عبر الباحث محمد حسن عبد الحافظ للإعلام المصري والعربي عن سعادته بهذه الجائزة، وأكد أن سعادته تكمن في أن هذه الجائزة الدولية المرموقة تضفي أهمية جديدة على دراسات المأثورات الشعبية في مصر، ونضخ تفاؤلاً لزملائه الباحثين الذين لا يقلون عنه تميزًا ومجهودًا. أما على المستوى الشخصي، فقد كان متحوطًا من الانتشاء بالفوز، فهذه الجائزة لا تعني إلا بذل المزيد من العطاء لمواصلة ما بدأه في مجال دراسة الأدب الشعبي عمومًا. وأشار إلى أن حكمة الناس الذين التقى بهم طوال سنوات عمله في جمع السيرة الهلالية علمته أن يفوز دون أن يشعر بالفوز، وأن يعطي دون أن يشعر بأنه يعطي. وذكر أنه اكتشف جماعات علمية إيطالية وأوروبية تستحق الاحترام، حيث يبدو العمل بين أفرادها متناغمًا من أجل الوصول إلى مستوى من شأنه الارتقاء بالدرس الأنثروبولوجي والفولكلوري في العالم، وقد دار نقاش ثري بينه وبين الدكتور روبيرتو لاجالا رئيس جامعة بالرمو، والدكتور أوريليو ريجولي رئيس مركز الدراسات الأنثروبولوجية بجامعة بالرمو، ومؤسس قسم الأنثروبولوجيا، والدكتور مالك الواسطي (وهو إيطالي من أصل عراقي، وأستاذ اللغات المقارنة بجامعة نابولي)، والدكتور بياجيو (رئيس أكاديمية فيزوفيو للتراث الشعبي في نابولي)، والدكتور بوتيتا نينو أستاذ الأنثربولوجيا ببالرمو، كما التقى باحثين من صربيا والمجر، ويأمل عبدالحافظ أن تفيد مصر من تجارهم وخبراتهم.
– وفي رده على أسباب اختياره للسيرة الهلالية كمشروع لحياته قال:
يوضع اختياري لسيرة بني هلال موضوعًا للدراسة في سياق الإنجازات التاريخية لقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتتبدى في محطات متتالية خلال القرن العشرين. من أهم هذه المحطات: استهلال دراسة الروائع الأدبية الشعبية بحكايات ألف ليلة ولية في الأربعينيات (سهير القلماوي)، إنشاء كرسي الأدب الشعبي في مطلع الخمسينيات (عبدالحميد يونس)، الاعتماد على الدراسات الميدانية لجمع الأدب الشعبي في الستينيات (أحمد مرسي)، تواصل الجهود التي دعت إلى دراسة أنواع الأدب الشعبي، وأسست لها وأضاءت أشكال التعبير فيها (منذ دعوة أمين الخولي، مرورًا بجهود أحمد ضيف وأحمد أمين وفؤاد حسنين علي وعبدالعزيز الأهواني ومحمد حسين كامل وحسين نصار ونبيلة إبراهيم وسيد البحراوي)، ثم يدخل الشاعر الشعبي إلى أروقة الجامعة، وتتوالي عروض السيرة في رحابها خلال الثمانينيات والتسعينيات (أحمد شمس الدين الحجاجي).
من منطلق انتمائي لهذه السلالة العلمية، نشأت فكرة دراسة السيرة الهلالية، وبني موضوعها، وتحدد منهجها. وكان اختياري لأسيوط ميدانًا لجمع روايات الهلالية يمثل عودة إلى ينابيعي الأولى في محافظة أسيوط، حيث وُلدت في قرية عتيقة من قراها تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل اسمها “الواسطة” تتبع مركز أبنوب، تعلمت فيها مبادئ القراءة والكتابة قبل سن الانخراط في المدرسة. ثم عاد بنا أبي إلى مدينته الجميلة “أبوتيج” (على الضفة الغربية من النيل) قبل أن أتم الخامسة، حيث درست حتى المرحلة الثانوية، وفي سنوات نشأتي بأبوتيج أدخلني عم حسين مسعود دروب السيرة الهلالية، حيث كان يزور “مولد سيدي أحمد الفرغل” كل عام، واعتاد أبي مجالسته مع أصدقاء آخرين لهما. ومنذ ذلك الحين، لم أفارق عم حسين، ولم تفارقني الهلالية.
وعندما قررت العمل في موضوع سيرة بني هلال (بحلول عام 1996)، لم تكن هناك دراسات أكاديمية تعتمد الجمع الميداني لرواياتها المجهولة أو المستحدثة، وتعمل على توثيقها ودراستها. ورأيت أن هناك ضرورة حقيقية للعمل الميداني بهدف اكتشاف مؤدين جدد، وروايات جديدة تضاف إلى ما تم جمعه منذ سنوات بعيدة. ولذلك اخترت أسيوط التي لم يكن يعرف فيها رواة للسيرة الهلالية.
– وعن الصعوبات التي واجهها في عملك الميداني، وفي مجال دراسة الأدب الشعبي عمومًا، يقول عبدالحافظ:
مررت بسنوات طويلة حتى صغت الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها وبحثها في عمل ميداني يستهدف جمع روايات شفهية للسيرة الهلالية. ولعل واحدًا من أكثر المشكلات صعوبة بالنسبة إلى الباحثين في مجال الأدب الشعبي، هو كيفية ترتيب مستويات البحث ، وتحديد النسق الذي يعملون وفقه عبر مراحل منظمة. اهتديت إلى أن يكون بحثي (المطبوع في الكتاب المتوج بالجائزة) منصبًا على الجوانب المتصلة بالعمل الميداني لجمع السيرة الهلالية؛ أي لا أكتفي بجمعها من رواة عدة، ثم أتعجل تدوينها وتوثيقها، كأني أجمع مادة مزهقة الروح، وأقدمها باستسهال مخل للحياة الثقافية، دون أسجل للمستقبل الكيفية التي أديت بها هذه النصوص، سواء على مستوى الراوي الذي أداها، أو الجمهور الذي تلقاها أو شارك في أدائها، أو الظروف والمناسبات والسياقات التي أحاطت بجمعها وبرواياتها وبأدائها.
ومن أجل إنجاز هذا العمل، لازمت الميدان، واستعنت بالأجهزة المرئية والمسموعة، وتفرغت تمامًا لكي أؤدي مهمتي على أفضل وجه ممكن. وهناك بالتأكيد صعوبات لا يتصورها أحد. لكني دومًا كنت حريصًا على كتمانها، لكي لا أتحول من باحث إلى شكاء. وتخيلت أن عملي كأرض أزرعها بعرق وبمعاناة، أملاً في الثمار، وليس في وسعي بعد أن أثمر عملي أن أتذكر الصعوبات الجمة التي واجهتها. ثم واصلت عملي بهذه الروح، سواء وأنا أجمع روايات السيرة الهلالية من الرواة المحترفين في محافظة سوهاج، أو وأنا أنجز أعمالاً أخرى تخص مختلف أنواع الأدب الشعبي في جنوب مصر، أو في أي منطقة من مناطقها الثقافية، والتقيت بشخصيات في طريقي لا أنسى فضلهم في تشجيعي.
– وحول ارتباط السيرة الهلالية بالشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي نسب له الفضل في إحياء السيرة الهلالية من جديد، يعلق عبد الحافظ بقوله:
سبق أن أكدت في مقدمة الجزء الثاني من كتابي بأنني واحد من الملايين التي تدين بالفضل لجهود الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي، ولإبحاره طويل النفس في نهر السيرة الهلالية، على النحو الذي أدى إلى تفعيل هذه السيرة وتنشيطها وتوسيع نطاق انتشارها وتلقيها، عبر الإذاعة المسموعة وشرائط الكاسيت والنص المطبوع. وما قدمه الأبنودي هو إضافة جليلة إلى جهود سبقته، وأخرى تزامنت معه، وهي كثيرة، لكن أبرزها إسهامات الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي التي عملت على تفعيل الهلالية أيضًا، وعلى اكتشاف رواة جدد، وعلى البحث في قانون هذه السيرة، وعلى تدريب الباحثين على الخوض في غمار الهلالية، وكنت واحد من هؤلاء الباحثين، وأحلم بلقاء حميم يجمع الأبنودي والحجاجي التي نشأت بينهما خصومة مفتعلة لا ذنب لهما فيها، فكلاهما خدم الثقافة المصرية.
– ويعلق عبدالحافظ على اتهام الأبنودي باحتكار السيرة الهلالية لنفسه، قائلاً:
إذا كان ثمة إيمان بأن الإنسان يعبر من الحياة الدنيا تاركًا كل شيء، فليس في وسع أحد احتكار شيء لنفسه على نحو مطلق، ولا أقصد هنا الأستاذ الأبنودي تحديدًا؛ وإنما أقصد هذا التصور القاصر نفسه. قد يتعلق الأمر بالتنافس، ولأن الهلالية هي أسطورة الشعب المصري التي أودع فيها كل رؤاه وأحلامه وفنونه الشعرية الشعبية، فليتنافس المتنافسون – بشرف – من أجل جمعها وتوثيقها وبقائها للأجيال التي لم تأتِ بعد، وأدعو إلى أن يتسع التنافس، لتصير الهلالية ينبوعًا للأعمال الفنية والأدبية المصرية الحديثة، وطريقًا ثقافيًّا ملهمًا على غرار طريق الحرير، يربط بين المشرق والمغرب عبر مصر، الجزيرة العربية واليمن والعراق والشام والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا والنيجر ونيجيريا، ولتتحول الهلالية إلى مشروعات للعروض الفنية الممثلة لمصر في الخارج، بل أن يتحول عالم الهلالية إلى أسماء أعلام ومدن وشوارع وميادين وألعاب رياضية وابتكارات فنية ومشروعات تنموية تعي بالقيم الرمزية والجمالية التي لدى الجماعات الاجتماعية.
وحول سؤاله عن أسباب غياب المؤسسات الأهلية المهتمة بالثقافة الشعبية، أجاب عبد الحافظ:
بل نجد فعلاً مثل هذه المؤسسات والجمعيات الأهلية والمدنية منتشرة في ربوع مصر، لكن هناك أسبابًا متعددة لضعف الإحساس بوجودها؛ إما لضعف الإعلام عنها من قبل هذه المؤسسات، أو لضعف اهتمام الإعلام نفسه بها، حيث تضاعف إقبال الإعلام على السياسة، بينما استمر تراجع اهتمام الإعلام بالشؤون الثقافية، أو لأن بعض المؤسسات تعمل بطرق لا تسمح بتحقيق الأهداف والأدوار التي نشأت وتأسست لأجل القيام بها. أو لأن معظم كوادرها يحتاجون التدريب على التخطيط الاستراتيجي وعلى أساليب الإدارة الثقافية للمأثورات الشعبية والتراث. أو لأن بعضها يعتمد على “الشخصنة” وليس على الضوابط المؤسسية التي تجعل الجميع يعملون في منظومة واحدة حتى لو كانت المؤسسة موسومة باسم شخص أو يمولها شخص ما. وللأسف، بعض هذه المؤسسات أيضًا لديها مناعة من تقبل الأفكار الجديدة، ومن بناء الثقة بين العاملين فيها والعاملين خارجها، ومن الشراكة والتعاون مع مؤسسات أخرى. لكن في النهاية هناك مؤسسات مدنية مصرية تتمتع حقًا بمواصفات المؤسسة، وتلك التي أسعى دومًا إلى التعاون معها.
– وعن مبادرته التي أطلقها قبل أكثر من عشر سنوات لتوثيق التاريخ الشفهي في مصر، قال:
في مجال التاريخ يبدو، حتى الآن، أن التـاريخ الوحيد الذي حُفظ بعناية فائقة في معظم المجتمعات هو تاريخ الثقافة المكتوبة، فيما لم يحظَ تاريخ الثقافة الشعبية (أو ما يعرف بالتاريخ الشفهي) بكبير اهتمام يليق بمكانته في بناء المجتمع الثقافي. وقد يعود ذلك إلى قداسة المكتوب في نظمنا الاجتماعية والسياسية، لكن هذه القداسة لم تتأسس على قاعدة الحداثة على نحو ما حدث في المجتمعات الغربية – أو ما يسمى بمجتمعات الشمال – بل قامت على النهج الخاص الذي انتقل به العقل العربي من حالة الكلام الشفهي إلى حالة النص المكتوب مطلع العصر العباسي، حيث نجم عن هذا التحول/الانتقال: تعديل أو تغيير عميق في بِنَى المجتمعات التقليدية وفي موازيين القوى بين الشرائح الاجتماعية المختلفة. إن الذي يدفع دومًا الثمن الفادح لقاءَ هذا النهـج في التحول، هو ذاكـرة المجتمعات وتراكمها الثقافي، و – استطرادًا – معرفتنا له. فحين لا يكون في إمكاننا أن نكتب تاريـخ قسم هائل من التعبـير الثقافي لمجتمع أو لشعب ما، فنـحن بذلك نفتقد القـدرة على – والحق في – بناء وعي تاريخي بتراكمه الرمزي. الأفدح حقًا، والأنكى من كل ذلك، أن الجانب الأعظم من التعبير في مجتمعاتنا، إنما هو الذي يشغله التعبير الثقافي الشفوي الشعبي. كما أن قصر اهتمام المؤرخين على الوثائق المكتوبة، دون سواها، أغفل أهمية الدور الذي ينهض به الصوت في الحفاظ على المجتمعات البشرية والذي غدا اليوم أمرًا ثابتًا لا جدال فيه؛ ذلك لأن مجموع ما يسمى بالمأثورات الشفاهية لمجتمع ما يشكل فيه شبكة من المبادلات الصوتية التي تمثل أعرافًا وتقاليد سلوكية ثابتة بدرجة أو بأخرى، وتتمثل وظيفتها الأولى في تأمين استمرار إدراك للحياة وتجربة يقع الفرد بدونها في شَرَك الوحدة، إن لم يكن في غياهب اليأس .
والحقيقة أن الشعوب تصنع التاريخ الفعلي، وكثير من التجارب التاريخية أبدعتها جماعات اجتماعية دون أن يذكرها التاريخ، وعلمت ذاتها دون أن تمتد لها يد التعليم الرسمي، وظلت قوية ومتماسكة رغم ضغوط تهميشها وإقصائها واتهامها بالتخلف والتراجع. ومنذ سنوات بعيدة، أقوم بدوري في اقتفاء بعض آثار هذه التجارب، وأمامي وبجانبي ومن خلفي مؤسسات وباحثون يقومون بأدوارهم أيضًا. لا أنسى ما قاله لي أحد رواة السيرة في أسيوط (عنتر عز العرب، منشية همام، مركز البداري) عندما وصف السيرة الهلالية بأنها “تاريخات”، وبأنها أكثر مصداقية بالنسبة إلى الناس، حيث تدخل أحد المتعلمين من الجمهور المستمع عن السيرة الشعبية المطبوعة، فالتفت الراوي فجأة إلىَّ، مشيرًا بأن أنتبه جيدًا إلى قوله الذي بدا قاطعًا: “الحاجه اللي هيْ مش رسمي، وتطلع بخط القلم، دي ما تعتمدهاش… دي تاريخات، المكتوب ده ما يجيبوش، يجيبه الراجل الحافض، الشاعر، اللي هو إيه: مِتْسَوِّحْ فِ لِبْلاَدْ، وسِمِعْ، وحِفِضْ، إنما القلم لأ. ما تعتمدش خط القلم، إللي عايش مع الناس أَمْكَنْ”.
– وعن حصوله في بداية عام 2010 على جائزة الشارقة للإبداع العربي، في فرع أدب الطفل، عن مسرحية “لعبة الغولة”، قال عبدالحافظ:
خلال فترة عملي مع الدكتور أحمد مجاهد في المركز القومي لثقافة الطفل عامي 2007 و 2008، فكرت أن أساهم عمليًّا بعمل مسرحي بعرائس خيال الظل، أتذكر أني كتبته في ليلة واحدة وأنا في الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب، بحضور المخرج الشاب أيمن حمدون. وقد تم عرضه في بعض المحافظات المصرية، كما شارك به أيمن في مهرجانات عربية. وكنت أفكر في مواصلة هذا الإسهام. لكني تركت المركز فجأة للعمل بالمعهد العالي للفنون الشعبية، دون أن أترك الطفل وثقافته وأدبه وفنونه. وفكرت في أن أجذب خبرتي في الأدب الشعبي إلى عالم الكتابة للطفل، واعدًا نفسي باكتشاف جماليات جديدة تحترم الطفل والفن معًا. وكان أول أعمالي تلك المسرحية (لعبة الغولة) التي كتبت للعرض بعرائس خيال الظل وعرائس الماريونت بجانب التمثيل البشري، وتقدمت بها لجائزة الشارقة التي كلفتني بأن أضع شأن الكتابة للطفل في صدارة اهتماماتي.
وعن مشروعته المستقبلية أشار عبدالحافظ إلى أنه يعكف الآن على الانتهاء من المرحلة النهائية من أطروحة الدكتوراه في موضوع “سيرة بني هلال في بعض قرى سوهاج: دراسة سيميائية للمؤدي والرواية والجمهور”.