موقع أرنتروبوس

الشيخ والأمير في استراتيجيات الولاء الروحي

قراءة في كتاب محمد جحاح

الزاوية بين القبيلة والدولة

مساهمة في التاريخ الاجتماعي والسياسي للزاوية الخمليشية بالريف

 

محمد الغيلاني*

تمهيد

لن تكون كل قراءة في الكتاب ذات نفع وجدوى ما لم تقف على أهم خلاصاته وتحويلها إلى تساؤلات تفتح الطريق لتفكير جديد في الموضوع. لذلك سأحاول أن أجعل من أفكار هذا العمل فرصة معرفية للتفكير في الكتاب ومن خلاله.

نستفيد من خلال معطيات هذه الدراسة أن كل شيء كان يجري على حساب المجتمع [المتمثل هنا في القبيلة]، ولذلك يمكننا اليوم أن نتحدث عن الزاوية والحكم المركزي بينما نجد صعوبة بالغة في الحديث عن شيء اسمه القبيلة: لقد تم القضاء عليها عبر صيرورة عنيفة مارسها كل من الحكم المركزي والزاوية، ولذلك نجدهما اليوم ينتفعان معا بطرق مختلفة.

لئن كانت الدراسة تثير موضوع سلطة شيخ الزاوية وتدفع بالأطروحة القائلة أن مصدر سلطته مستقل عن القبيلة [لأن الشيخ ليس هو الأمغار] كما هو مستقل عن الحكم المركزي [لأنه لا يمثله]، فإننا نتساءل حول مصدر هذه السلطة، وليس تساؤلنا حول مظهر هذه السلطة: أي كيف تمارس من قبل الشيخ؟ بل كيف يحتل شيخ الزاوية موقع الزعيم فيها؟

ربما يبدو هنا التفسير بسيطا برد تلك السلطة إلى شرعية دينية روحية نسبية، كالدفع بأن الشرعية تستمد بالأساس من النسب الشريف: أي تلك الصلة الدموية، الممتدة عبر الأزمنة، والتي لا يمكن بأي حال التحقق من صدقيتها. إذن ما الذي يضفي على شيخ القبيلة المشيخة؟ هل الأمر متعلق بورعه أم بخوارقيته أم بدهائه ومكره أم بولائه للحكم المركزي أم بهذه كلها مجتمعة؟ من أين يستمد كاريزميته؟ هل يستمد الشيخ مشروعيته من مؤهلاته الفردية من انتمائه إلى الزاوية؟ كيف يمكن أن نختبر اليوم هذه المصادر لقياس مدى انطباقها على نظام المشيخة؟

لقد حاول (جحاح) تفسير نظام المشيخة برده إلى الحقل الصوفي بمرجعياته الثلاث: المرجعية الصلحاوية؛ والمرجعية الطرقية؛ والمرجعية الشرفاوية؛ حيث تتقاطع كلها لإرساء نظام المشيخة على أسس يمتزج فيها البعد الدنيوي والميتافيزيقي والخرافي. [ص 363/364]، [راجع أيضا (منطق الهبة وأسس الهبة)]. جاعلا من مفهوم البركة بنية تحتية لهذه السلطة: لكن السؤال يبقى قائما بالنظر إلى التحولات العميقة التي تعرضت لها زاوية اليوم: إلى أي حد ما زالت سطوة البركة تحوز على فعاليتها؟ هل تبدلت ميكانيزماتها وقواعد تصريفها في علاقة الشيخ بالمريد؟

ينتهي هنا (جحاح) إلى أن السيطرة الحقيقية التي تمتلكها الزاوية وتشتغل بها، في علاقتها بالمريد، هي السيطرة على العقول [ص 365]. أين اختفت اليوم بركة الخمالشة وهم يتطلعون بالكاد إلى التحول إلى حركة مدنية بخلفيات سياسية؟

أولا- الشيخ والأمير: تساؤلات على هامش الزاوية بين القبيلة والدولة

سأفتتح هذه المراجعة بجملة تساؤلات تتفاعل مع مضمون الكتاب، ولكنها تساؤلات تشمل، في الحيز الأكبر منها، أفكارا  وملاحظات تمس امتدادات الأطروحة المركزية للعمل الذي أنجزه (جحاح)، محاولا نقل الموضوع القضية من موضوع التاريخ والأنثربولوجيا إلى حقل يستعين ببعض مكتسبات العلوم الإنسانية ويوظف بعض التأملات ذات الطابع الفلسفي والمعرفي.

إذا سلمنا أن الزاوية اتخذت داخل القبيلة وظيفة – إيديو دينية منذ القرن السادس عشر [ص 327] مكنتها من تبوئ مكانة سياسية محلية، ألا يمكننا اليوم أن نتحدث عن تقلص موقع الزاوية داخل القبيلة في مقابل اتساعه ليشمل فئات اجتماعية غير قبلية؟

ألا يمكننا اليوم أن نتحدث عن زاوية بدون قبيلة؟

ألا تتخذ الزاوية اليوم وظيفة ميتا – أخلاقية تتجاوز العناصر القروية لتتخذ وظيفة سياسية مدنية تمد الحقل السياسي بمصادر الشرعية في مجال الدين والسياسية؟

ألا يمكن النظر إلى الزاوية بوصفها مؤسسة لــ (خلقنة) الموقف السياسي ومنحه شحنة فورية تعزز الهشاشة السياسية في الفضاء العمومي؟

ألا يمكن عد نزع الطابع السياسي عن الزاوية وتعزيز حضورها الصوفي ووصلها بأوسع قاعدة اجتماعية ممكنة هو بمنزلة توظيف للزاوية كاحتياطي في المنافسة السياسية لتسويق إستراتيجية الدولة في حقل تنظيم وتدبير الشأن الديني العمومي؟

لم يعد اليوم موضوع الزاوية هو القرية بل المدينة، وليس المجتمع القروي، وحسب، بل باتت تستهدف الفئات الحضرية. كيف يمكن تفسير هذا التحول؟ كيف يمكن تفسير تبدل الخلفية الصوفية للزاوية من صوفية روحية إلى دبلوماسية صوفية؟

هل الزعيم الروحي الفعلي للزاوية هو الشيخ أم أمير المؤمنين؟ كيف تتعالق هذه الازدواجية وكيف تتفارق في صيرورة تصريف الاشتغال الداخلي للزاوية وفي نسج علاقاتها بمحيطها؟

ارتبطت الزاوية التاريخية بمحيطها المحلي أو الجهوي، ولا شك أنه كان لديها عمق اجتماعي، غير أن الزاوية اليوم أصبحت شبه منقطعة عن هذا العمق، وباتت صلتها بالجماعة صلة جغرافية. وفي المقابل، فإن الزاوية اليوم وسعت قاعدتها الاجتماعية خارج حدود مجالها الحيوي التقليدي، إذ أصبحت مؤسسة فوق الجماعة تتجاوز الجغرافيا والجماعة معا، حيث أن روافدها أصبحت تتمدد باتجاه فئات مختلفة ومتنوعة الانتماء الاجتماعي والجغرافي والثقافي والسياسي والديني. لقد تبدلت الزاوية كما تبدلت القبيلة والدولة.

ليس لهذا التبدل طبيعة مرفولوجية بل هو تبدل في المضمون والوظائف والأبعاد والرهانات. لا شك أن القبيلة ضمن هذه الصيرورة تمثل أضعف حلقة بفعل تضررها من التحولات التي طالت بنية المجتمع برمته. ليس لدينا اليوم قبيلة، لأن القبيلة ابنة العالم القروي الذي اضمحل وجوده المعاصر بفعل الإعاقات التي واكبت صيرورة التمدين: فلا القرية اليوم هي قرية ولا هي مدينة ولا المدينة مدينة ولا هي قرية. لقد لحقت هذه البنيات تشوهات انمسخت معها كل المظاهر الأصيلة في النسيج المجالي العام.

ولذلك نتصور أن الزاوية كانت عرضة لهذه الصيرورات غير أنها حازت على ما يمتعها بقوة متجددة تضخ في حسابها منسوبا من القداسة التي تمزج صلتها الروحية بصلاتها الدنيوية، بين النسب الشريف وبيعة الإمارة، بين وظيفتها الاجتماعية ووظيفتها السياسية؛ يحدث ذلك عبر شبكة من الصلات المعقدة حينا والبسيطة حينا آخر.

كل قداسة تحتاج إلى شرعية، وإذا سلمنا بوجود قداسة داخل الزاوية فمن حقنا أن نتساءل عن مصدر هذه الشرعية بصرف النظر عن مسألة النسب التي لا يمكن عدها حجة كافية. ولعل المفارقة الأكثر إثارة للدهشة كيف يكون بمقدور الصبيب الروحي الذي يتمتع به الشيخ قابلا للاستثمار في مجال إمارة المؤمنين ومن ثم في حقل السياسة؟

ما الذي يجعل القداسة مسيجة داخل الزاوية؟ ما الذي يجعل القداسة التي يتمتع بها الشيخ غير قابلة للتصريف خارج الزاوية إلا عبر شرعية من خارج الزاوية؟ ولماذا ليس بوسع الشيخ مهما بلغ منسوب قداسته إلا يكون مجرد شيخ زاوية؟ وكيف تصبح هذه القداسة فاعلة بالوكالة في حقل السياسة عن طريق صلتها بإمارة المؤمنين؟ أي نمط هذا من القداسة اللاسياسية الذي له قدرة على التأثير في السياسة؟  من أين لها بهذه القدرة الفائقة على التحايل؟

كيف يمكن أن نفسر رسوخ قيم القداسة وشرعيتها في منظومة الزاوية من دون أن تنفلت مفاعيلها إلى منظومة المجتمع؟ ما هي الآليات التي تعبرها القداسة من حقل إلى آخر دون أن يلحقها تدنيس؟

أهي قداسة من الدرجة الثانية؟

أم تكون القداسة داخل الزاوية مجرد فرع للقداسة الأم؟ [راجع ص 328 الفقرة الأولى].

ألا يمكننا اليوم أن نتحدث عن نهاية القبيلة؟ النهاية هنا بالمعنى السوسيولوجي، وانبعاث الزاوية لا كمؤسسة تقليدية بل كهيئة زئبقية بحسب وصف (جحاح) [ص 327]؟ ألا يدعو ذلك إلى مراجعة النظر في المناهج الأنثربولوجية والسيوسيولوجية التي تم إعمالها في دراسة الزاوية بالنظر إلى التحولات التي مست الثالوث: قبيلة زاوية دولة؟

ما يصفه (جحاح) بالتناقض [ص 329]، والذي يبدو أيضا أنه مفارقة، هو ذلك الموقع الذي تحتله بالفعل الزاوية في صلتها بكل من الدولة والقبيلة.

إذا سلمنا بالتأويل الهندسي الذي استدل به (جحاح) في مقاربته للزاوية بحسبانها نقطة تقاطع التي «تتوحد» عندها كل التعارضات [ص 330]، فإن السؤال المطروح: لمصلحة من يتم تفويت فوائد هذا التقاطع/التوحد؟ أو على حساب من؟ وهل معنى ذلك أن بالإمكان أن تتعايش سلط وشرعيات جنبا إلى جنب من دون أن يحصل ذلك دون تكاليف؟ من يؤدي فاتورة هذه التكاليف؟

إذا كانت ماهية الزاوية تقوم على مبدأي التواصل والتصالح بحسب (جحاح) [ص 330-331] فكيف يمكن تفسير الخلافات والانقسامات التي تشهدها اليوم بعض الزوايا؟

هل يمكننا اليوم أن نتحدث عن «استقلالية نسبية» للزاوية في المغرب؟ [ص 333/334]؛ وهل يمكن أيضا أن نحسم في الاعتبار الذي يذهب إليه (حجاح) والقائم على أن استمرار الزاوية رهين باحترامها للتوازنات؟ هل يمكن اليوم أن نختبر هذا الاعتبار لإعادة نظر تأخذ بالحسبان الأدوار الجديدة للزاوية المعاصرة في محيطها الما-فوق قبلي؟

بناء عليه هل يمكن أن ندفع بفكرة وجود حدود محلية لزوايا اليوم؟ [ص 334].

كيف يمكن لنا اليوم أن نقيس قوة الزاوية على قاعدة المبدإ القائل: «الحكم منا ما يكونش وبلا بينا ما يكونش»؟

لماذا لم يستمر (علي الحاكم) على رأس مشيخة الزاوية الخمليشية [الظروف الغامضة للرحيل إلى الحياينة ص 340]. يشير جحاح إلى المؤامرات والدسائس، كما أن أب (علي الحاكم) اغتيل من قبل أحد أعضاء الأسرة الخمليشية. هذا المعطيات، [الإشارة الواردة في ص 340/341]، ذات قيمة مهمة في فهم الآليات الداخلية للتربع على مشيخة الزاوية.

كانت الزاوية تلعب دورا سياسيا عندما يضعف الحكم المركزي. بهذا المعنى، فإن هذه الوظيفة طارئة، وليست أصيلة، أي ليست من صلب الوظيفة الأساسية للزاوية، ولا يمكن لها أن تتصدى لهذه الوظيفة إلا بتوكيل من الحكم المركزي تحت شروط محددة وصارمة.

لا يمكننا اليوم أن نؤكد القوة السياسية لزاوية ما، وإنما قوتها ناتجة عن حربائية هويتها. لذلك كانت الزاوية حليفا للحكم المركزي القوي، أيا كانت طبيعته، فهي تريد من ذلك تحصيل أمرين أساسيين لوجودها وانتفاعها:

الأمن، أولا؛

الموارد المالية، ثانيا.

يقوم منطق الزاويا وفلسفتها على مبدإ المصلحة، فحيث تكمن المصلحة يميل موقف الزاوية، هذا ما يفسر بعض الزوايا ساندت الاحتلال الأجنبي.

ثانيا- استراتيجيات الولاء الروحي

تاريخ المغرب العميق هو تاريخ تدينه، إذ مثل التدين رهانا وتجاذبا، على مر القرون، جعل منه رصيدا أساسيا في التجربة الدينية للمجتمع المغربي. وعلى الرغم من التبدلات التي طرأت على منظومة الرموز والقيم داخل المجتمع، إلا أن ذلك كان يحدث باستمرار في إطار ديني أو باسم الدين حتى وإن كان مخالفا للرأي الفقهي أو لأسس العقيدة ذاتها.

يعرف المغرب بكونه بلد الأولياء بامتياز، وبصرف النظر عن الموقف السوسيولوجي، فإن هذا التوصيف له دلالة رمزية تحيل على حضور نمط تدين شديد الفعالية في الأوساط الاجتماعية؛ ويمتلك، دون غيره، قدرة ذاتية على الصمود والاستمرار والتكيف. تبدلت وظائف الزوايا، إما بشكل جزئي أو بشكل كلي، ولم تعد موقعية الزاوية هي ذاتها كما في الماضي. لكن، من المؤكد أن هناك إلحاحا مستمرا، عبر كل المراحل، على أن يكون للزاوية دور ووظيفة ما في خريطة التدين المحلي بحسبانها عاملا مؤثرا في صوغ ملامح ذلك التدين.

ولعل الحضور التاريخي القوي لمؤسسة الزاوية، كمركز ثقل ديني واجتماعي، وآلية لتصريف السياسي، يؤشر على عمق التأثير الذي يمارسه الشيوخ / الأولياء في الأوساط الاجتماعية باختلاف مرجعياتهم وأصولهم وتوجهاتهم.

تسوق الزاوية، بهذا المعنى، نمط تدين خاص، يخضع في عمومه لشروط واعتبارات اجتماعية، يمكن في سياقها مقاربة أحد تجلياته التي توصف عادة بالتصوف. لا يمكن فهم وتفسير هذا التجلي إلا بوصفه عاملا لإعادة صوغ الانتماءات الاجتماعية، وبناء الوضع الاعتباري للمتدينين.

يمثل التصوف هنا رأسمال ديني، ينضاف إلى الرصيد الرمزي والروحي الذي يُمَكٌن المريد من الانخراط في حركية المجتمع، لتحصيل الارتقاء الاجتماعي على المستوى المادي والرمزي والروحي. ينظر «الفقير» و«الغني»، في هذا النمط من التدين، إلى موقعهما كمريدين وهم بالمحصلة «فقراء الزاوية»، حيث يتساوى الكل في منظومة «الحضرة» و«الحال» أو «الانجذاب [الجدبة]». هنا يتم تذويب الشعور بالتمايز الاجتماعي، مقابل نيل فضائل وكرامات الشيخ وبركته، مع تحصيل نوع من التطهر. لكن مقابل ذلك يتقاسم المريدون، من خلال التقرب من الزاوية، منافع تستثمر في الرأسمال الاجتماعي، والرمزي، من خلال نسج شبكة معقدة من الروابط والتحالفات التي يتحصلون منها على مفاعيل مباشرة، ومادية، على الوضع الاجتماعي والاعتبار للمريدين أفرادا وجماعات.

لا يمكننا، من الناحية السوسيولوجية، أن نخلط بين التصوف كمبدإ وطريقة في التدين، النظري أو العملي، وبين التصوف السوسيولوجي، أي كممارسة أو سلوك ديني، وتقليد يومي، يندرج ضمن رهانات وإكراهات الزاوية كمؤسسة تنتمي للمجتمع وتخضع لتجاذباته.

الزاوية، من المنظور السوسيولوجي، مؤسسة تنتج تأويلا للشعائر الدينية. تنشأ في بنيتها ومن حولها وضدها رهانات متناقضة ومفارقة. بالمحصلة، فإن للزاوية إستراتيجيتها، كما للسلطة إستراتيجيتها، وللمجتمع إستراتيجيته. ولا يمكن تفسير التدين في علاقته بالدولة إلا من خلال تفسير هذه الاستراتيجيات الثلاث.

بهذا المعنى، يمكن إجمالا، اعتبار التصوف مد يخترق بنية المجتمع المغربي، وهو اختراق أفقي وعمودي، يمكن حركة التصوف من مريدين، ينحدرون من مختلف القطاعات والفئات والشرائح الاجتماعية والمؤسسات. وعلى الرغم مما يحظى به التصوف ومؤسساته من دعم، غير أن هذا النمط يعد التدين الأكثر اختراقا للمؤسسات الحساسة في المجتمع، بما في ذلك مؤسسات الجيش والأمن وأجهزة المخابرات ومحيط البلاط والشخصيات النافذة في السلطة.

يمكن عد التصوف، من خلال الزوايا التي تمثله، الطيف الديني الذي يتميز بقدرته على احتضان الشرائح الاجتماعية المتنوعة الأصول. الزاوية حاضنة لكل الفوارق الاجتماعية المادية والرمزية، إذ ينضوي تحت لوائها الفقير كما الغني الأمي كما المتعلم، بل إن من بين مظاهر القوة الجديدة التي بدأت الزوايا تحوزها استقطابها لنخب ذات مرجعيات فكرية وأكاديمية يصنف البعض منها عادة ضمن تيار الحداثة أو التيارات اللادينية.

من المؤكد أن الاتجاه الاجتماعي نحو التصوف سيدعمه التآكل الذاتي لمنظومة التحديث وقهريتها، بالقدر نفسه سينتفع، مؤقتا، من التصدع العميق في بنية العمل السياسي عامة والحركات الدينية المعاصرة خاصة.  وستبدو مساهمة الزوايا، والتدين المرتبط بها، فعالة ومؤكدة في استدماج شريحة كبيرة من المجتمع في «منظومة السياسة».

ولعله ليس خافيا إصرار الدولة في المغرب على عقيدة دينية، يعد ما يسمى التصوف السني مبنى من مبانيها الجوهرية، بالإضافة طبعا للمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية.  عندما تعمد الدولة إلى رعاية نزعة التصوف في المجتمع، من خلال مؤسسة الزاوية، فهي ترغب أن يتم ذلك ضمن فلسفة القيم والمبادئ التي يقوم عليها ما أصبح يعبر عنه بــ «الإسلام المغربي».

بطبيعة الحال، لا تهتم القاعدة الكبرى من مريدي الزاوايا بهذه الفلسفة، إنهم يتصرفون وفق ميولاتهم التلقائية وعفوية إيمانهم، وحاجاتهم الناتجة عن الفراغ الروحي، وعنف الاختيارات السياسية، والواقع المعيش، للانتفاع، قدر الإمكان، من الأجواء الروحية التي تتيحها لهم الزاوية.

أصبح، من الواضح، أن للتصوف، في المغرب، نخبا مثقفة، تمتلك خبرة حداثية في تسويق التصوف، كظاهرة دينية إنسانية، منفتحة، ذات مبادئ وخطاب وقيم كونية. تستفيد النخب، ذات النزعة الصوفية، من التقنيات الحديثة وتوظفها لترويج التصوف عبر شبكات الإنترنت التي يمكن تصفحها بمختلف اللغات ( العربية والانجليزية والفرنسية والتركية الخ.)، وعبر إقامة الندوات الدولية، واستعمال اللغات الأجنبية، والإشراف على مهرجانات عالمية للإبداع الصوفي، أو ما يسمى الموسيقى الروحية والسماع أو ما شابه. كما يتوج التصوف المعاصر حضوره النخبوي من خلال الإصدارات التي تؤرخ وتُعرٌف بتاريخ ورموز وصلحاء التصوف وفوائده المعنوية من خلال التركيز على خطاب يدافع عن التصوف، ليس فقط كنزعة روحية وإنما كتدين بديل، أو كمشروع ديني ومجتمعي يقترح حلولا للأزمة التي تولدت عن عنف مادية الحياة المعاصرة، وكبديل لأطروحات الحركات الدينية المنافسة.

في المحصلة، يقترح التصوف المعاصر أطروحته بوصفه دينا انسيابيا ومرنا ومنفتحا ليس فقط من داخل الإسلام بل في ارتباط بسائر الأديان. وبهذا المعنى، لم يعد التصوف تدينا تلقائيا أو عشوائيا، إنه من هذه الزاوية مشروع ديني كوني، يخترق أنماط تدين مشابهة أو منافسة، ويخاطب مريديه المفترضين، ويستقطب رموز من مجتمعات مغايرة، مستثمرا من قاموس التسامح الديني، ومن الأصل المشترك للأديان السماوية، ومن الفطرة الإنسانية، بالقدر نفسه الذي يستفيد فيه من الأزمة الروحية الحضارية العميقة لدى المجتمعات. ينبغي أن ننتبه إلى التصوف المعاصر لا فقط بحسبانه شكلا من أشكال التدين، بل كظاهرة ثقافية تتطلع إلى الكونية. ولربما يمثل التصوف حقلا يستدعي أدوات فهم جديدة في حقل فلسفة الدين والأنثربولوجيا والسوسيولوجيا.

ليس مستبعدا أن العقود المقبلة ستشهد تصاعد المد الصوفي، وهو مد سترافقه عقلنة، على مستوى الشكل؛ وتقليدانية، على مستوى المضمون. وستضعف في المقابل صلته بالمحلي كلما زاد نشدانه للكوني. في حين سوف، يستمر التصوف في ارتهانه للمؤسسة الدينية الرسمية، وإدمانه على تكييف مشروعه للتماهي مع العقيدة الدينية الرسمية. ومن تم، سيظل تقليدا دينيا غير مستقل طالما يتطلع إلى ممارسة دور سياسي بوسائل غير سياسية. ولعل ذلك من أهم مفاعيله في الخريطة الدينية والسياسية معا.

لا تمثل هذه المعطيات إلا وجها من أوجه المفارقات في التصوف الذي تنتجه الزاوية. إذ يمتلك، بموازاة ذلك، طاقة متجددة للتغلب المؤقت على التناقضات القائمة بين أنماط التدين المنافسة، واحتواء البعض منها.

فباستثناء الموقف السلبي الذي تعبر عنه «الاتجاهات الدينية الوهابية»، نكاد نلحظ استجابة مرنة من قبل المتدينين للتعايش مع مقتضيات الطقس الصوفي، والذوبان الاستثنائي في مشروع روحي يدعي تنزهه عن السعي وراء المكاسب السياسية التي قد تنتج عن تحول الزوايا والطرق إلى مراكز قوة ونفوذ.

تجلب النزعة الصوفية، بفضل هذا الادعاء، امتدادا وانتشارا يمكن رصدهما من خلال الأنشطة العادية، أو الموسمية، حيث يسجل باستمرار تزايد منسوب المريدين الجدد الملتحقين، وتنوع أصولهم الاجتماعية. ومن المتوقع أن تشهد الظاهرة  تناميا كبيرا سواء من حيث الكم أو من حيث الأهمية الوظيفية التي يُطلب من التصوف القيام بها بالنظر لعاملين أساسيين: أولهما، استمرار إشكالية الشرعية الدينية للسلطة السياسية؛ وثانيهما، تحديات التدين الحركي بشقيه الشيعي والسني وما يعتقد أنه يمثل من ضغوط أو مخاطر محتملة وفق النظرة الإستراتيجية الأمنية والثقافية للقوى الدولية، خصوصا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وبهذا المعنى، يدخل التصوف ضمن إستراتيجية سياسية لها خلفيات وجيو- سياسية.

فهل تكتفي السوسيولوجيا بالنظر إلى الزوايا بوصفها مجرد ظاهرة تاريخية أكثر من كونها ظاهرة سوسيولوجية؟ ذلك أن الخطاب المعاصر حول التصوف ليس سوى ترديد لمظهر جزئي من واقع الزوايا، وحقيقة الوظائف التي تتصدى لها، خصوصا في ما يرتبط بالمجتمع العميق وطقوسه وتمثلاته اللاواعية، الراسخة في الضمير الجمعي المنتسب لهذا التقليد الديني في الأوساط الاجتماعية. إن وظيفة السوسيولوجيا تفرض عليها أن تشكك في الأنماط الخارجية للظواهر. ولعله من المشروع أن تساءل ما إن كانت الزوايا فعلا تمتلك نفوذا في المجتمع المعاصر؟ وهل يمكن تأويل عودة الزاوية اليوم بحسبانه انتصار للتدين القروي على التدين المديني؟ وهل لها من القوة ما يجعل منها مؤسسة وسيطة ووظيفية أم أن قوتها الحقيقية تكمن في ضعفها؟

 

 

*أستاذ الفلسفة بجامعة مولاي إسماعيل- مكناس

Exit mobile version