – الذي يتم فردياً أساساً – أكثر استقلالاً عن البيئة المكانية أو ظروف المنطقة بمفهومها الجغرافي، ولكنه في مقابل هذا أكثر ارتباطاً وخضوعاً للسياق التاريخي الزماني.
ولذلك احتلت النظرة المكانية إلى التراث الثقافي المكانة الأولى في دراسات التراث الشعبي طوال النصف الأول من القرن العشرين. وتطور هذا النهج إلى حد أن أصبح أسلوب العرض بالخرائط الوسيلة المعينة للنظرة الجغرافية في دراسة التراث الشعبي، كما هو الحال في علوم ومجالات أخرى كثيرة. فالخريطة الفولكلورية هي التي تمنح المعلومات المكانية صورة واضحة ومحددة، وتتيح لنا إدراك مدى انتشار ظاهرة معينة بنظرة واحدة، وبالتالي تحديد بعض العوامل أو المؤثرات المرتبطة بالمكان (كالحواجز الجغرافية وغيرها من الظروف الطبيعية، والوحدات الاقتصادية ووحدات المواصلات، والأقاليم اللغوية ومناطق انتشار دين أو عقيدة معينة.. إلى غير ذلك من العوامل التي تتضح في المكان). وكل هذه العوامل مما يكون له الدخل الأكبر في تحديد مصير، وتحول، واختفاء العنصر الثقافي الشعبي المدروس، وهي زاوية التركيز في نظرية إعادة إنتاج التراث الشعبي، على نحو ما سنرى تفصيلاً فيما بعد.
وقد واكب الحرب العالمية الثانية وترتب عليها مجموعة من التغيرات والتحولات الاجتماعية الهائلة – خاصة موجات الهجرات البشرية الضخمة (القسرية أحياناً)، وإعادة تشكل كثير من الجماعات الاجتماعية الوطنية. كما أن هذا الحراك الجغرافي الواسع النطاق كان نتيجة لتفاوت معدلات التنمية بين أقاليم الوطن الواحد، أو بين الريف والمدينة، أو البادية والمدينة…إلخ، وكذلك نتيجة لتركز الخدمات التعليمية والصحية وغيرها فى مراكز حضرية معينة… وغير ذلك من العوامل التي خلقت موجات هجرات بشرية طوعية داخل الوطن الواحد (وأحياناً عبر أوطان مختلفة)، الأمر الذي أصبح اليوم يقلل من مصداقية الخريطة الفولكلورية التي كانت تفترض التصاق العنصر الشعبي – الذي تمارسه جماعة معينة – ببقعة محددة من الأرض.
وجدير بالتأمل أنه بعد أن هجرت دراسات الفولكلور أساليب العرض الكارتوجرافي لعناصر التراث الشعبي، وأخذت تؤكد نظرتها إلى العادة كفعل اجتماعي يتم في سياق تواصلي (اتصالي).. بعدها مالت إلى التركيز على مجالات وأنواع بعينها من العادات الشعبية، مع تبني بعض المنطلقات النظرية والمنهجية الجديدة للعلوم الاجتماعية الأخرى القريبة: كالنظرة الوظيفية، ونظرية الفعل الاجتماعي، وبعدها النموذج البنائي في التفسير، وكذلك مفهوم «الثقافة وأسلوب الحياة» الذي كان شائعاً في بعض الدراسات ذات التوجه الماركسي3.
وعلى صعيد المنهج استطاعت بعض أساليب البحث الاجتماعي الإمبيريقي الميدانية (والكمية) أن ترسخ مكانتها وتثبت جدواها وتفرض وجودها (نذكر منها: المقابلة، الملاحظة المشاركة…إلخ). ثم شهدت ثمانينيات القرن الماضي تحولاً تجاه أساليب المنهج الكيفي، وانجذاباً إليها. وهي أساليب قد تخدم – بدرجات متفاوتة – المناهج التاريخية والنفسية، ثم الاجتماعية ربما بدرجة أقل.
يشترك المنهجان التاريخي والجغرافي في أنهما ينظران إلى عنصر الثقافة المدروس بمعزل عن حامله إلى حد ما. ولكننا يجب أن ندرك هنا أن الإنسان حامل هذا التراث الشعبي هو الذي ينقل هذه الظاهرة عبر الزمان وينشرها عبر المكان، فهو وراء الظاهرة المدروسة، ولا وجود ولا حياة لهذه الظاهرة بدونه. ويصدق ذلك بشكل أخص على العادات، والماثورات الشفاهية، والمعتقدات بأشكالها المختلفة، والمعارف الشعبية التي لا يمكن أن نصادفها بعيداً عن حامليها. وكان لابد من نظرة أخرى جديدة، تتمثل في المنهجين السوسيولوجي والسيكولوجي، تبرز لنا هذا الشعب – حامل التراث – وتؤكد على دوره، وتحدد هذا الدور بدقة.
يهتم المنهج السوسيولوجي في دراسة التراث الشعبي بتحديد البعد الاجتماعي لعناصر التراث موضوع الدراسة. فهذا الاتجاه لا يهتم بتاريخ أو مدى انتشار أغنية شعبية معينة أو حكاية معينة، بقدر ما يهتم بجماعة الغناء أو الجماعة التي تروى فيها الحكاية. ونشير هنا إلى أن الاهتمام بدراسة الارتباط الاجتماعي لعناصر التراث الشعبي في ميدان الفولكلور أقدم من الدراسات السوسيولوجية الشعبية التي كانت قد بلغت حداً كبيراً من الارتقاء في ألمانيا بالذات. وكل الميزة التي عادت بها الدراسات المذكورة على علم الفولكلور أن أكدت أكثر من أي وقت مضى النظرة السوسيولوجية في الدراسة الفولكلورية. والمؤكد هنا على أي حال أن البحث الفولكلوري لا يستطيع – ولن يستطيع – سواء كان يتبع اتجاهاً تاريخياً أو جغرافياً تجاهل هذا السؤال الهام: في أي جماعة محلية، وطبقات اجتماعية، وأي مهن ينتشر العنصر الشعبي المدروس. ولاشك أن تفكك الجماعات المحلية التي كانت تتمتع في الماضي بقدر كبير من التماسك والعزلة، وكذلك إعادة تكوين وترتيب الطبقات الاجتماعية، قد بدأت تصبح ظاهرة عامة في مجتمعاتنا النامية، بعد أن عرفتها أوروبا على نطاق واسع في فترة التحول الاجتماعي الكبير، ومازالت تعرفها وإن كان بدرجة أخف حتى اليوم. ومن شأن هذه العمليات أن تدفعنا إلى زيادة الاهتمام بمشكلة البعد الاجتماعي للثقافة الشعبية بشتى عناصرها.
وواضح أننا في ثنايا مراعاتنا للبعد الاجتماعي – الذي تهتم به الاتجاهات السوسيولوجية – نبحث في حقيقة الأمر خاصية أو جانباً معيناً من سلوك الإنسان، حامل الثقافة. ولكن الاتجاه السيكولوجي يكرس كل اهتمامه لحامل الثقافة فقط. إذ يحرص على تحديد الموقف العقلي النفسي للإنسان الذي يوصف بأنه شعبي. فدراسة العناصر الشعبية هنا ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية أخرى. وما من شك في أن النظرة السيكولوجية يمكن أن تعود على دراسة الفولكلور بفوائد جمة، ولكن يجب أن نحذر من أن المغالاة في الاعتماد عليها والأخذ بها يمكن أن يحول الفولكلور – أو دراسة التراث الشعبي – إلى سيكولوجيا. فالفيصل في بقاء الدراسة الفولكلورية محتفظة بطابعها الأصيل المتميز هو ارتباط الاعتبارات السيكولوجية في دراسة ظاهرة شعبية معينة باعتبارات تاريخية وجغرافية وسوسيولوجية صالحة للتطبيق على المواد الشعبية في مجموعها.
ويرجع الفضل إلى البحوث ذات التوجه النفسي في إلقاء الضوء على خاصية تنفرد بها المعتقدات الشعبية بين سائر الأنواع الأخرى، «فاللغة الشعبية» تنطق، وتكتب، وتتطلب وجود شريك يتم معه حديث، ومجتمع يتفق على رموز هذه اللغة، كذلك الزي الشعبي، أو الحلي وأدوات الزينة كلها تستمد قيمتها من إظهارها للناس وإعلانها، والعادات الشعبية لابد أن تمارس، فتظهر بالضرورة على الملأ.. أما المعتقدات الشعبية – فهي على خلاف هذه العناصر الشعبية – أصعبها كلها في التناول وأشقها في الدراسة والبحث، لأنها خبيئة في صدور الناس، وهي لا تلقن من الآخرين ولكنها تختمر في صدور أصحابها وتتشكل بصورة – مبالغ فيها أو مخففة – يلعب فيها الخيال الفردى دوره ليعطيها طابعاً خاصاً.
خامساً: إعادة إنتاج التراث: توجه نظري ومنهجي جديد
أخذ موضوع إعادة إنتاج التراث يشغل اهتمام علماء الفولكلور – على مستوى العالم كله – منذ البدايات الأولى لثورة الاتصالات الإلكترونية، وانفتاح الحدود بين الدول والشعوب (في ظل العولمة)، وما ينذر به ذلك من إحداث تغيير كمي ونوعي في شبكة العلاقات الإنسانية قاطبة.
وتعددت الاجتهادات لبلورة مفهوم إعادة الإنتاج، وتدقيقه، وإلقاء الضوء على مكوناته، وتأمل جوانبه المنهجية، أو بالأحرى المشكلات التي يمكن أن تثيرها دراسته على الصعيد المنهجي. ومنطلق الحديث هنا هو مفهوم إعادة الإنتاج الذي يضعنا في قلب ميدان دراسة تغير التراث: آليات الاستمرار، واتجاهات هجرة العناصر الشعبية، وآليات الاستعارة والتبني، وكذلك آليات الرفض والصد والنفور، وعمليات التحوير والتجديد والمواءمة التي تجرى على العناصر القديمة لتطوعها لواقع جديد، أو على عناصر «مستوردة» لتطوعها لواقع «محلي»… إلخ.
فالانتقاء من بين آلاف أو ملايين العناصر التراثية (الشعبية) المعروضة هو عملية إعادة إنتاج. ومازلنا نحتاج في بلادنا، إلى أن نعرف – من خلال بحوث علمية رصينة – دور الخيال الشعبي (الذي يتواجد ويؤثر فردياً أيضاً، بل فردياً بالأساس) في التفاعل مع المادة الشعبية الواردة من مصدر خارجي: مطبوع، أو مذاع، أو نتيجة اتصال شخصي.
وأشير في هذه الجزئية – مثلاً – إلى المزاج الفردي للمتلقي عند إعادة إنتاج وصفة الطعام التي سمعها من أحد، وقد ينتهي به الأمر إلى إخراج صنف “جديد”. ويذكرنا هذا بالدور المبدع للراوي الذي يحكي قصة سمعها من راو آخر، ولكنه لا يحكيها هي نفسها أبداً4. ويمكن أن نقول نفس الشيء عن النكات، وعن تصنيع قطع الأزياء، وعن بعض الوصفات الطبية الشعبية…إلخ كلها عناصر تتواتر، ولكن في كل ممارسة تتجدد وتتطور وتتكيف مع ظروف جديدة وواقع جديد.
ولكن عمليات إعادة الإنتاج قد تفرض في بعض الأحيان فرضاً تكييف بعض عناصر التراث الشعبي المستمدة من عصر مضى لكي تستطيع أن تكسب أرضاً وتعيش في عصر جديد. فهنا يتحتم، أو يتعين، أو قد يحسن أن تدخل عليها تغييرات في الشكل، لكي تناسب العصر. وقد تناولت بعض الدراسات المصرية الحديثة في الفولكلور بعض صور التجديد في الشكل من أجل التكيف ومسايرة الحياة المتغيرة في عالم المشتغلين بالسحر، وفي ميدان “حلاق الصحة”: المطبب الشعبي في القرية5.
كما أوضحت دراسات أخرى تعديلات أجريت في مضمون بعض عناصـر التراث الشعبي لتجعلها أقدر على الحياة والاستمرار، من ذلك استخدام الساحر – الشاب – المتعلم – الحديث: العقاقير الحديثة في عملياته السحرية، لتحقيق أثر أسرع وأقوى وكسب إقناع أوسع وأعمق في نفوس جمهور أكثر شباباً وأكثر تعليماً6.
ولكننا نشاهد اليوم – مثلاً – ممارسات علاجية شعبية قديمة تستمر وتتواصل، ولكن بعد أن تغير فقط في مسماها، أي أنها لا تغير لا في شكلها ولا في مضمونها. من ذلك عشرات ومئات الممارسات التي أصبح يطلق عليها العلاج بالقرآن، أو العلاج بالأسماء (أسماء الله الحسنى)، أو العلاج بالفيزياء الحيوية…إلخ.
أما موضوع الإبداع فقد أفردنا له دراسة سابقة حاولت أن تجلي مفهومه، برغم تقليدية التراث، وكونه كياناً قائماً على التواتر والنقل، وأن توضح شروطه، وآليات التعجيل به ومقاومته7.
ويمثل موضوع إعادة إنتاج التراث محور الارتكاز في المشروع البحثي الضخم الذي يجري فيه العمل حالياً (استمرت المرحلة الأولى منه من 2000-2003) داخل مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بكلية الآداب جامعة القاهرة عن التراث والثقافة الشعبية والتغير الاجتماعي. فبؤرة البحث هي إلقاء الضوء على العلاقة المركبة والخصبة بين التراث والتغير الاجتماعي. والتراث هنا مفهوم بأوسع معانيه، التراث الرسمي والتراث الشعبي على السواء.
ويتطلب ذلك النظر إلى التراث من منظور دينامي. فالتراث كيان متغير وغير ثابت (أو جامد)، وله طابع إعادة الإنتاج وإعادة التوظيف بشكل دائم لا يتوقف. ويؤمن كل باحث منصف أن تراثنا يتضمن جوانب دافعة للتغير، كما يتضمن جوانب أخرى معوقة للتغير. ولهذا يجتهد المشروع لرصد العلاقة بين التراث والتغير من خلال التعرف على العوامل والآليات المواتية للتغير في التراث من ناحية، والآليات والعوامل المعوقة للتغير في التراث من ناحية أخرى.
وقد سعينا في دراسة سابقة لنا إلى تقديم صورة عامة لجوانب هذا التوجه النظري والمنهجي الجديد: إعادة إنتاج التراث. فأوضحنا أن حركة عناصر التراث على خريطة المجتمع تمثل عاملاً من عوامل قوته واستمراره. فالتراث الشعبي في أي مجتمع تشارك في حمله واستخدامه وتجديده وتعديله كل الجماعات والفئات الاجتماعية في ذلك المجتمع.
ورغم تعدد وتنوع الجماعات والتكوينات الاجتماعية حاملة التراث، فإننا نجدها تتجاور وتتزامن وتتداخل في حياة كل فرد. فالفلاح الذي يمارس جانباً من التراث بوصفه كذلك، هو في نفس الوقت رب أسرة، وله كما رأينا واجبات مراسيم يؤديها بهذه الصفة، وهو أيضاً عضو في جماعة جوار، وفي فئة من فئات العمر (شاباً كان أو شيخاً).
فكما أن هناك علاقة أخذ وعطاء مستمرة بين الجماعات المختلفة المشتركة في تراث شعبي قومي واحد، هناك أيضاً علاقة أخذ وعطاء وتداخل بين الفرد وبين تراث جماعات وتكوينات اجتماعية متباينة. وهذا التداخل أو التفاعل هو الذي لا يدع مجالاً لقيام عزلة أو تنافر بين هذه الجماعات والتكوينات الاجتماعية، ويحولها جميعاً إلى خلايا متفاعلة في نسيج واحد له صفة التجانس والتماسك في النهاية. فهذا التجانس حقيقة موجودة ملموسة لا تنفي مع ذلك الطابع العضوي للثقافة الشعبية، الذي يكفل لكل عضو تفرده وتميزه، ولكن أيضاً تفاعله وتآزره مع سائر أعضاء الثقافة.
وقد أبرزنا في تلك الدراسة بوضوح علاقة التبادل وهذا النوع من التآزر بين الجماعات والفئات الاجتماعية المختلفة داخل النسيج الثقافي المشترك. ومـن شأن هذا التعاون أن يكشف لنا عن بعض القوى التي تعمل في الخفاء على لم شمل الثقافة الشعبية وتوحدها وترابطها ترابطاً متصلاً عبر آلاف السنين، مما يمثل – كما قلنا – العامل الحاسم في إعطائها صورتها الخاصة المميزة الدالة عليها بين الثقافات الأخرى. وهذه القوى هي التي تنظم في الوقت نفسه العضوية الدائمة بين الأجزاء المكونة.
وقد أكد البحث في علم الفولكلور في الخارج، وفي بلادنا أيضاً، أن هناك بعض الطوائف الحرفية التي تتميز بأنها تلعب دوراً خاصاً في الحفاظ على التراث الشعبي ورعايته، طبعاً فيما يتعلق بدائرة عملها ومجال اهتمامها، فمجرد وجودها وأداء عملها هو بمثابة زرع لهذا التراث وعمل على نشره كل يوم بيـن فئات وطوائف جديدة. كما تمثل هي نفسها – إن صح القول – مستودعاً لهذا النوع من التراث.
ومن أمثلة هذه الفئات “الداية” أو المولدة المعروفة تقليدياً قبل انتشار الطب الحديث. فهي التي كانت ترسم للواضعة أنواع الأكل والمشروبات التي يجب أن تتناولها قبل الولادة لمساعدتها على تقوية الطلق وبالتالي تيسير الولادة، وكذلك الأنواع التي يجب أن تتناولها بعد الوضع مباشرة، وطوال أيام النفاس حتى تستطيع استرداد صحتها. هي أيضاً التي تتلقى الطفل بين يديها، فتقوم بنظافته وتؤذن عليه، وتسمي وتدعو له.. وهي التي تنظم احتفال السبوع وتشرف عليه. وتظل تلعب أدواراً أخرى طوال تلك الفترة.
ولا يقتصر الأمر بطبيعة الحال على الداية أو المولدة، وإنما يمكن أن نذكر قائمة طويلة من المهن: كالحانوتي (الذي يقوم بإعداد الميت للدفن وتجهيزه بالغسل والكفن والحمل إلى القبر، ودفنه…إلخ)، والمبخراتي الذي يعيش على تبخير المتاجر والمحال والبيوت…إلخ، وتلاوة الصيغ والعبارات والدعوات أثناء ذلك.
في مقابل ذلك هناك فئات اجتماعية تكون – بطبيعة تكوينها أو ظروفها – أكثر ميلاً إلى التجديد. من هنا تتطلب دراسات إعادة إنتاج التراث، خاصة من زاوية تغير التراث، توجيه اهتمام أكبر إلى الفئات التي تعد أكثر ميلاً – بحكم ظروف عدة – إلى التخلي عن القديم، وتبني الجديد، ومسايرة الموضات.
ويأتي على رأس هذه الفئات: فئة الشباب، وفئة أصحاب الدعوات وأقصد بها كل من يدعو إلى فكر جديد، أو موقف فكري جديد، أو تعديل حركة المجتمع، بصرف النظر عما إذا كان التغيير المراد محدود النطاق أو واسع النطاق، وعما إذا كانت الدعوة تسعى إلى تبني فكر جديد، أو العودة إلى فكر سلفي قديم وإحيائه والتمكين له والترويج لعملية تطبيقه والأخذ به في حياتنا المعاصرة…إلخ.
أما الفئة الثالثة الجديرة بالاهتمام – من زاوية الميل إلى التجديد – فهم سكان المدن، أي السكان الحضريون في مقابل الريفيين أو سكان البوادي.
إلى جانب ذلك يلعب التعليم دوراً مهماً في إعادة إنتاج التراث، وهي حقيقة تصدق على كل المجتمعات العربية، إذ حاولت جميعاً – خلال القرن الماضي – أن تحقق النهضة الشاملة انطلاقاً من التعليم. ولكن ما علاقة ذلك بالتراث؟ لاشك أن هذا الوضع ينطوي على دلالات بعيدة بالنسبة لتفاعل عناصر التراث – من مناطق وبيئات وطبقات مختلفة – مع بعضها البعض. ففي المدارس يلتقي ملايين التلاميذ القادمون من شتى مناطـق الدولة، ومن كافة التكوينات الطبقية الاجتماعية. وفي بعض المدارس (أحياناً من الابتدائي حتى الجامعي، وبالنسبة للبعض في الجامعة فقط) يختلط النوعان: الذكور والإناث، ويتجاور ويتعارف المسلمون وغير المسلمين، والفقراء والأغنياء…إلخ. هذه الدور تجمع كافة أبناء الشعب على اختلافهم داخل جدرانها (مع تحفظات محدودة، قليلة الأثر، لا قياس عليها: كالمدارس الدينية، أو الأجنبية، أو تلك الخاصة بأبناء الطبقات الجديدة…إلخ. ولكنها لا تذكر – من الزاوية العددية – إلى جانب ملايين التلاميذ في المدارس العامة).
في هذه البيئة التعليمية يأخذ الأولاد عن بعضهم البعض، وتتفاعل عناصر حياتهم المتوارثة، وتنفتح الآفاق عن بعضها البعض من ناحية، كما تنفتح أحيانـاً على دنيا العلم وعمليات التنوير من ناحية أخرى. مؤسسات التعليم، خاصة الذي يستغرق جل مرحلة الطفولة والشباب المبكر، عامل من عوامل إعادة إنتاج التراث الشعبي، بما تضيفه، وما تقضي عليه، أو تضعفه، أو بما تعدله في عناصر ذلك التراث.
وهكذا جاءت المدرسة – كما هو معروف في العالم كله – بيئة جديدة، تأخذ بأسباب العلم، والرشد في التفكير، والانفتاح الاجتماعي على عوالم جديدة وثقافات جديدة. وظلت تمارس هذا الدور، مع شد وجذب هنا مع دعاة التراث، أو اندفاعة هناك تحت دعاوى التحديث والتنوير، ظلت صامدة وفاعلة إلى أن ظهرت وسائل الاتصال الجماهيري، بسبب خطورة تأثيرها على التراث الشعبي. فأصبحت تلك الوسائل في بداياتها عامل تجديد أحياناً، ولكنها قوة محافظة أحياناً أكثر، كما تدل الدراسات.
ووسائل الاتصال الجماهيري هي شرايين المجتمع المعاصر، وهي كذلك الجزء المهم من جهازه العصبي. ويلاحظ الكافة أن هذه الوسائل الجبارة قد ألغت الحقائق التي تقولها الخرائط الجغرافية، والأهم أنها ألغت الحدود الثقافية والبشرية.
وفي مجال إعادة إنتاج التراث الشعبي تلعب دوراً فائق الخطورة، شديد التشابك، وبعيد الدلالة. فهي تجدد كثيراً من صور الحياة في الماضي (سواء ماضي المجتمع الذي تخاطبه، أو الماضي الإنساني عند الآخرين)، وقد تخلع عليها بهاء وجلالاً، أو تحط من قدرها وتسيء إلى سمعتها. وهذا كله تدخل مباشر يحيي بعضاً من التراث أو يميته.
ووسائل الاتصال الجماهيري هي «الأداة» – بالألف واللام – الأساسية في النقل عن الآخرين، خاصة من يسمون بالمتقدمين، أو المحدثين، أو الناجحين عموماً. فهي الباب الذي تدخل منه عناصر التراث المستعارة، وبقدر ما ينجح في تزويق تراث الآخرين وتفخيمه، بقدر ما تزداد كمية العناصر المستعارة في ذلك المجتمع. كما أن انتشارها يكفل لتلك العناصر النفاذ إلى كل قطاعات المجتمع، وكذلك إلى كل أقاليمه.
ولكن الأخطر أن وسائل الاتصال الجماهيري لا تتوانى – خاصة في عصر «البرامج الكلامية» Talk Shows، والتليفزيون التفاعلي، واشتراك جماهير المستمعين والمشاهدين التليفوني الواسع النطاق وغير المحدود بحدود الزمان، أقول لا تتوانى عن ممارسة عمليات الدعوة إلى الرأي Advocacy، وغسيل المخ، والهيمنة الثقافية، وتبرير سرقة تراث الآخرين وانتحال غيرهم له (كما فعل ويفعل الإسرائيليون ببعض التراث الفلسطيني، بل والعربي أيضاً).
كذلك تلعب وسائل الاتصال الجماهيري الضخمة كالتليفزيون أو الأفلام السينمائية، والتسجيلات الصوتية، والإذاعة دوراً هاماً في هذا الصدد، إذ تمتص وتبتلع جميع أنواع الموضوعات الشعبية لتعيد إفرازها من جديد وتنشرها على جمهورها العريض في عملية تغذية استرجاعية ثقافية مستمرة.
معنى ذلك أن استخدام التكنولوجيا الحديثة (الإلكترونية) قد شمل «جمهور» المأثورات الشعبية وجعلهم مستقبلين أكثر منهم مشاركين. وإن هذا التعميم ليحمل معه تأثير التنميط في الأفكار المكتسبة والعادات المقدمة بواسطتها، والفنون المذاعة من خلالها.
ومن ناحية ثانية، فإن وسائل الاتصال الجمعي – خاصة المسرح والتليفزيون والإذاعة – تعيد إلى جمهور المشاهدين والمستمعين الكثير من نماذج المأثورات الشعبية، بعد أن تخضعها لموحياتها، بل بعد أن تسوقها في صيغ حديثة، مبنية على قواعد الفنون الحديثة المثقفة. ومثال ذلك ما يحدث في مجالات الموسيقى والأغاني والرقص. وبمعنى آخر فإن وسائل الاتصال الجمعي لا تغمر عقل الإنسان وخياله بمعطيات الحياة الحديثة وحدها من أفكار وقيم سلوكية وأخلاقية وفنون، ومعارف علمية.
ويلاحظ حسن الخولي في نفس الموضوع أن: “استخدام وسائل الاتصال لعناصر التراث الشعبي يكسب هذه العناصر المستخدمة قوة دفع صناعية. إذ أن هذه العناصر ما لم تكن قد دخلت وسائل الإعلام، فقد كان من الممكن أن تذوي وتموت نظراً لتقلص عدد ممارسيها. ولكن وسائل الإعلام تبعثها بعثاً جديداً، حيث تعيد إليها الحياة بالنشر، فتجعلها حاضرة من جديد تملأ السمع والبصر. وذلك – بالطبع – بعد أن تتدخل وسائل الإعلام بشكل فعال في إعادة تشكيلها وصياغتها من جديد، وتعديلها، ونشرها على دوائر انتشار أوسع”.
ووسيلة الاتصال الجماهيري الأعرق هي الصحيفة التي تعيد إنتاج الكثير من عناصر التراث الشعبي، بما تقدمه من عناصر ثقافية أجنبية، وتيارات الموضة، وعادات الشعوب الأخرى. ويتم ذلك على نحو يمكن أن يسهم في الترويج لتلك العناصر الثقافية، ونشرها، بل والتمكين لها. والصحافة وإن كانـت لا تنشر في العادة نصوصاً شعبية – إلا نادراً – إلا أنها تسهم بالدور البارز في التمكين للثقافة الجماهيرية الجديدة التي تصبغ الجسم الرئيسي للمجتمع بصبغة شبه متجانسة. الأمر الذي يحدث – كما بينا مراراً – على حساب الثقافات الفرعية.
ولكن الدور الأخطر لبعض الصحف، بل للغالبية الغالبة منها، يتجلى بوضوح في ميدان المعارف والمعتقدات الشعبية. فهي تؤثر بشكل فعال في نشر كثير من المعتقدات الشعبية «الخرافية» في كلمات بعض كتاب الأعمدة (ذوي التأثير الجماهيري المهم)، وبين أخبار الحوادث (كالقبض على مشعوذ، أو دجال، أو عراف، أو مدعي كهانة…إلخ)، وأبواب البخت الطالع ومعرفة البروج.. وغير ذلك.
وأنا لا أتجنى عندما أقول إن بعض الصحف، بما تقدمه من كلمات مباشرة، أو بشكل غير مباشر في ثنايا التحقيقات الصحفية، إنما تعمد للترويج – غالباً عن غير قصد – لبعض المشتغلين بالسحر (سحرة الفنانين، وقص الروايات عنهم على نحو يُلبسها ثـوب الحقيقة)، وبعض المعالجين الشعبيين، ولبعض الأفعال والخواص والقدرات الخارقة التي يستطيع أن يأتيها بعض الأفراد… والقائمة تطول لو حاولنا استقصاء معالم هذا الدور في إعادة إنتاج – هل أقول إعادة تأكيد – بعض عناصر التراث الاعتقادي.
ولكن لا خلاف على أن التليفزيون هو الساحر الجديد، الذي سلب القوة من الجميع، واستخدمه البعض عندنا في إلهاء الشعوب، وتزييف وعي الجماهير. واليوم يخدم الدور التوسعي للعولمة الساعي إلى فرض الهيمنة الفكرية للعالم المتقدم (الذين لا يزيدون عن 5 – 7% من جملة شعوب الأرض) على سائر شعوب العالم كافة. إن التليفزيون لم يعد يجمّـل في نظر أبناء الشعوب الجائعة، المباني الفائقة الفخامة، والنساء البالغة الحسن، والطعام الشديد البهاء والجمال.. ولكن الأدهى أنه أصبح لا يستقبح ولا يتوقف طويلاً، فلا ينزعج – وإن كان يزعجنا – عندما يعرض بسهولة ويسر علاقة حميمة غير طبيعية، بل علاقات تمارس على أنها طبيعية بين أطراف يعدون في شريعتنا من المحارم، وهم ليسوا أوديب وأمه، ولكنهم يعرفون أبعاد العلاقات بين بعضهم وبعض، وتاريخها، وتطورها…إلخ.
التليفزيون يهز التراث هزاً، ويلحق به أفدح الأضرار، وينزل به وبنا نوازل لا يسهل البـرء منها. ولكن هذا التأثير يتجلى بشكل أوضح – قد لا يكون كله سلبياً – في مجالات الطعام، مكوناته، وآدابه، وأنواعه، وأصنافه، وطرق إعداده…إلخ وفي مجال الملابس، والأثاث. وأخيراً في الترويج لبعض الأفكار والمعتقدات الخرافية (فظهور مئات – وآلاف – القنوات الفضائية التجارية التي تسعى إلى كسب ملايين المشاهدين تفتش عن الإثارة دون مراعاة أية اعتبارات أخرى).
ومؤخراً جداً أخذت كل شبكة تليفزيونية (خاصة العربية) تنشئ لنفسها محطة دينية، تهاجم بها بعض المعتقدات والأفكار، وتروج عبرها لبعض المعتقدات والأفكار. وبديهي صلة كل ذلك بعمليات إعادة إنتاج التراث.
ولكن في مقابل الإضافة إلى التراث هناك دائماً عمليات تخلّ وهجر لبعض عناصره. وإذا بدا من حديثنا، أو أحاديث غيرنا أننا نميل إلى إبراز أثر الاستعارة، والإضافة إلى التراث، فيجب ألا يجعلنا ذلك نهمل أو نتجاهل دراسة عمليات التخلي والإسقاط وهجر بعض الجماعات الاجتماعية لبعض عناصر تراثها الشعبي. فالمنطق البسيط يدلنا أن ذلك هو الوجه الآخر للعملة. فالتراث ليس إضافة مستمرة لا تنقطع، تتراكم على عناصر قديمة ثابتة لا تبرح مكانها.
وهذا الذي نتحدث عنه هو من صميم عملية إعادة إنتاج التراث: حذف وإسقاط من ناحية، وإضافة واستعارة من جهة أخرى. مع إمكانية الجمع – في بند أو عنصر شعبي واحد – بين القديم والجديد، أو إجراء تعديلات وتحويرات في أيهما لكي يساير الإنسان الشعبي واقعه الاجتماعي المتغير.
وهذه المواءمة، أو التكيف، أو الملاءمة… إلخ من العمليات التي تجري على شتى العناصر الشعبية كل يوم، وبدرجات مختلفة. ففي بعض الحالات نستطيع – رغم التحوير والتعديل – أن نتعرف على العنصر القديم، ونكتشف مقدار التعديل الذي تم. وإن كان من الطبيعي مع تكرار التعديلات، والتوسع في الأخذ بها أن يأتي يوم نفتقد فيه القدرة على التعرف على العنصر القديم. هنا يكون التغير – أو التحول – قد تم بشكل تدريجي بطيء، على خلاف التغير السريع أو الفجائي.
وقد علمتنا الدراسات السابقة حول الموضوع أن هناك تفاوتاً لاشك في وجوده في درجة الاستعارة والإضافة، وكذلك في درجة التخلي أو الإسقاط. وسبب ذلك أن الجماعات الاجتماعية تتفاوت في درجة تمسكها بالقديم، وفي درجة تقبلها للجديد، وأحياناً في درجة مرونتها في عمليات التوفيق والمواءمة.
المراجع
(1) انظر: محمد الجوهري، مقدمة في دراسة التراث الشعبي المصري، الطبعة الثانية، القاهرة، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، جامعة القاهرة، 2008.
(2) انظر: مصطفى جاد، مكنز الفولكلور، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، المجلد الأول (2006)، المجلد الثاني (2007).
(3) انظر: محمد الجوهري، النظرية في علم الفولكلور، القاهرة، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، جامعة القاهرة، 2005.
(4) انظر: محمد الجوهري، الإبداع والتراث الشعبي. وجهة نظر علم الفولكلور، في: تقارير بحث التراث والتغير الاجتماعي، الكتاب الثاني، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، جامعة القاهرة، 2002.
(5) انظر: محمد الجوهري، «المشتغلون بالسحر في مجتمع اليوم.. دراسة في ملامح التغير»، مجلة الفنون الشعبية، القاهرة، ع19، يونيه 1987، ص ص 17-27.
(6) انظر: علي محمد المكاوى، المعتقدات الشعبية والتغير الاجتماعي: دراسة ميدانية بمحافظة دمياط، رسالة ماجستير (بإشراف محمد الجوهري)، جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 1982.
(7) محمد الجوهري وآخرون، التراث الشعبي في عالم متغير، مرجع سابق.