بلال عرابي
تولي الجماعات الإنسانية، في مختلف بقاع العالم، اهتمامها بالأضرحة mausoleums، لما تحمله بالنسبة إليها من معان ثقافية وحضارية متنوعة، تختلف باختلاف التجارب التاريخية والاجتماعية لكل جماعة، وباختلاف العقائد الدينية والسياسية السائدة فيها.
ففي الوقت الذي يمكن تفسير اهتمام الجماعات الإنسانية بالأضرحة في كونها أشكالاً جديدة لظاهرة تقديس الأجداد التي عرفها الإنسان منذ القديم، والتي أخذت تتطور فيما بعد مع مظاهر التطور الأخرى في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يمكن أيضاً تفسيرها بما تؤديه من وظائف اجتماعية تتحقق من خلالها عملية الارتباط بين الماضي والحاضر، وهي تجسد في مضمونها رغبة الأحياء في أن يكونوا أوفياء لماضيهم، وبخاصة أن مصيرهم لن يختلف عن مصير سابقيهم، ولهذا يرتبط التفسير الأنثروبولوجي في كثير من الأحيان مع التفسير النفسي.
ويأخذ الضريح أهميته من أهمية الإنسان الذي دفن فيه، وغالباً ما يتحول إلى رمز ثقافي يوحد بين مجموعات كبيرة من الناس، تفرق بينهم الأزمنة أو الأمكنة، فتلتف حول الضريح جماعات من الناس متعددة اللغات والقوميات (في الأضرحة ذات الرموز القومية)، ومتعددة الديانات والعقائد (في الأضرحة ذات الرموز الدينية)، كما أنها توحد المشاعر والأحاسيس والعواطف حتى بين الأجيال المتعاقبة.
وبمقدار ما يصبح صاحب الضريح رمزاً ثقافياً وحضاريا،ً تولي الجماعات الإنسانية اهتمامها بالمكان الذي دفن فيه، فقد يتحول الضريح إلى مزار يفد إليه أبناء هذه الجماعات من أماكن بعيدة جداً على الرغم من اتساع الفجوة المكانية التي تفصلهم عنه، وينفقون الكثير من عائداتهم المادية في سبيل ذلك، وقد تأتي هذه الزيارات في مناسبات محددة ومواسم سنوية أو موسمية بحسب البنى الثقافية السائدة لدى هذه الجماعة أو تلك.
وإلى جانب ذلك، هناك العدد الكبير من الأضرحة ذات الصبغة المحلية، التي لا تجاوز حدود الجماعات القريبة منها، غير أنها ليست أقل قدسية من سابقتها بالضرورة بالنسبة إلى هذه الجماعات، لا بل يمكن أن تكون أكثر قدسية، وأكثر أهمية، ويمكن أيضاً أن تذبح عندها الأضاحي، وتقدم القرابين، وتوزع الصدقات، وتتشكل لجان الأعمال الخيرية والتطوعية وما شابه ذلك.
ويلاحظ في كثير من الأحيان أن الأضرحة تشاد في دور العبادة والمساجد، كما هو الحال بالنسبة إلى مقام الرسول الكريم محمدr في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، ومقام صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومقام النبي يحيى عليه السلام في الجامع الأموي بمدينة دمشق، وكان من قبل كنيسة للنصارى، ومن قبل داراً للعبادة، كما تضم مدينة دمشق مجموعة كبيرة من الأضرحة التي يفد إليها آلاف الزوار سنويّاً، كضريح السيدة زينب وضريح السيدة رقية، بالإضافة إلى مجموعة من أضرحة الصحابة رضي الله عنهم.
وفي مصر يسود الاعتقاد بأن زيارة الأضرحة ذات العلاقة بالأولياء والمشايخ هي واحدة من خصائص التفكير الديني، حيث لاحظ السيد عويس أن 68% من عينة اعتمد عليها في معالجته لموضوع الأضرحة في مصر، يرون أن من واجباتهم زيارة الموتى من أولياء الله والقديسين، وخاصة في المواسم والأعياد، وقد حلل السيد عويس الرسائل المرسلة إلى ضريح الإمام الشافعي الموجود في القاهرة فوجد أنها تشدد الطلب من الإمام لمساعدتهم على قضاء حوائجهم، ومعالجة مشكلاتهم.
ومن المعروف أن القاهرة تضم أضرحة مشهورة، تفد إليها أعداد كبيرة من الزوار يومياً، مثل ضريح الإمام الحسين، وضريح السيدة زينب، وغيرها من الأضرحة المشهورة. حتى إن الأهرامات المصرية لم تكن في أساسها إلا أضرحة للفراعنة، اعتقاداً من المصريين القدماء في خلود الروح بعد الموت، واعتقادهم بالبعث والحياة الأبدية بعد الموت، ولهذا كان عليهم، على أساس هذه العقيدة، بناء الضريح بالشكل الذي توضع فيه الجثة المحنطة وإلى جانبها مجموعة من الحاجيات الأساسية التي تساعد الروح على العودة إلى الجسد، وهي تبحث عنه، كما زُينت الجدران بالصور والنقوش التي تدخل السعادة عليها.
ومن الأضرحة المشهورة في العالم أيضاً ضريح ملك بروسيا فريدريك وليم الثالث (1770ـ1840)، وضريح لينين في موسكو في الساحة الحمراء، والذي يعد من أهم الملامح في الاتحاد السوفييتي (سابقا)، حيث كانت الجموع تقف لمسافات طويلة حتى تقترب منه وتشاهده.
وقد تشاد المساجد ودور العبادة إلى جانب الضريح، أو تحيط به، وتسمى عندئذ باسمه، كما هي الحال في النجف الأشرف وكربلاء ومشهد الإمام علي الرضا وغيرها من الأماكن التي أقيمت فيها المساجد لوجود الأضرحة المقدسة فيها.
وفي باكستان، يعد ضريح الإمام البريء من أكثر الأضرحة شهرة، فتفد إليه من الأقاليم المجاورة، في الفترة (23ـ28) أيار من كل عام مجموعات كبيرة من الزوار، يزيد عدد أفرادها على نصف مليون زائر، يتطلعون إلى تلقي الدعم المعنوي من الإمام البريء لمساعدتهم على تجاوز مشكلاتهم النفسية والاجتماعية والمادية. وتولي الحكومة الباكستانية اهتماماً كبيراً بهذه المناسبة، ويتمثل هذا الاهتمام بافتتاح رئيس الوزراء لهذه المناسبة، والتي تسمى بعرس الضريح، وتعمل السلطات المحلية على توفير الخدمات اللازمة للقادمين، من كهرباء ومياه وغيرها، وبهذه المناسبة يقوم آلاف الأشخاص بالوفاء بالنذور المترتبة عليهم، فينتشر توزيع الطعام في الأماكن المحيطة بالضريح، ويتكفل عدد من الأغنياء بتأمين النفقات للفقراء الذي يأتون من أماكن بعيدة، وغير القادرين على تحمل هذه النفقات.
وقد يؤدي تجمع عدد من الأضرحة في مدينة واحدة أو بلد واحد إلى نمو النشاطات الاقتصادية والاجتماعية فيها، كما هي الحال في سمرقند التي انتشرت فيها بشكل واضح ظاهرة بناء المساجد إلى جانب الأضرحة المشهورة فيها، ومثال ذلك ضريح الصحابي قُثم بن عباس بن عبد المطلب، وهو ابن عم الرسولr، وضريح الإمام البخاري، وضريح تيمورلنك القائد العسكري المعروف، وقد أصبحت سمرقند نتيجة لذلك مدينة سياحية تفد إليها جموع كثيرة من الناس سنويّاً.
ويوصف ضريح (أوساكا) في اليابان قبر الامبراطور نينتكو المتوفي عام 438 بأنه من الأضرحة الكبيرة في العالم، ففي حين يبلغ عرضه 305أمتار، يمتد طوله إلى 485متراً، ويصل ارتفاعه إلى 45 متراً، ويشغل مساحة قريبة من 147925متراً مربعاً. في حين يعد «تاج محل» من أكثر الأضرحة جمالاً في العالم الأمر الذي دفع الزعيم الهندي نهرو إلى القول عنه بأنه ليس قبراً إنما هو أغنية من المرمر، وقد بناه الأمبراطور شاه جيهان خلال الفترة (1631ـ1653) تخليداً لذكرى زوجته ممتاز محل، وقد عمل فيه ما يزيد على 20 ألف عامل في فترة تزيد على 20عاماً، أما تكاليفه فكانت عالية جداً.
إن الاهتمام بالأضرحة مسألة إنسانية بصورة عامة، ولا توجد دولة في العالم إلا وتظهر فيها أشكال مختلفة للأضرحة، وهي ترتبط بالفلسفات الاجتماعية السائدة وبالثقافات التي تميز الشعوب بعضها عن بعض، ولذلك تأتي أشكال الأضرحة وطبيعة الاهتمام بها مختلفة باختلاف الخصوصيات التاريخية والثقافية لهذه الشعوب، كما تختلف المواقف من هذه الأضرحة، وتثار في الشريعة الإسلامية مسألة زيارة الأضرحة والموقف منها، حيث يلجأ بعضهم إلى تزيين الأضرحة والاهتمام بها، في حين أنه لايجد بعضهم الآخر مايسوّغ ذلك.