عبد الواحد مكني
عنوان الكتاب : المغرب النباتي من القرن 15 إلى القرن 18 . تاريخ وبيولوجيا .
تأليف : محمد هبيدة
Mohamed Houbaida, Le Maroc végétarien, 15e–18e siècles. Histoire et biologie, Préface de Abdelahad Sebti, Editions Wallada, Casablanca, 2008.
“الإنسان هو ما يأكله”، ” قل لي ماذا تأكل أقُلْ لك من أنت” ….:
عديدة هي الأمثلة والمقولات التي تناولت أهمية الأطعمة والأشربة في حياة البشر، فالتغذية مؤشّر قويّ لمستوى العيش، كما أنّ التجديد الغذائيّ في كلّ مكان وزمان يوفّر معطيات غزيرة عن الاقتصاد والثقافة والذهنيات. وقد انطلق الاهتمام بالغذاء في غمار الطرح المالتوسي الذي يربط بين الموارد الزراعة والمسألة الديمغرافية، ثمّ ظهرت دراسات تاريخية متفرّقة حول حالات مونوغرافية تخصّ غذاء الجنود أو رهبان الأديرة وملاّحي السفن، بسبب توفّر المصادر والأرشيفات الخاصّة بهذه الفئات في البلاد المتقدّمة، وساهمت مثل هذه البحوث في تكشّف الفوارق الاجتماعية وفي معرفة الخصوصيات المحلّية لكلّ جهة.
تولي اليوم البحوث التاريخية والأنثروبولوجية عناية خاصة بتاريخ التغذية وتقنيات المائدة وعادات الأكل، فهي أدوات ووسائل لتكشُّفِ الأنساق الثقافية والمادية المغمورة في حياة المجموعات البشرية، وهي معبر لمزيد تكشّف خبايا الحياة اليومية.
لقد ظلّ تاريخ الغذاء من الحقول الدراسية المغمورة في البلاد العربية، لأنّه مرتبط بتأريخ ” اليومي” والمعتاد”، وهو حقل شبه متروك، لم يستهو جلّ البحّاثة الذين تخيّروا تعقّب تواريخ السلاطين والبلاطات والحروب والثورات.
إنّ حقل تاريخ الغذاء والمستهلكات عامّة هو حقل واعد وخصيب؛ فهو على خطوط التماس بين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو أيضا على مشارف التناهج بين علوم التاريخ والبيولوجيا والإثنولوجيا. إنه مبحث جديد ومُغرٍ تفتقر إليه نسبيا مكتبتنا العربية، وهاهو -في السنوات الأخيرة- يستهوي زمرة من البحّاثة المجددين في حقل الأنثروبولوجيا التاريخية. وهو من دون شك مسلك عصيّ؛ بسبب الصعوبات المنهجية التي يثيرها، وأيضا بسبب ندرة المصادر وتشتّتها، فوثائق الجباية وقلم التدوين المخزني والسلطاني لا توفّر المعلومات اللازمة للتوسّع في تاريخ المآكل وظواهر التجديد الغذائي. لهذا اضطرّ الباحثون للاستنجاد بوثائق رديفة، مثل مدوّنة الفقه والفتاوى، ومذكّرات الرحّالة والمستكشفين الأجانب، وكتب التطبيب والاستشفاء، ومدونة الأمثال الشعبية والأزجال…
الكتاب والكاتب
الكتاب هو من الحجم المتوسط ( 150 ص) صدر عن دار ولاّدة بالمغرب سنة 2008 وهو كتاب باللغة الفرنسية عنوانه: المغرب النباتي : القرن 15 – 18، التاريخ والبيولوجيا. تضمّن خمسة أبواب كبرى وسلاسل بيبلوغرافية موسعة ومتخصصة، علاوة على شرح قاموسي ووظيفي للمصطلحات الدارجة المستعملة، وقد تولّى تقديم الكتاب وتصديره الأستاذ عبد الأحد السبتي، أحد رموز المدرسة الأنثروبولوجية التاريخية بالمغرب. كما تضمّنت صورة الغلاف لوحة زيتية لمشهد زراعيّ وطبيعيّ بريشة الفنان المغربي محمد كريفلة.
والمؤلّف، محمد حبيدة، هو مؤرخ مختص في التاريخ الاجتماعي للمغرب الحديث. له بحوث وترجمات في قضايا المنهج، وهو يُعدُّ اليوم من الباحثين المجددين للكتابة التاريخية وتحيين رهاناتها.
في تناهج التاريخ والبيولوجيا
انطلق هذا الكتاب الذي تضمن نسقا كثيفا من التوصيف والتصنيف والتحليل، من معاينات راهنية لطرح إشكالية البحث ومساءلة تاريخ المغرب الحديث. فالعالم الغربي يعيش اليوم ظاهرة “التخمة” والوفرة الغذائية بسبب طغيان الوجبات الجاهزة والمعلّبة التي فرضها نسق التصنيع وعصر السرعة، وأصبحت بلدان عديدة بما فيها الأقطار “النامية” تعيش ظاهرة الغذاء غير الصحّي المعتمد على كثرة الدهون واللحوم. وتعالت صيحات فزع علماء التغذية والبيولوجيين لترشيد الاستهلاك الغذائي عبر تثمين التوجّه النباتي في الأكل.
من هذه الزاوية تحديدا، انطلق المؤلف في البحث عن ماضي التقاليد “القاسترونومية” بالمغرب، ولم يحصر البحث في جانبه الإثنوغرافي الخاص بالعادات والتقاليد، بل تعدّاه للبحث في الجانب العلمي والبيولوجي لطعام المغاربة في العصر الحديث (الماقبل الاستعماري)، واضطرّه ذلك للاطلاع على مؤلّفات مختصة في البيولوجيا و”دروب الغذاء” Foodways، أغلبها من منتجات المدرسة الأنجلوسكسونية التي ظلّ اطّلاع المؤرّخين المغاربة الفرنكوفونيين عليها شحيحا ومحدودا.
لقد مكّنت المقاربة البيولوجية من تحقيق فائض قيمة لبحوث المؤرخ، وجددت نظرته لتاريخ الجسد وتاريخ الإنسان من خلال تفحّص تاريخ المائدة والمأكولات بالمغرب العتيق وما يرافقها من إنتاج وإعداد وخزن.
عندما تعطش الأرض يجوع الفلاّح
قام المؤلف بتصنيف نموذجي لنواحي المغرب الزراعية والإنتاجية، وقام بالتفريق بين مناطق البور ومناطق السقي (البعلي والسقوي)، وتفحّص الفويرقات الجهوية التي تميّز الدورة الإنتاجية، أو ما يعرف بالتداول الزراعي. وتبيّن للمؤلّف بعد تفحّص كميات الأمطار السنوية ونوعية التربة هنا وهناك، والأخذ بعين الاعتبار للدمار الشّامل الذي تخلفه الجباية المفترسة والمتمثل في نهب الفوائض والمخزون وعرقلة عملية الإنتاج التقليدي، تبيّن له أنّ المغرب العتيق هو مغرب “حبوبيّ” بالأساس، وأنّ حياة المجموعات الريفية والمدينية هي على حدّ السواء مرتبطة بـ”وفرة النعمة”، والمقصود بالنعمة هو مادة القمح والشعير تحديدا، والتي كانت أساس الدورة الغذائية للمغرب الحديث، وتضطلع مؤسّسات الخزن سواء العائلية (المطمور) أو الجماعية (الهري والايغرم والأغادير)، دورا هامّا في حفظ “الأمن” الغذائي المحلّي لفترات قصيرة ومتوسطة الأمد، وتتكفّل الهيئات العُرفيّة بحراسة هذه الأماكن الاستراتيجية.
وعاش سكان المغرب الحديث دوما تحت هاجس الخوف من الجدب، لذلك فإنّ السنوات العجاف تكون سنوات مسغبة وأوبئة. فعندما تعطش الأرض يجوع المزارع وينتشر الوباء فتسري ثقافة أكل الحشائش والبقول البرية (الخرُّوب الجالي، والترفاس، النبق، والخرشف، واللفت المحفور، والسدرة…) والتي قام المؤلف بتعدادها وإعطاء خصائصها الغذائية ومضارها البيولوجية. وتستحضرني في إطار تاريخ مقارن سريان ثقافة أكل “الحشائش” في تونس الحديثة، وخاصة نبات “الكرّاث، واللازون، والجرجير، والطلاغودة أي البطاطس البرّية…” غير أنّ محمد حبيدة لا يقدّم لنا فكرة عن بعض الحلول الاستراتيجية التي فرضها الجفاف والوباء على أهل المغرب، ومنها خاصة التعويل على “التين الشوكي ” المعروف بنبات “الهندي”، ربما بسبب أصوله الوافدة من أمريكا الهندية عبر الجسر “الأندلس- اسباني”، وقد لعب “الهندي” بثماره التي تسمّيها العامّة “سلطان الغلّة”، وبقله، دورا هامّا في حماية سكان المغرب وحيواناتهم وأنعامهم من المسغبة، فكان مادة استراتيجية لمقاومة القحط والجفاف. لكن بالتوازي يقدّم المؤلف “تخريجة” رشيقة حول تغيّر الأذواق وتأقلمها مع أزمان الجوع، كما يبحر في تفسير دور النظيمة الاجتماعية والطرقية في تلطيف الأمر وتخفيف المصاب الجماعي حتى لا يتحوّل إلى حالة من الغليان الثوري والانتفاضي العاصف.
تنتشر أيضا في سنوات الجفاف ممارسات أكل اللحوم المكروهة و”الخبائث”، ويقع غضّ النظر عن ثنائية الحلّية والحرام، فيصف الرحالة أكل “حلوف الغابة” عند جبالية المغرب وهو الخنزير الوحشي، وانتشار أكل لحوم القطط والكلاب والجراد، ويصل الأمر حتى أكل لحوم البشر والجيفة مثلما حدث سنة 1661 بنواحي فاس.
في تراتبية الموائد: موائد الأغنياء وموائد الفقراء
كانت الفوارق الاجتماعية والطبقية في المغرب الحديث محلّ جدال نظريّ وتاريخيّ كبير. فقد نفى رواد نظرية العتاقة وأدعياء نظرية “الانقسامية” وجود تمايزات طبقية ببلاد المغرب في العصور الحديثة. وقد بيّنت العديد من الأطروحات المعمّقة للمؤرخين المغاربة الجدد، إجحاف هذه الأحكام ومبالغاتها. وكانت البراهين تأتي دوما من خلال دراسة الضرائب والدفوعات وعناصر الملْكية. وهاهو محمد حبيدة يقدم تأكيدا إضافيا من خلال دراسة الموائد والمواقد بالمغرب. فبيّن بالحجّة مدى استفحال التناقض بين شريحة الفقراء والمحرومين من ناحية، وبين قلّة ميسورة من الأغنياء المرفّهين. يبرز هذا التناقض الواضح من خلال تقنيات الموائد ومحتوياتها و”آدابها”، سواء في الأكلات الاحتفالية أو في المواسم والأعياد أو في الأيام العادية.
ويمكن أن نكتفي هنا بمثال المعجّنات، كالكسكس الذي اشتهرت به المائدة المغربية، أو الخبز الذي أفرد له المؤلّف بابا خاصا. يأكل الميسورون الخبز الأبيض الخفيف المستخرج من دقيق القمح الجيد. أمّا الفقراء فيأكلون “الخبز الأسود” المستخرج من الشعير والحنطة، وهو طعام “خشن” لكنه في متناول العامّة. وتحدّد نوعية الخبز المأكول خارطة التفاوت الاجتماعي في المغرب، لكن من المفارقات التي توصّل إليها المؤلف اعتمادا على التحليل البيولوجي، هو أنّ الخبز الأبيض المخصّص للأثرياء له قيمة غذائية محدودة، فهو حلو المذاق لكنّه يفتقر للفيتامينات التي تعوّضها دسامة المأكولات المرافقة ووفرتها. أمّا الخبز “الحافي والأسود” الذي تستهلكه العامّة، فهو ثريّ بالفسفور والمانغزيوم والفيتامينات التي تعوّض ندرة الأكل وتواضع محتويات مائدة الفقراء.
التغذية النباتية : خيار أم فرض؟
لقد توصّل المؤلف إلى أطروحة- وهذا في حدّ ذاته مكسب معرفيّ جليل – مفادها سيطرة نظام التغذية النباتيّ على مطبخ المغرب الحديث، وهو نظام نباتي (أساسه الحبوب والخضروات الطازجة والثمار) مطعّم بمنتوج الحليب ومشتقاته، يعوّض نقص الدهنيات الناتجة عن ندرة استهلاك اللحوم.
إن هذه النباتية المسيطرة والتي قوامها نشويات الحبوب وسكريات وزلاليات البقول والخضر، توفّر –من منظار التحليل الديتيتيكي والبيولوجي– إيجابيات عديدة وفضائل لا تعدّ على الوضع الصحّي العامّ، خاصة من حيث سلامة الأجساد وتراجع كميات الدهون والحوامض المضرّة. لقد استفاد سكّان المغرب الحديث كثيرا من هذا النظام الغذائي المفروض.
كانت “اللحمية ” أو”التلحيمة ” عبارة عن حدث سعيد واستثنائي؛ فالجزّار أو القصاب لا يوجد إلا في الحواضر الكبرى. وأغلب زبائنه من الأثرياء الميسورين وهم قلّة إحصائيّا. بسبب ذلك تُجبر العامّة وخاصّة في البوادي والأرياف، على صيد الحيوانات البرية والطيور، أو على انتهاج نظام ” الوزيعة ” المتمثّل في اقتسام طوعيّ للحم ذبيحة الغنم أو البقر أو الإبل، بسبب عدم توفّر القدرة على التزوّد من جزّار المدينة. وتكون هذه الوزيعة في أغلب الأحيان اضطرارية (تسمّى رزيّة في تونس العصر الحديث)، وتتمثل في إنقاذ الحيوان من التلف والمرض القاتل، عبر ذبحه وتوزيعه على كامل العرش أو الدوار. وفي المقابل يقع جمع بعض الإعانات العينيّة في شكل حبوب وثمار، لتعويض صاحب الخسارة “الرزيّة”.
كما تنتظر غالبية الشرائح الاجتماعية عيد الأضحى لتغنم من لذائد اللحوم، ولتقوم بعمليات الخزن والتصبير (القديد)، واعتبُرت مناسبات الأفراح كالختان والزواج “ولائمَ” مبهجة، لأنّها تجود بالأغذية اللحمية المفقودة في الأزمنة العادية.
أهمل سكان المغرب كباقي المناطق الشاطئية، موارد الأسماك البحرية والنهرية رغم وفرتها، فكان أكلها استثنائيا ومحدودا بحسب معاينات الرحالة الأوروبيين.
إنّ النباتية في هذه الحالة لم تكن خيارا طوعيا ولا عقليا، بل أملتها البيئة المغربية التي كانت تجود بفضائل بيولوجية وايكولوجية استفادت منها ساكنة المغرب. للخصاصة والاحتياج ومحدودية الإمكانيات فضائل، منها ما بيّنه محمد حبيدة في تاريخ المغرب الغذائي الذي ارتكز على النبات لأنّ موارد المجموعات المحلية كانت لا تؤهلها لأكل اللحوم بشكل مكثّف أو دائم.
لقد كان المؤلّف مُجدِّدا، وتمكّن من تعبيد الطريق لغيره من البحّاثة للخوض في تاريخ الغذاء. وهو أمر يتطلّب الاستنجاد بالعقل والمعرفة الآنثروبولوجية والبيولوجية، كما يتطلّب الرغبة في تجديد كتابة التاريخ.