موقع أرنتروبوس

الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي

 الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي 

مدخـــل

تعددت التصورات الإبداعية والنظريات النقدية التي خصت الفيلم الوثائقي بالتناول والاهتمام، وأفرزت تراكما إبداعيا ونظريا ساهم في إغناء و تصنيف الأفلام الوثائقية، باحثا في اتجاهاتها، وماهيتها،

وحدودها، و أساليبها، وخصائصها النوعية، وخلق هذا الاهتمام دينامية على مستوى الممارسة والتنظير معا، وساهم فيه مخرجون، و منظرون، ونقاد، كل في مجال اشتغاله، في تفاعل مستمر، وثق للصلة بين الممارسة الإبداعية الفاعلة، و التنظير النقدي المنتج، وأفرز لنا هذا الاشتغال المتعدد الأوجه والمستويات، تعددا في الفيلم الوثائقي، بوصفه جنسا إبداعيا، وفنيا، وتعبيريا، ودفعت به هذه الدينامية، إلى تبؤ مكانة خاصة في تاريخ السينما.

يعد الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي أحد تلك الأنواع، التي تبلورت جراء تفاعل الممارسة الإبداعية ومثيلتها التنظيرية، وتمكن منذ بدايات السينما من تسطير مساره الخاص، تعزز مع توالي الإسهامات -إبداعية كانت أو تنظيرية – وشيد لنفسه كينونته الخاصة، في فضاء مابيني، تعالقت فيه السينما كفن، والأنثروبولوجيا كعلم. وبفضل رجال السينما وعلماء الأنثروبولوجيا، ساهم الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي في إثراء المعرفة الإنسانية، بقدرته على تسجيل ثقافات الشعوب، موثقا للذاكرة الإنسانية في بعدها الكوني، وعبر رهانه على الصورة، تمكن من حفظ ممارسات سوسيو-انثروبولوجية لجماعات ثقافية، وإثنية، تحققت لها الحظوة، وكانت إنتاجاتها الرمزية مادة خاما، اشتغل عليها رجال السينما الأنثروبولوجية.

فكيف بدأ الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي ؟

وما هي امتداداته ؟

ما هي خصائصه النوعية ومميزاته الأسلوبية ؟

ما هي التمرحلات المفصلية في مساره ؟

وما هي التصورات والرؤى النظرية والإبداعية التي ساهمت في فرادته وتفرده ؟

1 – الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي : محاولة في التحديد

1-1- ماهية الأنثروبولوجيا: تحيل كلمة الأنثروبولوجيا إيثيمولوجيا إلى دراسة سلوك الإنسان ونشاطه، وتعود إلى الأصل اللاتيني المتكون من كلمتين: (anthropos) أي الإنسان، و (logos) وتعني الدراسة، ومنه يمكن استخلاص أن الأنثروبولوجيا تعني دراسة الإنسان(1).

بالرغم من الجدال الذي مازال غير محسوم في أمره، حول البداية الأولى للأنثروبولوجيا، واختلاف المنطلقات التي ينطلق منها كل باحث في تعريفها، بين من يقترح العودة إلى الأصول الغابرة، باعتبار أن الإنسان مارس الأنثروبولوجيا، بشكل عفوي، عبر رغبته في اكتشاف الآخر (الجيران)، ومن يقترح الانطلاق من كتابات الرحالة المستكشفين للشعوب البعيدة، أو من ينظر إلى الأنثروبولوجيا كعلم مؤسس على قواعد ومناهج يتقاسم الكثير منها مع العلوم الاجتماعية الأخرى. مهما يكن، فنحن نعتقد أن تعريف الأنثروبولوجيا، يجب أن يفرق بين أمرين أساسين: أولهما، هو استحضار «الأنثروبولوجيا كممارسة»، لازمت سلوك الإنسان منذ القدم، لجأ إليها ومارسها – ومازال – بعفوية، في سعيه للتواصل مع الغير (القريب والبعيد)، عبر التعرف عليه واستكشاف ما يميز سلوكه، وخصوصيته الثقافية والاجتماعية؛ وثانيهما، يتعلق بـ «الأنثروبولوجيا كعلم»، ظهر إبّان عصر التنوير في أوروبا [..] حيث تمّت كشوفات جغرافية وثقافية لا يستهان بها، لبلاد ومجتمعات مختلفة خارج القارة الأوربية(2) ، وتطور مع مرور الوقت، وأصبح علما قائم الذات، يهدف حسب كلود ليفي ستراوس إلى معرفة كلية وشمولية للإنسان في علاقته بامتداداته التاريخية، و محيطه الجغرافي(3) ، مع استحضار الإسهامات الثرية التي راكمها الفكر الإنساني، في ما يسميه فهمي حسين «بواكير التفكير الأنثروبولوجي»(4).

تجدر الإشارة – ونحن في مسار تحديد ماهية الأنثروبولوجيا- إلى الاختلاف بين الفررونكفونيين والانكلوساكسونيين، بين من يطلق الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا؛ فـما يدرجه الأمريكيون تحت عبارة»الأنثروبولوجيا الثقافية «يصطلح الفرنسيون على الإشارة إليه بالأثنولوجيا أو الإثنوجرافيا في بعض الأحيان، وهم يدرسونها تحت مظلة علم الاجتماع. أما الإنجليز فقد اختاروا تسمية أخرى وهي «الأنثروبولوجيا الاجتماعية»(5)، كما أن هناك إختلافا ايَضا بين الأوروبين أنفسهم، فنجد الألمان مثلا، يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا للإشارة إلى الدراسة الطبيعية للإنسان، في حين يستخدمون مصطلح إثنولوجيا للإشارة إلى »علم الشعوب». ولعل الخلاصة المفيدة التي يمكن نختم بها هذا المبحث، هي خلاصة للتعريفات المتعددة التي مثلنا لبعضها، ولن نجد أحسن من التعريف الذي قدمه شاكر سليم في قاموس الأنثروبولوجيا الصادر سنة 1981، بقوله: إن الأنثروبولوجيا هي علم دراسة الإنسان طبيعيا، واجتماعيا وحضاريا(6).

1-2- تعيين الفيلم الوثائقي: يعتبر الفيلم الوثائقي جنسا إبداعيا متميزا، ومنذ اكتشاف السينما قبل أكثر من قرن، استطاع أن يؤسس في مساره الطويل، توجها خاصا في الاشتغال، فهو أحد الأجناس التي جعلت من واقع الحياة اليومية، مادته الأساسية، لأن فلسفة الفيلم الوثائقي تعتمد أساسا على الواقع واستنطاق حقائقه [و] كشف الواقع للوصول إلى أعماقه غير المرئية بشكل مباشر، من خلال معالجة العديد من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية، التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية(7). نستشف من هذا القول، أن الفيلم الوثائقي ينطلق من الواقع إما بنقله بشكل مباشر وحرفي، أو بالارتهان على إعادة تركيبه وتمثيله، باختلاف زوايا معالجته، حسب التصورات الإبداعية، والمنطلقات الفلسفية والجمالية لمبدعه؛ بما في ذلك الاشتغال على الطبيعة والنبات والحيوان والفلك…الخ، إنه ببساطة مادة للإخبار، والتعليم، والتوثيق، والكشف، وشكل تعبيري مبني انطلاقا من ما يطلق عليه: « رؤية للعالم ».

تبلور مصطلح الفيلم الوثائقي، انطلاقا من ممارسة إبداعية مبكرة، تميزت بالارتباك واللبس، فحين بدأ رواد الأعمال في أواخر القرن التاسع عشر، لأول مرة في تسجيل أقلام لأحداث من واقع الحياة، أطلق البعض على ما كانوا يصنعونه، اسم «الأفلام الوثائقية» بيد أن المصطلح ظل غير تابت لعقود(8) ؛ تجلى هذا الالتباس الذي ارتبط بتسمية الفيلم الوثائقي – على الأقل في مرحلة البدايات – في استعمال مصطلحات متعددة، أطلقها آخرون؛ كالفيلم التعليمي؛ الفيلم الواقعي؛ أو مصطلحات تشير إلى الموضوع المعالج في الفيلم؛ كأفلام الرحلات، كما نجد بعض الكتابات التي يستعمل فيها «الفيلم التسجيلي» للتعبير عن الفيلم الوثائقي؛ و يبقى أكثر تعريف متسم بالقدرة على الاستمرارية في التداول إلى الآن، هو الذي قدمه الاسكتلندي جون جريرسون بقوله: الفيلم الوثائقي هو التجسيد الفني للوقع(9).

ينفتح السؤال عن ماهية الفيلم الوثائقي، وتعيين حدوده، على إجابات متباينة، تتعالق بمراحل تطوره كجنس إبداعي، في إطار سيرورة ظهوره، وصيرورة تشكله؛ تذهب الباحثة باتريشيا أفدرهايدي(10)، إلى الوقوف عند بعض التعريفات البسيطة التي قد نجدها في التداول حين يتعلق الأمر بما يعنيه الفيلم الوثائقي من قبيل:

– ليس فيلما سينمائيا، أو على الأقل ذا صبغة درامية

.- فيلم يخلو من الهزل، فيلم جاد يحاول أن يعلمك شيئا ما.

– فيلم عن الحياة الواقعية.

ومن التعريفات المتداولة، أنه نوع من الأفلام غير الروائية التي لا تعتمد على القصة أو الخيال، بل يتخذ مادته من واقع الحياة، سواء كان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أو عن طريق إعادة تكوين هذا الواقع وتعديله بشكل قريب من الحقيقة الواقعة(11)؛ كما يعرف أيضا بكونه شكل متميز من النتاج السينمائي يعتمد بشكل أساسي على العلاقة بين صانع الفيلم والواقع الحقيقي، من خلال رؤيته وتحليله للواقع باعتماده شكلا فنيا في تناوله لهذا الوقع(12).

1-3- تعريف الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي: يؤطر الاشتغال لصياغة فيلم وثائقي أنثروبولوجي، بمبدأين أساسيين، المبدأ الأول، يتعلق بتحقيق إبداعية خلاقة للواقع، تأكيدا لتعريف غريرسون، وهذا هو العقد الذي ينتظر المشاهد تحققه والالتزام به أثناء تلقيه لأي فيلم وثائقي، لأننا نتوقع أن يكون الفيلم الوثائقي تجسيدا منصفا وصادقا لتجربة شخص ما مع الواقع(13)؛ هذا المبدأ يشترك فيه الوثائقي الأنثروبولوجي مع بقية الأنواع الوثائقية، أما المبدأ الثاني، فيتمحور حول مادة اشتغال الوثائقي الأنثروبولوجي، وحول البحث في ثنايا اليومي، عن كل ما هو أنثروبولوجي بشكل عام، وهذا المبدأ الثاني، هو الذي يحدد ماهية الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي، ويميزه عن الأنواع الوثائقية الأخرى، وهناك من الباحثين من يضيف مبدأ ثالثا، يتعلق بمبدع الفيلم، الذي يشترط فيه أن يكون باحثا أنثروبولوجيا، لكننا نعتقد أن هذا المبدأ ثانوي ولا أساس لإضافته، فيكفي- في اعتقادنا- أن تتوفر الإبداعية الخلاقة للواقع (المبدأ الأول)، واستيعاب المبدع لخصوصية مادة الاشتغال (المبدأ الثاني)، ونعني بالاستيعاب، أن تكون للمبدع خلفية معرفية، تمكنه من حصر البحث حول مادة الاشتغال، في امتدادتها على مستوى الزمان والمكان، و تمثل كل الإشكاليات التي يمكن أن ينفتح عليها هذا البحث. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقترح تعريفا للفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي، بكونه فيلما وثائقيا، يرتكز في اشتغاله على مادة خام ذات عمق أنثروبولوجي، كالثقافة والعادات والتقاليد ..الخ، أي كل ما يشكل مصنفات أنثروبولوجية لجماعة ما، أو لشعب من الشعوب، سواء صنف هذا الشعب ضمن المجتمعات البسيطة أو المركبة، لأن الأنثروبولوجيا، لم تعد تقتصر في اهتماماتها على المجتمعات البسيطة (القروية) بل حتى المركبة (الحضرية).

2- الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي :النشأة و الامتداد

2-1- إرهاصات تأسيسية للاشتغال الأنثروبولوجي في السينما (تجربة روبير فلاهيرتي): تميزت النصف الأول من القرن العشرين بسيادة توجه في البحث داخل الاشتغال الأنثروبولوجي والاثنوغرافي، قوامه نظرة دونية للشعوب البعيدة بوصفها شعوبا بدائية أو وحشية، وافرز هذا الاشتغال ما سمي بعد ذلك بالانثروبولوجيا الاستعمارية، ورغم أن بعض الدراسات تذهب إلى حد نزع العلمية عن الأبحاث المنجزة في هذه الفترة، إلا أن هناك من الباحثين من يعتبرها دراسات مهمة مكنتنا – في غياب مماثلها الموضوعي – من اسكتشاف تلك الشعوب التي شملتها الدراسات، وبالتالي دعا هؤلاء الباحثون إلى إعادة قراءة منجزات الأنثروبولوجيا الاستعمارية وتمحيصها بحثا عن مكامن الحقيقة.

في هذا السياق المتسم بغياب معرفة موضوعية لماهية المجتمعات البسيطة (المجتمعات الغير صناعية)، والتي لم تخرج عن صورة نمطية، طبعها التعالي الحضاري، واحتقار الشعوب المغايرة ثقافيا؛ حينها وُضعت المعرفة الإنسانية في مختلف حقولها قيد المساءلة، حول قدرتها، حدودها، وإمكانياتها لإذابة الجليد و تقريب شعوب العالم، عوض التمييز بينها. لم تكن السينما بمعزل عن هذا الرهان الإنساني، بوصفها أداة قادرة على بناء جسور التعارف الإنساني في كونيته؛ يقول فلاهرتي: إن اكتشاف العالم هو الجانب الذي يستهوي ويفتن في حياة رجل السينما. لقد أخرجت كل أفلامي وفي قلبي ذلك الولع والغرام بالمجهول(14).

إن التغلغل إلى حميمية ثقافات الشعوب في تعددها وتنوعها، بوصفها مجهولا يستحق وضعه تحث أضواء الاكتشاف، هو هاجس تولد لدى روبيرت فلاهرتي منذ البداية، وجعل منه فلسفة أطرت ممارسته الإبداعية، ليبلور مع توالي المنجزات، مسارا خاصا سمي تارة بالإثنوغرافي، وتارة أخرى بالأنثروبولوجي، وتمكن بفضله، من بصم تاريخ السينما كأحد الرواد الأوائل الذين جعلوا من الكاميرا أداة لإنتاج المعرفة، وانخرط فلاهرتي في مسار هذا الاشتغال، ليتمكن بفضل رؤيته، من المساهمة في إعادة تشكل حقيقة إثنوغرافية، أجازت لنفسها دقة وصف وقائع مُؤَطرة من قبل ذاكرة شبه مُدمجة لإخباريين مسترجعين وضعيات، وحركات موغلة في القدم دون صعوبة(15).

يعتبر فيلم نانوك (1922) أول تجربة إبداعية لفلاهرتي، دشن من خلالها بداية مساره الحافل بالإنتاجات الفلمية، وأسس بواسطتها مسارا جديدا، جعل من السينما أداة تنقل الواقع كما هو، أداة تتغيا اكتشاف شعوب العالم البعيدة، دون أن تسقط في احتقارها، أو دون أن تنطلق من رغبة في استعبادها واستعمارها. و رُوج لفيلم نانوك في دور العرض بواسطة أفكار ووسائل بارعة مثل الزلاجات التي تجرها الكلاب، وأشكال مصنوعة من الورق المقوى لأكواخ الإسكيمو، ووصف بأنه قصة حياة وحب في القطب الشمالي الحقيقي(16).

تمكن فلاهرتي عن طريق فيلم “نانوك” من تقريب المشاهدين من ثقافة وحياة شعب الاسكيمو التي كانت تعتبر بدائية، ونظر إليها بوصفها متوحشة وغريبة، وحاول تغيير نظرة المتحضر إلى الشعوب البعيدة، عبر مساءلة هذه المسلمات والحقائق التي تكونت لديهم. وقد استخدم فلاهرتي ببراعة تقنيات السينما الروائية، مثل اللقطات القريبة، والمونتاج المتوازي، لكي يجعل المتفرج يتفاعل مع عالم نانوك، وتجاوز هذا الفيلم عزلة المتفرج وهو يشاهد المناظر الطبيعية من بعيد، كما تعود في أفلام الرحلات التقليدية(17).

يُنظر إلى السينما الوثائقية عند فلاهرتي كنقيض للسينما عند جريرسون، حيت أن هذا الأخير جعل من السينما أداة للدعاية السياسية والتغيير الاجتماعي، بينما تميزت السينما عند فلاهرتي بطابعها الرومانسي، حتى أصبحت الرومانسية سمة مميزة لأعمال فلاهرتي، فأخرج من بين أفلام أخرى، فيلم “موانا”(1926)، في ساموا، و “رجل من آران “(1934)، عن إنفصال جزر آران عن إيرلندا، و “قصة لويزيانا” (1948)، وهو آخر أفلامه(18).

2-2- من سينما الحقيقة إلى سينما البحث: ارتكز بحث دزيغا فرتوف لتكريس أفلام الحقيقة فيما أسماه: عين السينما ، بالاشتغال على تحليل الحقائق، والتصدي لواقع متشظ، غير مجهز مسبقا، لتوثيق مشكلاته الاجتماعية والتاريخية والإنتاجية والسياسية [..] من خلال أفلام تسرد لنا الواقع، وتقدم لنا شخصيات وأمكنة(19). واستمر هذا التوجه في التعاطي مع الواقع، وفق رؤية أجازت لنفسها التميز، واستطاع أن يؤثر في كل التصورات الإبداعية السينمائية بعده.

بدأت الإرهاصات الأولى لهذا التيار بشكل واع خلال العشرينيات، وتوطدت أتناء فثرة الخمسينيات على يد ثلة من مخرجين وباحثين في العلوم الإنسانية وغيرها(20)، وتميز بالمزج بين تقنيات الداراما المستوحاة من مجال السينما، وخصائص الروبورتاج، وبعض خطوات البحث العلمي ( الملاحظة، الفرضية..)(21)، و ارتبطت إسهاماته أساسا بجون روش وإدكار موران، باعتبارهما يفكران في/بالسينما من مدخل يتقاطع فيه البعدين العلمي والجمالي، وقد كان لهذه الازدواجية في خلفيتيهما النظرية، أثر كبير في تحولات عميقة طالت السينما الأنثروبولوجية من جهة، ومناهج البحث الأنثروبولوجي الموظف للصورة السينمائية من جهة أخرى. إن المسار الذي تسير فيه سينما البحث، هو مسار علمي، وظف الخلفيات النظرية في مختلف الحقول المعرفية التي تقارب الظاهرة الإنسانية في بعدها السوسيو-أنثروبولوجي، وحدد حقول اشتغاله (أي البحث) وفق جوانب السلوك الإنساني التي تدخل ضمن اهتماماته؛ ففي حديث إدغار موران عن علاقة السينما بالوقائع الاجتماعية، بحث في الجوانب التي تشكل المادة الخام للسينما الوثائقية الأنثروبولوجيا، واقترح المداخل الملائمة لاشتغال هذا النوع الوثائقي، حسب أنواع السلوك الاجتماعي، قائلا:

هناك السلوك الاجتماعي، الشعائري، الطقسي: في هذه الحالة، تكون الحياة ممسرحة؛ قس كنيسة؛ رئيس دولة يدلي بخطاب؛ هما في حالة ممسرحة، هنا، الفيلم لا يشوش كثيرا على منهم فوق الركح الاجتماعي.

هناك السلوك الاجتماعي المكثف: الحرب، قتال، مبارة رياضية، …الخ، في هذه الحالة، توضع العاطفة على محك حقيقي، وهي أقوى من الكاميرا التي يمكن نسيانها أو تجاهلها من طرف المشاركين. أينما وجد مركز الاهتمام أو العاطفة أكثر شدة من الكاميرا، تتوقف هذه الأخيرة عن التشويش على الظاهرة.هناك السلوك الاجتماعي التقني: حركة أثناء العمل بواسطة أدوات أو آلات، في هذه الحالة، الجسد والأيادي غير مشوشة في عملياتها الأساسية. لكن وجه العامل، البيئة الاجتماعية للعمل لن تتسم بالصدق.

هناك الباقي، الأصعب، المؤثر، السري: أينما تكون الأحاسيس قيد البحث، أينما كان الفرد معني بشكل شخصي، أينما وجد أفراد تربطهم علاقات السلطة، الخضوع، الزمالة، الحب، الكراهية – أي كل ما يهم النسيج العاطفي للوجود الإنساني. هي الأرض المجهولة للسينما السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية، لسينما الحقيقة. هي أرضها الموعودة(22).

تحول هذا التيار- مع مرور السنوات- من الرهان على ممكنات صناعة سينما الحقيقة، إلى الإسهام بتصوراته النظرية وتطبيقاته على مستوى الممارسة الإبداعية، في بلورت سينما متميزة، تتوسم الدفع بطرق إبراز كل ما هو أنثروبولوجي وسوسيولوجي في الممارسة الإنسانية، إلى مرتبة الركيزة الأساسية في صياغاتها الفلمية، حتى أشار إليها الكثير من نقاد السينما باسم ” سينما التقصي أو البحث (Cinema d’enquête )(23).

2-3-التوظيف الأنثروبولوجي للسينما: إن توظيـف الصورة الفوتوغـرافية في البداية، ثم الصورة المتحركة بعد اكتشاف السينما، كان من منظور براغماتي محض، سعى من خلاله الباحثون الإثنوغـرافيون والأنثروبولوجيون لتسجيل وتوثيق المعطيات الميدانية البحثية، التي يتم جمعها من المجتمع المدروس؛ فقد كان أوائل المستكشفين ذي التوجه الأنثروبولوجي، مجهزين بأحدث معدات التسجيل(24)، ومرَافقين بأطقم مختارة، لتسهيل عملية التواصل مع مجتمع الدراسة، وتمكنوا بفضل رهانهم على الصورة، والتكنولوجيا المتطورة – في تلك المرحلة – من إنتاج عدة أفلام؛ لكن أغلبية الأفلام الإثنوغرافية في العقود الأولى [ من هذا التوجه ] ظلت مجرد وثائق أولية في غياب تام للمونتاج(25)، وتميزت هذه الأفلام بنقل المشاهَد ( بفتح الهاء)، كما هو في حقيقته، أي أن الأمر لم يخرج عن توثيق صرف للحظة المعاشة دون التساؤل حولها. في نهاية الثلاثينيات أدمجت مارغاريت ميد و غريغوري باتسون الصورة والسينما في المشاريع البحثية التي أنجزاها في كل من بالي و غينيا الجديدة(26)، ليبدأ فصل جديد من التوظيف الأنثروبولوجي للسينما، تطور إلى توجه خاص في الممارسة البحثية الأنثروبولوجيا، عرف بـ “الأنثروبولوجيا البصرية”.

2-4 – السينما الوثائقية: من المساءلة الأنثروبولوجية إلى الأنثروبولوجيا البصرية يجمع الباحثون أن أول مادة إثنوغرافية صورت، يرجع فيها الفضل إلى فيليكس لوي راينولت الذي صور سنة 1895، سيدة من شعب الأولوف تصنع الخزف، وفي سنة َ1898، تمكن ألفريد كورت هاردون وهربرت سبنسر من توظيف اسطوانة الفونوغراف لتسجيل الصوت، و آلة تصوير فوتوغرافية، والكاميرات الأولى (كاميرا لوميير)، كأدوات لجمع المعطيات الإثنوغرافية أثنا الاشتغال على الشعب الأصلي في استراليا، وكانت هذه المعدات في تلك الفترة ثقيلة ومكلفة، ويتم تسجيل الصوت بمعزل عن الصورة. لكن، أول فيلم إثنوغرافي، هو فيلم “نانوك” الاسكيمو (1922)، لـفلاهرتي- والذي سبق أن أشرنا إليه – وفي نفس الفترة، أخرج دزيغا فيرتوف مجموعة من الأفلام في إطار “سينما الحقيقة”، تم بعده، في الفترة 1936-1938 أحدثت مارغاريت ميد وغريغوري باتسون ثورة في الفيلم الإثنوغرافي، وأوصلاه إلى مدرجات الجامعة، ليدخل في تدريس الدرس الأنثروبولوجي.

إن الرهان على توثيق التفاعلات والممارسات السوسيو- أنثروبولوجية ، قبل الانتقال إلى تحليلها، والبحث في متغيراتها، كان دائما هو الرهان الأساسي في البحث الأنثروبولوجي، وكان في السابق، يتم بالاعتماد على الكتابة في المذكرات ( bloc-notes )، لتسجيل ما يلاحظ من ميدان الدراسة؛ وبعد توظيف الكاميرا، فتح ذلك إشكاليات كبرى حول نسبة الذاتية والموضوعية، مما يقدم على أنه مادة علمية، وحول أهلية الكاميرا وسلطتها لنقل الوقائع بتجرد، لكن مهما يكن، سواء اكتفينا بالملاحظة البصرية أو بالملاحظة بالكاميرا، فالأمر – في اعتقادنا – سيان – إذ علمتنا كل علوم الملاحظة، أننا نلاحظ بالفكر أكثر من البصر(27).

كان للتطور الهائل في مجال التكنولوجيا، أثر كبير في الممارسة البحثية الميدانية في حقل الأنثروبولوجيا، وقد عرف البحث العلمي تزايدا في توظيف الوسائط السمعية-البصرية، وبرز في العقد الأخير من القرن العشرين، توجه خاص سمي بـ “الأنثروبولوجيا البصرية”، اعتبر ميدانا جديدا داخل الأنثروبولوجيا العامة، يهتم بدراسة الجوانب البصرية للسلوك الإنساني، ويقترح الإمكانيات الفنية المتاحة لتوظيف المعدات والوسائل البصرية في البحث والدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، لكن هناك من الباحثين من يعتبر أن الأنثروبولوجيا البصرية من جهة، هي علامة تجارية للباحثين الذين يرغبون في توظيف السمعي البصري كأدوات التحقيق، ومن جهة ثانية، كوسيلة للنشر(28)، وجزموا أن الأنثروبولوجيا البصرية لن تتمكن من الاستقلال كميدان خاص عن الأنثروبولوجيا العامة. رغم أن توظيف السينما في هذا التوجه، أدى إلى تحقق إضافة نوعية لمناهج البحث الأنثروبولوجي، بمعنى أن الأنثروبولوجيا البصرية- في اعتقادنا- هي أقرب لأداة منهجية أكثر من تخصص يحاول أن يرسم حدوده عن التخصصات الأخرى داخل الأنثروبولوجيا العامة، ويجد هذا الموقف مسوغه الموضوعي، في ما تتيحه الصورة السينمائية من إمكانيات لتحقيق الوصف الشامل والدقيق لمختلف الظواهر الأنثروبولوجية، بصرف النظر عن الميدان الفرعي من فروع الأنثروبولوجيا الذي توظف فيه، بمعنى أن الأنثروبولوجيا البصرية تمثلك في طبيعتها، إمكانية مهمة كأداة فعالة للتوثيق، وقابلية للانتقال بين مختلف الفروع، عوض الاكتفاء فقط بالتدوين في السجلات، فالحاجة إلى معرفة كيف تبدو قرية، منظر، قصر من الطين، زي، زفاف [..] يبدو مشروعا، والفيلم يمكن أن يحقق ذلك(29).

3-الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي: الأنواع و المرتكزات

3-1-أنواع الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي: إن الحديث عن أنواع الفيلم الوثائقي، يدفعنا إلى الحديث عن ممارسة نقدية واكبت الفيلم الوثائقي، وبحثت في خصائصه ومرتكزاته، في محاولة منها لتصنيف أنواعه، رغم أن الجدال لم/لن يحسم في هذه التصنيفات، بحكم أن أي تصنيف مهما بدا موضوعيا، فهو يحوي في طياته نسبة من ذاتية الناقد، وما يزيد الأمر صعوبة أيضا، هو رفض بعض المبدعين لتصنيف أفلامه في هذه الخانة أو تلك، لكن ما هو جدير بالذكر في هذا المقام، أن التصنيف الأكثر تداولا في الدراسات النقدية السينمائية،– رغم ما يشوبه من نقص أو ما يُستقبل به من اعتراضات – يمكن إجماله في التصنيفات التالية:

– تصنيف من حيت الموضوع.

– تصنيف من حيت الأسلوب.

– تصنيف من حيت المدارس.

– وبخصوص أنواع الوثائقي الأنثروبولوجي، يمكن الوقوف عند التصنيفات الآتية:

3-1-1- الوثائقي الإثنوغرافي: تعالقت السينما والإثنوغرافيا حول نفس النشاط: تعيين، ملاحظة وتسجيل، بل حماية، هذه المجتمعات الشواهد، التي اعتبرت كمراحل أو انحرافات جامدة على طريق تقدم النوع البشري نحو حالة أكثر تطورا(30)، وعرفت السينما الإثنوغرافية برائدها فلاهرتي، الذي بدأ هذا التوجه في الاشتغال السينمائي، وساهم ظهور كاميرا 16 مم، منذ سنوات الستينات، في بلور ت أسلوب جديد سمي : بالسينما المباشرة، كما ساهم الأثنروبولوجيون الفرنسيون أمثال مارسيل كغيول (Marcel Griaule)، جيرمين ديتيرلين (Germaine Dieterlen)، و جون روش (Jean Rouch ) في جعل الكاميرا، أداة أساسية في البحث الإثنوغرافي، و مع مرور الوقت، وتبلور هذا التوجه النوعي في الاشتغال داخل السينما الوثائقية.

يعرف الفيلم الإثنوغرافي من طرف المسؤولين عن مهرجان مارجريت ميد للسينما، الذي ينظم كل سنة بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، بكونه فيلما عن الثقافات الأخرى، أو الشعوب الغريبة، أو العادات والتقاليد (31)، و يشترط جاي روبي لتحقق الفيلم الإثنوغرافي، ليس فقط الاشتغال على تناول ثقافات وعادات الشعوب، بل أيضا، إدا أُنتج الفيلم على يد عالم إثنوغرافيا مدرب، باستخدام الوسائل الميدانية الإثنوغرافية، وبهدف تقديم مادة إثنوغرافية يقيمها خبراء في المجال(32).

3-1-2- الوثائقي الإثنوموسيقي: إدا كانت الإثنوغرافيا، هي البحث الذي ينهض على ملاحظة وتسجيل طريقة الحياة في ثقافة [..] معينة بدرجة عالية من الدقة(33)، والدقة العالية هنا، ليست سوى الوصف الشامل دون إغفال أية جزئية، فإن الكاميرا، عين لاقطة ومسجلة “لكل شيء” يقع أمامها، مما يعني أن الكاميرا حين تلتقط بشكل وصفي تفاصيل حياة ثقافية في تمظهراتها الموسيقية (أهازيج، رقصات، …) داخل جماعة ما، فهنا، يمكن توصيف الأمر بفيلم إثنوموسيقي، إنه ببساطة، فيلم يشتغل من داخل تصور إثنوغـرافي (أو أنثروبولوجي) على إحدى الإنتاجات الثقافية : الموسيقى.

3-1-3- الوثائقي الإثنوتخييلي: فيلم يجمع بين الوثائقي والمتخيل، فعبر السرد الخيالي المؤسس غالبا على الإرتجال، أو بناء تصور للمشاهد، يدفع صانع الفيلم بالممثلين للاندماج في واقع ثقافي موضوعي، إنه تصور متخيل مبني على واقع سوسيو-أنثروبولوجي حقيقي، ويعد جون روش رائدا من رواد هذا النوع. وغالب ما يعتمد هذا التوجه في الاشتغال على ممثلين محترفين، عوض أشخاص عاديين من الجماعة الثقافية. لأن أفضل وسيلة لتحقيق أهداف الفيلم في المطابقة الواقعية، وكذا التأثير المطلوب في المتلقي، كما يقول إرنست كندجرن: هي انتقاء نماذج معينة من الناس، ولا بد لتنفيذ ذلك من الاستعانة أكثر فأكثر بممثلين مدربين على تصوير الشخصيات الإنسانية وما يصاحب هذا النمو من عمق فكري وعاطفي(34).

3-2-مرتكزات وخصائص الوثائقي الأنثروبولوجي

3-2-1- مادة الاشتغال: يمكن إجمال مادة اشتغال الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي، أساسا وحصريا في: كل ماهو أنثروبولوجي؛ وتفصيليا في: الاشتغال على الثقافة، والعادات، والطقوس المختلفة، والموسيقى، والرقص، والحضارة في شكلها المادي واللامادي، وكل الإنتاجات الرمزية لشعوب العالم، أو كل ما يحيل إلى العمق الأنثروبولوجي لشعب ما، أو جماعة ما، أو حتى أفراد معينين، مهما كان موقعهم في الفضاء الاجتماعي، لأن العمق الأنثروبولوجي منقوش في هابيتوس الأفراد، ويمكن إدراكه لو توفر الباحث/رجل السينما على الأدوات المنهجية، والمعرفية القادرة على تمكينه من تحليل بنيات المجتمع، واسنطاق سلوكيات الفاعلين في حقوله وفضاءاته؛ فالذاكرة وأنماط التفكير مثلا، يمكن أن تكون مادة لإشتغال هذا النوع من الوثائقي، لو تمكن رجل السينما من إدراك عمقها الانثروبولوجي، ومسلكياتها في تمثلات الأفراد وسوكياتهم. مع التنصيص على أن أصالة الفيلم الوثائقي لا تنبع من اعتماده على مادة الواقع فقط،، بقدرما ترجع إلى طريقة توظيف هذه المادة الواقعية، [بمعنى] أن وثائقية النتيجة هي الشيء المهم والمحك الأساسي في الوثائقي، لا وثائقية المادة المصورة(35).

3-2-2- منهجية الاشتغال: تحتل الملاحظة(36) – سواء كانت الملاحظة المشاركة (L’observation participante)(37)، أو الملاحظة الغير المشاركة – مكانة الصدارة في لائحة الأدوات المنهجية والإجرائية التي يوظفها الباحث الأنثروبولوجي، وهو بصدد جمع المعطيات الميدانية، ويجــد هذا الاختيار أساسه الموضوعي، من طبيعة السلوك الإنساني المتسم بقابليتة للحجب والاختفاء أٌثناء التواصل مع الغرباء، أو على الأقل التحول من سلوك طبيعي إلى سلوك مصطنع، فيفقد عمقه الأنثروبولوجي، لذلك اهتدى الباحثون في العلوم الاجتماعية (خاصة الأنثروبولوجيا، الإثنوغرافيا، والسوسيولوجيا)، إلى تقنية الملاحظة (خاصة المشاركة)، كأداة منهجية للحصول على معطيات معبرة بصدق على طبيعة السلوك المشاهَد، لكونها تحقق تقليص المسافات والحواجز بين الباحث والمبحوث، وتؤسس لتواصل مثمر، قوامه الصدق المبني على الألفة؛ يصفLuc De Heusch ، الملاحظة الغير المشاركة بالسلبية، والملاحظة المشاركة ( المباشرة) بالفاعلة، ويضيف: نجد مقابلا لهاتين الأداتين الأساسيتين [..] في ميدان التسجيل السينمائي، [..] في الأولى، تكون الكاميرا كتومة، تكاد لا ترى، محرجة نسبيا، أما في الثانية، فهي تشارك في الحياة الاجتماعية، تثير ردود أفعال، تحاور، تطرح أسئلة، ويجيب عليها الإخباري ( informateur) الذي تحول إلى ممثل(38).

يشتغل صناع الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي في غياب سيناريو، على عكس الأفلام الروائية، وهذا لا يعني أن صانع الفيلم يلج الميدان (موقع التصوير) دون أدنى فكرة، بل يسبق ذلك ببحث معمق يسهل له التعرف على مجتمع الدراسة(39)، وهذا البحث بمثابة إجراءات مرحلة الاستكشاف التي يقوم بها الباحث الأنثروبولوجي أو السوسيولوجي؛ فمرحلة الاستكشاف هي مرحلة أساسية تمكن صانع الفيلم/الباحث من التعرف على مجتمع الدراسة، وعلى الظاهرة/الظواهر المدروسة (موضوع الفيلم)، وهي أيضا لحظة مهمة لبناء الألفة مع الفضاءات والأمكنة و الفاعلين الاجتماعيين (أبطال الفيلم)، يشرح لهم رهاناته وأهدافه، ويطلب الإذن بالتصوير. إذا كانت الملاحظة تقنية لجمع المعطيات بالنسبة للباحث الأنثروبولوجي، فبالنسبة لرجل السينما، هي أداة لمعرفة سبل توجيه الكاميرا في الوقت المناسب لاقتناص مشاهد متفردة وغير مألوفة، فالكاميرا لم تعد المركز الذي تدور أمامه الأحداث التي يتم تصويرها، لكن الكاميرا هي التي تتبع الأحداث خلال وقوعها(40) ، فعن طريق التواجد المستمر في الميدان قبل التصوير(مرحلة الاستكشاف)، يتمكن رجل السينما من تغذية حدسه الإبداعي لمعرفة ما سيحدث قبل حدوثه. إن صانع الفيلم هنا، وهو يصور، يحاول أن يتوقع سلوك أبطاله، ويمارس ما يمكن أن نسميه: التربص الإبداعي، بمعنى أنه يستغرق في اليقظة، ويركز في الملاحظة والبحث عن جزئية/جزئيات لالتقاطها بالكاميرا، هذه الجزئية التي لا يمكن معرفة متى ستحدث؟ وأين؟ وكيف؟ و لا يمكن الحديث حتى عن كيفية ترقبها، فقط الملاحظ المتمرس، هو من يستطيع أن يحدد ويتنبأ بحدسه الإبداعي، زمن وقوعها.

يوظف المخرجون السينمائيون للفيلم الوثائقي، تقنية المونتاج، ولا يتعلق المونتاج فقط بالاشتغال على المادة الخام بعد الانتهاء من تصويرها، بل المونتاج المواكب لعملية الإبداع الفيلمي منذ مراحله الأولى، إلى مرحلة الحصول على النتاج النهائي (الفيلم)، ويندرج هذا الاختيار، في تأثرهم بتصورات وطرق توظيفه المونتاج من طرف د. فيرتوف؛ الذي يعتبر المونتاج مسلكا مستمرا طيلة مراحل التصميم والإخراج الفيلمي(41).

ولاستيعاب تصور د. فرتوف للمونتاج، نقترح مراحل الإخراج الفيلمي لهذا المونتاج المستمر، الذي يتحقق عبر المفاهيم المؤطرة لخطوات الاشتغال، كما صاغها مارك هنري بيول(42):

المنهجية العامة: ========================= سينما العين:

1-اختيار الموضوع؛ تحديد وحدات التحليل/.=== مقابلها في سينما العين== 1- مونتاج أثناء الملاحظة.

2- بناء الفرضيات/ ======= مقابلها في سينما العين===== 2- مونتاج بعد الملاحظة

3- تعيين (mise en place) واستمرار تعديل آلية الملاحظة في الميدان./===مقابلها=== 3 – مونتاج أثناء التصوير.

4- ترتيب المعطيات: ربطها بالفرضيات الأولية؛ تقييم.=== مقابلها في سينما العين==== 4 – مونتاج بعد التصوير

5- تنظيم العناصر؛ ضبط الغير المتوقع./===== مقابلها في سينما العين======== 5 – نظرة العين (coup d’oeil

6- التعيين العام؛ تركيب النتائج؛ ( mise en situation) التوضيع /.===مقابلها===== 6 – المونتاج النهائي

تحدثنا ها هنا عن المونتاج كتقنية مواكبة لسيرورة إنتاج الفيلم الوثائقي، ويمكن كذلك أن يندرج المونتاج كأسلوب في الفيلم الوثائقي، في ما يسمى بـ”وثائقي المونتاج”.

3-2-3- أسلوب الوثائقي الأنثروبولوجي: يمكن تعريف الأسلوب، بأنه معالجة التجسيد البصري للقصة(43)، ومعالجة الفيلم تظهر الجانب الذي اختاره المخرج(44)، ولا يختلف كثيرا الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي كفرع داخل الجنس الوثائقي، عن الأنواع الفرعية الأخرى، ويتقاسم معها الكثير من الخصائص الأسلوبية، كما يتقاسم البعض منها أيضا مع الجنس الروائي، فمخرجو الأفلام الوثائقية تتوفر لديهم مجموعة كبيرة من خيارات الشكل للتعبير للمشاهدين عن صحة ما يعرضونه لهم وأهميته(45). إن التوجه الأساسي في الأفلام الوثائقية الأنثروبولوجية – مند البدايات الأولى- هو الرهان على شاعرية ما يقدم، عبر الاستناد على الصمت، والوجوه، واللقطات القريبة، والمشاهد في شكلها العفوي، لإضفاء العمق على الفيلم، بالتالي تحقيق سينما قريبة من الموسيقى؛ و هو المنحى الذي اختاره فلاهرتي، إذ يقول: أنا لا أعتمد تقريبا إلا على الصورة للتعبير عن فكري، على الصورة وعلى الصوت، وأني على ثقة من أن هناك روابط أشد بين الموسيقى ( في تناولها كوسيلة صوتية) وبين الصورة أكثر مما بين الكلمة والصورة، نستطيع تقريبا أن نقول كل شيء بالصوت والصورة، ولا نستطيع تقريبا أن نقول شيئا بالكلام. إنها إمكانية تتاح للمشاهد، لرؤية ما لم يكن بالإمكان رؤيته، أو رؤية ما لم يألف رؤيته عادة، عبر استنطاق المرئي، إنها ببساطة اختيارات جمالية تتغيا التغلغل إلى أعماق اللامرئي وجعله مرئيا، ليتحول الفيلم الوثائقي إلى قصيدة مرئية تستطيع توحيد خبرة الحواس المختلفة(47).

4-تجارب وتصورات في الوثائقي الأنثروبولوجي

4-1-التصور النظري للوثائقي الأنثروبولوجي لدي إدغار موران: يذهب فرنسيسكو كازيتي(48) (Francesco Casetti)، إلى إدراج تصورات إدغار موران حول نظريات السينما، في خانتين، الأولى تتعلق بالنظرية الأنطولوجية (la théorie ontologique)، بوصفها نظرية شاملة، تؤسس تصورها على البنية الجوهرية العامة للتفكير داخل حقل السينما، أما الثانية، فهي النظرية السوسيولوجية، باعتبارها نظرية تنظر إلى الظاهرة الفنية (السينما)، كظاهرة اجتماعية تقبل الدراسة والتحليل وفق البراديغمات السوسيولوجية المختلفة؛ وأكثر من ذلك، فإدكار موران كباحث، وسوسيولوجي معروف، يشتغل من داخل تخصص، حاول باستمرار تجاوز الحدود(49)، بين السينما والفلسفة والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا..الخ، وفطن مبكرا إلى التعالق الوثيق بين مختلف التخصصات. إن هذا الوعي بامتداد المجالات المعرفية والإبداعية التي يتحرك ضمنها اهتمام موران وتفكيره، هو ما يشكل فرادة الرجل وتميزه.

شكل مؤلفه الموسوم بـ السينما أو الإنسان المتخيل” ( le cinéma ou l’Homme imaginaire )- 1956- مساهمة مهمة في تاريخ السينما والمعرفة المرتبطة بالإبداع والمتخيل بشكل عام، و يعد هذا المؤَلف اشتغالا على السينما من زاوية المقاربة الأنثروبولوجية (50).

يقترح موران توظيف الكاميرا كأداة لنقل الوقائع كما هي، ويحث المشاهد ( المخرج/ المصور)، للمشاركة فيما يشاهد، والسينما بهذا المعنى، ليست ترتيبات لا مبالية لتوثيق العالم، بل استمرار تجربة غنية للأثار المترتبة(51)، بـ/من فعل المشاركة الفاعلة لرجل السينما. يتأسس تصور موران للفلم الوثائقي الأنثروبولوجي، على الاستناد إلى الواقع المعاش فعليا، إنه تصور حول سينما الحقيقة كما هي متجلية في الواقع، لكن سينما الحقيقة بالنسبة لادغار موران، لا تتعلق بالتنافس مع الجرائد الإخبارية، بل بمساءلة الحقائق الشائعة التي تشكل نسيج وجودنا اليومي، عبر التغلغل داخل حميمية الحياة اليومية المعاشة فعليا(52).

بلور موران تصوره لنقل الواقع، على منهجية قوامها الارتكاز على مقابلات شبه موجهة، راهنت على بلورة تواصل صادق بين المؤلفين والمبحوثين ( interviwés ) (53) ، معتمدا في ذلك على مكنزمات إنجاز المقابلات كما هو الحال في العلوم الاجتماعية ( الأنثروبولوجيا السوسيولوجيا..)، التي تعطي أهمية قصوى لمرحلة بناء الألفة مع المبحوث، أثناء توظيف أداة المقابلة. يعد فيلم “يوميات صيف” (chronique d’un été) الذي أخرجه رفقة جون روش نموذجا لتوظيف المقابلات، عبر طرح أسئلة على الباريسيين من قبيل: كيف تعيش؟ هل أنت سعيد؟ كيف تقضي يومك؟..الخ. لكن السبق كان لدزيغا فرتوف الذي استخدم المقابلات الشخصية لأول مرة في فيلم ” الحماسة ” عام1929(54).

فطن أيضا إدغار موران إلى أهمية بناء الفيلم من مدخل تفاعل الفرجة السينمائية مع المتلقي، بقوله: السينما هي بالضبط، هذا التجانس: نظام يحاول أن يدمج المتفرج في مجرى الفيلم، ونظام يحاول أن يدمج الفيلم في المجرى العاطفي للمتفرج(55).

هكذا، تحول تصور موران إلى مادة خصصها النقد بالتناول، وأصبح مرادفا لإستراتيجية الخلخلة والفضح لكل التمثلات التي بناها الإنسان في نظرته للعالم، وترسخت لديه لتتحول إلى مسلمات غير قابلة للهدم.

4-2-التصور النظري للوثائقي الأنثروبولوجي لدى جان روش: يعتقد جون روش أن وضعية المؤلف [صانع الفيلم]، حضوره أو غيابه المموه، له تداعيات مهمة على المستويين الجمالي والأخلاقي(56)، وهنا يضع إشكالية الذاتية والموضوعية قيد المساءلة، لأننا عندما نشاهد فيلما إثنوغرافيا، حتى أفلام الأرشيف التي تدعي الحياد الصارم، في الحقيقة فنحن نشاهد، تسجيلات مؤطرة بثقافة واختيارات المؤلف. يقترح روش لتجاوز هذه الإشكالية مسارا آخر، سماه بالنهج التفاعلي بين صانع الفيلم والممثلين باعتبارهم فاعلين اجتماعيين يتحملون نصيبهم من مسؤولية تواجدهم وحضورهم في الفيلم، ويتأسس هذا النهج التفاعلي على القطيعة مع تقاليد الملاحظة المحايدة، و لأول مرة في تاريخ الفيلم الإثنوغرافي، يتولى صانع الفيلم وضعية تسمح له بتحقيق الأدائية: بفضل خطواته ونظرته، يمكن لنا نحن المتفرجون أن نشاهد ما يقدمه لنا (58).

إن هذا المسار الذي يشتغل وفقه جون روش، يمنح فيه لطرفي المعادلة ( البطل و صانع الفيلم ) أعباء تحمل مسؤوليتيهما إزاء ما يقدم، وهو ما يطلق عليه : الأنثروبولوجيا المتقاسَمة (l’anthropologie partagée)، متقاسمَة لأن صانع الفيلم عوض أن يدعي الغياب، فهو حاضر في مركز الفعل، و متقاسَمة لأن كل الأبطال يتحملون مسؤولية ظهورهم في نفس الوقت و في نفس المكان، متقاسمَة لأن جون روش دائما يعرض أفلامه للذين يظهرون فيها(59).

يضع جون روش الكاميرا في خضم التحقيق الإثنوغرافي، ويدفع بالاعتراف بأحقية الآخر، بالحديث والبوح عن مكنوناته، عبر علاقة تفاعلية يحتفظ فيها طرفي المعادلة (الممثل وصانع الفيلم)، بقيمتيهما المتساويتين، لا فضل لأحدهما على الأخرى، وقد تأسس هذا التصور لدى روش، انطلاقا من حبه للمادة الإثنوغرافية المصورة وما يحيل عليه ذلك من تقدير للشعوب الإفريقية التي خصها بالتحقيق، تجاوزا لنظرة الاحتقار والدونية التي كانت سائدة، حتى برز باعتباره صانع الفيلم الإثنوغرافي الوحيد الأكثر أهمية في المجال(60).

4-3-جان روش و التأصيل الإبداعي للوثائقي الأنثروبولوجي: بلغت أعمال جون روش تقريبا 130 فيلما، من بينها ما يربو على ثلاثين فلما غير مكتمل، وقد صنفها J.Paul Colleyn ووزعها على ثلاثة أقطاب: وثائقي إثنوغرافي، مصور بطريقة وصفية ( جزء مهم من اشتغاله على طائفة سونغاي/ Songhaï Les)، قطب [ثان] تغلب عليه هرمينوطيقا مارسيل غريول Marcel Griaul( اشتغاله على شعب الدوغون/les dogons مع جيرمين ديترلن Germaine Dieterlen )، وقطب [ثالث] تجريبي متقدم عن الموجة الجديدة في الستينيات، ونقاشات هامة سنوات الثمانينيات حول الانعكاسية /Réflexivité في الأنثروبولوجيا(61).

يحتل البطل في أفلام روش مرتبة خاصة جدا، فهو الشاهد على السمة المعاصرة للتجربة الإثنوغرافية(62)، ويترك له الحرية الكاملة للارتجال، أو بالأحرى إعادة إنتاج الوضعيات والسلوكيات التي تعلمها، وداوم على معايشتها في الجماعة الإثنية، كما يمنح له المساحة الكافية للبوح والتعبير عن أفكاره، ليكشف تمثلاته ورؤية العالم الخاصة به. يفتح جون روش مسارا خاصا سمي بالتجريبي، خاصة في فلميه (Moi, un noir) و ( La pyramide humaine)، وقد وصف هذا الاشتغال بالتصور الأصيل والمتميز(63)، باعتبار أن روش كصانع فيلم ، أهمل هذه المرة مادا سيقع، ووضع قيد التنفيذ، سلسلة من المكانيزمات السيكولوجية الخفية، فلم يكن الاعتماد على سيناريو أو حوار، بل دفع بالممثلين لتقديم ارتجالات متواصلة أمام الكاميرا، يقول: لم تكن الكاميرا عائقا أمام التعبير، لكن العكس، الشاهد الذي لا غنى عنه هو الذي فجر هذا التعبير(64) ، واستطاع من خلال هذه التجربة، أن يجعل من الكاميرا أداة محفزة على الفعل.

يشتغل روش بمعدات خفيفة، ومع عدد قليل من أفراد الطاقم، لإيمانه أن كل ما كانت المعددات ثقيلة وبارزة في موقع التصوير، وكلما كان عدد أفراد الطاقم كبيرا، كلما انعكس ذلك سلبا على الشاهد (الممثل) الذي ستمنعه هالة التجهيزات والكاميرات والطاقم من التعبير بأريحية، وهكذا فعل في تجربته مع إدكار موران في فيلم (chronique d’un été). مجرد مسجل الصوت وكاميرا خفيفة، والرهان على تقنية المقابلات في الشارع. يندرج اشتغاله ضمن ما يسمى بالفيلم الإثنوتخييلي؛ ففي ( Moi, un noir) قد ركب مشاهد متخيلة و أصيلة في نفس الوقت، ومنحت فيه المساحة الكافية لثلاث ممثلين أفارقة، للتعبير والحكي بأنفسهم، وخلق نسيج السرد بواسطة الممثلين المتحدثين باستمرار عن أحوالهم الأصلية(65) ، وهو في نفس التوجه الذي سار فيه فلاهرتي، حين جعل في فلم “رجل من أران”، سكان الجزيرة يعملون بالصيد ويستخدمون الرمح في صيد أسماك القرش، وهي الأعمال التي لا يمارسونها منذ أجيال(66).

4-6- أوجه الأنثروبولوجي في السينما الوثائقية المغربية (تجربة حكيم بلعباس): إذا اتفقنا على أن التفكير و الممارسة الأنثروبولوجيين مغروسين في تمثلات الأفراد وسلوكهم اليومي، عبر هابيتوس متشكل من قبل التنشئة الاجتماعية في مستوياته الثلاث(67)، وهو المؤطر لرؤيتهم العالم، فيمكن القول – دون مجازفة- أن جل صناع السينما، وهم ينجزون مختلف الأنواع الفيلمية، قد استندوا – بشكل من الأشكال، و بدرجات متفاوتة، بوعي أو بدون وعي – على ما يمكن ما يصطلح عليه «الخلفية الأنثروبولوجية»، سواء كان ذالك ظاهرا كمادة اشتغال ( الثقافة، التراث، الحضارة،…)، أو كتقنيات مرتبطة بالممارسة البحثية الأنثروبولوجية (الملاحظة، المقابلات…)، أو كرؤية للعالم (مواقف إزاء الظواهر المختلفة).

من هنا إذن، يمكن القول أن البحث لإبراز أوجه الأنثروبولوجي في السينما المغربية، هو بحث على امتداد جميع الأفلام الوثائقية بتعدد تصنيفاتها وأنواعها، إلا أننا نقترح- حصرا للموضوع – تناول تجربة حكيم بلعباس التي وصفت بالمتميزة، حيت أشاد بها الكثير من النقاد والمتابعين للشأن السينمائي بالمغرب. عرفت السينما الوثائقية المغربية دينامكية غير مسبوقة، خاصة في العقود الأخير، بعد أن أعيد النظر في مكانة الفيلم الوثائقي، وبدأ ظهور مهرجانات متخصصة بالاحتفاء بهذا الجنس السينمائي؛ والحديث عن السينما الوثائقية المغربية المشتغلة على البعد الأنثروبولوجي والمنشغلة به، لا يمكن أن يسقط الإشارة – ولو باقتضاب – إلى إسهامات عديدة، خاصة لأحمد المعنوني ، فيلم ” اليام اليام” (1978) الذي اسند فيه الدور لممثلين هواة، وينبني بشكل كلي على فكرة واحدة أو وسواس واحد تملك بطله القروي عبد الواحد الذي يحلم ليل نهار بالهجرة(68) ، وفيلمه الثاني ( فيلم الحال1981 ) الذي اشتغل على مجموعة “ناس الغيوان”، وأفلام أخرى، بالإضافة إلى إسهامات المخرجة المغربية إيزة جنيني التي اختار منذ البداية التخصص في الفيلم الوثائقي والموسيقى المغربية(69) ، أي من منظور ما يصطلح عليه: الفيلم الإثنوموسيقي، وهي التي كلفت بإنتاج الفيلم الذي وصفه المهتمون بالفلم التحفة (فيلم الحال)، وتمثل أفلامها نبشا في الذاكرة الثقافية عبر الاشتغال على الموسيقى المغربية، ومن إنجازاتها، الفيلم الموسوم بـ “أصوات المغرب” (2003)، الذي يوثق لأصناف الموسيقى والرقص المغربيين، وقبله أفلام عديدة كـ “العيطة” (1988)، و “إيقاعات مراكش”( 1989 )، و كناوة ( 1993 )، و “رعشات في أعالي الأطلس” (1993)، وغيرها،

وتأتي تجربة حكيم بلعباس لاستكمال حلقة الفيلم الوثائقي المغربي، واستطاعت بفضل تصورات هذا المخرج الفذ، أن تمثل تجربة ناضجة من مدخل الفيلم الوثائقي الأنثروبولوجي. يرفض حكيم بلعباس تصنيف أفلامه ضمن خانات من قبيل الفيلم الأنثروبولوجي أو الإثنوغرافي، ويرى أن أفلامه تنطلق من سؤال: لماذا نحكي؟ ويجيب، إننا نحكي لأن العالم مخيف، و غير منظم(70).

من هنا، يتضح أن تصورات الرجل تتأسس انطلاقا من منظور خاص قوامه الانتصار لفلسفة الألم، والتعبير عن قلق الذات المطبوع بأسئلة وجودية حارقة، فجعل من الصورة أداة تظهر العمق الإنساني لشخصيات أفلامه، فـجاء تضخيم عوالم المقدس في “خيط الروح” عبر العديد من المكونات ” العنوان، والطقوس، والموت، والضريح ، والختان، وأجواء المدينة، والشخصيات الروحانية الفضاء(71). تتميز أفلام حكيم بالتشذر والتشظي (فيلم أشلاء)، ويخصص مرحلة المونتاج لهدف بناء العلاقات بين المواد المصورة، ويتعامل مع المادة الخام بأريحية كبيرة، ويعتبرها كأي مادة أخرى يمكن أن تدخل في تشكيل أفلام متنوعة، فلا يجد حكيم بلعباس أدنى مجازفة في أخد جزء من تشخيص شخصية (عمي علي ) الذي سبق أن كانت مادة فلمية لفلم ” أشلاء”، وأدرج الجزء المتبقي منها في فيلم “تقل الظل”، وأدمج فيه أيضا بعض لقطات من تصوير ابنته بكاميرا “هاوية”، هذا الفيلم الذي يقول أنه “توثيق اللحظة”. إن حوارات حكيم بلعباس، كما هو الحال في أفلامه، لحظات غنية بأفكار ومواقف، تدعو كل من يتلقاها، إلى إعادة النظر في القوالب الجاهزة، وفي كل المسلمات المرتبطة بالإبداع السينمائي بشكل خاص، وبالتفكير الإنساني بشكل عام. يظهر هذا النزوع الثوري على التقاليد والأطر المرجعية البانية للتفكير من داخل السينما (الفيلم) أو من خارجها (الحياة)، في تعيين أفلامه بمسمى: “شبه فيلم”، إنه يدفع المشاهد إلى وضع الخلفيات التي تعوَد على توظيفها أثنا عمليات تلقيه للسينما، موضع مساءلة وشك، ويقترح عليه في الآن نفسه، إعمال إحساسه الصادق، كإنسان وككائن مفكر. يتوسم حكيم بلعباس تأصيل البعد التسجيلي عن طريق التجريبي الفاعل في “خيط الروح”(72) ، وعبر رهانه على سحر الصور، ليرى فيها المشاهد الجمال والحياة وسط عتمة الوجود والعدم والمعانات التي لا تطاق(73) ، في فيلم “محاولة فاشلة في تعريف الحب”، وتبقى الإبداعية الخلاقة السمة الغالبة في أفلام بلعباس كما في هو الحال في فيلمه “محاولة فاشلة في تعريف الحب” الذي أنجزه بلمسة إبداعية متميزة حولها إلى لغة بصرية سينمائية تحمل المزيد من الجماليات [..] ولا يملك المرء سوى أن يقع في عشق عالم إبداع حكيم بلعباس الذي يعرف كيف يوظف المكان ويغوص عميقا في أعماق النفس البشرية(74).

على سبيل الختم:

بعد أن عرف العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، مجموعة من الثورات العلمية، ومن نقاشات حادة حول طبيعة المعرفة وسلطتها، ومكنزمات إنتاجها في ظل التدافع والصراع والهيمنة المميزة للوجود الإنساني على جميع المستويات، وما طال الحقائق التي كانت مسلمات، على جميع الأصعدة، وما نتج عن ذلك من انقلاب في كثير من المفاهيم، و ظهور براديغمات جديدة، والقطع مع عدد من الإبدالات القديمة، هاهي اليوم، أعمال فلاهرتي الذي كان يعبر – كما أسلفنا – عن أن رغبة اكتشاف المجهول، هي التي أطر عشقه لصناعة الأفلام من جنس الوثائقي، قد تعرضت للمساءلة ونزع الفرادة والتميز عنها، و إلى إعادة النظر فيها، وهي التي كانت في وقت ما قد نالت الكثير من الإطراء النقدي، بالرغم من أن علماء الأنثروبولوجيا قد أعربوا عن شكواهم من أن هذه الأفلام غير دقيقة، لان المخرج تلاعب بالموضوعات والشخصيات، وإذا كان الترحيب في الماضي بأفلام فلاهرتي بسبب صورها الجذابة ولقطاتها المثيرة فإنها تعتبر اليوم أمثلة أساسية على النظرة الاستعمارية التي تضفي غرائبية على ما تصوره(75). إن تناول الفلم الوثائقي الأنثروبولوجي، كنوع إبداعي داخل الجنس الوثائقي، والبحث في خصائصه وأساليبه، وتحديد ماهيته وكينونته، وتعيين حدوده، ينفتح على مجموعة من الإشكاليات، ولعل أبرزها هي تلك المتعلق بتقاطعاته مع الأنواع الوثائقية الأخرى، وما مدى علمية ما يقدمه من حقائق حتى نصفه بالأنثروبولوجي؟ وكذا منسوب الذاتي والموضوعي في التصورات البانية له من قبل صانعه؟ وهل يستحق أن يكون وثيقة علمية تمنح لنا إمكانية الاطلاع والتعرف على الحقائق، و الوقائع السوسيو-أنثروبولوجية، التي يتضمنها، ويطرحها؟ أم انه مجرد وثيقة، تفترض أولا إخضاعها للتحقيق العلمي قبل التسليم بمحتوياته؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك كله إلى المتلقي وفاعليته القابلة للتغير والتجدد حسب سياقات تلقيه ؟

مراجع و وإحالات:

1- مصطفى اسماعيل (فاروق)، الأنثروبولوجية الثقافية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1980، ص:11

.2- الشماس (عيسى)، مدخل إلى علم الإنسان ( الأنثروبولوجيا)- دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب –دمشق، 2004، ص:7

3.تيلوين (مصطفى)، مدخل عام في الأنثروبولوجيا، دار الفرابي (بيروت)، ط1، 2011، ص:22

4. للمزيد ينظر: فهمي (حسين)، قصة الأنثروبولوجية- فصول في تاريخ علم الإنسان، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 98، المجلس الوطني للثقافة والآداب- الكويت، فبراير 1986

5.فهمي (حسين)، قصة الأنثروبولوجية- فصول في تاريخ علم الإنسان، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 98، المجلس الوطني للثقافة والآداب- الكويت، فبراير 1986، ص: 16.6-

6.نفسه، ص: 177-

7.مرشد السلوم (كاظم)، سينما الواقع – دراسة تحليلية في السينما الوثائقية، دار أفكار للدراسات والنشر (دمشق)، الطبعة الأولى، 2012. ص:11.8-

8.اوفدرهايدي ( باتريشيا)، الفيلم الوثائقي : مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: شيماء طه الريدي، مراجعة: هاني فتحي سليمان، الطبعة الأولى، 2013، ص: 11.9-

9.اوفدرهايدي ( باتريشيا)، مرجع سابق، ص: 11.10- نفسه، ص: 9.11

10.عبد الرزاق عبد الخالق رشيد (نهلة)، دراسة تحليل مضمون للأفلام التسجيلية الوثائقية في قناة الجزيرة الوثائقية الفضائية للمدة من 1/4/2011 ولغاية 30/4/ 2011،

11.مجلة كلية الآداب،العدد 97.12-

12.مرشد السلوم (كاظم) ، مرجع سابق، ص:13

13- وفدرهايدي ( باتريشيا)، مرحع سابق، 2013، ص: 11

14- التلمساني (عبد القادر)، فننون السينما، إعداد وترجمة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 2001، ص:55.

15- Piault (Marc Henri), Anthropologie et cinéma, édition Nathan (Paris), 2000, p: 68.- ا16.وفدرهايدي ( باتريشيا)، مرجع سابق، ص: 22

17- موسوعة السينما (شيرمر)، إشراف وتحرير: باري كيت جرانت، ترجمة: أحمد يوسف/ الجزء2، المركز القومي للترجمة، ط1، 2015، ص: 231

18- اوفدرهايدي ( باتريشيا)، ، مرجع سابق، 2013، ص: 35

19- مرشد السلوم (كاظم)، مرجع سابق، ص: 10.

20- اشويكة (محمد)، التفكير في السينما- التفكير بالسينما، شركة النشر والتوزيع المدارس (الدار البيضاء)، الطبعة الأولى، 2015، ص:33.

21- اشويكة (محمد) ، نفسه، ص:34.

22- de Heusch (Luc), cinéma et science sociales – panorama du film ethnographie et sociologique, Préface par Edgar Morin, Rapport et documents de science sociales, N°16, Unesco, 1962 ,( préface).

23- اشويكة (محمد)، ، مرجع سابق، ص:34.

24- Piault (Marc Henri), Op.cit, p44.

25- Piault (Marc Henri), Ibid, p :44.

26- Piault ( Marc Henri), Ibid, p :119.

27- Jean Paul Colleyn, Manière et manière du cinéma anthropologique, Cahiers d’études Africain, année 1990, V :30, N° :17.p :102.

28- Ibid, p :104

29- Colleyn (J.Paul), Anthropologie visuelle et étude africaines, Cahiers d’études africaines, V 28, N° 111, 1988, p :513.

30- Piault (Marc Henri), Anthropologie et cinéma, Op.cit, p: 15.

31- اوفدرهايدي ( باتريشيا)، مرجع سابق، ص: 104.

32- نفسه، ص: 104.

33- الجوهري (محمد محمود)، أسس البحث الاجتماعي، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، طبعة الثانية، 2012، ص: 382.

34- مرشد السلوم (كاظم)، مرجع سابق، ص:52.

35- مرشد السلوم (كاظم)، مرجع سابق، 2012. ص:49

36- أنظر على سبيل المثال : الجوهري (محمد محمود)، أسس البحث الاجتماعي، مرجع سابق، ص: 379.

37- De Heusch (Luc), Op.cit, p : 37.

38- De Heusch (Luc), Ibid, p : 37.

39- نعتقد أنه من الأفضل استعمال مصطلح مجتمع الدراسة أو البحث/ ميدان الدراسة، عوض موقع التصوير ، لأن تصوير فلم أنثروبولوجي شبيه فعلا ببحث أنثروبولوجي (مرحلة الاستكشاف- تحديد الإشكالية – ميدان البحث،- تدوين فرضياتك، – تجميع المعطيات بواسطة الملاحظة الميدانية – تحليلها -…)

40- موسوعة السينما (شيرمر)، مرجع سابق، ص: 241.

41- Piault ( Marc Henri), Op.cit, p :62

42- Piault ( Marc Henri), Ibid, p :63

43- تي بروفيريس(نيكولاس)، أساسيات الإخراج السينمائي- شاهد فيلمك قبل تصويره، ترجمة وتقديم: أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة (القاهرة)، الطبعة الأولى، 2014، ص:273.

44- ديك (برنارد) تشريح الأفلام، ترجمة: محمد منير الأصبحي، منشورات وزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما (دمشق/سوريا)، 2012 ،ص: 296

45- وفدرهايدي ( باتريشيا)، مرجع سابق، ، ص: 17.

46- التلمساني (عبد القادر)، مرجع سابق، ص:55.

47- اوفدرهايدي ( باتريشيا)، مراجع سابق، ص: 21.

48- Casetti (Francesco), Les théories du cinéma depuis, 1945, traduit de l’italien par Sophie Saffi, édition Nathan, 1999, p :53-49

49- Ibid, p :53 .

50- Ibid, p :53

51- Ibid, p :54

52- Marcorelles (Louis), Esthétique du réel, le cinéma —dir—ecte, Organisation des nations unies pour l’éducation, la science et la culture, Rapport représente la contribution de l Unesco à la table ronde de Mannheim ( République fédérale d’Almagne ), organisée sous les auspices de l Unesco, de la commission Allemande pour l’Unesco, et le festival de Mannheim, Paris le 12 octobre 1964, P :3.

53- Ibid , p :3.

54- مرشد السلوم (كاظم)، مرجع سابق، ص:51.

55- Casetti (Francesco), Op.cit p:55

56- Colleyn (Jean Paul), Jean Rouch, presque un homme-siècle, revue L’Homme -Musique et anthropologie, 1 décembre 2004, p : 539

57- Jean Paul Colleyn, Manière et manière du cinéma anthropologique, Op.cit, p: 105

58- Colleyn (Jean Paul), Jean Rouch, presque un homme-siècle, Op.cit, p : 539

59- Ibid, p : 539

60- موسوعة تاريخ السينما، السينما الناطقة (1930-1960)، إشراف: جيوفري نوويل سميث، المركز القومي للترجمة، المجلد 2، الطبعة الأولى، 2010، ص: 796.

61- Colleyn (Jean Paul), Jean Rouch, presque un homme-siècle, Op.cit, p : 538.

62- Colleyn (Jean Paul), Ibid, P: 539

63- De Heusch (Luc), Op.cit, p :52.

64- Ibid, p :52.

65- Ibid, p :51.

66- موسوعة تاريخ السينما، السينما الناطقة (1930-1960)، مرجع سابق، ص: 776.

67- ينظر بورديو إلى الهابيتوس من خلال ثلاث مستويات: -هابيتوس الفرد/ – هابيتوس الجماعة المحيطة / – هابيتوس الحقل. للمزيد أنظر:شوفالييه (ستيفان) و شوفيري(كريستيان) ، معجم بورديو، ترجمة: الزهرة إبراهيم، دار الجزائر ، ط1، 2013.

68- المستاوي (مصطفى)، أبحاث في السينما المغربية، منشورات الزمن/ عدد 27، 2001، ص:76.

69- حسني (مبارك)، السينمائيات المغربيات: سينما اللحنين وللتعبير، مجلة السينما العربية، عدد 2، ربيع 2015، ص: 85.

70- حوار أجري مع حكيم بلعباس في ciné-café : https://www.youtube.com/watch?v=RXRWYEp12II

71- اتباتو (حميد)، رهانات السينما المغربية – الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، نات أمبريسيون (المغرب)، 2002، ص: 72.

72- نفسه، ص: 74.

73- بنشيخة (حسن)، السينما المغربية والعولمة، المطبعة

والوراقة الوطنية، الطبعة1، 2014، ص:222.

74- نفسه، نفس الصفحة.

75- موسوعة السينما (شيرمر)، الجزء2، مرجع سابق، ص: 254-255.

المصدر: الحوار المتمدن https://goo.gl/SoFrxU

Exit mobile version