موقع أرنتروبوس

الزواج في إفريقيا.. النسق القرابي وطريقة تكوين الأسرة

zawafri

محمد عبد العزيز الهواري*
تنتمي شعوب إفريقيا إلى جماعات عرقية وجنسية ولغوية ودينية عديدة، والواقع أن هذا التعدد ينشأ عنـه تفاوت كبير في أنماط العلاقات الاجتماعية والأسرية وأنواعها في البيئة الإفريقية، وليس هدفنا في هذا المقال حصر جميع الأنماط الأسرية والعلاقات القرابية القائمة، وإنما إلقاء الضوء على بعض النماذج لصور الزواج وما تمثله من علاقات قرابية، مركزين على النماذج والأنماط الأبرز والأكثر انتشاراً في القارة الإفريقية، مع ذكر أهم أهداف الزواج «الإفريقي» ووظائفه وما ينتج عنه من روابط، فكثير مما يتعلق بالعلاقات الأسرية والزواج الإفريقي ينعكس تأثيره على النواحي الاقتصادية والسياسية داخل القبيلة، ويتعدى ذلك أحياناً إلى التأثير في العلاقات الخارجية للقبائل والعشائر والعائلات.
ويمثل موضوع القرابة وما يتصل به من زواج وتكوين أسرة مركزاً رئيساً في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، وربما كان السبب الرئيس في اهتمام العلماء بدراسة القرابة هو دورها المهم في العلاقات القرابية وروابطها في حياتنا اليومية.
تعريف القرابة:
يستخدم العديد من علماء الأنثروبولوجيا مصطلح «قرابة» مرادفاً لمصطلح «روابط الدم»، ومن هنا يمكننا تعريف القرابة بصفة مبدئية بأنها تلك «العلاقات المباشرة التي تنشأ بين شخصين نتيجة لانحدار أحدهما من صلب الآخر, كما ينحدر الحفيد مثلاً من الجد عن طريق الأب، أو نتيجة لانحدارهما معاً من سلف واحد مشترك, كالعلاقة بين أبناء العمومة التي تُرد هي أيضاً إلى الجد عن طريق الأعمام»(1).
الزواج والأسرة:
علاقة الرجل بالمرأة من خلال نظام الزواج هي حجر الأساس الذي يقوم عليه شكل النظام القرابي في المجتمع، فهي تؤدي إلى إيجاد روابط قرابية لم تكن موجودة من قبل كالأب والأم، ومن قرابة المصاهرة بين أقارب الاثنين، وهي تعمل بذلك على توسيع علاقات المشاركة بالتواصل بين أفراد المجتمع.
«ويعد الزواج الأساس الذي تقوم عليه الأسرة؛ حيث يعتبر نظاماً اجتماعياً تنطبق عليه أهم خصائص النظم الاجتماعية؛ فالزواج يقوم بأداء وظيفة هامة في الحياة الاجتماعية في كافة المجتمعات, وهو يعتبر نوعاً من السلوك المقنن، ويتمتع بقدرة كبيرة على الصمود في وجه التغييرات التي تحدث في المجتمع»(2).
«فإذا كان الزواج رد فعل واستجابة لدوافع الجنس عند الإنسان؛ إلا أنه يتم أيضاً من خلال نسق ثقافي خاص بنظام الزواج؛ من حيث الاكتفاء بزوجة واحدة أو الاقتران بعدة زوجات مثلاً، ومن حيث الأفراد الذين يجوز الزواج من بينهم كالزواج داخل الجماعة القرابية, ويشمل ذلك أيضاً من يحرم الزواج منهم.
ومن حيث الإجراءات التي تتخذ في سبيل تحقيق الزواج، مثل: الخطبة والمهر وقيمته وعقد الزواج ومظاهر الاحتفال به، وما يترتب على الزواج من حقوق كالميراث»(3).
أنواع الزواج في المجتمع الإفريقي :
للزواج في إفريقيا خمسة أنواع هي:
النوع الأول: الزواج الأحادي monogamy :
وهو اقتران رجل واحد بامرأة واحدة في الوقت نفسه، وهو النظام الشائع الآن في معظم المجتمعات الإفريقية المتحضرة المتغربة، ويمثل في نظر التطوريين آخر مرحلة من مراحل الزواج.
النوع الثاني: تعدد الزوجات لرجل واحد polygamy :
وهو من الأنماط الزوجية الأكثر تفضيلاً وانتشاراً في أجزاء كثيرة من إفريقيا، ويبدو أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بالظروف الاقتصادية أو مرحلة الاعتماد الأولى للمجتمع على الرجال والنساء.
وهذا النظام يوجد في المجتمعات التي تقوم فيها النساء بمعظم الأعمال، وتعد كل زوجة في هذه الحالة رافداً اقتصادياً للأسرة، كما يوجد في المجتمعات التي يتحمل فيها الرجال العبء الأكبر من العمل، ومن ثم تعد الفتاة في هذه الحالة عبئاً اقتصادياً بخلاف الحالة السابقة، والرجل الفقير في إمكانه الجمع بين عدة زوجات إذا لم يكن هناك مهر مغالى فيه لإتمام عملية الزواج.
النوع الثالث: تعدد الأزواج للمرأة الواحدة polyandry :
وهذا النوع النمط من الزواج أقل انتشاراً مقارنة بتعدد الزوجات للرجل الواحد، وله شكلان:
– إما زواج المرأة الواحدة من عدة رجال أشقاء.
– أو زواج المرأة الواحدة من عدة رجال ليسوا أشقاء.
وقد يرتبط هذا النوع من الزواج بظروف خاصة ولفترة محددة من الوقت، فقبائل «الواهو» في شرق إفريقيا يحدث بها هذا النوع من الزواج عندما يكون الرجل فقيراً إلى درجة أنه لا يستطيع الزواج، ومن ثم يقوم إخوته بمساعدته مالياً، ومن ثم يشاركونه حقوق الزوجية حتى مرحلة الحمل.
النوع الرابع: زواج الجماعة group marriage :
هو شكل غير منتشر في إفريقيا بكثرة، وفيه يحق الاتصال الجنسي بين عدة رجال ونساء محددين دون تحمل مسؤوليات اقتصادية.
النوع الخامس: الشيوعية الجنسية promiscuity :
وتكون النساء جميعهن في المجتمع حقاً مشاعاً لجميع الرجال والعكس صحيح؛ دون التقيد بنظام الزواج، فعند قبائل «الباري» في شرق إفريقيا لا ينظرون إلى الاتصال بفتاة متزوجة بوصفه عملاً شائناً، بل حمل الفتاة قبل زواجها لا ينقص من قيمتها(4).
أنماط الزواج بإفريقيا:
1– الزواج الداخلي Endogamy:
وهو ذلك النمط الذي يباح فيه للرجل أن يتزوج امرأة من عائلته أو من بيته؛ بشرط ألا تكون من أحد فروعه أو أصوله.
ويؤدي هذا الزواج وظيفة مهمة في النظام القرابي؛ حيث يُسهم في دعم الحياة الاجتماعية والمحافظة على البناء الاجتماعي، وهو ما يساعد على تقوية الوحدة القرابية وتدعيمها وتماسكها؛ لأنه يحفظ الثروة من أن تنتقل بالوراثة عن طريق النساء لجماعات غريبة عن القبيلة أو العائلة(5).
والزواج الداخلي يقوي الجوانب الاقتصادية، فمثلاً في مجتمع البقارة(6) نجد أن المهر يدفعه أهل العريس في شكل أبقار ونقـود؛ وبذلك تنتقل الأبقار بسهولة ويسر داخل المجموعة القرابية، وهذا أمر في غاية الأهمية للقبائل الرعوية، والتي لا يعنيها في الحياة إلا أن تحافظ على الحد الأدنى من حجم القطيع للحفاظ على قيمته الاقتصادية التي تؤثر في المكانة الاجتماعية والسياسية لأصحاب هذا القطيع(7).
2– الزواج الخارجي Exogamy:
وقد يُطلق في بعض الأحيان على الزواج الخارجي مصطلح «الزواج الاغترابي»، وهو يعتمد على نوع من تحريم خاص؛ حيث يكون محظوراً على الرجال الزواج من العائلة لسبب من الأسباب أو لبعض المعتقدات.
يرى بعض العلماء مثل «دور كايم» أن الزواج الخارجي ذو أصل طوطمي؛ حيث يفترض هؤلاء العلماء أن الانتماء إلى طوطم(8) معيّن يخلق يوجد علاقات اجتماعية تشبه علاقات أخوة الدم؛ على أساس أن أعضاء الجماعة الطوطمية انحدروا جميعاً من هذا الطوطم؛ وعلى ذلك فإن الزواج الداخلي فيما بينهم يعد نوعاً من زنا المحارم.
والزواج الخارجي أو الاغترابي يـؤدي وظيفة مهمة في المحافظة على البناء الاجتماعي؛ حيث إنه يهدف إلى توسيع نطاق دائرة القرابة إلى أبعد من حدود الجماعة القرابية المتعاونة.
وظائف الزواج الإفريقي:
تستند فكرة الوظيفة التي تطبّق على النظم الاجتماعية إلى التماثل (المماثلة) بين الحياة الاجتماعية والحياة البيولوجية؛ وبذلك تكون وظيفة كل نظام اجتماعي هي ذلك الدور الذي يؤدّيه هذا النظام في البناء الاجتماعي، والذي يتألف من أفراد مرتبطين بعضهم مع بعض في وحدة متماسكة من العلاقات الاجتماعية.
فكل عضو بجسم الإنسان له وظيفة محددة تنعكس على الجسم بأكمله، وكذلك النظم الاجتماعية المختلفة لها وظائف تؤديها داخل المجتمع.
يرى (رادكليف بروان) أن وظائف الزواج الإفريقي تدور بين ثلاث وظائف رئيسة:
أولاً: الزواج يمثل نقلاً للحقوق القانونية للمرأة من نسبها إلى زوجها، ولا تقتصر على ما يخص العمل والعلاقة الجنسية والإنجاب، ولكن تشمل أيضاً الحق في الحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقت بها من الآخرين.
ثانياً: الزواج يؤدي إلى حد ما إلى تمزقات، وذلك حين تنتقل الزوجة من بيت أهلها وتنضم لعائلة زوجها، أو العكس في بعض الأحيان حيث ينضم الزوج لعائلة زوجته, وبذلك يحدث انقطاع في العلاقات بين الزوجة وأهلها في حالة انضمامها لأهل زوجها، ولا تقيم علاقات مع أهلها السابقين، أو العكس في حالة انضمام الزوج لأهل زوجته.
ثالثاً: الزواج تحالف واتفاق بين عائلتين أو مجموعات قرابية، فالزواج لا ينظر إليه في إفريقيا بوصفه مجرد علاقة بين شخصين، ولكنه صلات هيكلية جديدة بين المجموعات(9).
نموذج عملي للزواج في قبيلة «الدينكا»:
ونأخذ هنا مثالاً عملياً لقبيلة تمثل 11% من عدد سكان السودان و 50% من عدد سكان جنوب السودان، وهي قبيلة «الدينكا» التي تعد من أهم المجموعات القبلية في جنوب السودان، وتمتد جغرافياً وتتوزع في ولايات بحر الغزال وجونقلي وأعالي النيل وتمتد حتى جنوب كردفان. وتعد قبيلة «الدينكا» من القبائل الإفريقية الكبيرة بعد «الزولو» في جنوب إفريقيا و«الماساى» في كينيا.
وينتمي مجتمع «الدينكا» إلى نوع من المجتمعات التي لا يستطيع الرجل فيها أن يتزوج من امرأة تمد له بصلة قرابة، و«الدينكا» يعرفون أنواعاً متعددة من العلاقات القرابية التي تربط بينهم، فهناك العلاقات القرابية التي تربط بين أبناء العشيرة الواحدة، أو العلاقات القرابية التي تنشأ عن المشاركة في مهر العروس (10).
ونجد أن العلاقات القرابية القائمة على أساس المصاهرة قد ساعدت على اتساع دائرة العلاقات، كما ساعدت على زيادة كثافة التفاعل في المناشط الاجتماعية المتنوعة التي يشارك فيها الأقرباء, وقد أدت هذه العلاقة إلى مزيد من قدرة النسق القرابي، وأن يكون إطاراً للوحدة السياسية.
وعلى كل حال فإن العلاقات الاقتصادية والأيديولوجية والاجتماعية لها صفة القرابة، ويتصرف الناس تجاه أفراد مجتمعهم كما لو أنهم كانوا أقرباء حقّاً في أوسع التنظيمات العشائرية؛ حيث ينتمي المئات إلى الجد نفسه، وقد تبتعد صلات الرحم بعيداً.
الزواج:
إن الزواج هو الوضع الاجتماعي الضروري لكي يكون المرء رجلاً مكتمل الرجولة، ومستحقاً للحصول على حقوقه القانونية من استقلال عن الأسرة، فالزواج يجعل له ذمة منفصلة, لذا فهو البدء للاستقلال عن الأسرة والشروع في تأسيس سلالة جديدة.
صحيح أن علاقات الغزل والحب بين شباب «الدينكا» ليست مرتبطة دائماً وموجهة نحو الزواج، بل ينظر إليه كأمر معيب أن يتسرع الرجل في نيته للزواج كوسيلة لكسب ود فتاة؛ لأن هذا دلالة على استغلاله للزواج في جذب الفتاة الدينكاوية من خلال علاقات الغزل والحب التي لا بد أن تكون سابقة للزواج، ولكن مع ذلك يظل الزواج هو أمل كل دينكاوي.
هناك أسباب عديدة لكي يكون للزواج هذا الوضع المتميز في مجتمع الدينكا، أحد هذه الأسباب هو الرغبة في تأسيس علاقة (رجل – امرأة) معتمدة اجتماعياً (11).
وحينئذ يتوجب على الشاب، قبل أن يخطب فتاة، أن يحصل على موافقة رفاقه في فئة عمره؛ فهم الذين يرافقونه أثناء ذهابه إلى منزل والد الفتاة من أجل أن يخطبها، وأما المهر فيشتمل عادة على عدد من رؤوس الأبقار والماعز بالنسبة إلى العشائر التي تعتمد في حياتها على رعي الماشية، بينما العشائر التي تهتم بصناعة الحديد فيكون المهر عبارة عن عدة قطع حديدية يستخدمها أهل الفتاة في حياتهم العملية.
ويمكن الاتفاق على دفع المهر بالتقسيط، وليس من المفروض أن يتم تسديد المهر حتى يتم الزواج؛ بحيث يمكن للعريس أن يقدم باقي المهر بعد الانتهاء من الزواج، وقد يقدم العريس أحياناً عدداً من الأبقار والماعز، وحربة لصيد فرس النهر, وصفائح من السمن وكميات من الأسماك، ولا يكون تحمّل المهر من منزل ذويه فقط، بل يكون أيضاً من أقاربه، وقد يوزّع والد العروس المهر الذي يُقدم له إلى أفراد أسرته.
ويتبين من ذلك أن الأقارب عون للعريس على دفع مهر العروس؛ لأن عدم مقدرة العريس على دفع المهر قد يسيء إلى سمعة أفراد عشيرته؛ ومن هنا كان للأقارب دور مهم في مثل هذه الحالة، أما والدة العروس فتقدم لابنتها وعاءً كبيراً ومحركين للحساء وبعض الملاعق.
وتكون المرحلة الأخيرة هي «زفاف العروس إلى عريسها» والتي قد تتبع دفع المهر بفترة قصيرة، إلا أنه من المعتاد أن تمضي عدة أشهر وأحياناً عدة سنين قبل أن تقوم العشيرة بزفاف الفتاة، وخلال الزفاف يجري طقس غسل فم العروس حتى تتمكن من تناول الطعام في بيت أقرباء زوجها.
الطلاق:
قد تكون أسبابه متمثلة في العقم، وعدم الوفاء للزوج، أو عدم قدرة الزوجة على طهي الطعام جيداً، أما حالة الزنا فلا تعد سبباً من أسباب الطلاق؛ لأن الزاني يجب أن يدفع للزوج غرامة قد تتراوح بين 5 – 8 رؤوس من الأبقار إذا فعل الزنا مع الزوجة (12).
ويفسر «الدينكا» ذلك بأن الرجال عادة هم الذين يبادرون في هذه المسائل، بينما تكون النساء في الغالب ضحية لعدوانية الرجال الجنسية، ولكنهم يعترفون أيضاً بأن للنساء أساليبهن الخفية، وأحياناً المباشرة لاستدراج الرجال. بعض الرجال ينقمون بشدة على الوضع الذي يُحمّـلهم وحدهم النتائج القانونية المترتبة على الزنا، بينما تترك الشريكة الراغبة – وأحياناً المتسببة في هذه المسألة – حرة لا يمسها سوء، بل وينتفع زوجها من الجرم الذي حدث (13).
على الرغم من أن الرجل يتحمل المسؤولية القانونية إلا أن قيم «الدينكا» تلقي بالمسؤولية الأخلاقية على المرأة، وتعدها الأكثر فساداً، ولا يعني تعويض زوجها، أو إرضاؤه من جانب الزاني، أن علاقتهما في إطار الأسرة ستكون علاقة ودودة، بل غالباً ما يدفعه غضبه إلى التخلص من الأبقار التي حصل عليها كتعويض عن الواقعة في زيجة جديدة، وهو في كل الأحوال يمتنع عن شرب ألبان مثل هذه الأبقار أو أكل لحومها، أو تناول أي طعام تم الحصول عليه من ثمن بيعها.
وتظل العشيرة الأبوية متابعة ومهتمة بشؤون الزوجة طول حياتها الزوجية، وهي تهرع للوقوف بجانبها كلما اقتضت الحاجة ذلك، وفي الحالات التي تخطئ فيها في حق زوجها تسعى عشيرة الزوجة الأبوية لإرضائه بدفعة من الأبقار تسمى «أويك»، فأما إذا كانت هي الشاكية فعادة ما تعد مسألة أسرية، ولكن في الحالات التي تتعرض فيها حقوق الزوجة لانتهاكات خطيرة فإن عشيرتها تتدخل, وقد ترفع الأمر إلى القضاء في بعض الحالات القصوى، ويمكن أن ينتهي النزاع بالطلاق، سواء جاءت المبادرة من الرجل أو من المرأة أو أقاربها. غير أن الطلاق عند «الدينكا» أمر بغيض ونادر الحدوث بصورة عامة، وهو يمثل – حتى في النواحي الاقتصادية – فعلاً لا يرغب أحد فيه لما تطرحه شروط إرجاع مهر الزواج من تحديات وتعقيدات، فعندما يكون الزوج هو المخطئ لا يكون من حقه طلب إرجاع المهر إلا بعد زواج المرأة من جديد، وبعد أن يكون زوجها الجديد قادراً على تعويض الزوج السابق، وهو أمر غاية في الصعوبة؛ لأن الأبقار تكون قد تكاثرت حتى ذلك الوقت.
أما في الحالات التي يكون فيها الخطأ من جانب الزوجة أو أقربائها، فينتظر منهم أن يقوموا في الحال بإرجاع الأبقار نفسها التي دفعت لهم إذا كان ذلك ممكناً. وإذا كانت هذه الأبقار قد دخلت في زيجات أخرى أو تم توزيعها بصورة ما؛ فيجب اقتفاء أثرها وإرجاعها (14).
أما تسمية الأطفال؛ فالعادة عند «الدينكا» أن يأخذ الأبناء أسماء أجدادهم وأقارب الأب والأم، ولا يُعطى الاسم للمولود إلا بعد أن يبلغ من عمره 6 – 7 أشهر، وقد أخذت هذه القبائل طريقة عملية الختان عن العرب عندما فتحوا السودان، ويتم الختان في عمر يتراوح بين 5 – 7 سنوات للذكور والإناث على السواء (15).
مراحل التكريس عند الأبناء:
مراحل التكريس هي مراحل تسعى بذكور القبيلة نحو الانفصال والاعتماد على الذات، وتبدأ عملية التكريس الأولى عند الذكور بالختان في عمر 5 – 7 سنوات، ولا يُستثنى سوى المعتوه أو المريض بمرضٍ مزمن، وكل طفل لا يمر بهذه الحالة ينتقدونه اجتماعياً ويسخرون منه كما لو أنه ارتكب عملاً سيئاً ضد رفاقه.
وتبدأ مرحلة التكريس الثانية عند الأولاد البالغين الناضجين في فئة عمر واحدة بعمل عدة جروح دامية على الجبهة في احتفالات اجتماعية.
وتبدأ مرحلة التكريس الثالثة عندما تزيد قوة الصبيان وتبرز أسنانهم كلها كاملة بحجمها الطبيعي عند الناضج في العمر, فيتم خلع الأسنان الأربعة الأمامية (العليا، والسفلى)، ويعدون ذلك من المظاهر الجمالية.
أما التكريس الرسمي فإنه يتم ما بين سن 16 – 18، وهو من أهم التجارب أو الخبرات التي تعترض الصبي عند «الدينكا» في حياته، فهو لا يخرج من صفوف الصبية أو الأطفال في نظر المجتمع قبل أن يجتازها ويظل يقوم بالأعمال المعتادة مثل حلب الأبقار، والذهاب إلى المراعي، والقيام بأغلب النشاطات المرتبطة بتربية الماشية. أما الذين اجتازوا طقوس التكريس فإنهم لا يقومون بمثل هذه النشاطات إلا في ظروف استثنائية (16).
وهكذا نرى أن النسق القرابي هو أساس البناء الاجتماعي في مجتمع «الدينكا»؛ فشبكة العلاقات القرابية وما يرتبط بها من علاقات اقتصادية وسياسية وشعائرية تستند إلى البناء القرابي وتدعمه, وهو بدوره يتفاعل مع الأبنية الاجتماعية الأخرى التي تكوّن نسقاً كلياً.
وهذا هو النمط الشائع في العلاقات الاجتماعية بين القبائل الإفريقية، فالزواج بوصفه نسقاً قرابياً من أهم النظريات التي توضّح طبيعة العلاقات وبخاصة في المجتمعات البسيطة.

الإحالات والهوامش:

(1) د. محمد عبده محجوب: أنساق البحث الأنثروبولجي. دار المعرفة الجامعية, ط 2, ص 153.
(3) كـريم زكي الدين: القرابـة.. دراسة أنثرولغوية لألفـاظ القرابة في الثقافة العربية. مكتبة الأنجلو, ص 243 (بتصرف).
(4) بحث الزواج، إعداد حنان سليمان أحمد – مقدم لمعهد البحوث والدراسات الإفريقية – القاهرة – قسم الأنثروبولوجي – غير منشور.
(5) محمد عبده محجوب: الأنثروبولوجيا الاجتماعية. دار المعرفة الجامعية – 2006م، ص: 19 – 197 (بتصرف).
(6) «البقارة»: أو عرب البقارة هي قبائل بدوية انتشرت في حدود القرن الرابع عشر وحتى القرن الثامن عشر عن طريق شمال إفريقيا، حيث كانوا مستقرين هناك، وقاتلوا وحكموا في الأندلس، وعادوا إلى شمال إفريقيا بعد انهيار الدولة الأموية واستقروا في المغرب والجزائر والسودان وتونس ومصر وليبيا وتشاد، حالياً تعيش أكثر هذه القبائل في إقليم دارفور السوداني بشكل أساسي، وتنتشر أيضاً في بعض المناطق النيلية وبحيرة تشاد وموريتانيا والنيجر والكاميرون, وتشترك هذه القبائل في اللهجة والدين الإسلامي.
(7) سعدية عبد الرحيم السويفي: الهجرات الموسمية لقبيلة «البقارة» بالسودان. رسالة ماجستير غير منشورة – معهد البحوث والدراسات الإفريقية جامعة القاهرة 2006م، ص 88.
(8) الطوطم: كائن يمثل رمزاً للقبيلة، قد يكون طائراً أو حيواناً أو نباتاً أو ظاهرة طبيعية أو مظهراً طبيعياً، مع اعتقاد القبيلة الارتباط به روحياً، ويقدسونه بوصفه المؤسس أو الحامي، كما تستخدم كلمة «طوطم» تعبيراً عن علاقة اجتماعية (قرابة) قائمة بين شخصين.
(9) رادكليف بروان: الأنظمة الإفريقية للعلاقات القرابية والزواج. ط 1950م (بتصرف).
(10) عبد العزيز شاهين: الحياة الاقتصادية والاجتماعية لقبيلة الدينكا في جنوب السودان. أعمال ندوة معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، لسنة 2001م، ص 187.
(11) فرانسيس دينق: «الدينكا» في السودان. ص 161.
(12) عبد العزيز شاهين، مرجع سابق، ص190 – 191.
(13) فرانسيس دينق، مرجع سابق، ص 173.
(14) فرانسيس دينق, مرجع سابق, ص 175 – 176 .
(15) عبد العزيز شاهين, مرجع سابق, ص 191.
(16) فرانسيس دينق, مرجع سابق, ص 191 – 192.

* صحفي مصري

Exit mobile version