يعد عالم ما وراء الطبيعة عاملا فعالا دائما في حياة البدائي فنراه يلجا إليه لتفسير كل ما يقع إمامه و يعزو إليه من الشرعية و المعقولية ما نعزوه نحن إلى قوى الطبيعة المعترف بها و العقلية البدائية لا تعتمد ألا على الروابط الغيبية و لا تعتمد على ما نسميه نحن سببا و علة لما يحدث .
و تعمد الجماعات البدائية كلها إلى تفسير الموت بغير الأسباب الطبيعية فإذا مات عندهم شخص عزوا موته على وجه العموم إلى أن ساحرا قد حكم عليه بالموت
و قد يتصور البدائيون أمكان وقوع الموت بحادث عارض و لكنهم في اغلب الأحيان يعزون نتيجة ما نسميه نحن بالحادث العارض إلى تأثير سحر شديد و في ذلك يقول هويت ” أذا قتل محارب من أفراد القبائل القريبة من ماريبرا في كوينزلند في أحدى مبارزاتهم الطقسية اعترفوا بان موته يرجع إلى فقدانه المهارة في صد رماح العدو و لكنهم يعتقدون في الوقت نفسه إن فقدان المهارة يرجع إلى سحر ضار قام به أفراد قبيلته .
و ليس هذا الاتجاه العقلي مقصورا على القبائل الاسترالية إذ أننا نعثر علية في صورة جد متشابهة لدى الجماعات البدائية كلها مهما بلغ تباعدها في المكان . ( 1 )
بعبارة أخرى تتوقف حياة البدائيين العقلية و بالتالي ( احداسهم ) على حقيقة بدائية جوهرية و هي أن العالم المحسوس و العالم الأخر لا يكونان في تصوراتهم ألا شيئا وحدا ومجموع الكائنات الغير مرئية لا تنفصل عندهم عن مجموع الكائنات الغير مرئية و ليست الكائنات الخفية في نظرهم بأقل وجودا و نشاطا من الكائنات المرئية بل أنها أكثر منها تأثيرا و إرهابا و لذلك فهي تشغلهم أكثر من غيرها و تصرف عقولهم عن التفكير فيما نسميه نحن بالمدركات الموضوعية و لو إلى حد يسير و ما جدوى ذلك إذا كانت الحياة و النجاح و الصحة و كل شي يتوقف في كل لحظة على القوى الخفية ؟
و يمكننا على وجه الإجمال أن نقسم التأثيرات الغير مرئية التي تشغل العقلية البدائية بصورة دائمة إلى ثلاثة أقسام و ان كانت كثيرا ما تتداخل بعضها في بعض و هذه الأقسام هي أرواح الموتى و الأرواح بالمعنى الأعم للكلمة و أخيرا الطلاسم و التعاويذ التي تعد من فعل السحرة . ( 2 )
و يذكر” مالينوفسكى ” أن السحر يلعب دور هام فئ حياة التروبربانيين فهو ضروري للزراعة و لحماية الأطفال و كذلك في حالات الحب و علاوة على ما تقدم فللسحر أهميته في صناعة السفن فهو ضروري لجعل السفينة تسير بسرعة و أمان كذلك يعتقد الاهالى أن المرض و الصحة و الوفاة تنتج عن السحر و إن الرؤساء يستفيدون من السحر و يستفيد ون من قوة السحر في التغلب على أعدائهم فعندما يشك حاكم القرية في وجود مؤثرات ضده فانه يسلط عليهم السحرة للانتقام منهم . ( 3 )
و يحلل مالينوفسكى في عمل أخر له السحر عن البدائيين و يرى أن الاعتقاد فيه لا ينقص بل على العكس يزداد رغم وصول المبشرين و انتشار بعض التعليم و هو يرى إن السحر عند البدائيين أنما يتسم بأشياء تقال و أشياء تؤدى و شخص يقوم بشعائر معينه و بذلك فثمة 3 أضلاع للسحر و هي الرقية و الطقس و حالة الشخص الممارس للسحر ( 4) .
و هكذا هو الحال في معظم الجماعات البدائية حيث يقف السحر دائما بالمرصاد ليحدث شرا أو ليتسبب بالخسارة فهو في حالة أمكان دائم للشر ينتهز كل فرصة تلوح له لينفذ سهمه و هذه الفرص ليست محدودة العدد و لذلك لم يكن في إمكان القلق الدائم الذي يعيش فيه البدائي أن يسمح له رغم ذلك بادراك الشر الذي يقع قبل وقوعه لكي يحاول منعه فخوف السحر ماثل أمامه بصفة مستمرة و لكنه رغم ذلك واثق انه سيكون ضحيته و لعل في ذلك سببا من أهم الأسباب التي تفسر لنا شدة حنق البدائيين على الساحر حينما يكتشفونه آذ أن الأمر لا ينحصر عندهم في معاقبة الساحر على الشرور الماضية التي عانوها بسببه و التي لا يعرفون عددها أو مداها و أنما يريد البدائيون أن يقضوا مقدما على الشرور التي يستطيع الساحر أن ينزلها بهم في المستقبل و تنحصر وسيلتهم الوحيدة في قتل الساحر في إلقائه في اليم أو حرقه بالنار و في نفس الوقت فان هذا الأجراء يقضى على روح الشر التي تحل فيه و تتخذه مطية لنشر شرورها .
و تنطوي كلمة ساحر لدى المجتمعات البدائية على فكرتين فالشخص الذي يشار أليه بهذه الكلمة يعتقد :
( أولا ) أن لديه القدرة أو المعرفة الكافية لممارسة الفنون الخفية .
( ثانيا ) انه يتعاطى أكل اللحم البشرى و هذا المعنى الثاني وهو الغالب فالسحرة يقتلون ضحيتهم لكي يأكلوها .
كما أن السحر من أعظم الكبائر التى يمكن لبشرى أن يرتكبها فهم يتساوى مع القتل بل هو اشد منه لأنه يتضمن الاتهام بالقتل ثم يضاف إليه فكرة مبهمة من النمنمة فالساحر يقتل الكائنات البشرية ليطعم لحمها(5)
كما يسود الاعتقاد أيضا في تلك الجماعات بان الساحر يمكنه في اغلب الأحيان الحصول على نتيجة التي يرغب في الوصول إليها بمجرد أن يفكر فيها دون الحاجة إلى استعمال رقية سحرية أو طقس خاص و ذلك لان الساحر يستطيع إن يسبب شرا مستطيرا دون جهد كبير إذ يكفيه أن يركز تفكيره و يوجه إرادته نحو الشيء الذي يريد وقوعه فيقع هذا الشيء حتما و هو اقدر على ذلك من غيرة فيمكنه إذا أراد أن يجر الموت و الخراب و الحزن إلى جارة أن يفعل ذلك بكل سهوله و دون أن يلفت نظر الآخرين له و إزاء هذا الخطر كان لابد على المواطنين أن يتخذوا احد الموقفين فإما أن يعملوا على ضمان وده و أما أن يبيدوه و هذا هو السبب الجوهري للامتيازات التي يتمتع بها و التي لا يجرؤ احد على أن يعارض فيها أو يمنعها عنه .
و سوف نجد انه إلى جانب هذا الاتجاه العنصري الفطري نجد من يفسر ظاهرة السحر و ممارساته في المجتمعات البدائية على أسس سوسيولوجية كما أوضحت د. سامية الساعاتي في كتابها السحر و السحرة . فيذهب نادل على سبيلا المثال إلى أن السحر يقوم بتلبية نواحي اجتماعية ناجمة عما يعتر الجماعة من مظاهر القلق و الضغوط و هو يشبع نواحي متعددة حيوية و اجتماعية و سيكولوجية و بذلك يعد السحر أيضا وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي. ( 6 )
المــــراجــــــــع
(1) انظر ليفي بريل ، العقلية البدائية ، ترجمة محمد القصاص ص26 ،ص27
(2) انظر د. سامية الساعاتي ، السحر و السحرة ، ص28
(3) نقلا عن سامية الساعاتي ، المصدر السابق ، ص28
(4) انظر د. سامية الساعاتي ، المصدر السابق ، ص29
(5) انظر ليفي بريل ، المصدر السابق ، ص156 ، 238
(6) انظر د. سامية الساعاتي ، المصدر السابق ، ص35
اعداد الباحثة / وسام سعد
المعهد العالى للفنون الشعبية
اكاديمية الفنون