السوسيولوجيا القروية: التاريخ، وتجاذباتٌ بين الخصوصية والتداخل المعرفي

* كاميليا الورداني

يعد علم الاجتماع العام أضمومة تضم عدة علوم فرعية تهدف في مجملها لدراسة مختلف التفاعلات الاجتماعية بين أفراد المجتمع؛ بما في ذلك نظم علاقاتهم، ومشكلاتهم، وأنماط عيشهم، وتمثلاتهم، وثقافتهم… فبالنظر إلى الموسوعية المعرفية التي تقتضيها دراسة الإنسان في علم الاجتماع، كان من الطبيعي أن يعرف هذا العلم عدة انقسامات وتفرعات تخصصية توازي في تعدد أدوارها تعدد مجالات الأنشطة البشرية، بحيث تفترق في سعيها للاهتمام بجانب من جوانب هذه الأنشطة البشرية المختلفة، وتلتقي في تكاملها المعرفي حول الهدف الواحد، وهو الإحاطة بالإنسان. ومع التطور الشامل الذي تشهده حياة الإنسان، فقد بات الوضع مُلِحا في أن يعرف علم الاجتماع مزيدا من التفرعات والتخصصات، التي كان من ضمنها ما بات يعرف بـعلم الاجتماع القروي، أو السوسيولوجيا القروية.

ومع اعتبار التفكير الاجتماعي قديم قدم الإنسان نفسه، تفكير شغل فلاسفة اليونان ومن قبلهم بقرون، فمن الممكن الزعم بأن أول تفكير اجتماعي إنما كان حول الأشكال الأولى التي مهدت لنشوء الحضارة، وحول البوادر الأولى للتكيف الإنساني مع الأرض في طور الصيد وجمع الثمار والزراعة والرعي، وما صاحب ذلك من تفاعلات وتشكلات اجتماعية أولية.

وبناء على هذا الافتراض، فلعله من الممكن القول إن “السوسيولوجيا القروية” هي ذاك الفرع الذي ينبغي أن تستقرأ فيه المعطيات، وتنطلق من أرضيته الفرضيات على تنوع مناهلها؛ وهو الشيء الذي يجعلها ـ مقارنة مع باقي فروع علم الاجتماع ـ الأكثر استقطابا للمعارف الأخرى، والأكثر تقاطعا معها.

ـ فما العوامل المرجعية التي أسهمت في نشأة السوسيولوجيا القروية؟ وكيف تطورت؟

ـ وما موضوع اشتغالها الذي يشكل خاصيتها النوعية ومشروعها المعرفي؟

ـ وما أوجه العلاقة التي تتجاذبها مع المعارف الأخرى؟

 

 

1ـ علم الاجتماع القروي: مرجعيات النشأة والتطور

      أـ إرهاصات عربية (مقدمة ابن خلدون أنموذجا)

إضافة إلى كون مقدمة ابن خلدون موسوعة معرفية شائكة، فإنها عدت مرجعا لا محيد عنه مهد الطريق لمعارف حديثة شتى أهمها علم الاجتماع. ويهم هذا السياق ما في “المقدمة” من إرهاصات لنشأة علم الاجتماع القروي.

فمن جملة ما تتميز به نظرية ابن خلدون في “العمران البشري”، اكتشافها القوانين الناظمة لهذا العمران، بوصفه خاضعا لقانون النشوء والارتقاء (أي النظرية الداروينية)؛ فابن خلدون إذ يُخضِع “العمران البشري” لهذه القوانين، يقوم بتقسيمه إلى نوعين: عمران بدوي قَبَلِي، وعمران حضري (بما يفيده من معاني التحضر والتمدن)[1]؛ وفي هذا التقسيم فإن الثاني هو الأول نفسه خاضعا لقانون التطور.

فمن خلال المنظور التطوري للعمران البشري، يلاحَظ قياسُ ابن خلدون لعمر العمران بكون البداوة أصله و”طفولته”؛ فقد جاء الفصل الثالث من الجزء الأول في “المقدمة” عنوانا عريضا: «البداوة أقدم من الحضر وسابق عليه وأن البادية أصل العمران، والأمصار مدد لها»[2]؛ وحجته في ذلك أن «الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه، ولأن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه. (…) فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة (…) كما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدَّعَة، التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية»[3].

إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن ما يدعوه ابن خلدون بـ”العمران البدوي، إنما يمكن عده إطارا نظريا تمهيديا فحسب في هذا السياق، نظرا لقيام التقسيم الخلدوني للعمران على ثنائية تقابلية واحدة هي: “البدو”/”الحضر”، دون عمران وسط يمكن تسميته “عمرانا قرويا”. وبالتالي فما يدعوه ابن خلدون بالبدو ليس المقصود به مجتمع القرية بمفهومها الراهن، بقدر ميل مفهوم البداوة إلى الفضاء الصحراوي العربي. وحسب ابن خلدون فنمط مجتمع البدو ينقسم إلى ثلاثة أنواع: بدو أقحاح لا يملكون سوى الإبل، وبدو منتجعون مرتحلون يعتمدون في معاشهم على تربية الماشية أو البقر، وبدو مزارعون فلاحون يعتمدون على الزراعة[4].

كما أنه في التقسيم الثنائي للعمران، أولى ابن خلدون عناية كبيرة بالمجتمع البدوي في رسمه الدقيق الملامح التي تميزه عن المجتمع الحضري، وعَرضِه “الوزائع” المشتركة التي تشد عضد “العمران” البدوي، وتفصيله الحديث في طبائع أهله بما فيها من محامد ومَذامّ. وبهذا فقد عُدَّ ابن خلدون «أول عالم على الإطلاق عني بشرح ظاهرة البداوة»[5] شرحا مفصلا أخذ حيزا واسعا من مقدمته؛ فبعد تخصيصه الفصل الثاني من الجزء الأول لما أسماه بـ «العمران البدوي، والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال»[6]، ومن ثم تقديمه أهل البدو في الفصل الثالث بوصفهم أصل العمران ـ اعتبارا لأقدميتهم على أهل الحضر ـ يأتي في ما يليها من الفصول ليضع جملة من محددات العمران البدوي/ القروي. ففي الفصل الرابع يرى ابن خلدون «أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر»[7]؛ وحجته في ذلك «أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر»[8]. وعهدة على ابن خلدون أيضا، فإن من جملة ما ينماز به “العمران البدوي” أن «أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر»[9]، كما أن «سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية»[10] التي «تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه»[11]؛ بمعنى أن العصبية القبلية شرط أساس لتثبيت اللحمة المجتمعية واستمرارها عبر نظام القرابة، الذي يعد أس الصلات في الهيكل الاجتماعي القبَلي.

وعليه، فإن دراسة ابن خلدون لمجتمع البداوة (بما في ذلك بنياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والسيكولوجية والثقافية)، هي دراسة ـ فضلا على أنها ستكون إرهاصا ممهدا الأرضية أمام النشأة الأكاديمية لعلم الاجتماع القروي ـ فإنها كانت أيضا خارطة طريق في تصويرها مختلف أحوال المجتمعات التي ستصبح لاحقا مستعمرات أوروبية تسهم بدورها في بلورة مفهوم جديد في تاريخ المعرفة الاجتماعية القروية.

 

      ب ـ الإرث الإثنوغرافي الكُلونيالي (*)

من المعلوم أن نجاح المخططات الاستعمارية في شتى البلدان التي شملها المخطط التوسعي الأوروبي لم يأت بمحض صدفة، بل مهدت له حركات علمية ميدانية تم الإجهاز فيها على قرى وقبائل وحواضر هذه البلدان بآخر ما توصل إليه الغرب من مناهج في العلوم الاجتماعية، بما في ذلك الإثنوغرافيا والإثنولوجيا، وفي هذه الفترة بالضبط، فقد تميز تصور الغرب للمجتمعات الجاري استعمارها بالسطحية والتجزيئ، والتي عكستها مجموعة من الثنائيات التقابلية في الخطاب الكُلونيالي، كان من ضمنها: “بلاد المخزن” / “بلاد السيبة”، المجتمع الحضري / المجتمع القروي…[12]، (مثلما جرى الأمر مع المستعمرات المغاربية).

وفي إطار هذا التجزيئ الممنهج والمؤدلج، «تمت معالجة كل مكون من مكونات هذه التقابلات، بمعزل عن الآخر»[13]، وبالتالي فإن الدراسات الإثنوغرافية التي جاب فيها ممثلو البعثات العلمية الحواضر والمداشر والقرى والقبائل، لوصفها وصفا ثقافيا واجتماعيا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا، كان لها الدور الأساس في بلورة مفهوم جديد كان هو “السوسيولوجيا الاستعمارية”، (والتي ستحمل جانبا إيجابيا يتمثل في التوثيق والتأريخ لفترة ما قبل الاستعمار)[14].

فضلا عن هذا، فإن اشتغال الإثنوغرافيين على المجال القروي في هذا السياق التاريخي بالضبط ـ وبمنظور استعماري تجزيئي ـ نبّهَ لاحقا إلى ضرورة إعادة النظر في خصوصية المعطى السوسيوـ ثقافي الذي تطرحه القرية، فضلا عما تثيره من جدية قضايا سوسيوـ أنثروبولوجية أدت إلى دراسة القرية من منظور جديد، وكذا تحليل بنياتها بوصفها كيانا تفاعليا يجيب في حقول معرفية شتى عن أسئلة كثيرة؛ والذي سيؤدي حتما إلى تخصيص فرع جديد ضمن فروع علم الاجتماع، سمي بعد ذلك بـ”السوسيولوجيا القروية”.

 

     ت ـ النشأة الغربية (الأكاديمية) وروادها

بالنظر إلى جملة الإرهاصات التي شكلت القرية موضوعها، فإن التفكير العلمي السوسيولوجي في القرية لم يكن سوى مع منتصف القرن العشرين؛ «فبعد الحرب العالمية الثانية صارت الحاجة أكثر إلحاحا إلى فروع سوسيولوجية تخصصية تفيد في فهم وتحليل أسئلة “الاجتماعي”، وفي ظل هذه الحاجة والأزمة المجتمعية، بدأت مفاهيم عديدة من قبيل العالم القروي (…) والوسط القروي (…) والمجتمعات والجماعات القروية (…) تستحوذ على جانب مهم من النقاش السياسي والاجتماعي الدائر آنئذ»[15]. وعليه فإن نشأة السوسيولوجيا القروية في هذه الظروف كانت بالأساس لفهم تأثير أزمة الحرب في النظم الاجتماعية والاقتصادية في القرية كما في المدينة. فقد «وجد عالِمُ ما بعد الحرب نفسه مدعوا للقضاء على الفوارق التي نشأت بين القرى والمدن، وفي سبيل الوصول إلى ذلك كان لا بد من إصاخة السمع لصوت العلوم الإنسانية، ومن هنا كان من الضروري العمل على “صناعة” سوسيولوجيا قروية تنشغل أساسا بالمجتمع القروي وتفكر فيه وحوله، بهدف تقديم خلاصات وإجابات محتملة بصدد حركياته وفعالياته»[16]؛ فيُخلَصُ هنا إلى أن أزمة الحرب العالمية الثانية كانت وراء ظهور هذا الفرع السوسيولوجي الجديد بأوروبا، وبالتالي بداية التفكير السوسيولوجي العلمي في المجال القروي. ففي «سياق ما بعد الحرب تمت دعوة علماء الاجتماع للاشتغال على القرية أملا في تطوير قدرات التغيير في المجتمع القروي، وقد تُرجِم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا في السوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي والسوسيولوجيا الفرنسية التي اختارت درب المونوغرافيات، وهذان الاتجاهان هما اللذان حسما لحظة التأسيس العلمي للسوسيولوجيا القروية (…) وعلى العموم فالسوسيولوجيا القروية تدين (…) بالكثير إلى السوسيولوجيا الفرنسية والأنثروبولوجيا الأمريكية»[17]؛ ونتيجة لهذا التلاقح المعرفي، مضافا إليه ما تطرحه طبيعة المجال المدروس (القرية)، فلعله أمكنَ القول إن المعرفة الاجتماعية المستخلصة من دراسة القرية، هي معرفة أقرب ما تكون إلى الأنثروبولوجيا منها إلى السوسيولوجيا.

ولقد قام “مارسيل جوليفي” بجرد مجموعة من رواد السوسيولوجيا القروية جردا كرونولوجيا مهتديا «إلى أن الأثر الأول في الدرس السوسيولوجي القروي يعود في فرنسا إلى جان ستوتزل (Jean Stotzel) الذي كان يدرس هذه المادة بمعهد الدراسات السياسية بباريس خلال سنتي 1948 و 1949، وذلك قبل أن يعهد بهذا الدرس إلى هنري مندراس»[18] الذي يعد الرائد المؤسس للسوسيولوجيا القروية، لتكريسه كل جهوده المعرفية للمجال القروي؛ «فقد حاول منذ البدء أن يقدم نموذجا نظريا لتحليل المجتمعات الفلاحية، مستلهما نتائج الأنثروبولوجيا الأمريكية التي انشغلت بالجماعات القروية منذ عشرينيات القرن الماضي (…) وبخصوص العالم الجديد [أمريكا] فيعتبر “ليبرتي هايد بيلي” (1858ـ1954). المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا القروية والصحافة القروية أيضا بالولايات المتحدة الأمريكية»[19]. وفي أمريكا أيضا، فإن السوسيولوجيا القروية خرجت من رحم مدرسة شيكاكو، فمع اشتغال “ويليام إيزاك توماس”، و”فلوريان زنانيك” على الفلاح البولوني في كل من أوروبا وأمريكا ما بين 1918 و 1920، بدأت تتشكل الملامح الكبرى للسوسيولوجيا القروية بالعالم الجديد[20]، لتصبح بعد ذلك مشروعا فكريا ضخما تُتَداول فيه مجموعة من النظريات والمفاهيم، والتراكمات التي عرفتها السوسيولوجيا القروية الأمريكية، والتي جعلتها ذات تقاطعات فكرية موسوعية مع بقية المعارف والعلوم؛ إذ تشهد البلدان الأمريكية اليوم طفرة قل نظيرها في تكامل العلوم والتحامها في كتلة واحدة.[21]

 

2ـ السوسيولوجيا القروية والخصائص النوعية

يختص كل فرع من فروع علم الاجتماع بخصائص نوعية تميزه عن بقية الفروع، وهذه الفرادة إنما تتأتى باختصاص الفرع بالموضوع الذي يدرسه؛ وفي سياق فرع السوسيولوجيا القروية، فإن المجال القروي يشكل محور الاشتغال بكل حيثياته بالنسبة لهذا الفرع.

فمجال اهتمام السوسيولوجيا القروية، وإن اختلفت آراء روادها بخصوص دقائق الأمور في مجال الاشتغال، إلا أنه لا يمكن الاختلاف في محورية القضايا الكبرى التي يؤطرها المجال القروي. فموضوع اشتغال هذا الفرع ـ حسب “هينري لفيفر” مثلا ـ يتركز حول دراسة «الجماعات القروية التي عرّفها بكونها شكلا من التجمعات البشرية أو الاجتماعية المنظمة وفق أنماط تاريخية محددة، أي مجموعة من العائلات المرتبطة في حياتها ووجودها بالأرض. وهذا التحديد قائم على رؤيتين: اعتبار الجماعات القروية إطارا لملاحظة التغير الاجتماعي من جهة، واعتبارها بنيات عميقة ودائمة لبروز الظواهر (…) القروية»[22].

فالجماعة القروية هنا نواة اهتمام هذا العلم، وهي بذلك تثير مباحث فرعية قد تتجلى في دراسة التركيبة الاجتماعية لأهل القرية، من حيث نظم قرابتهم وصلاتهم، ونمط حياتهم من عادات وتقاليد ومختلف التفاعلات الاجتماعية، ومستوى معيشتهم من خلال التعرف على طبيعة مصادر دخلهم وأساليب إنتاجهم، وكذا التحديات المختلفة التي يواجهها الإنسان القروي؛ هذا فضلا عن دراسة العلاقة بين القرية والمدينة من حيث طبيعة تجاذبات الرابطة الاقتصادية بين المجالين القروي والحضري، وكذا الرابطة الاجتماعية التي تتجلى أساسا في الهجرة القروية وما تطرحه من تفاوتات ديموغرافية بين المجالين، إضافة إلى تأثيراتها السوسيوـ اقتصادية، والثقافية.

فضلا على أن سوسويولوجيا القرية تمتد في مقاربتها ضمنيا لاستدعاء المجال الحضري إلى حلقة نقاشها، إذ إنها ثنائية يصعب فصل تجاذباتهما حتى مع محاولة التسييج المنهجي لهذا الفرع عن ذاك؛ فقد «استرعى نظر المهتمين بدراسة المجتمع منذ أجيال بعيدة وجود طابعين متميزين من المجتمعات تختلف طبيعة كل منهما عن الآخر. فهناك الريف (أو القرية) بطابعه البسيط العائلي وثقافته التقليدية (…)، وهناك المدينة بطابع حياتها المعقد، حيث تقوم علاقات الأفراد على المصلحة والمنفعة، وثقافتها سريعة [التغير(**)]»[23]، وفي السياق ذاته فقد قدم العالم الفرنسي “إميل دوركهايم” نظرته إلى العلاقات الاجتماعية في المجتمعين فقال أن المجتمع الريفي أو الجماعة المشابهة له تتسم بعلاقة تماسك [طبيعي] حيث يتعامل أفراد المجتمع تلقائيا ويستجيبون لبعضهم [عفويا(***)]، في حين أن المجتمع الحضري يتميز بتعقده العضوي لاعتماده أساسا على المنفعة المتبادلة في استجابات أفراده وتماسكهم. إضافة إلى “هوارد بيكر” الذي ميز بين قطبي ثنائية المجتمعات المقدسة والأخرى المتحررة، فقصد بالأولى المجتمعات الريفية ذات الثقافات المنعزلة البطيئة [التغير]، وبالثانية المجتمعات ذات الثقافات سريعة [التغير] المتصلة بغيرها من الثقافات الحضرية…[24].

فالسوسيولوجيا القروية إذن، مجال بحثي يشكل كتلة مركبة متشابكة القضايا ذات الصلة بالإنسان القروي؛ سواء تعلق الأمر بطبيعة تمثله للواقع، أو علاقته بالآخر والمجال الجغرافي، وبكل ما ينتج عن ذلك من تفاعلات ممتدة.

 

3ـ السوسيولوجيا القروية والتجاذبات المعرفية

لعل هذه السعة المميزة لمشروع السوسيولوجيا القروية هي مما ولّدَ منها قطبا يتجاوز الدرس السوسيولوجي نفسه، لتلتقي حوله جل المعارف بتنوع تخصصاتها ومقاصدها ومناهجها؛ إذ إن أهم خاصية تحسب لها كونها تعد أنموذجا حيا للتكامل المعرفي والمنهجي، وذلك نظرا لجدية التعالقات الابستيمولوجية التي تثيرها، وتعدد إمكانيات دراستها.

ويمكن إرجاع هذه الامتدادات المعرفية المرنة في سوسيولوجيا القرية، إلى اعتبارات تمليها طبيعة القضايا والانشغالات التي تؤثث بطبيعتها لرحابة علمية متعددة التخصصات. ولعل ذلك راجع أساسا إلى سببين: الأول: «كون الظاهرة القروية تتميز [بالتعقد،] حيث تعرف تداخل البيئي بالاجتماعي، والزراعي بالاقتصادي، والثقافي والسياسي برهانات التنمية»[25]، والثاني: ارتباط الظاهرة القروية بمنهج العلوم التي تتخذها موضوعا للدراسة؛ وفي هذا السياق يشير رائد السوسيولوجيا القروية “هينري ميندراس” إلى أن المجال القروي يشكل حقلا للاشتغال العلمي لمختلف التخصصات في العلوم الانسانية والاجتماعية: فالمجال القروي ـ حسب تجربة “ميندراس” الخاصة ـ لم يشكل قط تخصصا مستقلا؛ فالجغرافيون يقومون بتحليل العلاقة بين الانسان والوسط الطبيعي، والعمل على فهم أشكال التوزيع المجالي للظواهر الإنسانية، كما أن الاقتصاد القروي ـ وهو من أقدم التخصصات المهتمة بالظاهرة القروية ـ يهتم بالإنتاج وأساليبه، والتاريخ الاجتماعي يهتم أيضا بماضي المجموعات البشرية التي كان عيشها يرتبط بالأنشطة الزراعية، كما أن الإثنولوجيين يدرسون البنيات التقليدية التي يبحثون من خلالها على عناصر إنتاج القوت بالنسبة للقرويين؛ إضافة إلى أن علم النفس والديموغرافيا يهتمان أيضا بالمسألة القروية وما يرتبط بها من ظواهر تفيد اهتمامهما[26]؛ والشيء ذاته ميز تجربة السوسيولوجي الفرنسي “مارسيل جوليفي”، وهو الذي عُرِف كثيرا بمفهوم التداخل والتعدد التخصصي في دراسته للقرية[27]. وعليه، «فالسوسيولوجي القروي ينفرض عليه من حين لآخر أن يكون مؤرخا وجغرافيا واقتصاديا وديموغرافيا وإثنوغرافيا وعالم نفس، إذ عليه أن يختبر مناهج كل هذه التخصصات لكي يتمكن من دراسة ظواهره»[28]؛ ولعل هذه الموسوعية الابستيمولوجية في هذا الحقل السوسيولوجي هي من الحقائق الأولية التي تُذَكِّر الباحثَ دائما بكون المجتمع البدوي/ القروي يعد مهد نشوء المجتمع وارتقائه.

عموما، فالبحث السوسيولوجي القروي، راكم نقاشا كبيرا في صفوف الأكاديميين بمختلف تخصصاتهم، مما جعل هذا الفرع يلعب دورا رياديا في جمع شتات العلوم والمعارف. كما أنه ساهم في تقديم هياكل نظرية ومنهجية ومفاهيمية وميدانية كبيرة، مكنته من تفسير معطيات ومحددات الواقع الاجتماعي في القرية.

 

ـ خـاتـمة:

إن السوسيولوجيا القروية رغم نشأتها الرسمية الحديثة، إلا أن كونها تمثل بدايات التفكير الاجتماعي يجعل لها امتدادا ضاربا في التاريخ، ليس فقط في النموذج العربي الذي مثله ابن خلدون في هذا السياق، وإنما يمكن العودة إلى الوراء قرونا طويلة يهتدي فيها الباحث إلى جذور أقدم مهدت للتنه إلى بعض خصوصيات المجتمع البدوي/القروي؛ فهي الجذور المفكَر فيها فلسفيا التي لا تخلو منها جمهورية “أفلاطون”، ولا يخلو منها مجتمع “أرسطو”، ولا “العقد الاجتماعي”، ولا غير ذلك. إلا أن هذا التطلع الزائد يتراجع حين يتعلق الأمر حقيقة بالسوسيولوجيا، بما تمثله من علم ممنهج ذي مبادئ وقواعد وشروط.

واستخلاصا مما سبق، يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات المجملة فيما يأتي:

ـ إن محاولة البحث في التاريخ عن معرفة اجتماعية بطبيعة قروية أقرب ما تكون إلى علم الاجتماع القروي، إنما يمكن تَلَمسُها في التنظيرات الخلدونية التي تناولت البداوة بالتفصيل التاريخي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، مضافا إليها تلك المسوحات الإثنوغرافية ذات المعطيات الملموسة المستقاة ميدانيا ـ وإن شابها الظِهار الإيديولوجي الاستعماري.

ـ تتمثل النشأة الرسمية للسوسيولوجيا القروية في النشأة الغربية متمثلة في الاتجاهين الأمريكي والفرنسي أساسا، بوصفها استجابة “طارئة” للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي عقبت الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإن ظروف الأزمة أملتْ هذه الحاجة الماسة إلى توسيع رقعة مباحث العلوم الإنسانية، والاستعانة بها في إعادة البناء وتنظيم المجال بعد الحرب.

ـ تتجلى خصوصية السوسيولوجيا القروية في كونها علما يدرس البنية الاجتماعية للقرية دراسة تتوجه إلى مجال اشتغالها بتفكيك البنيات بمستوياتها المتعددة، وذلك بغية فهم العلاقات الاجتماعية والتفاعلات السوسيوـ مجالية، والسوسيوـ اقتصادية والثقافية في القرية.

ـ بالموازاة مع حظ السوسيولوجيا في نشأتها على أيدي علماء اجتماع ذوي اطلاعات واسعة، فإن طبيعة التخصص نفسه والظواهر التي يدرسها تجعل الأرضية على استعداد للتكامل المعرفي، مشَكِّلة بذلك مشروعا فكريا طموحا وهادفا.

وعليه، فإن ما يمكن قوله إجمالا في السوسيولوجيا القروية، هو أنها بقدر ما تسعى إلى الدقة في تحديد موضوع اشتغالها الذي هو القرية، بقدر ما تعرج الدراسات نحو جعل هذا المجال غير منفك من حتمية العلاقة الطبيعية الرابطة بينه وبين المجال الحضري؛ ذلك لأن ثنائية القرية والمدينة لا تتوقف عند حدود التسييج المفاهيمي أو المصطلحي، وإنما يتعدى الأمر هذا كله في سياقات تمليها العولمة على كل من القرية والمدينة، حتى تتسرب المدينة إلى قلب القرية وتتسرب القرية إلى قلب المدينة؛ وهو الزحف المتبادل الذي كان من الطبيعي أن يولد في السوسيولوجيا المجالية مباحث جديدة، ويثير فيها إشكاليات عديدة.

 

ـ الهوامش:

1 ـ أمينة كرابية : “المجتمع البدوي ودوره في نشأة العصبية عند ابن خلدون”، مجلة آفاق فكرية، المجلد الخامس، العدد 10، ماي 2019، ص: 134.

2 ـ ابن خلدون: “المقدمة”، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار “يعرب”، دمشق، الطبعة الأولى، 2004، ص: 247.

3 ـ المصدر نفسه، ص: 247.

4 ـ المرجع نفسه، ص: 139.

5 ـ أمينة كرابية المرجع السابق، ص: 134.

6 ـ ابن الخلدون: المصدر السابق، ص: 243.

7ـ المصدر نفسه، ص: 248ـ250.

8ـ المصدر نفسه، ص: 248.

9 ـ المصدر نفسه، ص: 251.

10ـ المصدر نفسه، ص: 254ـ255.

11 ـ المصدر نفسه، ص: 256.

(*)ـ يمكن الإشارة إلى مجموعة من الإثنوغرافيين الذين مثلوا هذا التوجه الاستعماري في الاثنوغرافيا القبَلية بالمغرب، فعلى سبيل المثال، يُذكَرُ “شارل دوفوكو”، و”إدموند دوتي”، ومثله دافيد هارت، و”روبير مونطاني”، و”كيلنر” ..إلخ. فهؤلاء جميعا توجهوا في دراساتهم للقبيلة بوصفها بنية معقدة ينبغي تحليلها وفهم أنظمتها تمهيدا للاحتواء الأوروبي. ورغم المنظور الاستعماري الذي أطر هذه الدراسات الإثنوغرافية بالمجال القروي خلال هذه الفترة، إلا أنها راكمت مادة معرفية مهمة ستساهم بدورها في صياغة علم اجتماع قروي بالمغرب مثلا، خاصة مع “جاك بيرك”  و”بول باسكون”.

12 ـ عز الدين الخطابي (أنظر “مقدمة المترجم: مفارقات الخطاب الإثنوغرافي” من كتاب: أوغست موليراس: “المغرب المجهول”، ترجمة: عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز، طبعة 2007، بدون مكان نشر، الجزء الأول، ص: 8ـ9).

13ـ المصدر نفسه، ص: 9.

14ـ المصدر نفسه، ص: 9.

15ـ  عبد الرحيم العطري: “مقدمة في علم الاجتماع القروي”، موقع “الحوار المتمدن”، (تم الاطلاع عليه في: 28 دجنبر 2021، على الساعة: 10:15)، الرابط الالكتروني:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=79309

16ـ المرجع السابق.

17ـ المرجع نفسه.

18ـ المرجع نفسه.

19ـ المرجع نفسه.

20ـ المرجع نفسه.

21ـ المرجع نفسه.

ـ د. مبارك الطايعي، “السوسيولوجيا القروية”، المحاضرة الأولى، رابط التحميل: 22

https://flsh.uit.ac.ma/images/cours%20en%20ligne/S2S4S62020/Sociologie/S4/1%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%A9.pdf?_t=1618570687

(**)ـ وردت في النص هكذا: “ثقافته سريعة التغيير“، ولعل الأنسب في السياق هو “التغيّر”.

ـ د. علي فؤاد أحمد: “علم الاجتماع الريفي”، دار النهضة العربية، بدون طبعة، بيروت، 1981، ص: 37 (بتصرف). 23

(***)ـ جاءت في النص: “يستجيبون لبعضهم ميكانيكياً”.

24 المرجع السابق، ص: 38 (بتصرف).

ـ د. مبارك الطايعي، المرجع السابق (بتصرف).25

ـ المرجع نفسه.  26

ـ د.عبد الرحيم العطري، المرجع السابق (بتصرف).27

28ـ المرجع نفسه.

 

 

ـ قائمة المصادر والمراجع:

1ـ المصادر:

ـ ابن خلدون: “المقدمة”، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار “يعرب”، دمشق، الطبعة الأولى، 2004.

ـ أوغست موليراس: “المغرب المجهول”، ترجمة: عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز، طبعة 2007، بدون مكان نشر، الجزء الأول.

2ـ المراجع:

ـ أمينة كرابية : “المجتمع البدوي ودوره في نشأة العصبية عند ابن خلدون”، مجلة آفاق فكرية، المجلد الخامس، العدد 10، ماي 2019.

ـ د.علي فؤاد أحمد: “علم الاجتماع الريفي”، دار النهضة العربية، بيروت، بدون طبعة، 1981.

3ـ المراجع الالكترونية:

ـ عبد الرحيم العطري: “مقدمة في علم الاجتماع القروي”، موقع “الحوار المتمدن”، (تم الاطلاع عليه في: 28 دجنبر 2021، على الساعة: 10:15)، الرابط الالكتروني:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=79309

ـ د. مبارك الطايعي، “السوسيولوجيا القروية”، المحاضرة الأولى، رابط التحميل:

https://flsh.uit.ac.ma/images/cours%20en%20ligne/S2S4S62020/Sociologie/S4/1%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%A9.pdf?_t=1618570687