د. وليد أحمد السي*
يتمثل علم تاريخ الفن بمجالين هما:
1- دراسة الأعمال الفنية ذاتها
2- دراسة الأفكار الفنية.
وهو بذلك يختلف عن دراسة تاريخ الأدب أو تاريخ الموسيقى مثلا، فالمقطوعة الموسيقية الجميلة أو الرواية الساحرة الرائعة تتعلق بالأحاسيس والروح لكنهما لا يتجسدان بشكل فيزيائي محسوس كما الفن التصويري أو التشكيلي.
فالفن يتمثل بأعمال لها كينونة فيزيائية حسية قائمة متجسدة يمكن تلمسها ومشاهدتها وإحساسها أحيانا بحاسة سادسة تعلو فوق الحواس الخمس تتعانق معها الروح فتستحسن العمل الفني وتتقبله أو تلفظه. فالألوان الدافئة التي لم تجف بعد على قماش لوحة فنية ليس لها من وظيفة سوى تحريك المشاعر داخلنا. وتطل علينا الأعمال الفنية بصمت دامس لا يبدده إلا صرير القلم الذي يخطه مؤرخو ودارسو الأعمال الفنية أثناء إنتاج نصوصهم في تحليل ونقد هذا العمل الفني أو ذاك. لكن خبايا الأعمال الفنية تظل حبيسة القماش، تطل بدهاء على مطالعيها متحدية ذكاء المشاهد والناقد والمتأمل، حيث تخفي بين ثنايا الألوان ودباديب مساحة من القماش ما يشهد لصاحبها الذي واراه الثرى بتميز وإبداع وتقدير متأخرين كما درجت العادة مع الفن والفنانين. وبذلك كان الفن وعلى الدوام مستودعا للأسرار الإنسانية والفترات التاريخية والإبداعات الفردية سواء بسواء، حيث تستعصي الأعمال الفنية – المحددة ضمن إطار خشبي وعلى قطعة قماش مشدودة- على فهم، وذوق، الكثير من مطالعيها من عشاق أو من غير محبي الفن الإنساني بكافة مظاهره وأشكاله. ومن أعظم الأسرار التي جهد مؤرخو الفن في تتبعها بأثر رجعي كانت الشرارة التي ومضت في ذهن الإنسان لإنتاج الفن والتي يزعم المفكرون والمؤرخون أنها كانت البداية الحقيقية لانطلاقة شرارة التفكير عند الإنسان.
ولم يكن الفن، وبخاصة الفنون التطبيقية، وكمنجزات حضارية يوما بمعزل عن البعدين الثقافي والاجتماعي بل استقى ملامحه الإنسانية وروابطه المتينة وأسسه منها وكان انعكاسا وإسقاطا مباشرا لها بالإضافة إلى عوامل أخرى بيئية وجغرافية وسياسية شكلت أبرز موضوعاته. ولذلك فإن الدراسات الموضوعية للتاريخ البشري تتشابك ضمن الجهود الواعية لاستخلاص ملامح التاريخ الإنساني بالتعاون ما بين علوم تاريخ الفن والعلوم الاجتماعية ومنها الأنثروبولوجيا من أجل تكوين صور متكاملة للأبحاث في هذه المجالات. فارتباطات السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا ظلت مهمة جدا في تتبع أوجه مهمة في التاريخ البشري عموما وفي متعلقات قيام ونشوء الحضارات المختلفة عموما. وترتبط هذه الدراسات في تتبع أبرز ملامح وخصائص الشعوب والمجتمعات البشرية، وتتبع نشوء العلم والفن والثقافة في الحضارة البشرية خصوصا. ومن أبرز الذين بحثوا في الأنثروبولوجيا المفكر الفرنسي كلود ليفي ستروس الذي أكمل المئة عام من حياته لدى كتابة هذه السطور. وفي مجال السوسيولوجيا هناك العديد من الباحثين المرموقين أمثال (Amos Rapoport) أو العلامة العربي ابن خلدون. وكانت الدراسات المختلفة سواء في الأنثروبولوجيا أو في السوسيولوجيا من المجالات التي جهدت في إلقاء الضوء على متعلقات نشوء الحضارات والمجتمعات، بيد أن أهم النقاط التي بحث فيها علم الأنثروبولوجيا كانت اللحظة التاريخية التي بدأ الجنس البشري فيها ينتقل من مرحلة ‘البدائية’ إلى ‘لحظة التفكير المنظم’ مما مهد لنشوء الفكر والحضارة، وهو ما عني بالإشارة إليه برنامج مثير بثه تليفزيون (BBC) وما يدور في أوساط علماء تاريخ الفن بالتعاون مع علماء الأنثروبولوجيا، فكيف كان ذلك؟
في محاولة العلماء لتتبع بداية قدرة الإنسان على التفكير، نحى بهم البحث أن يعودوا لتقصي حفريات الأثريات التي يمكن أن تدل على الفترة الزمنية التي نقلت البشرية من مرحلة ما يعرف ‘نياندرتال’ أو Neanderthals) إلى انطلاقة الشرارة الأولى في العقل البشري للقدرة على التفكير والإبداع مما أسس للمدنية الحديثة التي نقلت البشرية إلى مستوى استغلال البيئة المحيطة بعملية واعية وذكية. وكان مجال البحث المنطقي الوحيد الذي يمكن أن يؤرخ بصدق لهذه الشرارة التي ومضت في العقل البشري في لحظة في التاريخ البشري السحيق هو الفن.
وتؤرخ علوم الأنثروبولوجيا للفترة التي عاش فيها إنسان ‘نياندرتال’ في أوروبا وآسيا الغربية، في المساحة الممتدة من اسبانيا و حتى أوزبكستان، في فترة تزامنت مع العصر الجليدي الذي ساد معظم أرجاء أوروبا وآسيا قبل 230 ألف سنة. وقد كشفت أحدث الدراسات عن آثار تدل على وجود هذا الإنسان في فلسطين مما يؤكد معاصرة هذا الإنسان للإنسان الحديث، ويعتقد العلماء بأن أجسامهم القصيرة و الممتلئة والقوية هي من أهم أسباب بقائهم في العصر الجليدي. وبمراجعه الأدوات المكتشفة معهم عرفوا بأنهم صيادون ماهرون و يتغذون على طرائدهم، حيث يسجل العلماء بأنهم كانوا يصطادون في جماعات و فرق مما أدى إلى مواجهة مصاعب صيد الحيوانات المفترسة. وتشير علوم الأنثروبولوجيا الى أنه كانت لهذا الإنسان القدرة على الكلام ولكن يلاحظ عليه افتقاره لتركيب الكلمات المعقدة أو تكوين مفاهيم أكثر تعقيدا كالفن وغيره فقد ظل بدائيا جدا. وتزعم الدراسات أن معدل حجم مخ الناندرتال كان أكبر من معدل حجم المخ للإنسان الحالي بنسبة ’10 تقربا. بيد أن علماء الأنثروبولوجيا ظلوا عاجزين عن تفسير سبب انقراض هذا النوع من البشر رغم وجود مجموعة فرضات عددة لانقراضهم لا تعنينا في هذه المساحة.
وفي إطار تضافر جهود وأبحاث علماء الأنثروبولوجيا والباحثين المختصين في علم تاريخ الفن البشري في إماطة اللثام عن بداية انطلاقة شرارة الفن في الدماغ البشري مما يعد بداية قيام الحضارة الإنسانية بمفهومها النظري المجرد، فقد حامت الدراسات حول ملامح هذه الفترة، التي عاشها إنسان ‘نياندرتال’، والتي تميزت بأنها كانت على حافة ‘صحراء قاحلة’، فنيا وحضاريا، في تاريخ الجنس البشري. وقد طاف العلماء في القارة الأفريقية للبحث عما يمكن أن يدل على شرارة البداية الفنية للجنس البشري من حفريات أو نقوشات تغرق في القدم لأبعد ما يمكن تسجيله، ولكن لم يكن هناك أي دليل! فانتقلوا إلى منطقة بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، ولم يكن هناك دليل أيضا. وفي بحث يائس انتقل علماء الأنثروبولوجيا إلى أوروبا، وفي كهف بفرنسا عثروا على ضالتهم المنشودة. ففي أحد الكهوف وجدوا نقوشا بدائية تعود لأكثر من 35 ألف سنة قبل الميلاد مما يؤرخ لما قبل أعرق الحضارات البشرية والتي لا يعود معظمها، كالفرعونية أو ما بين النهرين أو الحضارة الهندية مثلا، لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
أما قصة العثور على مجموعة كهوف (Lascaux) بفرنسا فقد تمت بمحض الصدفة. فقد عثر أربعة صبية كانوا يتجولون في 12 أيلول (سبتمبر) من العام 1940 في الغابة الواقعة في منطقة (Vezere Valley) بفرنسا حين اختفى فجأة الكلب الصغير الذي كان يرافقهم. ولدهشتهم وذعرهم الشديد من كيفية اختفاء كلبهم هرعوا للمنطقة التي سمعوا صوتا ضعيفا لنباح كلبهم ليجدوا حفرة صغيرة كانت بداية لنفق صغير. ويروي أحد الصبية اللحظة التاريخية التي وجدوا فيها بداية مدخل الكهف فيقول:’…فجأة وجدنا حفرة ضيقة، حاولنا إزاحة بعض الصخور لتوسيعها. ولأنني كنت الأقوى كان علي النزول للأسفل في الفراغ الضيق المعتم. كان الرعب يسيطر علي، لأنك لا تدري ما يربض لك في كهف مظلم. لكن فضولي الشديد تغلب على ذعري الذي كان ينتابني من المجهول داخل الحفرة المظلمة. كان قلبي الصغير ينبض بشدة وحاولت التمسك بالصخور الملساء التي تحيط بي وأنا أحاول الهبوط للأسفل ببطء، لكنني انزلقت بشدة ولم أستطع التمسك بالصخور فهويت لعدة أمتار للأسفل. وحين استطعت الوقوف على قدمي من جديد نهضت على أرضية الكهف ولم أستطع تصديق عيني مما رأيته على جدران الكهف من أغرب الرسومات التي رأيتها في حياتي….’.
والكهوف هي من أبرز مجالات الدراسات الخصبة لعلماء الأنثروبولوجيا، حيث ظلت أولى مظاهر المأوى الدائم المعروفة للجنس البشري حين كانوا لا يزالون يعتاشون على الصيد وجمع الثمار في فجر التاريخ المعروف. ويشير علماء الانثروبولوجيا والتاريخ الى أن عدة مجموعات قد سكنت بجانب بعضها في الجنوب الغربي لفرنسا بالقرب من منطقة (Dordogne) حيث عثر علماء الأنثروبولوجيا على أكثر من 200 كهف يعود تاريخها لما قبل التاريخ، وحيث وجدت العديد من البقايا والأدلة التي تشير الى هذه الفترة. ونظرا للأجواء المذهلة داخل هذه الكهوف فقد مكنت هذه الظروف غير العادية العديد من اللوحات الجدارية التي تحفل بها من البقاء بحالة سليمة ومدهشة كانت محل دراسات عديدة لعلماء الأنثروبولوجيا والتاريخ لإماطة اللثام عن الكثير من الاكتشافات المتعلقة بفترات بداية التاريخ الإنساني ومتعلقات الفن ونشأته في تلك الحقب بالذات. فاكتشاف هذا الكهف بالذات من قبل الصبية الأربعة أصبح يعد في علم الأنثروبولوجيا علامة فارقة مفصلية وبخاصة أنه أثر في تاريخ بداية الفن الإنساني كما لم يؤثر شيء قط.
في مجموعة كهوف (Lascaux) والتي يمتد طولها لأكثر من 100 متر توجد هناك أكثر من 1500 من الرسومات وأكثر من 600 لوحة تمثل مجموعات من الحيوانات منها الثيران. ولم يعهد المؤرخون ودارسو الفن أي مكان آخر يحوي هذه الكمية من الرسومات في مكان واحد. ويعتقد الباحثون أنه لفترة تمتد لأكثر من 5000 عام تم استيطان هذه الكهوف وتم وضع الرسوم على الجدران مرة بعد مرة، وبالنتيجة تم ترك هذا الكم الهائل من الرسومات بما يشكل متحفا لفن ما قبل التاريخ. وقد كانت بعض الرسومات في هذه الكهوف ضخمة وكبيرة بدرجة مدهشة، حيث غطت بعض هذه الرسومات كامل جدران القاعة الوسطى لمجموعة الكهوف والمعروفة باسم ‘القاعة الرئيسية’، وهي رسومات لمجموعات من الثيران يصل حجم الثور فيها إلى 5 أمتار طولا. وقد وقف علماء تاريخ الفن طويلا أمام هذه الرسومات التي تم تنفيذها ببراعة ومهارة والتي فغرت الكثير من الأفواه إعجابا وتعجبا، حيث غيرت ولفترة طويلة النظرة الكلاسيكية للفن البدائي. فالفكرة السائدة حتى بداية القرن التاسع عشر كانت أن الفن البشري قد تطور تدريجيا وعلى فترات تاريخية وزمنية طويلة جدا. لكن هذه الفرضية الخاطئة تحطمت بقسوة على جدران هذه الكهوف وتناثرت أشلاء تحت هذه الرسومات الرائعة. فالفرضيات التقليدية للفن ادعت بأن تطور الفن الإنساني يمكن تشبيهه بتطور مراحل الرسم اليدوي لدى الطفل، حيث تتطور القدرات الإدراكية وحواسه مع قدراته العقلية مما يمكنه من التعبير والإبداع عما حوله. ومن هنا فقد كانت هذه النظريات الكلاسيكية تدعي، قبل اكتشاف هذه الكهوف، أن الإنسان البدائي لم يمتلك القدرات العقلية الكافية للتعبير عن العالم من حوله وتطوير القدرات الإبداعية اللازمة للاتصال مع العالم من حوله بالطرق المختلفة ومنها الكلام السليم والفن. وفي الحقيقة، حينما تم اكتشاف كهف (Altamira) في شمال اسبانيا في العام 1879 ذهبت بعض الفرضيات الى أن الرسومات التي يحتويها كانت مزورة نظرا لتطورها وتعقدها مما كان يتناقض مع النظريات الكلاسيكية التي بددتها تماما وبشكل مطلق الرسومات التي تمثلها الجداريات الرائعة التي تحتويها مجموعة كهوف (Lascaux) مما غير نظرة البشر للفن على الإطلاق ومنذ تلك اللحظة التاريخية التي تم اكتشاف هذه الكهوف فيها مما يؤرخ لبدايات التفكير المنظم عند الجنس البشري. ومن هنا سجل هذا الكشف العلمي الأنثروبولوجي بداية قدرة الإنسان الأول على تسجيل أفكاره وبداية قدرته على التفكير الجمعي المنظم وبالتالي تطوير قدراته كحيوان ذكي قادر على التفكير وتسجيل أفكاره.
والربط بين القدرة على التفكير وبين الفن لم يأت من فراغ، فالفن كان وما يزال على الدوام قمة إبداعات العقل البشري ومهجع العقلية الإنسانية لما فيه من قدرات لا محدودة عن التعبير عن المشاعر وخبايا الأفكار الإنسانية التي يمكن الغوص في تأويلاتها لما ينقلها لأبعد من مجرد لحظتها الزمنية. ومن هذه البدايات المتواضعة التي كانت تحبو على طريق القدرة على التفكير ونشوء المدنيات، شكلت النقوشات البدائية التي نقلت الفكرة من رأس لآخر الطريق الوحيد لتدوين الأفكار ومناقشتها والتي تطورت مع الحقب الزمنية اللامتناهية من التاريخ البشري إلى ثقافات متنوعة وعلوم متباينة ومجتمعات متعددة بما تعارفنا عليه من مجتمعات وثقافات بشرية.
وتزاوج الفن والأدب ومتفرعات كل منهما كانت السمة التي وصمت المجتمعات البشرية منذ بداية القدرة على التفكير المنطقي المنظم إلى اليوم الحاضر. فالفن كان صنوا للأدب ملازما له ودالا عليه تارة ومستترا بين ثناياه تارة أخرى. كما كان يتمظهر في أكثر من مظهر ويتجلى في أكثر من إبداع. فتجد صنوف الفن، ومنه التطبيقي كالعمارة مثلا، مما يمكن قراءته وتتبع معالمه في الثقافة والأدب الإنساني وكحقب وسلالات وأنماط. فقد عكست العمارة مناحي الثقافة والحضارة للأمم والشعوب والثقافات المتباينة، مما غدا محل دراسات لتتبع أوجه التقدم البشري وتحديد خصائص الفترات التاريخية وملامح التباينات الجيو- سياسية والإجتماعية الإنسانية. هذه النقلة من علوم الأثريات والأنثروبولوجيا البشرية التي استخدمت الفن كدلالة وبوصلة تاريخية مهمة على وجود آلية التفكير المنظم عند الإنسان، تطورت لاحقا، وبشكل حسي ملموس إلى سوسيولوجيا بشرية تمثلت في ثقافات وحضارات وشعوب شتى زخر بها التاريخ البشري.
*معماري وباحث وأكاديمي ـ مؤسس مجموعة لونارد ودار معمار بلندن
مصادر المقال:
– برنامج وثائقي عرضته البي بي سي عن ذات الموضوع عام 2008
– كتاب (The History of Art Blitz Editions)
– كتاب (Paintings that changes the world: from Lascaux to Picao، by Klaus Reichold، 2003، published by Preste)