المكشات
سياحة الشتاء وهوية ثقافية وسوق اقتصادية
عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
التراث الثقافي هوية وليس ترفاً
يعد التراث غير المادي من أقدم تواريخ الإنسان في جزيرة العرب، وقد ارتبط وجود الإنسان بوجود أدوات الترفيه والسياحة لديه التي ينتجها من بيئته، من خلال التفاعل الاجتماعي الذي يصاحب مواسم تغير المناخ، إلا أن الترفيه والسياحة كانت تجمع بين المتعة والحاجة الاجتماعية والبيولوجية، من أجل الحفاظ على القوة الجسدية، والاحتفاء بمواسم حصاد الفواكه الموسمية، أو الصيد وتذوق اللحوم الطازجة، قبل ظهور نظام الاستهلاك وانتزاع مهمات إنتاج الترفيه والسياحة من الأهالي وتحولها إلى شركات تبيع لهم المتعة والرفاهية، وتزرع عنهم الفواكه، وتربي لهم الحيوانات.
تكمن أهمية دراسة مواسم الترفيه والسياحة مثل المكشات والمقياظ والقنص والصيد، في أنها تراث ثقافي غير مادي، ومرتبط بممارسات اجتماعية واقتصادية في كل موسم، بحسب تعريف منظمة اليونسكو التي تدعم توثيق التراث الثقافي غير المادي، وأنها تمثل قاعدة صلبة لحفظ الهوية الثقافية المحلية التي تعكس حياة الإنسان العادي في الحياة اليومية لدى الأجيال السابقة، وبعضها يعاد إنتاجه بطرق عصرية، مثل المكشات. ويكاد هذا النوع المتناهي في الصغر والبساطة أن يضيع أمام الاهتمام الكبير بالفنون غير المادية.
تعتمد الأجيال السابقة في مواسم العام على الطوالع والنجوم التي تحدد لهم تغير فصول السنة، ولهم تسميات شعبية متعارف عليها، وأكثرها منقول من تسميات التراث العربي، ولكل موسم طقوس سياحية وترفيهية يستثمرها الناس في قضاء أوقات ترفيهية، وأشهرها المقياظ، وهو موسم نضج التمر والفواكه في الصيف، والمكشات، وهو موسم الرحلات البرية في الشتاء، والمقناص والصيد، وهي مواسم صيد أنواع من الحيوانات البرية أو هجرة الطيور المارة بالأراضي السعودية، وهي متفاوتة طوال العام. وهي تعد أحد أهم الفرص لتغيير روتين الحياة وإضافة البهجة في المجتمع.
ويتداول المجتمع السعودي مفاهيم: المكشات، والشبَّة والمْخَيَم، والرحلة البرية، ويقصد بها: البحث عن أماكن طبيعية مميزة خارج المدينة، وصالحة للإقامة فيها لعدة أيام، وغالباً ما تكون في مواسم الشتاء، أو الربيع بعد أن تكتسي الأرض بالزهور، ويعتدل الجو. لذلك يكون الكشَّاتة في أفضل حالاتهم المزاجية، ويخرج الناس على شكل مجموعات شبابية أو مجموعات عوائل.
ما المكشات؟
يلحظ أن ظاهرة الكشتات معروفة في السعودية وبلدان الخليج، ومنغرسة في حياتهم اليومية في مواسم الشتاء والربيع خاصة، ولكنها غير معروفة في غالب المجتمعات العربية، فهم يعرفون الخروج إلى الحدائق العامة أو الغابات. ومصطلح المكشات، كلمة تركية قديمة، إذ ورد في كتاب “قاموس اللغة العثمانية” لمحمد علي الأنسي: “كَشْت تعني تفسح وتنزه”[1]. وإذا تأكد أن الكلمة تركية، فيكون دخولها إلى مصطلحات اللهجات المحلية كان بين عامي (1255-1259هـ)، وهي المدة الزمنية التي غزا فيها الأتراك نجداً خمس سنوات، وخالطوا المجتمع. ويقول الباحث في تدوين التراث الشعبي القويعي بأن: “الكشتة، أو المكشات: لفظة شائعة في اللهجة الشعبية بكثرة، ويعني بها الخروج للنزهة خارج المدينة، وأصل اللفظة وافدة من اللغات اللارية والكراشية بمعنى الأرض المزروعة، كما ذكرها الأستاذ فالح حنظل في معجمه نقلاً عن الحنفي”[2].
جذور المكشات في التراث العربي
يقول الهمداني في كتاب “صفة جزيرة العرب” عن أجود مناطق الربيع في نجد: تقول العرب: من قاظ الشُّرَيف، وتربع الحزن، وشتا الصمان، فقد أصاب المرعي”[3]. ويوجد في كتب البلدانيات نصوص كثيرة تعزز هذا الرأي، وقد تختلف الأماكن، والشرف يقصد بها منطقة عالية نجد، وتحديداً الشعراء وما حولها، ويعكس هذا النص المختزل عمق انغراس التفاعل الاجتماعي لإنسان جزيرة العرب مع الظواهر البيئية الموسمية المتمثلة في: المقياظ، والربيع، والشتاء. وعلى هامش كل ظاهرة كانت تقوم أسواق اقتصادية واجتماعية كبرى ما يزال أثرها وفاعليتها مستمراً حتى الآن.
المكشات كمنتج معرفي
أنتجت ظاهرة المكشات أو طلعات البر تراثاً أدبياً شعبياً ومنتجاً معرفياً مبنياً من التفاعل الاجتماعي وتنمية الخبرات، إذ كثرت القصائد الشعبية التي تتغنى بالأجواء الجميلة، في ظل “شبة الضو”، وإعداد القهوة على الحطب، والتفاخر بأجود أنواع الشجر الصالحة لإشعال جذوعها، وهي: السمر، والأرطى، والغضا. كما ازدهرت ظاهرة الاهتمام بالأحوال الجوية، وتوقعات الطقس، وتتبع السحب المثقلة بالأمطار، وعلى ضوء ذلك شاع استهلاك أجهزة تحديد المواقع GBS وتطبيقات الأحوال الجوية في الهواتف الذكية. كما أنتجت نمطا جديدا من العلاقات الاجتماعية، تتمثل في بناء صداقات يجمع بينها هواية الكشتة والرحلات البرية.
وأسهم تطبيق سناب شات في زيادة التواصل بينهم، ونقل أفكار مصورة من الإعداد والطبخ وتوزيع المهام بين الكاشتين، ويمثل هذا منتج معرفي كبير وتحول في نقل المعرفة عن أسرار الطبخ، وتطوير رؤية الناس لأصناف المطبوخات وأنها حالة ثقافية ترفيهية، ولم تعد مجرد وليمة رتيبة، وقد تنقل لنا مظاهر الطبخ بين الكشاتة في تطبيق سناب شات، توضيح تطبيقي لنظرية الانثربولوجيين في أن الطعام منتج ثقافي وحضاري، مثل كتاب “النيء والمطبوخ” لكلود ليفي شتراوس، وكتاب “قدحة النار: دور الطهي في تطور الإنسان” لريتشارد رانغهام.
وتحسن الأجواء الربيعية أو حتى الشتوية في نجد لا يعني أنها ظاهرة مناخية وحسب، وإنما يعني أننا أمام ظاهرة اجتماعية ونفسية واقتصادية كبيرة، إذ يتحسن المزاج العام، ويشيع التفاؤل بين الناس، ويخرج آلاف الأسر والشباب للصحراء، وينزلون على ضفاف الأودية والشعاب، ولكل مدينة أو قرية أماكنها البرية المحيطة بها.
المكشات كسوق اقتصادي
تزدهر أسواق العدد والأدوات المتخصصة في تجهيز الرحلات البرية مع مواسم الكشتات في الربيع والشتاء، إذ ينفق الناس عليها بسخاء. ويتحول موسم المكشات إلى سوق اقتصادي مهم، من خلال بروز ظاهرة متاجر الرحلات البرية المتخصصة في بيع العدد والأدوات التي يحتاجها من يكشت إلى الصحراء، وأتاحت هذه الهواية فرصة ابتكار تفاصيل تسهيل الرحلات، وتجهيز السيارات، من أجل جودة الحياة المؤقتة في البر، وبسببها تحولت متاجر تجهيز الرحلات البرية من مبيعات موسمية إلى سوق دائمة، ووجدت المنازل كثيرا من حاجيات مطابخها وسياراتها في هذه المتاجر.
ظهر الآن سوق اقتصادية جديدة تمثل أنماط جديدة من قضاء أوقات الفراغ في البراري مثل: بروز شركات، متخصصة في تجهيز المخيمات وتأجيرها، وبرز نظام الاستراحات، وهي فكرة ذكورية، وتتمثل في أماكن التقاء معدة للشباب داخل المدينة أو في أطرافها، وقد تعد كشتة، بوصفها تمتد إلى نصف يوم، وفيها حوش وغرف ومجالس، ولا تخضع للرسميات. أما جيل الشباب الآن فيعتمد على تحديد مواسم الأمطار والربيع والصيف بالشهور الميلادية غالباً لوضوحها وسهولة تداولها.
يوجد ظاهرة اقتصادية أيضاً وملفتة للانتباه في الكشتات، وهي أنها تكون بنظام “القطة”، فقد كانت تقوم على توزيع احتياجات الشباب من الغذاء والقهوة وأدواتها فيما بينهم، ثم صار الشباب يحددون التكلفة الإجمالية، ويدفعون المبلغ بالتساوي.
تناغم البلديات مع المكشات
تعد مبادرات البلدية في مجال الترفيه، هي اللوحة الفنية لكل بلد، وقد سبق أن أنشأت البلديات في بداية تأسيسها سلسلة حدائق عامة في الرياض، ومن أشهرها حديقة حي الفوطة، المعروفة باسم البخشة، وذلك فيما يبدو من أجل صناعة وعي جديد لمفهوم الترفيه والسياحة، ولكنها لم تجذب العائلات السعودية، لوجود فجوة ثقافية بين فكرة البلدية التي يبدو أنها فكرة مستوردة آنذاك، وبين الأجيال التي تميل للرحلات البرية، إذ كانت طلعات البر (المكشات) ليوم كامل هي المحببة، ولارتباطها بماضي الآباء ، ولكثافة طقوسها التي يجد الإنسان فيها فرصة خدمة رفاق كشتته، مثل جمع الحطب وشب النار والطبخ وإعداد الجلسة… ثم وجدت البلديات مجالاً لتشجير الوديان والشعاب والروضات، وما أكثرها في الرياض وما حولها، وحمايتها وصيانتها، لتحويلها إلى متنزهات برية طبيعية، ومن أشهر المتنزهات البرية آنذاك: الواشلة، في نزلة ديراب جنوب الرياض، ومشاتل الخرج، وشعيب الحيسية بالعيينة، وما يزال مرغوباً حتى الآن، ومن المتنزهات الجديدة/ القديمة: الثمامة، وروضة خريم شرقاً، وبنبان شمالاً.
وفي السنوات الأخيرة حصل تقارب كبير بين هندسة الحدائق وانجذاب العائلات السعودية لها، ومن أبرز الحدائق العصرية الملائمة للأسرة في الرياض: حي البجيري، ومتنزه سلام، وحديقة الملك عبدالله بالملز، وحديقة الحمراء، ومتنزه الملك سلمان الطبيعي في بنبان. ويبدو لي أن حجم المنزل له تأثير مباشر. فالسعوديين الآن صاروا يسكنون الشقق والفلل الصغيرة (دبلكس)، وهذا تغير جديد، مما يجعل الخروج للحدائق المجاورة خياراً عقلانياً.
تأكيدات الهوية الثقافية
بقي أن أؤكد على أن مجتمعنا منجم من التراث الثقافي غير المادي، وأن كثيرا من عادات المجتمع اليوم لها جذور ممتدة، وإنما تحتاج من يلتقطها ويتعرف على جوهرها، ويعيد تعريفها حفظاً لهويتنا الثقافية وتاريخنا المحلي الذي نجده في ممارسات الحياة اليومية للناس العاديين.
[1] محمد علي الأنسي، قاموس اللغة العثمانية: الدراري اللامعات في منتخبات اللغات، ص 462
[2] محمد عبدالعزيز بن علي القويعي، تراث الأجداد، الرياض: المؤلف، ط 1، 1415هـ/ 1994، ج 3 ص 26
[3] أحمد بن يعقوب الهمداني، صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الأكوع، صنعاء: مكتبة الإرشاد، 1410هـ/ 1990، ط 1، ص