موقع أرنتروبوس

العقائد العابرة: بحث في الأصول للممكنة للعقائد الإيزيدية

شعار الايزيدية

ثامر الغزّي[1]

مدخل:

من أكثر القضايا إشكالا وأشدّها إثارة للحساسية في العقائد النبشُ في أصول عقائدها، ولئن كان معلوما في علم الأديان المقارنة أنّه لا يوجد معتقد “صاف” لا أثر فيه لرواسب من معتقدات حافّة به حضاريا أو سابقة له زمنيا، فإنّ من شأن أتباع المعتقد أن يزعموا، غالبا، أصالة معتقداتهم وعدم وجود أيّة روافد لها، إذ من شأن ذلك، فضلا عن تلبية نخوة نفسية، إكساب ذلك المعتقد فرادة وتميّزا.

ولم يشهد أيّ معتقد، فيما نعلم، ما شهدته الإيزيدية من جدل حول أصولها وروافدها. يزعم بعض أبنائها أنّها «أوّل دين في الأرض»، ويزعم بعض غرمائها أنها ليست سوى «فرقة إسلاميّة ضالّة» غلت في معتقداتها حتى خرجت عن الإسلام الحقّ.

هذا التجاذب هو ما يُغري الباحث بالنظر في أصول هذا المعتقد. ونحن نفضّل أن نلقي بعض النظر على هذا الأمر، لكن دون تتبّع سبيل المؤرّخين، بل باتباع منهج هو بالأنثروبولوجيا ألصق منه بالتاريخ. لذلك رأينا التوقف عند السرديّات والطقوس الإيزيدية، باحثين بين طيّاتها عمّا يمكن أن يعين على بعض الإنارة.

السرديات: طاووسي ملك[2] بين قصة العصيان وقصّة الإغواء:

ككلّ الأديان قدّمت الإيزيدية سرديات لقصص الخلق والعصيان والإغواء والطوفان وغيرها، غير أنّنا سنقصر الاهتمام هنا على سرديتين نعتبرهما الأهمّ، نعني سرديّتي العصيان والإغواء باعتبارهما مركزيين في كل الأديان والعقائد.

من أين يأتي الشرّ الذي يصيب الإنسان؟ وكيف جاء الإنسان إلى الأرض؟ كانت هذه أوّلَ الأسئلة التي طرحها الإنسانُ وأهمَّها، وسعت الأديان إلى الإجابة عنها. لن ننخرط في استعراض التفسير الأسطوري لأصل الشرّ فقد نال حظا وافرا من الدّرس، لكنّ ما يعنينا هو كيف تمثّلت الإيزيدية مسألة «الملاك الساقط» باعتباره مصدر الشرّ؟ وكيف تمثلت نشأة الإنسان الأوّل في الأرض؟ وإذا كان قد قرّ في أدبيّاتهم أنّ الإنسان كان، أوّلَ خلقه، في مكانٍ ما في السّماء (الجنة) غير المكان الذي هو فيه الآن، فكيف آل به الأمر إلى الحلول في الأرض؟ إنّنا نعتبر أنّ الوقوف على قصّتي “العصيان” و”الإغواء” كما تقدّمهما السرديّة الإيزيدية، ومقارنته بالسرديات التي تقدّمها بقية الأديان، يكتسي أهمّية باعتباره مدخلا مقارنيا يمكن أن يكشف مدى فرادة هذا المعتقد أو تواشجه مع الديانات الحافّة به.

 

مثّل حدث العصيان في مختلف الأديان بوابة لفهم سبب نزول الملاك عزازيل[3] من عالم السّماء إلى عالم الأرض، قدّمته السّردية القرآنية في قصّة العصيان كما يلي: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾ [الأعراف:11-15]، ولئن نتجت قصّة طرد الشيطان من السّماء، في القرآن، من حدث عصيانه، فإنّ النصوص الإيزيدية تبني قصّة نزوله من مملكة السماء على سردية مغايرة تماماً، فقد ورد طيّ نسخة «كتاب الجلوة لأرباب الخلوة» التي ضمّنها سعيد الديوه جي في كتابه[4]:

«2- خَلقتُ الملائكة وجَمعتهم جميعا. وفصّلتُ لهم كلَّ شيء، وأَوْصَيتُ يوما بأنني أنا الذي أستحقّ الصّلاة والخضوع والعبادة وحدي.
3- مضت أربعون ألف سنة. ثم خلقت آدم في أحسن تقويم. وأردت أن أمتحن الملائكة فأمرتهم بالسجود له.
4- نسي الملائكة ما كنت أمرتهم به قبل أربعين ألف سنة فسجدوا لآدم وصلّوا له إلاّ تادوسا[5] وحده تذكر أمري فلم يسجد له.
5- فجازيته بأن سمّيته الملك تادوس وجعلته رئيسا لجميع الملائكة. وأستاذا مرشدا لآدم في الجنّة.
6- جعلت الملك تادوس رئيسا لجميع الملائكة وسلمت بيده مفاتيح اللوح المحفوظ لكي يستمدّ منه أوامره ونواهيه وملكوت السماوات والأرض»[6].

هكذا تكون قصّة الاختبار في الإيزيدية معاكسة تماما للقصّة الإسلامية الرّسميّة، وبذلك تمّ إسباغ مسحة من القداسة على “طاووسي ملك” باعتباره الوحيد الذي نجح في هذا الامتحان الذي فشل فيه بقية الملائكة، إذ تذكّر توصية الله بعدم السجود لغيره ونسيها الآخرون. لذلك لا يتحدث النصّ الإيزيدي عن «طرد» أو «لعْن» بسبب عصيانه أمر الله، بل يقوم الحدث باعتباره «مكافأة وإكراما» للملاك الذي رفض السجود، إذ كان ذلك الرفض تعبيرا عن الالتزام بالتوحيد، فاستحقّ بذلك لا مجرّد الرئاسة على جميع الملائكة، وإنّما حصل أيضا على مفاتيح اللوح المحفوظ وملكوت السماوات والأرض… وبالتثبت في الميراث الصوفي نلحظ تناغما بين الرواية الإيزيدية والتمثّل الحلاّجي الّذي ينزع عن الملاك العاصي كلّ صفات الشّرّ، بهذا لا يكون عزازيل في مخيال الحلاج قد انتقل من حال إلى نقيضه، بل بقي هو نفسه ولم يتغيّر شيء سوى المكان، وللحلاّج تخريج طريف لحدث إنزال عزازيل من السّماء إلى الأرض، فقد «قال رحمه الله: وفي أحوال عزازيل أقاويل، أحدها أنّه كان في السّماء داعيا وفي الأرض داعيا. في السّماء دعا الملائكة يريهم المحاسنَ، وفي الأرض دعا الإنسَ يريهم القبائح»[7]، حافظ الملاك على جوهره، خادما صادقا لله وإن تغيّرت أساليبه، لذلك يوغل الحلاّج في تقريظه وجعل كلّ ما فيه إيجابيّا، حتّى بلغ فيه أن جعل حروف اسمه جامعة لكلّ الفضائل «فعين عزازيل لعلوّ همّته، والزّاي لازدياد الزّيادة في زيادته، والألف آراؤه في ألفته، والزّاي الثانية لزهده في رتبته، والياء حين يأوي إلى علم سابقته، واللاّم لمجادلته في بليته»[8].

وممّا يلفت النظر التشابه الكبير بين النصّ الإيزيدي والرؤية الحلاجية، يبرز ذلك خصوصا في المحاجّة التي أقامها بين الملاك العاصي وموسى في اللقاء الذي تخيّله الحلاّج بينهما، فقد جاء في الطواسين أنّه قد «التقى موسى عليه السّلام وإبليس على عقبة الطور، فقال: يا إبليس، ما منعك عن السّجود؟ فقال: منعني الدّعوى بمعبود واحد، ولو سجدتُ له لكنتُ مثلك، فإنّك نوديتَ مرّة واحدة «انظر إلى الجبل»، فنظرتَ، ونوديتُ أنا ألف مرّة أن اُسْجُدْ، فما سجدتُ لدعواي بمعناي[9]. فقال له: تركتَ الأمر. قال: كان ذلك ابتلاءً لا أمرا، فقال له: لا جرم قد غيّر صورتك، قال له: يا موسى، ذا وذا تلبيس، والحال لا معوّل عليه، فإنّه يَحُول، لكنّ المعرفة صحيحة كما كانت، وما تغيّرت. إن الشّخص قد تغيّر[…]، خدمتي الآن أصفا (كذا) ووقتي أخلا (كذا) وذكري أجلا (كذا) لأنّي كنت أخدمُه لحظّي والآن أخدمه لحظّه»[10]. وهكذا صار «اللّعن» علامة على تبريزه في خدمة الله وتأصّله في التوحيد، وأصبح هذا اللّعن إشارة إلى اصطفائه من الله واختصاصه بالعناية من دون بقسة الملائكة، فقد «سئل إبليس عن سبب سعادته باللّعنة فقال: إنّ اللّعنة هي سهم الملك، والملك يصوّب نظره في البداية إلى الهدف»[11]. ما أشبه هذا التوصيف للإخراج من عالم السماء إلى عالم الأرض بتوصيف الإيزيدية الذي تحوّل، بفضله، الملاكُ، بشكل ما، إلى مساوٍ للإله.

مثلما اهتمت السرديات الدينية بقصّة خروج الشيطان العاصي من مملكة السماء، اهتمت بقصّة نزول الانسان من الجنة أيضا. ولئن اكتفى النصّ القرآني بذكر مختزل جدّا وبدا مُجْمِلا لحدث عصيان آدم وزوجته وإخراجهما من الجنة في قوله ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة:35-36]، فقد جاءت القصّة مفصّلة في العهد القديم، إذ ورد في سفر التكوين “كَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ، فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: «أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» * فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ * وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا»* فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! * بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»* فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ * فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ* وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ* فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟»* فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ»* فَقَالَ: «مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟»* فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ»* فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْمَرْأَةِ: «مَا هذَا الَّذِي فَعَلْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ»* فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: «لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ وَمِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ* وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” [سفر التكوين 3: 1-15]، وقد كانت قصّة الإغواء في الإيزيدية، في خطوطها العريضة، متشابهة مع الإغواء في سرديات الديانات الإبراهيمية[12]، فقد جاء في مصحفهم المقدّس “وأمر جبرائيل أن يدخل آدم إلى الفردوس ويأكل من كل ثمر الشجر، أمّا الحنطة فلا يأكل. وبعد مائة سنة طاووس ملك قال لله: كيف يكون يكثر (كذا) آدم وأين نسله؟ قال له الله: الأمر والتّدبير سلّمته بيدك. فجاء وقال لآدم: أأكلت حنطة؟ بعدما أكل نفخ بطنه فأخرجه طاووس ملك من الجنّة وتركه وصعد إلى السّماء”[13]، لقد تمّ التصرّف في قصّة الإغواء أيضا لتكون مفارقة للقصّة المتداوَلة في السرديات الإبراهيمية، وإذا كان النصّ التوراتي يجعل الإغواء الذي قامت به الحيّة قد تمّ في تحدّ للأمر الإلهي (وكذا شأن إغواء الشيطان المتحدَّث عنه في القرآن)، فإنّ ما يقدّمه النصّ الإيزيدي إنّما هو تواطؤ بين الله وبين “المغوي” (طاووسي ملك) لتسهيل أمر التكاثر وإعمار الأرض.. غير أنّ ممّا يفت النظر هنا أنّ الأدعية الإيزيدية، وهي حامل أنثروبولوجي مهمّ جدّا في نظرنا، لأنّها تعكس الخلفية العقَدية، تكشف صلةً ما بين النصّ التأسيسي الإسلامي والمعتقد الإيزيدي، فكما جاء الحديث عن توبة آدم في الآية ﴿فَتلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 35]، جاء في موضع من «قول طاووس ملك»، وهو أحد أهمّ الأدعية، “يا ربّ أنت حاكم جميع العالم، أنت الذي وضعت التوبة على آدم”[14]. ولا يُخفي هوشنك بروكا الصّلة الوثيقة بين طاووسي ملك والحيّة في غواية لآدم، ويستدلّ على ذلك بتقديس الإيزيدية للحيّة وخصوصا السوداء[15]، لكنّ هذا الإقرار لا يعني إقراره بالتقاطع مع المعتقد اليهودي وإنّما يُرجع ذلك إلى “المعتقدات الوثنية القديمة”[16]، بانياً فكرته على تقديس الهندوس للأفاعي وتجسيد الصينيين لبعض آلهتهم على هيئة أفعى… هكذا تتشابه بُنَى السرديات بين الإيزيدية وبقية العقائد وتختلف وظائفها.

طقوس التعبّد:

ينكشف للنّاظر في الإيزيدية أنّ كثيرا من طقوسها وأعيادها تبدو حاملة لرواسب معتقدات وأساطير قديمة جدّا، غير أنّ بعض الأعياد تحمل طقوسا إسلامية لا يمكن إغفالها، ومن أبرز هذه الأعياد «عيد الجماعية» الذي تكاد تلتقي طقوسه مع شعائر الحجّ عند المسلمين.

يلفت النظر في هذا العيد الذي يمتدّ على سبعة أيّام، ويسمّه خليل جندي «العيد الكبير»، احتواؤه على طقوس ترتبط به، أهمّها:

وممّا يلفت النظر أيضا ما يورده خليل جندي، ابن الطّائفة وأحد المختصين في مباحثها، من أنّه “من الطبيعي أن تجري مراسيم التعميد للصغار والكبار في عين زمزم والعين البيضاء”[25]، وفي ذلك ما لا يحتاج إلى بيان من روافد مزدوجة مسيحية وإسلامية في اعتقاداتها.[26]

ويمكن أن نكتفي هنا ببعض الاستنتاجات التي نراها هامّة:

تجمع طقوس الحج الإيزيدي بين ملامح إسلامية و«قبل-إسلامية»، على غرار السقاية والرّفادة، والطواف والتخفّف من الثياب، والتطهّر بمياه زمزم، وصعود جبل عرفات بلالش[27] وبين طقوس وثنية وبين ملامح ذات أصول موسوية عبر نزع النعلين عند دخول المزارات المقدّسة، تقليدا لدخول موسى الوادي المقدّس، على ما جاء في الآية ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى﴾ [طه:12]، وفي العهد القديم: “فلمّا رأى الربُّ أنّه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة، وقال موسى موسى، فقال: هأنذا، فقال: لا تقترب الى ههنا، اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة” [سفر الخروج: الأصحاح3: 5]، وبين ملامح مجوسية بإبراز مركزية النار المقدّسة عبر الطواف حولها. ولعلّنا نميل إلى ربط رمي الجمرات، في رمزيّته ضمن الطقوس الإسلامية، بإطلاق الأعيرة النارية عند سفح عرفات ومزار الشيخ عديّ، كلاهما قذف وإيذاء رمزي لكائن مفترض.

ولا يقتصر التقاطع بين الحجّ الإيزيدي والحجّ الإسلامي على هذه الشعائر، بل نجد تماهيا في بعض المحرّمات الظرفية، على غرار منع الصيد في أسبوع الحجّ، وهو نظير تحريم الصّيد خلال الحجّ في الإسلام ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]، بل إنّ التناظر يمتدّ ليشمل التنظيم وتوزيع الأدوار في الحجّ، وكما أنّ السّقاية والرّفادة  والسّدانة، وهي من مظاهر الشرف، كانت موزعة بين أشراف قريش، فإنّ «الكواچك»، يختصّون، من دون سائر الإيزيديين، بجمع “الحطب من جبل عرفات مرتين في اليوم من أجل طهي السماط”[28]، وطقوس القاباغ تشارك فيه ثلاث عشائر إيزيدية هي “القائدية والماموسية والترك”، وكذلك الشأن في السّدانة عندهم، إذ بمجرّد انتهاء الشعائر المقدّسة “تدخل عائلة من منطقة الشيخان بنسائها ورجالها، بشيبها وشبابها، بمثقّفيها ورعاتها وفلاّحيها وأطبّائها ومهندسيها، مزودين بما يلزم لأمور التنظيف، ويبدؤون بحملة تنظيف الوادي المقدس من الأعلى إلى نهايته، وترفض هذه العائلة مشاركة أي شخص آخر من أي عشيرة أخرى”[29] .

يُصلّي الإيزيديةُ خمسَ صلواتٍ في اليوم الواحد.. نفس عدد الصّلوات في الإسلام، لكن الفارق الأهمّ يكمن في مواقيتها، فهي تتوزّع بحسَب مسار الشمس خلال اليوم. وهذه الصّلوات هي: صلاة الفجر، (Nivêja berîspêdê)، صلاة الشروق، (Nivêja rojhilatinê)، صلاة الظهر، (Nivêja nîvro)، صلاة العصر، (Nivêja êvarî)، صلاة الغروب، (Nivêja rojavabûnê). يولِّي المصلّون وجوهَهم شطرَ الشّمس في أربع صلوات، هي الفجر والشروق والعصر والغروب، أمّا صلاة الظهر فيتوجهون فيها إلى لالش[30]، بذلك نكون إزاء مزيج من صلاة الصابئة في ارتباطها بالشمس وتوجّهها نحوها، ومن صلاة المسلمين في عدد الصلوات وفي التوجّه نحو البيت المقدّس في لالش.

يُعدّ التعميد أحدَ أهمّ الواجبات الدّينية، ولا يُستثنى من التزامها أحدٌ، ذكرا كان أم أنثى، شيخا أم شابّا، صغيرا أم كبيرا. ويفضّل أن يجري عملية التعميد «مور كرن» في سن الطفولة في ماء العين البيضاء كانيا سبي أولا وزمزم ثانيا”[31]، أما من لم تسنح لهم الفرصة للحج إلى لالش والتعمّد بالماءين المقدسين، فإنهم “عند مماتهم يقوم شيخهم أو “بيرهم” أو أخ الآخرة برشّ الماء عليه باسم العين البيضاء وزمزم كي تصبح أرواحهم حلالا”[32]، ولا يقلّ حكم الختان عن حكم التعميد صرامة، لكنّه، بخلاف التعميد، لا يشمل كلا الجنسين، إذ يُنظر إليه باعتباره فرضاً إيزيديًّا “على الّذكور فقط دون تحديد سن معينة لذلك. ولا يجوز دفن الإيزيدي دون ختان حتى وإن تمّ قص لحم غرلته بدقائق (كذا) قبل دفنه”[33]. ويبدو التقاطع في الختان واضحاً بين الإيزيديّة واليهوديّة، يتجلّى ذلك في اشتراط الختان في الذكر ليصبح إيزيديًّا مكتمل الحقوق، فلا يحقّ للإيزيدي “أن يقوم بذبح أيّ حيوان أو طير قبل ختنه”[34]، وكذلك لا يجوز للرّجل الإيزيديّ الزواج ما لم يُختَن.

وللختان عند الإيزيديين طقوس وظيفية، فالوالدان اللذان يريدان ختان ابنهما يختاران رجلا “يضعه في حجره وتسقط قطرات من دم المختون على طرف لباسه، فيكون هذا الأخير (كذا) «كريف[35] الدّم» للعائلة الأولى ويعقد بينهما علاقة الدم، فسقوط قطرات من دم الطفل المختون على ملابس «الكريف» يحمل بعدا رمزيا يشير إلى اختلاط دماء العائلتين. يجوز للإيزيدي أن يختار «كريفَهُ» من بين الإيزيديين أو المسلمين فقط[36]. إننا هنا إزاء استعادة لعهد الدم الذي نجد أوّل ظهور له في التوراة[37]، لكن أليس غريبا أنّ هذا العهد اليهوديّ الأصل، يقيمه الإيزيديون مع المسلمين فقط، ولا يقيمونه مع اليهود أو المسيحيين؟ أيكون لهوية “شيخ الختان”[38] عندهم تأثير في هذا الاختيار؟

 

الزمن المقدّس:

من السمات المشتركة بين كلّ الأديان انتقاء يوم مخصوص وخصّه بالتقديس، فيه يصبح زمن بعينه يكتسي أهمّية تفوق بقية الأزمنة. ويبدو أنّ اختيار يوم يأتي بشكل دوريّ لإسباغ القداسة عليه، جاء في فترة متأخرة نسبيّا، وهو من بقايا ربط الزمن بالآلهة، فبعد أن كان كلّ يوم خاصّا بإله معيّن[39]، تمّ انتقاء يوم بعينه بالتقديس. ومع الأديان الإبراهيمية اختصّ كلّ دين بيوم يحمل قداسة خاصّ، فكان الأحد يوما مخصوصا للمسيحيين، والسبت لليهود والجمعة لدى المسلمين. وكذلك كان شأن الإيزيدية التي اتخذت الأربعاء يوما مقدّسا لها.

قداسة يوم الأربعاء لدى الإيزيدية

يذكر الباحث الإيزيدي في علم الاجتماع هوشنك بروكا أنّ من بين الأناشيد التي تُردَّد دائما في احتفالات الزواج لدى الكرد:

«الأربعاءُ يومٌ إلهيٌّ

مسكون بلظى الآلام

والعذابات.

إنه جهة الفرح، والسعادة»[40].

هكذا يبدو يومُ الأربعاء، اليومَ الأكثر قداسة لدى الإيزيديين، وهو يوم جامع لعدّة طقوس وقداسات لديهم، أبرز ما يلفت النظر فيه أنّ الإيزيدية يعتبرونه يوم طاووسي ملك تماما كما كان يوم نابو ويوم الراحة لدى البابليين والأشوريين. يوم الأربعاء، هو اختزال لزمان مقدّس في الميثولوجيا الإيزيدية أيضا لأنّه زمان الخلق حسبما تكشفه الميثولوجيا الإيزيدية التي تقول: «حين كان العالمُ عماءً كونياً، ولم تكن الأرضُ قد انفصلت عن السماء، هبط طاووسي ملك في هيئة طاووسية (نسبة إلى طير الطاووس) … وما إن نزل، [حتّى] كانت الخليقةُ على أتمّ صورة لها. كان ذلك في زمان بدئيٍّ، أي في الأربعاء الأوّل من نيسان…إن قداسوية (كذا) الإله الرمز طاووسي ملك، في هذه الأسطورة خاصةً، وفي الميثولوجيا الإيزيدية عامة، تنبع من كونه إلهاً فاعلاً في ولادة البدايات: بدايات كل شيء»[41]. لذلك، فضلا عن قداسة كلّ أيّام الأربعاء، ترتبط طقوس احتفائية عديدة بالأربعاء الأوّل من نيسان/أفريل، ويستغلّ هوشنك بروكا هذه الطقوس ليقوم بتوظيفها، على خطى المناهج الأنثروبولوجية، محاولا إجلاء ما تحويه من رمزية ذات صلات بالبدء الأسطوري للكون، ويمكننا أن نكتفي هنا بالإشارة إلى مرجعيتين زمنيتين مقدّستين، إحداهما تتصل بزمن دائري أكبر مجاله اكتمال الدورة السّنوية، والأخرى تقع في المجال الزمني الأصغر أي الأسبوع:

 

وهو رأس السنة الإيزيدية، وفي الميثولوجيا الإيزيدية أنّ اللّه ضخّ في الأربعاء الأوّل من أفريل/ نيسان الدّمَ في جسد الإنسان، وبذلك يكون قد أعلن عن بدء الخليقة. وبناءً على هذه السّردية يقوم كلّ إيزيديّ بإعداد البيض، وتلوينه بألوان مختلفة[42]، ليتمّ استعماله في عدّة ألعاب. وغير خاف ما للبيضة من بعد رمزي، باعتبارها اختزالا لزمان البدايات[43]، وهي النّواة الصغرى التي تنشأ فيها الحياة، والتي من دونها يهيمن العدم والعقم. هي الكون الأصغر (microcosmos) الذي انبثق منه الكون الأكبر (macrocosmos)[44]، ولذلك فإنّ للبيضة في النصوص الدينية الإيزيدية وفي طقوسهم حضورا لافتا، وهي تذكّر بالدّرة البيضاء الّتي يتحدّث عنها مصحف رش، كتاب الإيزيديين المقدّس[45]، والتي منها نشأ كلّ الكون. كما أنّ للبيضة رمزية جنسية وقدسية في الآن نفسه، فلحضورها «دلالة واضحة على حضور القوة الإخصابية للعالم» كما أنّ «كلّ الطقوس التي تدور في فلك البيض (التباري، التكاسر، زفاف اللون، والتبرك بالقشور القدسية.. إلخ) ما هي في النهاية إلا تحيين لفعلٍ مقدسٍ، حدث في الزمن البدئي»[46]، ويذهب بروكا إلى أنّ الاحتفال كلّه لا يعدو أن يكون اختزالا للحظة البدء ودورة الخلق المقدّس، فكلّ إيزيدي باحتفاله وفق هذه الطقوس، إنّما يستعيد زمن البدء، وهو زمن مقدس، قابل للاستعادة والتكرار بلا حدود، ويتماهى مع الآلهة إذ يحاكيها في فعلها  فـ«كسر البيضة، كمحصلة لفعل التكاسر/ المكاسرة، يعني على المستوى الرمزي، المشاركة في فعل الفقس، أي فقس البيضة، وبالتالي المشاركة في فعل الخلق الذي تمّ في الزمن البدئي، بفعل إلهي مقدس (تماما كما انبثق الكون حين انكسرت الدرّة[47])… والتباري على كسر البيض.. تبارٍ على القوة الإخصابية والكفاءة في فعل الخلق والتأسيس له. فإعلان المتباري قساوة أو قوة (كذا) بيضته على كسر بيضة خصمه، هو إعلان عن قوته الإخصابية المتفوقة الراجحة والجديرة بفعل الخلق أمام قوة خصمه المتنحية»[48]. وتبدو الرّمزيّة الجنسيّة أوضح في ما يصنعه الإيزيديون بقشور البيض الناتجة عن التباري في كسر البيض، إذ ينثرون تلك القشور على حقول كرومهم ومزروعاتهم وحظائر حيواناتهم، إيماناً منهم بأنّها سوف تزيد وتضاعف من عطائها وبركتها وخصوبتها، استثمارا لما فيها من قوة إخصابية، إنّه فعل الإنسان يحاكي به “فعل الإخصاب المقدس، الذي مارسته الآلهةُ في البدء”، لذلك يكرّر الإنسانُ هذا الفعل في زمان مقدّس. “ولهذا، ولقوة دلالة البيضة، ومكانتها القدسية في عيد طاووسي ملك، فإنه يُسمى أحياناً بعيد البيض.”[49]

ومن الواضح أن ثمة، مثلما يشير إلى ذلك الباحث الإيزيدي هوشنك بروكا، علاقة جد قوية جدّاً بين البيض “باعتباره رمزاً للخصوبة والطاقة الجنسية المولّدة، وبين الزواج باعتباره رمزاً لفعل الخلق المقدّس”[50]، وتجنّبا للتساوي مع الآلهة يمتنع الإيزيديون عن الزواج في أفريل، بل ويحرّمونه، لتختصّ الآلهة به باعتبارها وحدها مصدر الخلق، فنيسان/أفريل هو الشهر الخاصّ “بالزواج البدئي، زواج الآلهة. ففي مطلع السنة البابلية.. في أوائل نيسان حسب التقويم البابلي، كانت طقوس الخصوبة الجنسية تستعاد وبكامل أبّهتها، ففي يوم السنة الجديدة تنام عشتار، بصحبة عشيقها تموز”[51]، وإذا كانت الآلهة ترغب في أن يحاكيها الإنسان في بعض أعمالها، فإنّها ترفض أن يشاركها في البعض الآخر ليكون لها وحدها لا شريك لها فيه، والجنس المقدّس واحد من هذه الطقوس الإلهية التي تنفرد بها، لأنّه فعل الخلق الذي لا يجوز لغير الآلهة. «احتفالات العام الجديد (أكيتو) لدى البابليين أو الأشوريين، و(زاغموك) لدى السومريين تبدأ مع بداية الربيع. (…) ويحرم الزواج خلال احتفالات أبريل لأن البابليين يعتقدون أن الآلهة تزوجت في هذا الشهر. (..) وفي الإيزيدية تقام بمناسبة “ساري صالي” الطوافات وكأن هذه الطوافات شكل من احتفالات زواج الآلهة، وهم أيضا يحرمون الزواج إلى الآن خلال شهر أبريل»[52].

ونعني بذلك القداسة المتصلة بأصغر الدوائر الزمنية وهي الأسبوع. فلا يقتصر تقديس الزمن عند الإيزيدية على الأربعاء الأوّل من شهر أفريل، وإنّما تعتبر أنّ يوم الأربعاء من كلّ أسبوع هو يوم طاووسي ملك، ولذلك لا يجوز مشاركته فيه، و«في هذا اليوم، يُحرّم على الإيزيدي دينياً ممارسة أي عمل يخترق به سكون الأربعاء»[53]، فحتّى مجرّد الاستحمام والتطهّر والغسيل محرّمة في هذا اليوم. ويقدّم هوشنك بروكا تبريرا لمحّرمات الأربعاء، بالاستناد إلى منطق التّابو (tabou) الأسطوري دون سواه، فيذكر أنّه في يوم الأربعاء، «انتهت الآلهةُ من وضع اللمسات الأخيرة للتكوين والخليقة. الأربعاء إذن، هو زمان هروب الآلهة إلى السَّكينة والراحة»[54]، كما «يردُ ذكر الأربعاء في الميثولوجيا الإيزيدية، بأنه يومُ بداية النهاية: بداية الخلق، ونهاية العماء الكوني، بداية النظام ونهاية الفوضى. فهو يوم انتهاءِ الله من عملية الخلق، وإنهائِه لحالة الفوضى الكونية، فمن «دعاء الخليقة»:

«إلهي وضع الهيكل،
في السبت كساه،
وما أن حلَّ الأربعاءُ،
كانت الخليقةُ على أتمّ حالها»[55]

ونحن نرجّح أنّ القداسة التي يختصّ بها يوم الأربعاء لدى الإيزيدية ليست سوى رواسب لقداسة نابو ابن الإله مردوخ[56]، دليلنا في ذلك أنّ كتابهم المقدّس يشير بوضوح إلى أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد واستمرّ جون انقطاع إلى يوم السّبت، فضلا مزجهم بين تقديس الأربعاء واتخاذهم يوم السّبت يوم راحة[57]، على غرار اليهود.  وبذلك يكون لطقوس فرض السكون وتحريم العمل يوم الأربعاء بُعدٌ بدائي، فيه من خصوصيّات التّابو البدائي أكثر ممّا فيه من خصوصيات الدين، وذلك ما يفسّر اشتراك يوم الأربعاء، سواء في الدورة الزمنية الكبرى أو في الدورة الزمنية الصغرى، في الاختصاص بمنع كلّ نشاط ذي صبغة تمييزية للفعل البشري، في إشارة جليّة لـ”تغييب” الإنسان واستبداد المقدّس بالحضور (طاووسي ملك).

 

المنحوتات والمعلّقات والرموز: الحيّة نموذجا

من أبرز ما يلفت النظر في المعابد الإيزيدية، فضلا عن كثرة ما يزين جدرانها ومداخلها، تنوّع تلك المنحوتات والرموز وانفتاحها على مرجعيات متنوعة.

ترتبط الحيّة، باعتبارها رمزا في الإيزيدية، برافدين على الأقلّ، فهي من جهة نتاج سرديّة الطوفان الإيزيدية، ومن جهة ثانية استمرار للمعتقدات السامية السابقة.

من المرجّح لدى جلّ الدارسين، اعتمادا على ما في النصوص الإيزيدية المتواترة، أنّ لسردية الطوفان الإيزيدية تأثيرا في الاعتناء بصورة الحيّة، وذلك ما يدعمه إقرار الباحث الإيزيدي قيصر خلات بأنّ المعتقد الإيزيدي يحرّم قتل الحيّة السوداء، وهو يردّ ذلك إلى أنّها أنقذت البشرية وجميع المخلوقات أثناء طوفان النبي نوح[58]،  ويشير الباحث الإيزيدي هوشنك بروكا إلى ما في قصّة الطوفان الثّاني المذكورة في “مصحف رش” من أنّ الحيّة هي الّتي أنقذت الملّة الإيزيديّة بقوله: «فلمّا تعالت المياه وطفت السّفينة فوق الماء صارت فوق جبل سنجار فصدمت بحجر فنقبت فتكعوكت الحيّة وسدّت الثّقب»[59].

وللحيّة دور هامّ في صُلب الميثولوجيا الإيزيديّة خصوصا، وبعض شعوب المنطقة عموما، فالحية في مخيال الإيزيديين “هي التي ترتبط بالحياة والموت وترمز للخير والشرّ في آن واحد وتعبّر عن الحكمة والدّهاء، وهي رمز تفاؤل حينا وشؤم أحيانا أخرى، وحامية لخزائن المال والحكم»[60]، لذلك فهي تعتبر من العناصر المميّزة في المعتقد الإيزيديّ، إنّها من أوّل الرّموز التي توشّي مدخل مرقد الشيخ عديّ (الشيخادي أو الشيخ آدي حسب نطق الإيزيديين)، كما نجدها في جانبي مدخل ضريح القاضي بلبان:

صورة قديمة لمدخل مرقد الشيخ عدي وعن يساره الحيّة المقدّسة[61]

 

صورة حديثة لمدخل مرقد الشيخ عدي وعن يساره الحيّة[62]

مدخل ضريح القاضي بلبان، ويبدو رسما الحيّتين على الجانبين[63]

 

ويتضافر هذا المعتقد الإيزيدي بالمعتقد الشائع في العقائد السّاميّة، إذ يُمنع، لدى عدد من القبائل الكردية، قتل الحيّة السوداء، وهو ما يستدعي إلى الأذهان موقع هذا الكائن حيث «اعتُبِرت الحيّة حارسة للينابيع وللكنوز والخصوبة»[64]. لقد رسخت الحيّة في التراث السّامي حيوانا مقدّسا «يصلح لاستخراج الفالات في العبادات الزراعية للسّاميين (كذا) الّذين يصوّرون الإله القمر في شكل أفعى»[65]. وقصّة الحيّة الحامية ضاربة في الأسطورة، فقد كان المصريون قديما يضعون تمثال الأفعى فوق تيجان رؤوس ملوكهم من الفراعنة[66]. ويبدو أنّ وجود الأفعى على مداخل المعابد والمزارات الإيزيدية هو في الآن ذاته امتدادٌ لطقس بابلي قديم، يسند إلى الحيّة مهمّة الحماية والإنقاذ، وتواصُلٌ للموروث الميثرائي الذي نجد فيه عادة رسم الثعبان[67].

 

الخاتمة:

إنّ الفكرة الحاصلة بعد إعمال النّظر في عقائد الإيزيديّة وطقوسها أنّها كانت عقيدة تقاطعت فيها جلّ العقائد الحافّة بها، أخذت الإيزيدية من الديانات الوثنية بنفس القدر الذي أخذت به من الديانات الإبراهيمية، أخذت من طقوس الإسلام ما جعله لِحَجِّه من شعائرَ، ونهلت من المسيحيّة طقوسها في التعميد، ومن اليهوديّة عهد الدّم الذي للختان .. في تمثّلها لـ«طاووسي ملك» تقديسٌ للملاك الرّافض للسّجود، وإكبارٌ لتَذكُّره وصايا الله له، يُماهِي إجلالَ الحلاّج لإبليس، «سيّد الموحّدين» في نظره، الذي رفض السّجودَ لغير الله وإشراكَ غيره بالسّجود رمز العبوديّة، وفيه (أي في تمثّل الإيزيدية لـ«طاووسي ملك») إحدى خصائص تمثّل المسيحيّين للمسيح، «وإذا كان يسوع ابن الله وكلمته كما جاء في الإنجيل ، فإنّ الإيزيديّين “يعتقدون بأنّ طاووس ملك منبلج من ذات الله»[68]، ومثلما تبنّت العقائد الساميّة القديمة الحيّة ضمن رموزها المقدّسة الحامية، صنعت السردية الإيزيدية المقدّسة للحية وظيفة لا تقلّ قداسة باعتبارها منقذة الملّة، وكما اعتقدت جلّ الديانات والعقائد أنّها خلاصة الخلق، وخير أمّة أخرجت للنّاس، وشعب الله المختار، يؤمن الإيزيديّون بأنّهم خلق مختلف عن باقي النّاس، فهم أبناء آدم فقط، نسلوا من جرّته الّتي وضع فيه بذرته فأنتجت ذكرا وأنثى، أمّا الآخرون من يهود ومسيحيين ومسلمين فمن لقاء آدم وحوّاء[69].. بذلك تكون الإيزيدية في نظرنا، معتقدا تعايشت فيه هذه العقائد، وهو ما يجعلها معتقدا طريفا، وربّما، فريداً من نوعه.

 

الهوامش

[1]  كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة سوسة، تونس.

[2]  طاووسي ملك، هو النطق المتداوَل بين الإيزيديين، ويبدو أنّه مجرّد طريقة لنطق لفظ طاووس ملك. لذلك فإننا سنستعمل لفظ طاووسي ملك، إلا إذا كان الشاهد المنقول يحتوي خلاف ذلك.

[3]  يذكر المقدسي في كتابه البدء والتاريخ أنّ إبليس كان يسمّى «عزازيل»، انظر: المطهر بن طاهر المقدسي، كتاب البدء والتاريخ، القاهرة، المكتبة الثقافية، د.ت. 2/66.

[4]  سعيد الديوه جي، اليزيدية، بغداد 1973، صص 236-247.

[5]  هو نفسه طاووسي ملك.

[6]  كتاب الجلوة، الباب الثاني، الفصل الأول، الفقرات 2-6.

[7]  قاسم محمّد عباس، الحلاّج: الأعمال الكاملة، دار رياض الريس، بيروت، الطبعة الأولى، مارس2002، ص192.

[8]  ديوان الحلاّج، تحقيق سعدي ضنّاوي، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، ص159.

[9]  أي لإيماني بما فهمت من التوحيد.

[10]  قاسم محمّد عباس، الحلاّج: الأعمال الكاملة، ص191.

[11]  ملكة علي تركي، مدخل إلى الأدب الصّوفي الفارسي مع دراسة وترجمة للمنظومة الصّوفيّة إلهي نامة للشاعر فريد الدّين العطّار، مصر، نشر كلّية الآداب جامعة عين شمس، الطبعة الثانية 1998، ص177.

[12]  نستعمل مصطلح الديانات الإبراهيمية في استعماله التقليدي الذي يحيل على الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، مع علمنا أن الإيزيديين يعتبرون معتقدهم أيضا من الديانات الإبراهيمية.

[13]  «مصحف رش»، نسخة إلكترونية، الكتاب الإلكتروني ضمن http://www.efrin.net ص7، السفر24.

[14]  خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الأيزيدية، السويد، رابوون، 1998، ص158.

[15]  هوشنك بروكا، دراسات في ميثولوجيا الدّيانة الإيزيديّة، ألمانيا1995، ص68.

[16]  نفسه.

[17]  نستعمل لفظ “عيد الجماعية” بناء على كتابات جانب كبير من مثقفي الإيزيدية رغم أنّ البعض يستعمل لفظ “جما” أو “جماهي”.

[18]  سليمان جعفر، طقوس الحج عند الايزيديين “عيد جما / جماهي”، انظر الموقع الألكتروني:

https://www.ezdina.com/2017/10/Article-Ezidi7.html

[19] خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، ص98.

[20]  https://www.ezdina.com/2017/10/Article-Ezidi7.html

[21]  زهير كاظم عبود، هل يمكن تحديد فترة ظهور الديانة الإيزيدية؟، مجلة “لالش”، العدد 28، حزيران2008، ص12.

[22]  نفسه، والنصّ نفسه تقريبا وجدناه لدى حليل جندي في كتابه نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، ص 98.

[23] http://bahrainanthropology.blogspot.com/2016/03/blog-post.html

[24]  ميثرا مضحّيا بالثور. الصورة من متحف اللوفر بفرنسا، ويوجد منحوتات أخرى في نفس هذا التوجّه في متحف الفاتيكان بروما. انظر:

http://www.tertullian.org/rpearse/mithras/display.php?page=cimrm548

[25]  خليل جندي، نفسه، ص99.

[26]   انظر مثلا صورة لزوار يتطهرون بماء زمزم استعدادا لدخولهم ضريح الشيخ عدي في الرابط:

http://www.kurdistan-photos.com/lalesh/kurdistan/zemzem-spring.php

[27] من اللافت ورود تسميات من أماكن بمكة وإطلاقها على أماكن في لالش، على غرار عين زمزم وجبل عرفات…

[28]  https://www.ezdina.com/2017/10/Article-Ezidi7.html

[29]  Ibidem.

[30] http://www.yeziditruth.org/yezidi_religious_tradition.

[31]  خليل جندي، نحو معرفة… ص118.

[32]  نفسه.

[33]  نفسه، ص116.

[34] ممتاز حسين سليمان، دورة الحياة عند الإيزيدية، مجلة “لالش”، العدد32-33، ربيع2011، ص156.

[35]  «الكريف» لفظة كردية تعني الصّديق المقرّب، ويذهب البعض إلى أنها في الأصل «القريب» وقد تمّ تحريفها عند النطق بها. انظر ممتاز حسين سليمان، نفسه، ص157.

[36]  نفسه، ص117.

[37]  جاء في العهد القديم: ” وقال الله لإبراهيم: «واما انت فتحفظ عهدي، انت ونسلك من بعدك في اجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، ابن ثمانية ايام يختن منكم كل ذكر في اجيالكم: وليد البيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك، يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا ابديا، واما الذكر الاغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. انه قد نكث عهدي.” سفر التكوين، الأصحاح17: 9-14

[38]  يشير خليل جندي إلى أنّ شيخ الختان هو «شيخ سن» (الشيخ حسن) وهو الحسن بن عدي بن أبي البركات بن صخر بن مسافر الملقَّب بتاج العارفين شمس الدين أبو محمد شيخ الأكراد، وجده أبو البركات هو أخو الشيخ عدي. انظر مثلا الفصل الذي خصّه به أحمد تيمور باشا في كتابه اليزيدية ومنشأ نحلتهم، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2015، صص23-25.

[39]  يظهر الأمر بشكل واضح فيما تحمله أسماء أيام الأسبوع في اللغات ذات الأصل اللاتيني، إذ تتركب أسماء الأيام في اللاتينية من قسمين بينهما علاقة إضافة، أحدهما وهو (DIES) المتحول إلى (DI) في الفرنسية مثلا و (DAY) في الأنقليزية ويعني “يوم” يتصل به الإله الذي اختصّ به، فسمّي الأحد باسم الإله “شِمِش”، “الشمس”، وهي التسمية التي تظهر في التسمية الأنقليزية (sun/day)، وسمّي الاثنين باسم الإله “القمر” وهي التسمية التي تظهر في التسمية الأنقليزية (mon/day) والفرنسية (Lundi)… الخ انظر في ذلك مثلا الرابط:

https://www.lefigaro.fr/langue-francaise/expressions-francaises/2017/02/01/37003-20170201ARTFIG00019-l-histoire-secrete-des-jours-de-la-semaine.php

 

[40]  هوشنك بروكا، الإيزدية، والطقوس الدوموزية، مجلة “لالش” العدد23 تشرين الثاني2005، ص22.

[41]  نفسه، ص24.

[42]  باستثناء اللّون الأزرق، لأنّه لون طاووسي ملك مثلما كان لونَ نابو. والإيزيديون يحرّمون اللّون الأزرق حتى في ملابسهم.

[43]  هوشنك بروكا، نفسه، ص25.

[44] نفسه، ص26، وهو يكتب الكلمتين بالشكل الجرماني (mikrokosmos/ makrokosmos).

[45]  انظر الفقرة الأولى من مصحف رش، وفيها يذكر أنّه «في البدء خلق الله الدرة البيضاء من سرّه العزيز…».

[46]  هوشنك بروكا، نفسه، ص26.

[47]  انظر مصحف رش الفقرة 11.

[48]  هوشنك بروكا، نفسه، ص26.

[49]  نفسه.

[50]  نفسه.

[51]  نفسه، ص27.

[52] Kheder Kh. Bahzani, Izidian Religion- Another Look, Translated by: Haji Al-Marshawy, «Lalish» N°23, Nov.2005, p30-31.

[53]  هوشنك بروكا، نفسه، ص23.

[54]  نفسه، ص24.

[55]   نفسه، ص23.

[56]  وهو ما يؤكّده الباحث الإيزيدي جورج حبيب، حين يكشف أنّ معابد نابو كانت تسمّى معابد إيزيدا، انظر جورج حبيب، «نابو»، مجلة روژ، العدد 1، آب1996 ص59.

[57] Conseil de l’Europe et commission européenne, Mosaïques, Kit de formation pour le travail euro-méditerranéen pour la jeunesse, kit n°11, mars2013 ; p.245

[58]  تذكر السّردية الإيزيدية أنه حين صنع نوح المركب وحمل فيه اثنين من كلّ مخلوق، واثناء حدوث الطوفان اصطدم المركب بسطح جبل فأحدث فيه ثقبا، فطلب النبي نوح من المخلوقات من يمكنه ايقاف تدفق الماء فكورت الحية نفسها على الثقب، ومنعت المركب من الغرق، ولهذا لا يقتلها الانسان الايزيدي. انظر قيصر خلات، علاقة الرموز الموجودة على جدران معبد لالش بالرموز القديمة في بلاد الرّافدين، مجلة “لالش”، العدد 32-33، ربيع2011، ص108. ونفس المنع قائم في بعض القبائل المسلمة أيضا، وهو ما يطرح السؤال: هل الأمر يتعلّق بتقاليد اجتماعية اتخذت صبغة دينية، أم هي عقائد دينية تحوّلت إلى سلوك اجتماعي.

[59]  هوشنك بروكا، دراسات…، مرجع مذكور، ص69، وانظر قيصر خلات، علاقة الرموز الموجودة على جدران معبد لالش بالرموز القديمة في بلاد الرّافدين، مجلة “لالش”، العدد 32-33، ربيع2011، ص108.

[60]  خليل جندي، الأيزيدية والامتحان الصّعب، أربيل، دار ئاراس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2008، ص33.

[61]  الصّورة منقولة عن E.S. DROWER: Peacock Angel، ص154

[62]  D. PIRBARI, Holy Lalish, Ekaterinburg, Russia 2008. p.64.

[63] E.S. DROWER, , Peacock Angel Being some Account of Votaries of a Secret Cult and their Sanctuaries, London,  first edition. 1941, p.121.

[64]  حسن نعمة، موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة ومعجم أهمّ المعبودات القديمة، بيروت، دار الفكر اللبناني 1994، ص39.

[65]  توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، ترجمة حسن عودة- رندة بعث، تقديم د. رضوان السّيّد، دمشق، قدمس للنشر والتوزيع د. ت.، ص357.

[66]  زهير كاظم عبود، «التنقيب في التأريخ الإيزيديّ القديم»، وقد اعتمدنا نسخته المنشورة على العنوان:

http://www.alnoor.se/article.asp?id=57

[67] P. SELEM, Les religions orientales dans la Pannonie romaine, partie en Yougoslavie, Brill, 1980, pp.95, 145

[68]  هوشنك بروكا، دراسات….، مرجع مذكور، ص43

[69]  هذه الفكرة مذكورة بشكل صريح في النسخة الّتي نقلها يوسف إيسيا من «مصحف رش»، وكذلك في نسخة عبد الحميد الحمد ونسخة الجندي، ولم نجد لها أثرا في نسختي الجراد والصديقي، وتحمل فكرة صدورهم عن آدم من دون حوّاء إيحاء بتفضيل العرق الإيزيدي ودونية الآخرين الّذين يحملون في تكوينهم شيئا من بذرة حوّاء التي لم تنتج حين وضعت في الجرّة غير الدود والعفونة. انظر مثلا يوسف إيسيا:

Joseph ISYA, Devil Worship, the sacred books and traditions of the Yézidiz, The Gorham Press, Boston, U. S. A.1919, p.42.

 

مراجع البحث:

النصوص المقدّسة:

 

المراجع باللّغة العربيّة:

 

 

المراجع باللّغات الأعجمية:

 

 

المراجع الإلكترونية:

 

 

 

 

 

Exit mobile version