موقع أرنتروبوس

الملائكة الأنثروبولوجيون …والتضاريس الثقافية الوعرة

usa2

الملائكة الأنثروبولوجيون …والتضاريس الثقافية الوعرة

هل تعتزم وزارة الدفاع الأميركية حقاً نشر عدد من دعاة ”النسبية الثقافية” في الدول الإسلامية؟

ريتشارد إيه شويدر*

هل تعتزم وزارة الدفاع الأميركية حقاً نشر عدد من دعاة ”النسبية الثقافية” في الدول الإسلامية في مسعى جديد لها لجعل عالمنا أكثر أمناً وسلاماً؟ فقبل أسابيع مضت نشرت الـ”نيويورك تايمز” تقريراً عن برنامج ”التضاريس البشرية”، وهو عبارة عن تجربة جديدة في الجهود التي تبذلها البنتاجون في حربها الدائرة على الإرهاب، تقوم على إلحاق مجموعة من العلماء الأنثروبولوجيين بالقوات العسكرية المرابطة في كل من العراق وأفغانستان.

حوى التقرير صور اثنين من الأنثروبولوجيين العسكريين هما ”تريسي” – مع حجب الاسم العائلي – وهي مترجمة ثقافية، يصفها العسكريون الأميركيون بأنها تؤدي ”مهمة بالغة الأهمية” في إطفاء نيران التمرد العراقي، و”مونتجومري ماكفيت” التي نالت درجة الدكتوراه حديثاً من جامعة يل في مجال الإعلام الحربي، وكان جزءا من دافعها للبحث في هذا المجال إقناع زملائها المتشككين بمدى أهمية تعميق معرفة ووعي الجنود والمقاتلين المحتكين بالمشهد الثقافي المحلي الذي تدور فيه الحرب الراهنة.

فكيف كانت ردة فعل الوسط الأنثروبولوجي لهذه الأجندة الحربية التي تعتزم إلحاق أفراده بالقوات المقاتلة في كل من العراق وأفغانستان؟ والإجابة أن مجموعة أطلقت على نفسها اسم ”شبكة الأنثروبولوجيين المهتمين” دعت إلى مقاطعة هذه الأجندة مع توجيه نداء إلى كافة أعضاء هيئة التدريس والطلاب المتخصصين في علم الأنثروبولوجيا بالتعهد بعدم المشاركة في ما يسمى بجهود مكافحة التمرد؛ واستندت هذه النداءات الى منطق في غاية الوضوح نصوغه على النحو التالي: بما أن أميركا تخوض حرب احتلال وحشية في دول النزاعات المذكورة، وإذا لم تكن تدعم هذه المهمة الحربية، فإن من الواجب ألا تدعم الجنود الذين يخوضونها وكما هو مفهوم، فإن من عزم هؤلاء العلماء الأنثروبولوجيين الذين وجهوا هذه النداءات، ألا يذللوا مهمة الجيش الأميركي في احتلال الدول أو قهر شعوبها. لكن وعلى رغم ذلك، فإن من رأيي الشخصي أن جهود وزارة الدفاع الثقافية هذه أشبه بإطلاق المرء رصاصة على قدميه، كيف ذلك؟

لقد اعتمدت في ما أقول هنا على لقاء صحفي أجرته ”دايان ريم” في برنامجها الإذاعي المعروف الذي تبثه قناة ”إن بي آر” الإذاعية، وقد بذلت قصارى جهدي أن استمع للقاء المذكور بذهن مفتوح، كانت استجابتي الأولية لذلك اللقاء الشعور بشيء من الإحباط، فقد تبين لي أن الأنثروبولوجيين العسكريين لم يكونوا يؤدون عملاً له أدنى علاقة بعلم الأنثروبولوجيا، وإنما تنحصر المهمة – التي جندوا من أجلها من قبل وزارة الدفاع – في القيام بدور المرشد السياحي ومساعدة قوات الاحتلال في إنجاز الكثير من العمليات غير القتالية في الدول المعنية.

وكما عبرت عنهم الآنسة ”ماكفيت” فإن هؤلاء ”الملائكة الأنثروبولوجيين” الحاطين على أكتاف الجنود، يقدمون مساعدة ثقافية من شاكلة تلك التي يؤديها نظام تحديد المواقع العالمية ”جي بي إس” أثناء تحركهم في تضاريس ثقافية وعرة، قلما أدرك عنها الجنود الأميركيون شيئاً وفي تفصيلها لطبيعة هذه المهمة، ذكرت أن الأنثروبولوجيين الحربيين هم الذين يعلمون جنودنا هناك آداب السلوك والتقاليد الاجتماعية المرعية في تلك البلدان، كأن لا يخلف الجنود أرجلهم أثناء حضورهم للاجتماعات المشتركة مع القيادات المحلية، وكذلك إظهار قدر كبير من الاحترام لتلك القيادات، وغيرها من سلوك الآداب، وصولاً إلى تعليمهم كيفية تنظيم مناسبة احتفال ما.

وما حزّ في نفسي أن هؤلاء الأنثروبولوجيين يستخدمون شهاداتهم العلمية الرفيعة التي حصلوا عليها في القيام بذلك الدور السياحي الذي تؤديه ”إميلي بوست”! والأكثر إثارة للقلق أن ”تريسي” ترتدي الزي العسكري الرسمي وتحمل بندقية أثناء أدائها لمهمتها ذات الصلة بـ”الحساسية الثقافية”.

لقد ضاعفت هذه المعلومة من الشكوك الموجودة في ذهني أصلاً إزاء صورة ذلك ”الملاك الأنثروبولوجي الحربي” الحاط على أكتاف جنود مكافحة التمرد العراقي أو الأفغاني، خاصة في تلك اللحظة التي يدفع فيها أحدهم باب بيت إحدى العائلات في منتصف الليل، ليدخل عنوة، فيقول ذلك الملاك الأنثروبولوجي لأفرادها أثناء انتهاكه لحرمتهم وكرامتهم: هيا لقد جئتكم من حكومة بلادي التي كلفتني بمهمة فهم عاداتكم وثقافتكم! ومهما يكن فإن تلك هي لحظة انتصار الأنثروبولوجيين الحربيين، الذين بدوا أكثر شبهاً بدعاة النسبية الثقافية التقليديين، الذين نذروا أنفسهم ومعارفهم لمحاربة الإثنية المركزية ونزع سلاح الغطرسة من أولئك الذين يستبد بهم شعور التفوق على الآخرين. كيف لا وهاهي الآنسة ”ماكفيت” وهي تستفيض في الحديث عن النجاحات الباهرة التي حققتها في منع الجنود عن إبداء أحكامهم الأخلاقية المسبقة على بعض الممارسات الثقافية للأفغان.

وكانت الرسالة الحربية الواضحة التي وجهت بذلك الخصوص: ”كفوا عن فرض قيمكم الأخلاقية على الآخرين”عندها تخيلت جيشاً أميركياً جراراً من النسبيين الأخلاقيين القائمين على بسط الأمن والسلام استدعاء منهم للدروس التي تعلموها من الإمبراطورية العثمانية؛ فقد طال أمد الحكم العثماني للشعوب والأمم أكثر بما لا يقاس إلى أمد الاحتلال البريطاني، بسبب تفوق استراتيجية مكافحة التمرد لديها، قياساً إلى نظيرتها البريطانية وما عرف عن الغزاة العثمانيين أنهم لم يسعوا لفرض قيمهم وثقافتهم على الآخرين، ولذلك فقد اتبعوا نهج ”التعددية الثقافية” الذي سمح لكل مجموعة إثنية من المجموعات التي حكموها تولي تصريف شؤون حدودها بنفسها، مع السماح لها بتطوير أسلوب حياتها بالطريقة التي تراها.

مع انعقاد المؤتمر السنوي لـ”جمعية الأنثروبولوجيين الأميركيين” المرتقب في شهر نوفمبر الحالي بواشنطن، فإنني أتوقع له أن يتحول إلى منبر لمعارضة ساخنة شرسة للحرب الدائرة هذه، ولسياسات الرئيس بوش، بل للرأسمالية نفسها ولنهج الاستعمار الحديث، إلى جانب التعبير عن معارضة الأثر الفاسد الذي تلقي به ممارسات البنتاجون ووكالة ”سي آي إيه” على الأخلاقيات المهنية المرتبطة بعلم الأنثروبولوجيا.

وعلى رغم كل ما قيل، فإن في اعتقادي أن من الخطأ إعلان المقاطعة المهنية للمؤسسة الحربية برمتها، خاصة وأن أفرادها ومقاتليها قد أدوا القسم على مكافحة التمرد، وما أراه أنه ليس من الحكمة أن تقدم ”جمعية الأنثروبولوجيين الأميركيين” على خطوة كهذه في الوقت الحالي؛ ذلك أن المسألة الرئيسية المطروحة أمام الأكاديميين الأنثروبولوجيين لا تتعلق بما إذا كان على المؤسسة العسكرية أن تعمق أو لا تعمق معرفتها بأنماط حياة الشعوب التي يقاتل أفرادها فيها – وبالطبع فإنها أكثر حاجة اليوم لتعميق هذه المعرفة – وإنما تتعلق هذه المسألة بعظم وأهمية الدور التثقيفي في عملية صنع السياسات الخارجية للولايات الأميركية وإن في التصدي لهذا الدور ما يخلص الأنثروبولوجيين من توجيه نداء أخير لهم ذات يوم مشؤوم لكي يحطوا فيه كملائكة رحمة على أكتاف جنود تورطوا حتى أذنيهم في حروب مضللة، لا مبرر لها من الأساس.

*أنثروبولوجي وأستاذ التنمية البشرية المقارنة بجامعة شيكاغو

 

Exit mobile version