بقلم: بول باسكون
تعريب: زبيدة بورحيل
لقد تعمدنا وضع اصطلاحي القايدية Caïdalité والنظام القايدي Caïdalisme على وزن إقطاعية والنظام الإقطاعي أو على الأصح فيودالية والنظام الفيودالي. والتفسيرات حول هذين الصطلحين كانت موضوعا بالغ الأهمية لدى مؤرخي القرن التاسع عشر ومؤرخي الحماية. غير أنه لم تكتب بعد أطروحات بهذا الشأن، وسرعان ما يطفو الخلاف من جديد غالبا عند تناول هذا الموضع في الأحاديث والمحاضرات والخطب، أو في مقالات قصيرة جدالية. ويبدو أن روبير مونتاني Robert Montagne هو الوحيد الذي حاول أن يواجه المشكل بعد دوتي Doutte -وينبهنا كلود كاهان Claude Cahen إلى ضرورة عدم الخلط على الخصوص بين الفيودالية الأوربية وبين النظام الغالب طيلة العصور الوسطى العربية . ولكن المقصود هو منطقة الشرق.
لقد حذرنا هؤلاء المفكرون الثلاثة الكبار. وجل الذين ما زالوا يتناولون الموضع يتوخون كل الحذر ملمحين تلميحات مجدية تؤكد من جديد أنه يجب عدم الخلط بين الأشياء المختلفة أصلا! .
وفي موازاة هذا الحذر الشديد نجد أن المصطلحات المعتادة والقاموس السياسي لا يعرفان للدلالة على علاقات الإنتاج والعلاقات المجتمعية الناجمة عنها تحت ظل نظام القياد، سوى المشتقات عن فيودالي بالفرنسية وإقطاع بالعربية.
يجب أن نلاحظ بادئ ذي بدء فشل المعاجلة العلمية التي آثرت في اللغة العادية تفرد النموذج المغربي، ثم نتساءل لماذا ألح دائما على التشابهات مع الفيودالية الأوربية، لنسلم أخيرا بأن المؤسسة جديرة بأن تدرس لذاتها، وبالتالي أن يدلل عليها بكلمة معبرة نستطيع بها أن نتعرف على وضعيتنا، وأن نقارنها، إذا بدا لنا ذلك ضروريا، مع ما يمكن مقارنته بها دون أي تحفظ خاطئ أو معقد.
ولم يتردد سوسيولوجيا أو مؤرخو المغرب بشأن دراسة القبيلة والزاوية والمخزن مستعملين الكلمات الموجودة، دون خشية الوقوع في التصنيف ارتكازا على تلك التسميات. وبديهي أن تلك المؤسسات كانت جد فريدة وخاصة في نوعها مما لا يدع أي مجال للتقريب بينها وبين الأشكال الأوربية. ألم يكن من اللازم أن تكون تلك الأشكال المجتمعية التي أنشئت حول القايدية جد مألوفة حتى نحترس من التماثل وأن لا ن3عاجلها سوى بالسلب؟ أو أن الإداريين الذين لم يكونوا ليخلطوا الزاوية بالدير كانوا مقتنعين كل الاقتناع بتطابق القايد مع السيد وأن الشيء الملح هو إقناعهم بعكس ذلك؟ .
إن الموقف الغامض للحماية تجاه «سياسة القياد الكبار» قد يفسر لنا جزئيا ميل الإدارة بكل مستوياتها وكذلك قسم السوسيولوجيا في إدارة الشؤون السياسية إلى افتراض التماثل بلا تبصر وروية بين قايدي وفيودالي. والمسألة المعقدة التي أقلقت بعض المهتمين هي الدعم الذي قدمه بعض رجال الإدارة الفرنسية لكبار القياد في الأطلس . وكان من اللازم محو العمل بالنسبة للتشابهات البديهية التي لم تفتر عن فرض ذاتها: أكيد أن الدعم كان تكتيكيا ولكن على أية حال كان دعما من طرف «الجمهورية لصالح الفيودالية» . إذن كان لا بد من الإلحاح على أوجه الاختلاف. وقد كان أحدها مسلم به ضمنا وحتى نقتصد في تقديم البراهين: درجة «همجية» المجتمع المغربي . ومع ذلك فالنزاهة العلمية لروبير مونتاني R.Montagne جعلته لا يجزم في حكمه ويشجعنا على البحث عن المقارنات في ربوع فرنسا (طبعا) وايرلندا، وأيكوسيا وألمانيا وكورسيكا وسردينيا وألبانيا .
لنتفق هنا مؤقتا على أن في الجنس توجد أنواع كثيرة أدت تاريخيا وجغرافيا إلى تثبيت أشكال متمايزة دون أن يستحق أي شكل منها أن يكون مرجعا. إن أسبقية الوصف الذي احتفظ لبعض الأنماط بتحديد خاص، ليجعلنا هنا لا نتكلم عن الفيودالية في معناها الحرفي: بل سندرس النظام القايدي Caïdalisme في الحوز كشكل خصوصي لعلاقات الإنتاج والمؤسسات التي سادت بشكل أوضح في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
إن مشكل نشأة النظام القايدي يتجاوز الاختلافات في التصنيف. وثلاث اتجاهات لم تنجرف كلها نحو نزاعات المدارس السوسيو تاريخية نظرا لعدم توفرها على مدافعين عنها، ولكنها تغذي مجالات حامية أكثر منها بحثية، وتنافس تلك المدارس في تفسير مصير النظام القايدي في الفترة المعاصرة. أو وجهة نظر في هذا الموضوع هي التي حللها روبير مونتاني بإفاضة «الأمغاريون يكبرون بعيدا عن المخزن ثم يطمح الأمغار في أن يصبح رئيسا مخزنيا بشرط الاعتراف بوضعيته» .
ففي المناطق الخالية التي تتخلى عنها السلطة المركزية تتشكل السلطة الشخصية التي ينتهي بها الأمر إلى الانضواء تحت وصاية «تاقبليت» أي القبيل وتحت التولية المخزنية. وإنه لمن طبيعة القبائل المستقلة أن تقيم فترة الرؤساء ثم تحطمهم: وهذا تأرجح خلدوني صرف بين الاستبداد والفوضى، من ازدهار «البيوتات» إلى انهيارها.
وجهة نظر ثانية بعكس ذلك تعتبر أنه حين يقترب المخزن ويشرع في وضع ثقله على القبيلة، إذ ذاك يبرز نظام الرؤساء حيث يكون هناك ممثلين اوليغارشين بالتأكيد ولكن ديموقراطيين. فالتخوف من مصادرة الأموال والخوف من قمع السلطة المركزية للقبيلة تجعلهم يعلنون حالة الاستنفار ويوقفون مداولات المجالس ويعينون رئيسا حربيا لصد جيوش المخزن. وحين يكسب «الأمغار» الحرب وينتصر غالبا يستطيع إذ ذاك أن يدعم سلطته بسهولة وأن يستجيب لطموحاته كمؤسس لسلالة حاكمة. والمجتمعات اللاتينية والملحمة النابوليانية تمدنا بأمثلة عظيمة عن أزمنة وأمكنة أخرى. وحين ينهزم الأمغار يصبح قايدا، وسيطا بين السلطة والقبيلة، إذ من الأفضل أن «يلتهم» الفرد من طرف أهله من أن «يلتهمه» غريب. وهذا الموقف القوى أي الذي يجعل المخزن العربي مسؤولا عن إقامة الفيودالية في القبيلة البربرية الجمهورية هو موقف أوجين كيرني Guernier الذي يتغنى بالنظام البربري والذي يعبر عن إجماع واسع لدى الإداريين الاستعماريين بهذا الخصوص.
هناك اتجاه ثالث نشأ داخل الحركة الوطنية ينزع إلى اعتناق فكرة أن ظهور القياد الكبار في قبائل الجنوب، كان بدرجة أولى صنيعة السياسة الاستعمارية وأنه قبل الاحتلال لم يكن لهذه الظاهرة المجتمعية أي ثبات أو شمولية مثلما عرفته في في بداية الحماية. وبتعبير آخر أن النظام القايدي هو تلقيح لقح به الاستعمار المجتمع المغربي، وإقحام لنموذج أوربي، مأقلم مع المغرب كما هو الشأن بالنسبة للشارات العصرية الراهنة للنظام الملكي: تاج، شعار، لقب، والرسوم الملكية على قطع النقود وفي البنايات العمومية، علم، بروتوكول الخ، والتي هي جد مخالفة لتقاليد المخزن القديم.
إن الاتجاهات الثالث هذه والتي تبدو متعارضة كل التعارض، نعتقد نحن أنها معالجات متقاربة ويمكن الجمع بينها في نفس الظاهرة كما سيتبين لنا ذلك انطلاقا من الملاحظات والوقائع التفصيلية التي سنقدمها في هذا الفصل. ويبدو لنا أنه مما لا جدال فيه أن النظام القائدي يجب أن يميز عن النظام المخزني في معناه الدقيق، حيث تضع السلطة المركزية على رأس الجماعات المسيطر عليها والتي لم يتبق لديها من القبيلة سوى الاسم، خداما ينتمون كلية للسلطة المركزية (وصيف، قايد، خديم، عامل…).
فالنظام القايدي لا يمكن أن يوجد إلا في حضن قبيلة مستقلة نسبيا تعين بنفسها رؤساءها وتختار ممثلا عنها من أسرة قوية ليستلم قيادتها. فنحن هنا نتفق مع الذين (مثل روبير مونتنى)، يجعلون من استقلال القبيلة شرطا ضروريا لظهور الأمغار، الذي سيصبح قايدا. لكن مع تحفظنا في أننا لا نعرف في المغرب حالات كانت فيها القبيلة مسيطرة ومنتصرة أي تكون النموذج الطلائعي للمجتمع، وبتعبير آخر، بما أننا لا نستطيع أن نثير هنا إمكانية وضعية قديمة مخالفة، فإن القبيلة بالنسبة لنا هي دائما شكل هامشي ومسيطر عليه، على الأقل ماديا، بصفته نموذجا وذلك منذ بزوغ الدولة الإسلامية. كما أن ظهور الأمغار لا يمكن تقييمه خارج المجال الإيديولوجي الذي يقدم النموذج المخزني.
ذلك أن الاستقلال القبلي المزعوم إنما هو جد نسبي، هو وضعية جزئية عابرة، إنه شكل من الانتظار حيث تهيؤ القوى المتنافسة الغد: إنه تمفصل كلي –خضوع-؟ للسلطة المركزية. ونتفق أيضا مع الاختصاصين في النظام البربري على أن الاقتراب المادي للمخزن يزعزع تلك القوى ويسرع إيقاع عملية صعود الرئاسة chefferie. إنه في المناطق التي كان فيها المخزن على اتصال مع القبائل الشبه المستقلة، تم تعميم ظاهرة تقوية الرئاسة على شكل قايدية.
أما فيما يتعلق بالتأثير الاستعماري فيظهر أن يحدث على مستويين: على مستوى الأحداث وفي العمق، وذلك بزيادة سرعة عملية السيطرة القبيلة بسبب ضعف المخزن حاليا، والسيطرة الاستعمارية، التي كانت في بداية تجارية ثم مصرفية وأخيرا عسكرية أجبرت السلطة المركزية على أن ألا تبدو للقبائل إلا في صورة ضريبية قاسية اضطهادية وليس كسلطة تنظيمية. وحتى القبائل التي لم تكن تعترض أبدا على الشرعية الدينية والاجتماعية ومكانة المخزن العالية قد فرض عليها بقوة أن تعطي مجموع الفائض الذي لديها من النقود والمؤونة والرجال في سبيل تصريف المياه وأداء الضريبة الاستعمارية، ومقاومة التدخلات المسلحة الأجنبية ومساعدة المخزن الذي أنهكته تلك التدخلات، على مجابهة الفوضى الناتجة عن هذا الضعف ذاته. نستطيع القول إذن أنه على مستوى العمق يعتبر الاستعمار مسؤولا عن تعميق وعنف عملية تأسيس النظام القايدي .
وعلى مستوى الشكل أيضا لا ريب أن الإدارة الاستعمارية قد زودت النظام القايدي بقانون أساسي وإطار قانوني لم يكن ليدركه بدونها سواء من الناحية التقنينية أو من ناحية دلالته ذاتها. إن العبقرية (أو الهوس) القانونية الفرنسية الفرنسية قد بلورت وأرست الناظم القايدي في مسطرات وأشكال قابلة للاندماج في الدواليب الإدارية للحماية، وبذلك أدت إلى تجميد ظاهرة كانت بركانية إذ ذاك وحركتها تلك كانت ثمرة الأحداث الأخيرة والصدفية، وساعدت الاتنوكرافيا الاستعمارية على تصنيفها في قوالب جاهزة لا يمك تغييرها.
غير أن تلك الكيانات التي أوجدت جزافا، وغالبا ما كانت بعيدة عن الواقع في مكان معين وزمان معين لم يحل دونها ذلك عن خلق كائنات اجتماعية وأشكال مجتمعية وتصلبات ما زالت إلى يومنا هذا تؤثر في التشكيل الاجتماعي في الحوز أو في غيره.
وتعقد التاريخ القايدي في حوز مراكش لا يتيح لنا أن نصل إلى أبعد من وصف أولي وذلك بأخذ بعض الأمثلة انطلاقا من وثائق أولية. وقد اخترنا أن نتتبع حالتين مشهورتين هما الكلاوي والكوندافي وذلك لأنه أولا يتعلق الأمر هنا «ببيتين» اختفيا الآن على الأقل في مراكش وثانيا لأنه لا يمكن الكلام عن الحوز دون التعرض للصعود الباهر لعشيرة الكلاوي وثالثا لأننا استطعنا الحصول على مجموع الوثائق العائلية عن الكوندافي مما يتيح لنا أن نضيف إلى المؤلفات المعروفة بعض الإيضاحات الجديدة فيما اعتقد. وقد كنا نود أن ندرس أيضا تطور عائلة العيادي التي استطعنا أن نجمع عنها عدة وثائق، غير أن هذه الأسرة ما زالت تتمتع بنفوذ قوي، ولا تسمح لنا الاعتبارات بالتعمق في دراستها، بالإضافة إلى أن هذه الأسرة هي موضوع لأطروحة دكتوراه في الولايات المتحدة مما جعلنا نتخلى عن هذه الدراسات حتى لا نكرر نفس العمل . وأخيرا استرعت أسرة متوكى اهتمامنا غير أنه بالاضافة إلى بعد مركز جاذبيتها بالنسبة للحوز، لم نتوصل بشأنها سوى إلى مجموعة من الأرشيفات المتفرقة بحيث ارتأينا أنها غير كافية في الوقت الراهن لتدعيم نقد موضوعي للوقائع التي سجلها موظفو الإدارة الاستعمارية
أ- أمبراطورية الكلاوي :
لقد سبق القول بأنه من المستحيل دراسة التاريخ الاجتماعي والبنيات الزراعية في حوز مراكش دون التساؤل عن صعود رؤساء كلاوة وأكثرهم شهرة ونفوذا أي المدني والتهامي الكلاوي. ولكي نعطي فكرة عاجلة عن الأهمية السياسية الاجتماعية للتهامي الكلاوي نسارع بتقديم بعض الأرقام. فعند تنفيذ الحجز سنة 1958، كان مجموع الملكيات القروية المسجلة في الحوز وحده يغطي مساحة تبلغ 11.400 هكتار مسقية. وأسرة الكلاوي تملك أكثر من 16.000 هكتار في الحوز، و«العشيرة» (أي بإضافة ملكيات البياز والحاج ايدر) تملك 25.000 هكتار في المجموع مرسمة. ولا يدخل في ذلك الأراضي التي ليس لها رسوم، ولا شجر الزيتون (660.000 شجرة) مملوكة دون الأراضي ولا المياه ولا الملكيات الموجودة في أقاليم أخرى (خاصة واد درعة وداداس).
ويعتبر هذا أكبر تركز عقاري عرفه المغرب يفوت بشكل كبير ملكيات السلطان، في فترة الحماية. وقد قدرت مساهماته في الأعمال الصناعية والتجارية بمليارين من الفرنكات سنة 1956. وقد حكم الباشا مباشرة أو بواسطة أبنائه طيلة 44 سنة عددا من السكان يفوق المليون نسمة إلى سنة 1955. وقد رفعت الذاكرة الشعبية شخص الكلاوي إلى مصاف الشخصيات الأسطورية العظيمة مثل سيدي رحال، أو السلطان الأكحل. ودراسة للبروفيل السيكوسوسيولوجية لهذه الأسطورة أمر يحتاج إلى دراسة. ولم نسجل منه سوى التعبير عن العنف القاهر واغتصابه لكل ثروة ظاهرة، وكذلك صورة الحامي الذي يحترم تعهداته ووعوده ويتدخل دائما ليدافع عن قومه وحلفائه بحماس وقوة شديدة نظرا لاطلاعه الواسع على الأعراف والعادات ومعرفته الشخصية بالأفراد. وبديهي أن شخصية تمثل عصرا انتهى ينسج وتتراكم حولها أحكام مناقضة للأحكام التي لدينا عن الحاضر، وتكتسي تلك الأحكام صبغة التسامح والطابع اللاشخصي للإدارة. ذلك أن الأسطورة لا تصاغ انطلاقا من الماضي فحسب أو المستقبل المثالي، بل تصاغ بشكل يساعد على تحمل الصعوبات الراهنة!
ودراسة «النظام الكلاوي Glaouisme» كان حريا به أن يكون هو الموضوع الرئيسي في دراسة الحوز ومع ذلك فالبحث حول مصير هذه الأسرة لا يمكن أن يبدأ فعلا ما دامت الوثائق المتعلقة بها لم تصبح بعد عمومية. وحتى نضع بحثا علميا حولها علينا أن ننتظر إلى أن يصبح الأرشيف العائلي لهذه الأسرة والمحتجز لدى سقوطها في المتناول، وأن نستطيع انتقاد التقارير والوثائق الفرنسية التي كتبت في عهد الحماية .
وبالإضافة إلى ندرة المصادر الموثوقة والأصلية يمكن أن نجرد كتلة مدهشة من الكتابات والمقالات بل بالأحرى الروايات التي أوحت بها الشخصية المربعة والقلقة لباشا مراكش . والمؤلفات العديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وعشية الاستقلال والتي إما غالت في المديح أو الهجاء، قد جعلت من «الباشا» وحشا مقدسا، ونجما لامعا حديثا خرج من العصور الهمجية، إلى أن بلغ درجة أصبح فيها نموذجا يقتدى به .
هناك إذن وفرة في الوقائع الذاتية وندرة في الوثائق الموثوقة مما يضعنا في ظروف يصعب فيها القيام بشيء آخر سوى تحويم أولي انطلاقا من بعض الأحداث المحقة والمبعثرة هنا أو هناك. لهذا نعتمد على سماحة القراء وخاصة الذين عايشوا بعض الأحداث ولهم اطلاع عليها أكثر منا وربما استطاعوا أن يعارضونا ببعض الأحداث التي لم يهيء لهم الكشف عنها بعد. هذا ونحن ندرك جيدا إلى أي حد يكون التحليل الذي يتناول إمبراطورية ثلاثة أرباع تاريخها لم يعرف بعد اليوم، ولكن سينكشف في الغد، تحليلا عقيما وتافها. إنها وضعية مريحة ولكنها صحية بالنسبة للفكر. ومهما توخينا الحيطة والحذر فلن يكون ذلك كافيا!
من مزوار إلى أمغار:
يوحي لنا روبير مونتاني بأن الكلاويين يمكن أن تجمعهم قرابة بالامزواريين الذين كانوا يحكمون الشعبة العالية لوادي درعة، في القرن الرابع عشر. ولكن لا شيء يجيز الاستنتاج في هذا الاتجاه: فاللقب مزواري هو اسم مشترك كثير الشيوع بما أنه يوجد في كل جماعة بادئ: Inititor شخص مختلف عن أكورام وعن أمغار (بالعربية مقدم: البادئ): الذي يتكلف بالقيام بالأخطار المترتبة عن الأعمال الصعبة التي تهددها المصادفات و«الأرواح». ففي المجتمع القبلي الذي يرى أن كل تجديد هو رجس أو بعبارة متبذلة، بداية تمايز فردي عن المجموعة، لا يتم أو يحدث شيء إلا إذا خضع لتقنين فكل مبادرة تخرج عن التقنين تحمل الاستبداد أو الفوضى. لذلك تكلف الجماعة بعض الأفراد يكونون وحدهم القادرين على القيام بالأعمال المهمة مثل أول عملية في الموسم للحرث أو الحصاد أو جني الزيتون. وقد اخبرنا مقدم الصالح سيدي وسيدن بالقرب من تلوات سنة 1963 أن الشخصيات الغامضة أو النازحة قديما أو المشوهة هي وحدها التي كانت تعين من طرف القبيلة للقيام بمهمة بداية أي عمل باسمها وذلك لأنهم مندمجون في الجماعة بشكل كاف وفي نفس الوقت هامشيون، وحتى تتفادى الجماعة أي خطر. ونراهم يستفيدون من هذه المزية ويأخذون في تجميع السلطة بين أيديهم. غير أن هذا الرأي إما قد صيغ بعد صعود الكلاويين وإما أنه تطور للمؤسسة ذلك أنه منذ القرن 12 كان الايمزواريين يعتبرون في الأطلس رؤساء قبائل .
ولا يطالب الكلاويين بأقدمية محلية بل يدعون أنهم ينتسبون إلى أصل دكالي بل ينتسبون إلى الشرف عن طريق أبو محمد بن سعيد بن انصارن لبني ماكر ولي دكالة . وقد ترأسوا دفعة واحدة على كلاوة وذلك في عهد مولاي إسماعيل، وعلى أية حال فهذا ما صرح به الكلاوي في رسالة بعث بها إلى السلطان يقدم فيها احتجاجه على اثر نشر كتاب جوستاف بابان Gustave Babin .
وقد يكون الكلاويون ينحدرون من منطقة تعرف باسم تيكمي نـ. ايمزوارن، في قبيلة فطواكة بالقرب من تاساوت ، وربما طردوا من تلك الأماكن في سنة 1772 عندما نهبت قبيلة زمران قبيلة فطواكة والتجأوا إلى قبيلة كلاوة بصفتهم أمزواك (أي لاجئين يحتمون بالقبيلة المستقبلة) وعلى ما يبدو فالكلاويون مثل المتوكيين والكوندافيين هم في الحقيقة أجانب، فارون لجأوا إلى القبيلة التي أصبحوا هم سادتها. فلأنهم مهاجرون وهامشيون فهم أقل خضوعا واحتراما للأعراف المتداولة، من أبناء القبيلة الحقيقيين والمنحدرين من سلالات الأسلاف. كما أنهم أقل محاسبة على سلكوهم، وهو أكثر قابلية لانتهاز الفرص التي سيهيؤها انهيار البنيات القبلية أمام تفوق المخزن.
وقد كان يوجد في شعبة أسيف ايمارن ولي لم يخلف أي عقب وكان اسمه سيدي عبد الصادق ابن أبي محمد صالح صاحب آسفي، ومن هذا الفقيه صار جد الكلاويين أمحراس ، بتزوجه أمة دكالية اسمها تيت (أي عين) كانت في ملك الفقيه . ولدى وفاة عبد الصادق ورث أحمد بن الأمة الدكالية بركة الولي ونفوذه كمزوار، وسمي نفسه حمو (صيغة بربرية لأحمد) بن عبد الصادق .
ويعارض ورثة وحافظي ذكرى باشا مراكش هذه الأصول الغامضة للأسرة. فهي لا تعدو أن تكون حكايات ونوادر يقصها بعض المغرضين. وقد كان يوجد من قبل في مكتبة الكلاوي صورة على أحد الجدران تشتمل على شجرة النسب ولكنها اختفت عند نهب قصره. غير أنه تمكن من إعادة جزء منها وهي تعطي بالتقريب ما يلي: يدعي الكلاوي أنه ينحدر من قبيلة قريش من فخذ بني مخزوم وعن طريق عبد المناف أعطى ابن الحكم والد ابن مروان ثامن خليفة أموي. غير أن الجزء المستعاد من الشجرة يتوقف هنا، ثم نجد بعد ذلك سلسلة من أربعة أبناء أجداد السايح أبو محمد صلاح، مؤسس رباط آسفي حوالي 530هـ/1174. وربما كان لهذا السايح ثلاثة أبناء، محمد، أحمد، عبد الله وربما استقر هذا في قبيلة درن وأصبح أمغار واعتبر بعد ذلك هو جد الكلاويين. غير أن شجرة النسب هنا مقطوعة ثانية. ثم هناك قطعة ثالثة تحمل اسم وارثين اثنين: أحمد الراضي أمزوار الذي سمى قايد كلاوة في عهد مولاي إسماعيل قبل سنة 1700 على أية حال وهو والد عبد الصادق أمزواري الابن بالتبني لمولاي إسماعيل قايد كلاوة بعد 1700 . وهنا تتوقف شجرة النسب للمرة الثالثة قبل الإشارة إلى أحمد أمزوار أب جد الكلاوي التهامي.
فما القول في كل هذا؟ إن شجرة النسب هي مصدر الانتساب إلى السلطة، وهي نفسها وضعت لخدمتها. ثم هناك ثلاث ثغرات تضم بشكل جدي الدليل على تسلسل النسب. وهي بشكلها ذاك تظهر بشكل صريح أنها مصطنعة ومنقولة عن المؤلفات الكلاسيكية. ونعثر فيها على كل الدروس التقريبية التي وضعها كوفيون Gouvion .
لكن علينا أن نتمسك بالواقع فحتى لو فرضنا أن أحمد أمزوار كان له جدود مرموقين كهؤلاء وحتى لو أنه لم يكشف عنهم بعد ذلك وبفضل انتصار المدني التهامي، فيجب أن لا ننسى أن هو نفسه قد بدأ من الصفر وتسلق وصعد من المنحدر. ففي بضع سنوات أصبح أمغار تلوات عندما تزوج ببنت الحاج محمد تارهنوست. وكان يتوفر، في ذات الوقت على مداخيل الزاوية، ومدخوله كمزوار وعائداته من تجارة الملح . وأدرك أحمد درجة شيخ تحت قيادة الهاشمي الزمراني الذي كان يدير أراضي شاسعة في شرق الحوز (كلاوة، هوجدامة، فطواكة، دمنات، زمران، سراغنة، وقسما من تادلة الغربية).
وقد أقلق الصعود السريع لأحمد صهره أحمد بن الحاج محمد الذي قرر أن يقضي على هذا الواصل فالتجأ إلى تاقبيلت (القبيلة) المجاورة لآيت أونيلة وهم الورثة المنافسون لآيت تلوات. وقد توفي حمو في المنفى قبل سنة 1855. ويبدو أن ثروة الكلاويين ستتوقف هنا. لكن ابنه محمد الذي يحمل لقب ايبطاط لكي يزيد من نفوذه الخاص، أصبح رئيسا لآيت أونيلة سنة 1855 لكي يحارب القبيلة المعادية. وقد قتل الأمغار الحاج محمد لترهنوست وارث النسب الذي تبع أباه، في ترهوفار أيت رباعة.
وقد لاحظ المخزن كفاءات رئيس ايبطاط وعينه مولاي عبد الرحمن سنة 1856 بظهير في إدارة أهل تلوات، وآيت أونيلة، وآيت تامنات (آيت تومجشت) الذين تحالفوا مع تلوات في المعركة الأخيرة .
واعتراف السلطة المركزية بنجاح الأمغار الذي برز داخل فريق الرؤساء وفي حضن الجماعات التي تتحكم في مضيق تيزي نـ -كلاوي ربما كان يدخل في إطار سياسة أوسع وضعها المولى عبد الرحمن. وقد حاول هذا أن يتأكد، بعد مرور ثلاث سنوات، من السيادة على طريق أركانة وذلك بتشجيع متوكة على الخروج من وصاية حاحا المستقلة.
مع ذلك يمكن أن نتتبع كيف حدث صعود عشيرة الكلاوي: لقد كان منفيا ولكن تبناه ممثل زاوية غربية عن كلاوة وحصل على العفو وعلى حق استغلال منجم الملح كان شبه موقوف على الزاوية، وقد لعب الدور التقليدي للأولياء في أعالي الجبال: التحكيم في الخصومات بين الأفراد والجماعات بشأن المراعي، وقد أتاح له ذلك اكتساب معرفة عميقة بالنفسيات والدوافع، كما أتاح له تقوية نفوذه. وبديهي أن التجارة في الملح يتطلب تنقلات عديدة واستثمار مجال أكثر اتساعا وبالتالي وفر له ذلك القيام بمقارنة الوضعيات الاجتماعية والسياسية في مناطق شديدة الاختلاف، سواء في السهل أو في الجبل. غير أنه لم يقنع بهذا الدور بل كان يتطلع إلى أبعد من ذلك، فتحالف مع أسرة قوية ودخل في الحروب بين الفصائل وأفخاذ القبائل. والسلم الثاني الذي ارتقاه هو نسق الانضواء في نسب وقبيلة وهنا كان لا بد أن ينجح أن رغب أن لا يظل دائما هامشيا رغم ما يتمتع به من تشريف واحترام. فكان عليه أن ينضم إلى جناح ما ويحمل السلاح ويتحمل المخاطر وقد تعرض ارنست جلنر Ernest Gellner بدقة لهذه الظاهرة: فالمرابط بعد أن ينزع منه السلاح يستطيع أن يمد تأثيره على نطاق واسع جدا ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى السلطة السياسية الحقة. ولا يصل إليها إلا من ينجح في جعل احد الأطراف يصدق أنه إذا وضعه كرئيس له، فسيستطيع ذلك الطرف أن يسيطر على الطرف الآخر بالقوة والعنف ومن المحتمل أن حمو المزوار لم يتوصل إلى ذلك لأنه كان مزدوج الولاء. أما محمد ايبطاط فسيكون رجل حرب حقيقي، يدفعه حب الانتقام لأبيه المنفي.
أسياد الحرب:
لقد كان أول هم ايبطاط بعد أن أصبح قائدا هو أن يستقر في تلوات أي في الحوض الأول الصغير الذي تضطر كل قافلة أن تعبر منه قبل اجتياز مضيق قبل اجتياز مضيق تيزي نـ -كلاوة، نحو الشمال وقد شيد قصره في ذلك المكان، وأصبح قاعدة حربية له تولي وجهها نحو الجنوب بشكل أكبر. كما أقام في تلوات بطلب من تاقبيلت التي كان يحكمها، سوقا أسبوعيا (سوق الخميس) ومأوى للقوافل حيث يتوقف حتما التجار المارون والمتجهون إلى الاتجاهين الاثنين عبر الأطلس. واعتراف السلطة المركزية به وتشييده للحصن العالي قد أعاد للزاوية حمايتها التي كانت قد اندثرت. وكان يتلقى، باسم السلطان، الضرائب على السوق وعلى اجتياز المضيق. وستبدو تلك الاداءات ضرورية أو جديدة مما سيدفع المخزن سنة 1856 إلى توسيع سلطة ايبطاط لتشمل آيت أوزارهار ، أي من الحوض الصغير لاسيف ايفرادن، ينحدر إلى شمال المضيق إلى حوض تلوات. وهنا أقام سوقا ثانية ومأوى آخر للقوافل بالقرب من زرقطن ومن المعبد اليهودي الإسلامي لمولاي اغي. ومنذ ذلك الحين وهو يستولي على المضيق في الاتجاهين الاثنين ويفتح آفاقا سواء على شعبة ردات التي توصل إلى الحوز أو على تيميدرت التي توصل إلى ورزازات ودرعة.
وفي سنة 1680-1870 انفجر النظام القديم للحكم المخزني الذي كان يحافظ على توازنه بالاقتطاع الضريبي المقنن أي أنه كان شرعيا ولم يكن ذلك الاقتطاع مرتفعا فكان محتملا، أقول أنه انهار في كل مكان ذلك أنه وجد نفسه عاجزا عن فرض الاقتطاع اللازم للحرب الناتجة عن التسلل والتسلط الاستعماريين هذا وقد كان القياد المكلفون بتصريف غالبية فائض الإنتاج، هم قياد النظام الشرعي القديم ورثة مولاي إسماعيل. فهم ليسوا موظفين بالمعنى الدقيق، ولكنهم أبناء أسر مخزنية كان لها جاهها ونفوذها من قبل ولكن اندثر كل ذلك. بحيث تصدق عليهم نظرية ابن خلدون. أما هذه الأزمنة التي تحتاج على دكتاتورية ضريبية غير شرعية فيلزمها رجال جدد، رؤساء حربيون بكل معنى الكلمة.
ولم يلح سوسيولوجيو ومؤرخو القرن التاسع عشر بشكل كاف على الآثار السياسية والاجتماعية لظهور الضرائب القايدية لتفسير الموقف الغامض والغريب للقبائل. فرغم اعترافها بالسلطة الروحية للسلطة المركزية، فهي ترفض أو تحاول رفض السلطة الزمنية للقياد مع أن تلك السلطة تصدر عن السلطة المركزية ذاتها. ليس لأن القبائل تجهل أن الضرائب الجديدة يطالب بها المخزن ذاته ولكن لأن الاستيلاء على الفائض الذي أدت إليه تلك الالزامات الجديدة كان يقضي على سلطة الاوليغارشيات القبلية نفسها. وقد كانت مجالس الشيوخ المسنين تدعم سلطاتهم في تاقبيلت انطلاقا من الضرائب القبلية التي يقتطعونها باسم الدفاع (شراء الأسلحة تحصين مخازن الحبوب، غرامات، ثمن التحكيم) وبفضل عمليات النهب والتسلط على الجماعات المجاورة.
وخدمة الضريبة لصالح المخزن معناه إما نهاية استقلال شيوخ القبيلة (الممثلين لها) وإما زيادة محسوسة وسريعة في الإنتاج، أي حدوث تغير تقني يصعب تصوره غالبا خارج إطار الجو العام المحيط بالمتنازعين. وبديهي أن الاحتمال الأول هو الغالب عن طريق الخضوع التركزي لتاقبيلت لجماعات أصبحت قوية نتيجة لوضعيتها الجيوسياسية، ونتيجة لمساندة المخزن لها. إن خط تسلسل العوامل بدءا من الاستيلاء على المضايق إلى قيادة قبيلة كبرى ومحاربة نتيجة للاغتناء بفضل مدخول الضرائب المفروضة على البضائع الواردة: «الصنك»، والتسلح بأسلحة حديثة، إنما هو خط تبسيطي لا فائدة منه. ولكنه يفسر بشكل إجمالي التطور الذي عرفه القياد الكبار في الأطلس مع ما في هذا التطور من صعود ونزول.
وعلى أية حال فإن الشيء الأكيد هو أن أية جماعة قوية، أي تاقبيلت عليها أن تؤدي في النهاية نصيبا إلى المخزن وهذا لا يفتح أمامها سوى بابين: إما الخضوع وإما أن تسيطر على جيرانها وتجعلهم يدفعون ذلك النصيب عوضا عنها.
وقد قام قياد الحرب بتوحيد القبائل انطلاقا من السيطرة على «تاقبيلت»، ولكن كانوا يلجأون في كل مرة إلى الحصول على تصريح بالتقليل من الانشقاقات بواسطة ظهائر التسميات على رأس تاقبيلت، والقبائل. ويظهر أنه على الأقل في بداية هذه المرحلة، كان القياد يتلقون ظهير تسمية يمنحهم مشروعية التصرف وإعانة مادية (تسليح) مقابل الالتزام بتحصيل الضريبة، وتحدد هذه الضريبة قبل تسميتهم على حسابهم. وسنرى أنه في مرحلة تالية كان المقدم يدفع مسبقا الضريبة عن القبيلة التي يحصل على ظهير تسميته عليها، ويتحمل هو استرجاع المبلغ المدفوع من القبيلة بعد أن يتولى حكمها. كما أن ظهائر التسمية لم تكن تمنح سوى سلطة اسمية، تضمن للمخزن أن هذا القائد معترف به كمسؤول عن مراقبة هذه القبيلة . ويبقى على القائد بعد ذلك أن يظهر مهارته وقدرته على تحويل تلك السلطة الشكلية إلى سلطة فعلية.
وفي مرحلة القايد سيد الحرب لا يهتم هذا لا بالملكية العقارية ولا بالحق في المياه ولا بأية مصادر إنتاجية أخرى. ومداخيله تأتي كلها من الاغتصاب والأداء المباشر. والاقتطاعات بواسطة تقسيم الغنائم بين رجال العصابة عند نهب جماعة معادية تؤدي إلى زيادة المصادر المنتظمة للإمدادات الغذائية (مونة) ، واقتطاعات استثنائية للضرائب (فريضة) . وهدايا الولاء (هدية) وأشغال شاقة في خدمة القائد (كلفة) : بناء الحصون، قطع الأخشاب، النقل، ثم من فترة لاحقة، فلاحة (العزيب) (الضيعة).
وهاته الاقتطاعات لها أصولها العريقة في التقاليد ذاتها بما أنها كانت غالبا مقننة لصالح مجالس القبيلة أي شيوخها أو لصالح أمغار الحرب، وذلك حتى يكفل لمؤسسات تاقبيلت وسائل العمل. لا يعود الأمر إذن أن يكون تطورا بسيطا وذلك بتغير القابض والمؤسسة، ويتم ذلك أحيانا مع الحفاظ حتى على المصطلحات المستعملة في ظل النظام القبلى (تويزة = كلفة).
وإن معالجة دقيقة لهذه الفترة لتجعلنا نعتقد أن المداخيل الأولى المهمة كانت هي الناتجة عن نهب (أكادير) أي مخازن الحبوب، والحصون، والبيوت أكثر مما كانت ناتجة عن الزيادة في الضرائب. ذلك أن الجماعة لا تقبل دفع الضريبة إلا حين تفقد احتياطها من الحبوب والخيول وحين تسقط حصونها بحيث لا يبقى لديها الثروة اللازمة لمواصلة الصراع.
وهكذا نجد محمد ايبطاط انطلاقا من قاعدته بتلوات، يساعده فرسان «تاقبيلت» الذين يترأسون القبائل، يقوم بحملات عسكرية ضد آيت واوزكيت. ويفرض على القبيلة التي أصبحت تحت رحمته ريالا حسنيا عن كل بيت بعد أن يكون قد نهب كل احتياطها، وتحالف مع أعيان ورزازات الذين فضلوا التفاوض مع حارس المضيق الذي تمر منه بضائعهم، على التنازع معه. كما تحالف أيضا مع أوريكة حتى يطبق فكيه على مسفيوة، الجار القوي الذي يشد على زمام الطريق في السهل وفي الحوز بين مراكش وتلوات. وشارك أيضا في حملة بقيادة المخزن ضد الكوندافي ولكن بطريقة غير حازمة وفي ظروف غامضة، ولا ندري إذا ما كان الكوندافي قد حصل سرا على قبول انسحابه من الحملة مقابل تحالف معه أو مقابله مبلغ مالي .
وحينئذ عاقت سلسلة من الفشل المتوالي تطور صعود الكلاويين: ففي الشرق قايد دمنات جد قوي، وفي الغرب سلطة الكوندافي لها شوكة، وفي الشمال مسفيوة الكثيرة العدد، بالإضافة إلى هزيمتين أمام الأمغار محمد آيت زينب وأواركيت في الجنوب، كل ذلك أضعف ادعاءات الكلاويين. وتوفي محمد ايبطاط بعد أن قوى قاعدته ولكن دون أن يتجاوز المناطق الجبلية المحيطة بها. وقد كان له ستة أولاد ذكور من زوجاته الأربع (أول حادثة تعدد الزوجات في القبيلة)، وسيكون مدني ثاني أبنائه هو مؤسس قوة الكلاويين.
تسلم المدني السلطة في الأسرة بعد وفاة أبيه وكان حينئذ هو اكبر أبناء ايبطاط ذلك أن أخاه البكر امحمد قتلته في ظروف غامضة سنة 1876 إحدى إماء أبيه. والمدني هو الذي قاد المعارك الفاشلة ضد جيرانهم وتحت إمرة أبيه. وقد فضل في بداية توليه السلطة أن يلجأ إلى الديبلوماسية والدسائس بدلا من الالتجاء إلى القوة. ثم أنهى بناء حصن تلوات، وورزازات وتازرت في مشارف مقاطعته. وأخذ ينتظر ساعته ويدعم سيطرته التجارية على المبادلات بين درعة والحوز.
ولا يوجد في البادية محتسب فالقياد هم المكلفون بجباية الضرائب لحساب المخزن ونظرا للصعوبة المتناهية في التحقق من الحسابات واستلام مجموع المبالغ المؤداة وجدت الدولة من الأفضل تأجير الأسواق مقابل أداء سابق لمبلغ تقدري، أو تأجيرها في مزايدة وتمنح لمن دفع أكثر. وكانت النتيجة هي سحق التجار والمراقبة المباشرة على تنقل البضائع من طرف القايد. فكان التجار يهربون من الأسواق التي يراقبها القياد ويحاولون إقامة أسواق أخرى غير رسمية بل بطريقة خفية تحت حماية إحدى الزوايا. وفي سنة 1888 علم المدني أن القوافل التي كانت تخترق الأطلس ليبيع تمور وادي درعة بعد أن تؤدي الضريبة للكلاوي في تلوات وزركتن قد نظمت سوقا أخرى بين سوق إنزل (بقرب سيدي رحال) وسوق آيت ورير، الأول يراقبه الكلاوي والثاني المسفيوي. فقامت كتيبة من الفرسان ونزلت فجأة على ذلك السوق وقتلت البائعين ونهبت البضائع. ولم يتحمل أحد مسؤولية العملية. لكن محتسب مدينة مراكش الذي كان يراقب سرا القوافل الذاهبة من مراكش على السوق قدم رسالة احتجاج إلى السلطان مولاي الحسن. وقد رد عليه هذا بالعبارات التالية: «لقد توصلنا برسالتك المتعلقة بأحداث سوق الخميس توكانة والأعمال التي قام بها كلاويو الخليفة الكلاوي. تقول أنه يوجد في السوق كل أنواع المنتجات والفواكه القادمة من وادي درعة وأن ذلك السوق يتوجه إليه أناس كثيرون حتى يتفادوا دفع الضرائب المفروضة على الأسواق الأخرى، وتقترح فيها أن لا يقوم المخزن باقتطاع ضرائب من هذا السوق لأن السلع التي تباع فيه تتجه في النهاية إلى مراكش لصالح العامة، وقد بحثنا اقتراحك وقبلناه. وقد كتبنا إلى الكلاوي طالبين منه أن لا يتدخل في السوق وأن يتركه .
غير أن المدني لم يمتثل للرسالة الملكية فلم يقبل أن تفلت من قبضته الضرائب، وقام بمحاولات عديدة ضد سوق توكاني. وقد رد عليه السلطان بظهير:
«لقد طلبت إلينا توكانة بواسطة قايدهم الإذن بإقامة سوق على أرضهم كما كان الأمر سابقا. وقد أبدوا استعدادهم لدفع الضرائب الواجبة عليهم للمخزن كما هو الأمر بالنسبة لمسفيوة وكلاوة جيرانهم. غير أن السوق الكلاوي (أنزل) الذي يقع بين مسفيوة وزمران وتوكانة لا يدفع ضرائب للمخزن مع أن تجار وادي درعة والحوز يذهبون إليه وقد طلبت إلينا (أي المحتسب) أن لا نفرض ضريبة على السوق (توكانة، انظر أعلاه) وذلك حتى يظل تموين مراكش بالفواكه الجافة عاديا ومستمرا، وقد امتثلتم للأوامر المعطاة في رسالتنا الموجهة إلى القائد (مدني الكلاوي) حتى لا يقبض أي واحد منكما أية ضريبة. لكن الكلاوي لم يطع أمرنا، إذ يقال أنه يقبض سرا واجبات السوق لحسابه الخاص، وقد ذكرتم أن أحدهم عرض عليك استئجار هذا السوق (أنزل) مقابل 25 ألف مثقال في السنة. وقد أعطيته له في النهاية مقابل مساندته ومساعدته» . ولم يتوان الكلاوي عن تعلية المزاد فطالب المخزن حينئذ بـ 32500 مثقال حتى يعجز المدني الذي انسحب:
«لقد قررنا أن نرفع قيمة إيجاز السوق أنزل كلاوة إلى 32500 وقد أخبرنا خديمنا القايد الكلاوي أنه يستطيع أن يستأجره بهذا السعر إذا رغب في ذلك أو أن يتركه للمزايدين. وقد كتب إلينا يخبرنا بتخليه عن شراء السوق بهذا الثمن» .
ويتفق كل المؤلفين المغاربة والأجانب الذين درسوا هذه الحقبة على أن الصعود الحقيقي لكلاوة كان إثر مرور مولاي الحسن في الأطلس. ونعلم أنه بعد القيام بحملة على تافلالت أراد أن يعود إلى مراكش عن طريق مضيق تلوات وقد استقبله المدني استقبالا حافلا فخما بحيث جعل تحت تصرفه الخيول المسرجة من فركلة إلى سيدي رحال ومد كل حاشية السلطان بالمواد الغذائية لمدة 25 يوما. وقد أكد كل المعاصرين لذلك الحدث على فخامة وأبهة الاستقبال وعلى الفضل الكبير الذي أولاه السلطان للمدني بتعيينه خليفة على كل الجنوب (تودرهة وتافيلالت وفيجة) وأهداه مدفعا نوع كروب Krupp وأسلحة حديثة .
وقد كان مولاي الحسن أكثر مهارة سياسيا ويقظة. فعلى ما يبدو ترك ذلك السلاح لأنه لم يستطع اجتياز الأطلس به، ولأن بعض الصناديق اختفت عند وصوله إلى هناك فلم يكن ليتهم بها شخصا مثل المدني الذي استقبله استقبالا رائعا. وقد سجل أحد المسؤولين عن البعثة العسكرية الفرنسية الذي كان موجودا بسيدي رحال ساعة وصول مولاي الحسن وجيشه: «إن أقسى محنة مرت بها فرقة تافلالت كانت بسبب المنطقة الجبلية الوعرة في الأطلس. إذ توفي العديد من الرجال جراء البرد القارس، كما أن الخسائر في البغال والخيول كانت فادحة. أما المدفعية التي كانت تشتمل على مدفع ميدان كروب من عيار 9 بوصات ومدفع كووي Couet من عيار 75 مم ومدفع الهاون من عيار 15 مم وذخيرتها فلم يستطيع السلطان العودة بها فتركت القطع كوديعة لدى قايد دمنات والكلاوي اللذين سيعيدانها حين تصبح الطريق سالكة .
والذي حدث هو أن المدفعية لم تعد أبدا فبعد ستة أشهر توفي مولاي الحسن واستولى بامحمد على السلطة الفعلية وقد كان هذا يسيطر على مخزن مولاي عبد لعزيز بفضل شخصيته القوية. والغريب أن الكلاويين لم يهتموا بمنطقة الحوز طيلة فترة حكم فترة حكم بامحمد. ولم يشاركوا في تنافس محمد وحسين وعبد العزيز على العرش: كما أنهم لم يتدخلوا في تمرد الرحامنة سنة 1894. لقد كان المدني يرغب في أن يتأكد أولا من سيادته التامة على قاعدته الجبلية في حين أن السهل كان منشقا ولم يقم سوى ببعض الغرات لنهب وسلب مسفيوة وزمران حين هوجمتا من طرف جيش المخزن. كان أمامه إذ ذاك مهام عديدة في الجبل وفي اتجاه الجنوب، أي في المجال الذي عيد فيه بظهائر السلطان المتوفى. وجدد ذلك التعيين مخزن بامحمد. وقد قام تنافس قوي بينه وبين أمغار آيت زينب وعلى نـ آيت بن حدو بن محمد الذي هزم ايبطاط. وقد اختبأ في حصن تامدخت التي لم تستطع المدافع أن تنال منه شيئا نظرا لتحصنه الطبيعي. وقد انتصرت الدسائس والمنكر والاغتيالات على آيت حدو. وبذلك أصبحت آيت زينب والجنوب مفتوحا أمام الكلاويين.
لن نتابع هنا تحركات المدني مع كل صغار الأمغاريين في الجبال الذين كان يهزمهم إثر قصف حصونهم بالمدافع أو إزاحتهم بعقد الزيجات مع بناتهم لعدم توفرهم على أسلحة . وحين كان القياد الكبار المنافسين له ينهكون أنفسهم في مشاكل المخزن المعقدة وفي صراع الأطراف حول القصر، وفي الحوز، وفي حملات بعيدة كان الكلاويون يقوون مركزهم في الجبل ويمدون سلطتهم على الجنوب. وليس من الممكن معرفة نصيب السلوك المتبصر والإرادي من نصيب السلوك اللاشعوري في تسلسل الأحداث. وفي هذا الاختيار سنلاحظ فحسب أن نتيجته ستجعل الكلاويين فيما بعد أكثر قدرة على تحمل تقلبات ثروتهم السياسية وعلى البقاء فترة أطول من المتوكيين والكوندافيين .
وبعد أن قوى المدني سيطرته على الجنوب وأنشأ في كل مكان حصونا في أسفل المخزن المهدمة أو المنهوبة، أدار بصره نحو الحوز حيث كان يتنافس الكوندافي والمتوكي.
وإثر وفاة بامحمد أعطى المولى عبد لعزيز المدني قيادة مسفيوة المتمردة والتي ظلت يجب الاستيلاء عليها. وقد كان من ضمن الإستراتيجية الجغرافية السياسية لكلاوة مسألة فتح باب على الحوز ذات يوم من خلال شعبة زات. ذلك أن الباب التي فتحوها بإنشاء قلعة تازرت قبالة زمران لم تكن تتجه نحو قلب الحوز وعاصمته مراكش. فتحالف المدني مع القايد عبد الحميد للرحامنة لكي ينهب مسفيوة. وقد كان يوجد في الجيشين الذين سيتحدان فيما بعد فارسان متواضعان يساعدان الرئيسين: أحدهما يسمى العيادي الذي سيصبح قايد الرحامنة، والتهامي المزواري الذي سيصبح باشا مراكش. وقد أتاح انهزام مسفيوة حصول كلاوة على غنيمة عظيمة سرعان ما ستنقلها قوافل البغال إلى تلوات. ومنذ ذلك الحين أصبح المسفيون يدفعون الضرائب لكلاوة، وأقام مدني قلعته بالسهل في آيت ورير.
وقد أدى فشل الحملة العزيزية ضد بوحمارة تلك الحملة التي شارك فيها المدني والتهامي وخسرا فيها أمولا طائلة وتكبدا مشاق صعبة دون فائدة تذكر لا من حيث الغنيمة أو من حيث الاستيلاء على أراضي جديدة لفرض الضرائب عليها، إلى أن ينفصل فريق الكلاوي عن المولى عبد العزيز. وقد جعلتهما عودتهما غير المظفرة عن طريق الجزائر التي تحتلها فرنسا وعن طريق البحر إلى أن وصلا إلى طنجة، يشكان في قدرة السلطان على القضاء على الفوضى التي عمت تدريجيا كل البلاد. فعاد الأخوان إلى بلدهما وحاولا أن يمدا سلطتيهما على جزء من الأراضي على حساب الكوندافي .
فمع الاحتلال الفرنسي لوجدة ونزول الفرق الفرنسية بالدار البيضاء أصبح عجز المولى عبد العزيز عن إعادة السلطة للدولة المغربية أمرا واضحا للعيان. لذلك اجتمع القياد الكبار في مراكش: المتوكي، والعيادي والكلاوي… ليتشاورا لدفع مولاي حفيظ إلى السلطة. وقد ظل الكوندافي وحده بعيدا عن تلك الحركة لما كان مولاي عبد العزيز يغمره به.
غير أن المتوكي غير بعد ذلك موقفه إذ انهزم أمام تحالف الكلاوي والعيادي ضده فاضطر إلى أن ينسحب إلى منطقته الجبلية الصغيرة وسينتقم لنفسه بعد ذلك.
إن تحليل التتابع البالغ التعقيد للتحالفات الدائرة بين كبار القياد، طيلة هذه الفترة يجعلنا نعتقد أن الحوز والمناطق الأطلسية حيث توجد قواعدهم للانطلاق كانت بالنسبة لهم رقعة شطرنج يلعبون فيها لعبة التوازن الحساس.
وفي هذا الغموض الشديد التي كان سائدا حينئذ يجب أن نشير إلى الأطروحة التي حللها لنوكس Lennox وحسبها يعتقد أن المتوكي والكلاوي لم يذهبا إلى خلق شخصية مولاي حفيظ إلا بقصد قطع الطريق على صعود الكوندافي المقلق .
إنها أطروحة جد متحيزة، فمن كان يدفع الآخرين؟ وقد استطعنا بفضل أرشيفات القنصلية وضع خريطة للتحالفات المعقودة والمفسوخة في الحوز في الفترة 1905 إلى 2192 بين كبار القياد والقبائل وذلك بترتيبها حسب المعسكرات الموجودة (العزيزي، الحفيظي ثم الحفيظي-الهبي). وخلال رقعة شطرنج من التعارضات البنيوية المزدوجة فإن الحركة التي تتجلى منها هي أنه في كل مرتين يحدث الانضمام إلى بطل الكفاح ضد الأجنبي إلى أن ينتهي كل المتعارضين إلى إدراك أن التدخل الفرنسي هو أمر لا رجعة فيه. والتأخرات عن هذه الانضمامات هي وحدها المشيرات للنسق الجغرافي السياسي للتنافسات داخل الحوز. كما أن العديد من تلك الانضمامات يكشف عن حيوية وقوة إدراك التغير وذلك على غرار ما يحدث في الانضمامات الانتخابية، إذ هناك دينامية للفوز ما أن تتضح حتى يسرع الأفراد إلى نجدة الفائز، ولكن بعد أن يتحرروا من الالتزامات السابقة التي كانت تثقل كاهلهم. وفي فترة صاخبة مثل هذه الفترة، ما يجب علينا أن نحتفظ به عنها، في رأينا، هو انه في غياب منظور لمدى طويل لنسق مجتمع ما يتفاهم فيه الأسياد حول اقتسام دائم «للوعاء الضريبي» assiette fiscale فإن التنافس لمدى قصير هو الذي يبرز شبكات الأسياد.
فكل استيلاء على الأرض يعني كم رجلا وكم ضريبة يجب اقتطاعها، وتحت وطأة المزاحمة بين القياد الذين يتنازعون هكذا على مجموع الفائض القابل للتصريف، تنسحق تاقبيلت، وتتشتت، وتواصل الإنتاج لتحافظ على البقاء وتبحث عن إخفاء ذلك الإنتاج تحت الأرض أو في الجدران أو في الكهوف. وتتوقف العمليات المسلحة طيلة فترة جني الزيتون وحصاد الحبوب ولكن تستأنف بقوة حالما يعصر الزيتون وتدرس الحبوب.
وقد كان من نتيجة هذه القايدية الحربية القضاء على المؤسسات القبلية وتدمير وسائلها ومنجزاتها المادية. وبلا شك أنه على مستوى القرى وعلى الأكثر على مستوى قطاعات السواقي، ستظل الممارسات والقواعد والأعراف المنحدرة من العصر القبلي القديم، قائمة فترة أطول، لكن دون أن يستطيع هذا النظام أبدا الظهور من جديد في الحوز على مستوى أوسع. فخلال ثلاثة أرباع قرن استطاع أسياد الحرب أن لا يتركوا من نظام اجتماعي كان في طريقه إلى الانحلال منذ ثمانية قرون سوى المظاهر فحسب. ولا جدال أن التسليح الحديث الذي حصل عليه القياد هو المسؤول عن هذا الانهيار السريع. فطالما كانت المجابهات تتم بين أشخاص متساويين في القوة، فإن العدد والتكتل بين تلك الشخصيات هو وحده الحاسم في الانتصار. كما أن البنيات القبلية التجزئية والمتدرجة هرميا، بفعل تحالفات الأجنحة، وضد الأجنحة، كل ذلك كان يعيد التوازن بين المتنافسين بدون انقطاع. غير أن الأمور لم تسر على نفس المنوال حين استولت عصابة صغيرة ولكنها مجهزة بنادق سريعة تملأ من مؤخرتها ومدافع تستطيع في بضع ساعات القضاء على المدافعين عن مخازن الحبوب، وتحطم الحصون وتقضي على كل الدخائر والثروات الدائمة لتاقبيلت.
يمكن أن لا نجد في هذه المعارك سوى صراعات بين أسياد ستولون على أقنان ولكنهم هم أيضا أدوات بقدر ما هم ذوات لتدخل استعماري واسع غاشم، يقيم لهم أسس قوتهم أو يترك الميدان لهم ليفعلوا ذلك أو حتى بدون علمهم يتيح لهم الفرصة لصعود عجيب. كل ذلك مقابل نهب البلد وانهياره الاقتصادي وتوقف الإنتاج في البوادي التي تمول صندوق المخزن في مدى قصير بالتأكيد ولكن ليكون في خدمة ضريبة حرب لمعاهدة جائرة، ولخدمة السيطرة الاقتصادية الاستعمارية ولشراء أسلحة ومنتوجات مصنوعة. وبعبارة أخرى أن أسياد الحرب هؤلاء هم أدوات هدم البنيات السياسية والاجتماعية للبلد. وسيكونون هم المستفيدين المتحمسين مؤقتا إذ سرعان ما ستبعدهم الإدارة الاستعمارية باستثناء واحد منهم هو التهامي الكلاوي .
يتبع …….
المصدر:
المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع تصدرها جمعية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والإحصائية، تحت إشراف المعهد الجامعي للبحث العلمي
العدد الخامس والسادس/1981
ص ص: 67 إلى 149