موقع أرنتروبوس

الدين والأنثربولوجيا

22 

 

أبو بكر بن أحمد باقادر

 

منذ بدء ظهور الاهتمامات المبكرة للأنثروبولوجيا بثقافات المجتمعات ومحاولة فهم مدى الفروق والاختلاف بين ماضي المجتمعات وحاضرها أخذ السؤال حول كيف وكم تؤثر العقائد على تشكُّل الناس وفهمهم للطبيعة والعلاقات القائمة بينهم. ولعل النصوص الدينية ــ وبالذات في الكتاب المقدس بسبب إيرادها أوصافاً وتفاصيل عمّا كانت عليه حياة أسلاف الشعوب الحديثة في تصرفاتهم وأفعالهم الحياتية اليومية – ما دفع بعض المفكرين لطرح السؤال الآتي: هل مرّت البشرية بتحولات لتصبح على ما هي عليه اليوم؟ ونظراً إلى شيوع مفهوم التطورية تولد الفضول المبكر المفضي إلى إثارة أسئلة حول كيف كان يعتقد أو يفسر الإنسان في الماضي علاقاته بالطبيعة وسعيه للإجابة عن الأسئلة المصيرية الكبرى؟ ولمّا بدأ الإنسان في تحقيق شيء من القدرة على التحرك من موطنه إلى أماكن موغلة في البُعد، وكذلك للتعرف على شعوب مختلفة جداً وربما -من منظور تطوري- تنتمي إلى مراحل تاريخية قديمة جداً، طرأت فكرة أنه عند تأمل ودراسة هؤلاء الأقوام ربما كان بإمكاننا تتبع ما كان عليه أسلافنا في مراحل تاريخية قديمة. ولقد ساعدت تجارب الرحالة المستكشفين على تراكم بيانات ووصف جوانب من حياة وعادات وتقاليد هذه الشعوب، وعند مقارنتها مع بعض البقايا السلوكية التي جمعها باحثون محليون عن العادات والتقاليد التي لا تزال آثارها باقية في حيوات أفراد مجتمعاتهم وبالذات في الأرياف وبعض أفراد المجتمع ممّا يتعارض أحياناً مع مستوى التطور الذي حققه المجتمع الحديث، فجر ذلك فكرة أن دراسة المجتمعات المتوحشة التي لم تتطور -كما تطورت المجتمعات الأوروبية- يمكن من خلال ذلك فهم ما كان عليه أسلافهم، فهذه الشعوب والثقافات يمكن اعتبارها نسخة مجمدة لما كانت عليه حالة الأسلاف. وأصبح المطلوب هو دراسة وفهم الحالات الأكثر بساطة وبدائية، حتى تكون المادة الأولية لتتبع مسار تطور مفهوم البشرية بخصوص الدين انطلاقاً من أفكار كانت سائدة حول وحدة النفس البشرية من حيث الأصل. وعلى الرغم من أن العديد من المفكرين وأوائل الباحثين الأنثروبولوجيين، سعوا لاكتشاف مجموعات إنسانية ليست لديها أية مفاهيم أو أفكار تنمّ عن غياب أي تصورات دينية إلا أن ذلك لم يتحقق؛ أي أن المجتمعات البسيطة الأولية التي تعرَّف عليها المفكرون الأوائل من أصحاب الفضول المعرفي الأنثروبولوجي، وجدوا أن مفهوم الإيمان بقوى فوق طبيعية ووجود تصورات ميثالوجية حول خلق الكون كانت موجودة بصورة أو بأخرى في كل المجتمعات البشرية، حتى أكثرها بساطة وبدائية، مثلما كانت عليه الحال في قارة أستراليا التي تعرَّف المستكشفون على سكانها الأصليين الذين كانوا يعيشون حياة بسيطة جداً، ربما كانت الأكثر بساطة وبدائية بين معظم السكان الأصليين الذين تمّ التعرف عليهم، ولذا اقتضى ذلك أن تزداد كمية التقارير والكتابات التي أعدّها المستكشفون والرحالة. وهذه الأدبيات الفردية الانطباع، شكلت الرصيد الوصفي الأول كمادة وبيانات “علمية” للعديد من الدارسين، لما يمكن أن يسمى بأنثروبولوجيا الكراسي الوثيرة لعلماء “تخصَّصوا” في تتبع ودراسة الظواهر الفلكلورية أولاً في حياة مجتمعاتهم، ولاحقاً في محاولةٍ لدراسة ما كان آخذاً في التراكم والتوسع مع ملاحظات وتقارير الرحالة والمستشكفين في محاولة -عند القيام بالمقارنات فيما تراكم من كتابات- للخروج بتصورات نظرية عامة. من هذه الملاحظات العامة، أخذت تتبلور تفسيرات وشروح واصفة لما كان عليه سلوك هؤلاء السكان الأصليين، وسعي حثيث لتفسير وتأويل الكيفية التي فكر بها هؤلاء لتبرير تصرفاتهم الحياتية واليومية، ولماذا نجد أحياناً بعض بقايا أمثال هذه التصرفات في حياتنا ومفاهيمنا، رغم التطور الذي مرّت به مجتمعاتنا؛ أي أننا نجد بعض البقايا الدفينة في تصوراتنا وسلوكنا الشعبي، وبالذات الريفي ممّا قد يصدق عليه إطلاق بعض هذه المفردات التي تمّ اشتقاقها – كما سنوضح عاجلاً – في بقايا لاوعينا الثقافي والفكري. في هذا الخصوص مدّتنا هذه الثقافات والمجتمعات بترسانة من المصطلحات/ المفاهيم دخلت في سياق تفكيرنا، وأصبحت جزءاً من خزان المفاهيم المفتاحية في دراسة أثر الدين والأفكار في حياتنا، وبطبيعة الحال حياة تلك المجتمعات. وكانت هذه المفردات ربما أنها أخذت بلفظها -أحياناً بشكل متدرِّج- من لغات تلك الشعوب. وتشمل بعض أهم هذه المفردات مفردات تفسيرية من مثل “الفتشة” أو ما يوازي عندنا الحجاب، وهي نوع من مادة دينية محسوسة تُستخدم، لدرء الأضرار أو الشرور التي قد تهجم على الإنسان، واستخدام الفتشة قد يحمي الإنسان من هذه الأضرار والشرور. ويؤمن الإنسان الأولي بمفهوم “المائة”، وهو ما يمكن أن يقابل مفهوم “البركة” الغامض الذي يبشِّر بحدوث أفعال جالبة للخير بسبب أفعال أو تصرفات أشخاص أو أشياء تحمل نوعاً من القداسة أو ميزات خاصة في جوهر ذاتها. وهناك شخص له مواهب روحية خارقة لما هو طبيعي يسمى “الشامان”، أو ما يقابل في ثقافتنا الولي الصالح الذي يملك مواهب غير طبيعية، من شأنها أن تساعد من حوله برفع الضرر أو خلق الظروف التي من شأنها جلب المصالح والخير لهم. والشامان لديه قدرات في إدارة الطقوس الجماعية التي تُعقد في مواعيد وأماكن معينة، والتي تساعد على تآلف وإراحة المجتمع المحلي الذي يعيش بين ظهرانيه، والشامان يملك من الخبرات ما يمكِّنه من إدارة حفلات راقصة تُصاحبها الموسيقى، أو خلق أجواء من شأنها إحداث نشوة روحية قد تؤدي بالبعض إلى نشوة نفسية تدفع بعض المشاركين، لدخول حالة نشوة نفسية تفصلهم مؤقتاً عن الواقع المعيش، لتسبِّب لهم نوعاً من الراحة النفسية من أعباء متطلبات الحياة اليومية الشاقة، وإدخال نوع من السرور والاسترخاء، في مثل ما يُعرف بالحضرة أو الزار أو الدخلة عند بعض أنواع الصوفية الشعبية، كالعيساوية أو الرفاعية ونحو ذلك. ويعيش المجتمع البدائي البسيط -حتى يتوحد في طقوسه واحتفالاته- تحت تأثير مفهومين آخرين أخذا معاني مختلفة، لكن في الأساس كان مفهوم تابو يعني المحذور الذي عند الإساءة إليه أو الامتناع عن عمله أو أكله، يمكن أن يؤدي إلى أضرار تلحق بمن فَعَل ذلك، ممّا ساعد على ترسيخ وجود ضوابط اجتماعية تحمي وحدة ذلك المجتمع وتساعده على تجانسه ووحدته، وهنا يبرز المفهوم الآخر المسمى الطوطم أو المشترك الموحّد قرابة وحياة بين أفراد المجتمع (في إحدى معانيه). ولعبت الأساطير المؤسسة وبالذات أساطير الخلق وتشكُّل الكون والعالم في حياة الإنسانية دوراً كبيراً. لعبت مجموعة المفاهيم التي جئنا على ذكر بعضها في بداية تشكيل وحدات أساسية لفهم الظاهرة الدينية أو الاعتقادية في المجتمعات البسيطة، بل أصبحت وحدات أولية، سعى بعض المفكرين، ومنهم فرويد ومدرسة التحليل النفسي إلى استعمالها، باعتبارها تعكس الوحدات الأساسية المشكِّلة لنفسية وعقلية الإنسان، وهي لا تزال واضحة قوية التأثير على عقلية الإنسان البسيط الأولي، ومن هنا بدأ بعض أوائل دارسي الفلكلور أو علماء الأنثروبولوجيا غير الميدانية في سعيهم لتقديم تصورات تخمينية للمقارنة والخروج بتصوّرات عامة عن مفاهيم الدين وعلاقتها بالمجتمع وبحياة الإنسان. وكان في ذلك بعض الافتراضات “العلمية” الكبرى السائدة، لعلّ من أهمها النظريات التطورية القائلة بأنّ الحضارة الإنسانية مرَّت وتمر بمراحل تطورية من أبرزها: البدائية والهمجية، فالبربرية ثمّ التطور إلى الفلسفة والتأمل، ثم بعد ذلك الانتقال إلى التطور القائم على العلم والصرامة في العقلانية والابتعاد عن التصورات والمعتقدات الدينية البسيطة. بعد انتقال مجموعات “المفاهيم” السابقة بحسب صياغاتها في لغات الشعوب “البدائية” المدروسة، أصبح أمراً ملحاً تفسيرها ومقارنة إمكانية استخدامها لتفسير ما أورد الرحالة والمستكشفون في بيئات أخرى آسيوية أو أفريقية، بالإضافة إلى استخدامها لتفسير بعض السلوكيات والطقوس التي لا تزال باقية في المجتمعات الأوروبية الحديثة بحسب ما توصَّل إليه جامعو الحكايات والمواد الفلكلورية. وهنا مع عدم وجود فئة الأنثروبولوجيين الميدانيين ووجود ما عرف بأنثروبولوجيي الكراسي الوثيرة -نلاحظ تعدُّد التفسيرات والتنظيرات وتضارب انتقادات الدارسين فيما بينهم، ممّا أحدث “نقلة” نوعية في ظهور نظريات عديدة. ولعلّ من المستحسن أن نتوقف عند أبرز هذه النظريات التي لا يزال لبعضها أصداء حتى يومنا هذا، رغم تجاوز العديد منها. كانت أولى هذه الاهتمامات قد انطلقت من خلال دراسة الدين، ومدى تأثير اللغة والتعبير عن العديد من الظواهر في اللغة. وهنا تبرز جهود فريدريك ماكس مولر فلقد سعى لتسخير علم اللغة المقارن من أجل جلاء الغموض الذي يكتنف بعض نواحي الميثولوجيا، ولقد انتهى في دراساته إلى أن اللغة كانت سبباً في هذا الغموض بسبب الترادف والاشتراك اللفظي، وغير ذلك من أمراض لغوية، وقد أدّى هذا الفساد في اللغة إلى بلبلة الأفكار، وسوء التعبير عن المعاني الأصلية التي كان يرغب في توصيلها، وكان لذلك الأثر العميق في النصوص الدينية، ومن ثم عند محاولة فهمها ودراستها يتوجب على الباحث الدراية بهذا الفساد اللساني والعمل على تقويمه لفهم النصوص، ولقد تسبَّبت أبحاث وآراء مولر في فهم ودراسة الظاهرة الدينية في الفكر الحديث. ظهر في أواخر القرن التاسع عشر إدوارد تايلور وكان من أنصار نظرية التطور، وكان يرى أن الحضارات أو السلالات البشرية تمرّ بمراحل متتالية من التطور هي: الوحشية وتليها الهمجية، وأخيراً المرحلة المدنية أو الحضارية. ولقد كرس مولر جهوده البحثية في دراسته للميثولوجيا والفلكلور من أجل بناء نظرية لتطور الجنس البشري. ونادى بمفهوم وحدة النفس أو العقل البشري؛ بمعنى أن الطبيعة الإنسانية متشابهة في الأساس، ومردّ الاختلافات بين المجتمعات البشرية يعود إلى المرحلة التطورية التي بلغتها، ونظراً إلى أن كل مرحلة من مراحل التطور تفرز خصائص المرحلة، وهي ستتغير مع تطور ذلك المجتمع. ومن أهم وسائل التغير أو التطور الاستعارة أو انتشار أساليب التفكير والاعتقاد بين المجتمعات؛ فلدى البشر القابلية للتطور وقبول الأفكار الجديدة التي تساعدهم للانتقال من طور إلى طور. ولهذا كان مولر، يرى أن الدين هو الاعتقاد بوجود الروح أو النفس، وهي تسمى بالنظرية الروحانية، إذ تقوم على مبدأين؛ الأول هو الاعتقاد بأن أرواح الأفراد لا تتلاشى بموتهم، وإنما تنفصل عن أجسادهم وتبقى على قيد الحياة. أما المبدأ الآخر، فإنه يتعلق بوجود أرواح علوية يؤلِّهها البشر، ومن هذه المنطلقات بنى تصوراً ميسراً على أساسه ما يمكن وصفه بالدين في المجتمعات البشرية البسيطة. ولقد دفعته نظريته إلى الحديث عن أمرين مرتبطين بالجسد هما الروح والخيال. فالروح تمنح الجسد الحياة والقدرة على الشعور والإحساس والتفكير والحركة، وهي عندما تفارق الجسد في حالة الموت أو النوم أو الغيبوبة؛ فإنها تبقى -مع عدم إدراكنا ذلك- في نظر الإنسان الأولي ذات وجود مادي، ممّا يجعل الإنسان الأول يتصوّر أن للروح حياة خاصة مستقلة بذاتها، وهي التي تزوره في أحلامه، وهي المولِّد الأساس للرؤى المشكلة للظاهرة الدينية. إذن، نقلنا تايلور بعيداً عن تصورات مولر عن فساد اللغة، ليربطنا بحياة الناس في وجودهم اليومي المعيش، وربط من طريق ذلك معبراً عن الحياة الدنيا والحياة الأثيرية الأخروية، مما قد يومئ بأن فكرة التناسخ كانت جزءاً من فكر الإنسان الأول إلى مركب معتقد من المعتقدات حول انتقالات الروح، ليتطور لاحقاً إلى الإيمان بالبعث والحساب. ومن منظور تايلور يفسر تعدّد الطقوس الدينية التي تأخذ في التبلور والتمايز في مراحل متقدمة من التطور البشري بعد أن يصل التنظيم الاجتماعي إلى مرحلة تكون فيها الطبقية وفرز أفراد المجتمع في شكل مراتب اجتماعية وسياسية، مما يدفع إلى ظهور المؤسسات الاجتماعية في شكل متقدِّم، يمكّن من تحويل الطقوس الدينية التي هي في الأساس نتاج اجتماعي يعكس التفاعلات والعلاقات الاجتماعية للبشر ويأخذ أشكالاً في شكل علاقة المسود بالسيد أو أشكالاً مختلفة للزبونية. وما الدعاء أو الرجاء أو التوسل سوى أشكال اجتماعية دوافعها الخوف من العقاب والأمل في الثواب، بعد هذه المرحلة من التطور تشهد المجتمعات البشرية ظهور أماكن العبادة والتقديس، ومعها يظهر مفهوم القربان الذي يتحوّل مع الوقت إلى رمز للتعبير عن الولاء والتبعية والامتنان والشكر؛ وفي هذه المرحلة من التطور، يبدأ ظهور السلطة السياسية والطبقية التي تتداخل مع ما هو “ديني”. وهنا يُدخلنا تايلور إلى كيفية تطور الفكر الديني إلى أن يكون عاكساً ليس فقط لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وإنما علاقات البشر ببعضهم بعضاً من خلال علاقة السلطة والمصالح، وهذه المرحلة تعدّ بداية الانتقال من مرحلة تعدُّد الآلهة إلى مرحلة التوحيد، والتي ربما تؤكد على ضرورة تكريس علاقات السلطة في قوى اجتماعية سياسية محورية. ويُرجع تايلور تضعضع العقائد الدينية مع مرور الوقت وضعف مؤسساتها إلى طبيعة الدين المحافِظة، حيث لم يعُد القائمون على الشأن الديني بمقدورهم اللحاق بمستجدات العصر والتكيف معها بالسرعة الكافية أو المناسبة، حيث يعودون غير قادرين على تلبية الحاجات العاطفية أو الذهنية للناس، مما يقتضي تفسيرات جديدة بناء على المرحلة التطورية التي يعيشها الناس. ولقد لقيت أفكار تايلور قبولاً ونقداً واسعاً في الأوساط الأكاديمية، لكن مع ذلك كان لأفكاره أثرها العظيم على ما دار من أفكار مكَّنت من إعادة تفسير الكثير من مواد المأثور الشعبي التي نجدها متناثرة في ممارسات وأفكار الطبقات الدنيا في المجتمعات الأوروبية، وبالذات بين فقراء المدن وساكني الريف. وكانت أستراليا وما جرى فيها من دراسات، تشكِّل المهاد الأساس لدراسة الديانات في أشكالها البسيطة والأولية، وهي التي مدّت الفكر الأنثروبولوجي بمفهوم الطوطمية الذي أدى دوراً محورياً في تلك الدراسات حتى عقود. ولعلّ ما تناوله دوركايم في كتابه المعنون: الأشكال الأولية للحياة الدينية أكبر الأثر على الدراسات الحديثة عن الدين. إنّ مفهوم الطوطمية قد خلق موجة معقّدة دعائية من الجدل والنقاش ربما أدى إلى مزيد من ضبابية المفهوم وعسر هضم منهجية، حتى عقود ماضية قليلة عند ليفي شتراوس وسواه، وهي مرحلة عنوانها أن الدين والتصورات الدينية عبارة عن نتاج تمثيل للمجتمع نفسه في شكل آلهة ومفاهيم مثالية، ولقد أثّر مفهوم الطوطمية أنثروبولوجياً في تفسيره، وفي تطوير نظريات عديدة عن النسق القرابي والتنظيم الاجتماعي. وقد استخدم مفهوم الطوطمية لتفسير العديد من الظواهر الاجتماعية والنفسية ليس فقط في المجتمعات الأولية، وإنما أيضاً في تفسير الكثير من الظواهر النفسية في العالم الحديث. وكتاب فرويد المعنون الطوطمية يفسر العديد من ردود الفعل الاجتماعية اللاواعية على أساس هذا المفهوم. وفي هذا السياق، يبرز تأثير فريز صاحب الغصن الذهبي، والذي من خلال جمعه وتبويبه للأساطير في العالم، كان له عظيم التأثير على أفكار المشتغلين في الدراسات الأنثروبولوجية والفلكلورية، وصديقه وزميله ويليام رابرتسون سميث الذي كان رائداً مهماً في دراسته حول الطوطمية في سياق دراساته عن الجزيرة العربية: الدين، وكذلك دراساته عن الزواج والأسرة فيها، ويعدّ كتابه من أهم الدراسات العميقة، وكان -وربما لا يزال- لدراسته حالة الساميين (العرب) الأثر الكبير في دراسة الدين من الناحية الأنثروبولوجية بعيداً عن التفسيرات اللاهوتية التقليدية. وفي دراساته، برز الاهتمام بالشعائر والقرابين والطوطم (طوطم القبيلة) كإشارة جامعة للقرابة وظهور إله العشيرة مع الزراعة أو الرعي. لقد قادت دراسات سميث وفريز، إلى الانتقال من التشكلات الاجتماعية إلى تشكل الأساطير المشكلة لتفسيرات أوسع وأعمق لخلق الكون ومصدر الحياة، انطلاقاً من التطور المعرفي والعلمي الذي توصل إليه البشر. ولقد تلا ذلك تحوُّل مهم آخر من الأساطير الكونية إلى إعادة النظر والتقييم لتطورات المفاهيم عن المجتمع وتشكل العقل الجمعي أو الضمير الكلي بعيداً عمّا كانت تفسّر به الأمم الأولية أو البدائية وعيها بنفسها وبمجتمعها؛ أي أن الدراسات بدأت تنتقل وتتحول من سعي لفهم وتفسير كيف كان البدائي يفسر عالمه إلى التأسيس لوعي وفكر يعمل على تفسير ما تحوّل إليه فكر ووعي الإنسان بما يقوم به من خلال الدين؛ فهو يخلق عالمه الديني من خلال تمركزه واهتمامه بذاته، ليصل إلى نظريات تقول بأن الدين نتاج لتصورات ومفاهيم اجتماعية ثقافية، وليس نتاج فكر فوق بشري. وفي المراحل المتقدمة من محاولات تفسير الدين كانت التحولات هي من الطوطمة إلى علم النفس وبعدها علم الاجتماع، بداية على يد فرويد في كتابة الطوطمية والتابو، ثم التحول إلى علم الاجتماع من النقاشات التي كان فارسها دوركايم وغيره من الأنثروبولوجيين، والدراسات النقدية للمسيحية واليهودية لدى فرويد لليهودية وفيورباخ للمسيحية. وعند وصولنا إلى هذه المراحل شقت الدراسات الميدانية الأنثروبولوجية الدراسة لتلك المجتمعات، والتي تمكنت من تطوير مناهج ونظريات “علمية” منهجية دقيقة عوضاً عن الاعتماد على ملاحظات من رحالة ومستكشفين، ممّا استدعى رؤية جديدة أكثر عمقاً واتساقاً وتواصلاً مع المجتمعات والثقافات المدروسة. وأصبحت الدراسة أكثر تحديداً وتخصيصاً على مجتمع محدد أو ثقافة ما. ولم تتوقف هذه الدراسات الميدانية للإجابة عن أسئلة البدايات والأصول أو التعميمات الكونية العامة، وإنما أصبحت أكثر تحديداً ودقة، وتداخلت الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمفهوم الدين أو الحياة الدينية. كذلك لم تتوقف هذه الدراسات -في العقود المتأخرة- على دراسة المجتمعات والثقافات القديمة، وإنما أخذت في دراسة الظاهرة الدينية في سياق أوسع، بما في ذلك دراستها في إطار المجتمعات الحديثة أو القائمة، بل وحتى مع تطبيق هذه الدراسات على الأديان العالمية الكبرى في العالم من إسلام ومسيحية وهندوسية وبوذية ونحو ذلك. ونظراً إلى أن هذه الدراسات لم تغلق نفسها عن نتاج المفاهيم والتصورات التي كانت سائدة في الحقل في دراسات مرحلة ما قبل الدراسات الميدانية الاحترافية، فإننا سنركز على نماذج من هذه الدراسات التي تمت عن المجتمعات الإسلامية بصورة مقتضبة -قد تكون مخلَّة- لكن القصد توضيح مدى الغنى والتنوع في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وكيف يمكن أن تساعدنا على فهم ما تقدمه الأنثروبولوجيا في فهمنا لدور الدين وتأثيره في حياتنا اليوم. ولعلّ تقديمنا لصور من هذه الدراسات، بدءاً من تلك التي سعت لتقديم تصور شامل، إلى الدراسات التي ركزت على جانب من تأثير الدين في الثقافة والحياة الاجتماعية والحياة العامة المجتمعية، وأيضاً دراسة بعض الوسائل والكيفيات التي يتشكَّل من خلالها الفكر الديني: لعلّ له دوره وأساليب انتشاره في الحياة العامة. ومن نافلة القول الحديث عن مدى تأثير كلّ من جيرتس وجيلنر وتلاميذهم في دراسة دور وأثر الدين في حياة المجتمع المسلم اليوم؛ فلقد قام جيرتس بالعديد من الدراسات الميدانية والنظرية عن المجتمعات المسلمة وخصوصاً في كلّ من أندونيسيا والمغرب. فلقد درس في أندونيسيا مثلاً في كتابه دين جاوة ما يُعرف بالباطنية الجاوية وأثر العادات وبالذات ذات الأصول الهندوسية في بلورة صورة من إسلام تلفيقي مركَّب يُشكِّل مفهوم الإسلام في أندونيسيا وتحديداً في جزيرة جاوة. ولقد قارن جيرتس في كتابه المهم للإسلام ملاحظاً القيام بمقارنة لمفهوم الإسلام في كلٍّ من المغرب وأندونيسيا من خلال تقديم تصور لنماذج مثالية جعلها في شكل نائب محمد الخامس -الحسن اليوسي، وسوكارنو- كالجيكا وعلى أساس هذه النماذج المثالية حاول أن يوسِّع من فكرة كيف تأسست صورة القائد/ السياسي في مقابل القائد/ الروحي وكيف تمكَّن القائدان محمد الخامس وسكارنو من خلق صورة حديثة لقائد سياسي يحمل كاريزما روحية بحسب السياقات الثقافية المختلفة بين البلدين. إضافة إلى استفاضة استخدام جيرتس لسير وفهم كيف تحوّل تفسير النصوص إلى واقع سياسي واجتماعي حديث، مستفيداً من كافة المفاهيم التحليلية حول المغرب خصوصاً في مفاهيم، مثل: المخزن، وبلاد السببة والمخزن، والمغرب المفيد وغير المفيد، وكيف أن هذه المفاهيم الفرنسية الاستعمارية بلورت النموذج المثال للفكر السياسي والحزبي في المغرب. بينما تقليد الأولياء الذين أسَّسوا لدخول الإسلام إلى أندونيسيا في وجدانهم وجذبهم الصوفي وباطنهم أدى إلى ظهور مفهوم الباشسيلا، ومن ثم الإسلام الأندونيسي الباطني النزعة القادر على التعايش مع أفكار مركبة ملفقة الترابط. ولقد أسهم جيرتس في استعراض مسألة كيفية إعادة تفسير النص الديني المتسامي في شكل تفسيرات أيديولوجيا تبريرية لمظاهر مفهوم الإسلام في البلدين انطلاقاً من واقعها الثقافي وليس انطلاقاً من معاني أزلية نصّية كما يدّعي في الوهلة الأولى. وتظهر تفاصيل رؤية جيرتس للإسلام المغربي في مشروع دراسة صفرو التي ظهرت في كتابه المعنون المعنى والنظام في المغرب، والتي جعل محوريتها في البازار وانتهائه، باعتباره المفتاح لفهم التبادل والعلاقات المدنية بين أفراد المجتمع المغربي. وكان لاستخدام جيرتس منهجية الفهم الظاهراني أثر عظيم في تشكيل مدرسة تعدَّدت دراستها وتناولها لمظاهر وانعكاسات الدين في ثقافة وحياة المجتمع المغربي. فهؤلاء تلاميذ درسوا الطرائق الصوفية، وتحديداً التوجهات الشعبية العجائبية ذاتها من مثل العيساوية في دراسات كارينزانو وغيره من دراسات تناول البركة وطقوس القرابين وتشكِّل الأعياد الدينية عند إيكلمان وغيرها من دراسات خصبة تناولت الدين، باعتباره ثقافة تعطي معنى ونظاماً للحياة اليومية. في المقابل وربما كنتاج للأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية والمدرسة الفرنسية الاستعارية، برزت جهود أرنست جلنر الذي قدَّم نوعاً متطوراً من الانقسامية لدراسة دور الدين في مجتمع المغرب في تشكلاته المختلفة المخزنية والقبائلية وفي الأوساط المدنية الفقيرة، ممثَّلة في السوق والزاوية والمسجد، وكيف أن البناء الاجتماعي وتحديداً الأسري والعشائري ما هو سوى تجسيد للممارسة والعلاقات الدينية. ولقد انتبه لموضوع التذبذبات التبدلية من الشرك إلى التوحيد -وهي نظرية أخذها عن دايفد هيوم- ترى أن هذا التذبذب يساعد على عدم التطرف في الدين. كذلك يستخدم وبشكل تلفيقي آراء الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع: ماركس ودوركايم وفيبر لتقديم تفسيرات للسلوكيات الدينية في المغرب المدني والريفي (القبائلي)، بالإضافة إلى أفكار عامة حول كيفية تفسير القيادات السياسية للنصوص الدينية، انطلاقاً من فكرة مؤدّاها أن الإسلام يقدم في نصوصة الأصلية مخططاً أو مسودة لأسلوب حياة وثقافة ما. ولقد أثرت آراء ودراسات كل من جيلنر وجيرتس على قطاع واسع من الباحثين الأنثروبولوجيين الدارسين للعالم العربي، لكن دراساتهم لم تقتصر على تقديم تصور عام شامل، وإنما ركزت على جوانب محددة، ومن هذه الجوانب دراسات سعت لتقديم تصورات الناس والمعاني التي يسقطونها على فهمهم لممارساتهم وطقوسهم الدينية اليومية، مثل ما نجده في “محادثات مغربية” أو داخل سياق الحياة الأسرية في دراسة “بيت سيدي عبد الله” التي تعقبت تعليقات ورؤى أسرة مغربية في الريف (شمال المغرب) حول العلاقات الأسرية والطبقية والهوية الدينية. ولقد حظيت الإجراءات القانونية والقضائية بشيء من الاهتمام، وتعد دراسات لورنس روزن حول “أنثروبولوجيا العدالة” و”التفاوض للوصول إلى الواقع” والنظر إلى القانون، وبالذات ما تعلق منه في الأحوال الشخصية أمراً ثقافياً، إذ عن طريق هذا الفهم يُعاد تعريف معنى المفاهيم الأساسية من زواج أو قرابة على هذا الأساس. اهتمت هذه الدراسات بالكيفية التي تعمل بها المحاكم الشرعية، ولقد أعدّت دراسات حول الموضوع، لعلّ ما تمّ فيها حول اليمن داخل إطار المذهب الزيدي من أهمها، وهنا نجد تقاطعات مهمة بين تقديم ملاحظات ميدانية حول إجراءات التقاضي في المحاكم الشرعية ودراسة الكيفية التي يتعامل بها القاضي مع النصوص الفقهية، بالذات حول فهم الدليل والقرينة القانونية، فيما سمي “دولة الحظ” كناية عن الصكوك الشرعية الصادرة عن تلك المحاكم. واهتم بعض الأنثروبولوجيين بكيفية تكوّن العالم والواعظ المسلم، باعتباره نتاج واقعه الثقافي والاجتماعي. وهناك في هذا السياق، دراسات عديدة اهتمت بدراسة كيفية تكوّن الفقيه أو الواعظ، فقدمت دراسة لإيكلمان الكيفية التي تشكّل بها مسار فقيه في إحدى القرى المغربية، ودرس ذلك من حيث معرفة قوة وتأثير الخطاب الشرعي التقليدي على ساكني تلك المنطقة. ودرس أنطون ريتشارد أسلوب ودور خطيب جمعة وتأثيره في إحدى القرى الأردنية، ولقد قامت الدراسة على دراسة بلاغة وأسلوب الوعظ وتأثيره في مجريات الحياة السياسية والاجتماعية الراهنة. وقام تلميذ لهذا الباحث بدراسة أربعة وعاظ يمثلون رؤى مختلفة في القاهرة ومحيطها، ليتعرف على أساليبهم ومدى تأثيرهم في محيطهم، إضافة إلى دراسة نصوص خطبهم، وتعدَّدت الدراسات في هذا المجال، ومن أطرفها دراسة تخطَّت دراسة تأثير خطب الجمعة، لتطال الكتاب المدرسي لمواد الدين في المدارس الحكومية الرسمية موضحاً الدور المهم للعلماء في تعريف ماهية الدين والأدوار المُناطة بالمفاهيم والتصورات الدينية في تشكيل الرؤية الدينية عند النشء في دراسة عنوانها “تعريف الإسلام”. بطبيعة الحال توجهات الدراسة هذه، تبين أن عملية إعادة إنتاج مفاهيم وأطروحات “إسلامية”، إنما تتم عملية إعادة إنتاجها داخل مؤسسات تمولها وترعاها الحكومات، ولقد كان لهذه الدراسة صداها فيما تراه من مراجعات نقدية صراحة لما يَرِدُ في تلك الكتب المدرسية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكيف أن الحكومات المحلية أعادت النظر في تلك الكتب والمقررات المدرسية. وتتوالى الدراسات حديثاً في دراسة الفضاء السيبري الحديث، لمعرفة تأثيرات ما يبث على وسائل التواصل الاجتماعي من رسائل ثقافية وسياسية من طرف القيادات والجماعات الدينية، مع الاهتمام ببعض الدراسات الموجّهة لدراسة الرموز الدينية في الفضاء الخاص والحميم لدى بعض المهاجرين ممن يعيشون في الغرب، ولقد توسّعت هذه الدراسة بالاهتمام بالرموز المؤكدة على الهوية الإسلامية في الفضاء العام، ويعدّ الاهتمام بمسألة الحجاب أو ظهور المآذن أو المساجد بشكلٍ عام في الغرب واحداً من هذه القضايا. ولقد درس بعض الأنثروبولوجيين مسألة الهجرة من زاوية آفاقها الدينية وأبعادها الرمزية، وتناولوا ما عُرف “باستزراع” الإسلام في أوروبا والغرب عموماً. واهتمت الدراسات الأنثروبولوجية تقليدياً بما يُعرف بالدين الشعبي، ولعلّ ما قام به ويسترمان في المغرب حول ذلك يعدّ منجماً لدراسات عديدة ما زلنا -رغم ما تمرّ به مجتمعاتنا من عمليات تحديث وعلمنة- موضع تركيز واهتمام بموضوعات، مثل دراسة المربوطية والبركة والحسد ودراسة التعبيرات الفلكلورية للدين، باعتبارها مكونات أساسية لا يزال لها أثرها في حياة قطاعات كبيرة من السكان. وتتوالى الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية المؤكدة على أن المحور المحرك سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً لسلوكيات وتصرفات شعوب العالم العربي هو الدين الذي ينبغي أخذه في الاعتبار بوصفه العامل الأهم، لكن، رغم ذلك نظراً إلى التحولات الجوهرية التي مرّ بها هذا الجزء من العالم، بدأت تظهر دراسات تعنى بالتحولات العلمانية التي تمر بها هذه المجتمعات، وتتلمس مدى تأثير العولمة والتيارات الفكرية الغربية الحديثة على فهم الناس للدين. وتعد دراسات طلال أسد وتلاميذه رائدة في هذا المجال؛ فهو يرى أنّ العالم العربي آخذٌ في الانفتاح والتفاعل مع هذه التيارات من خلال تمريرها وفلترتها عبر مخزونه الديني الذي -في رأيه – يتميز بما أسماه الخطاب الاستطرادي أو الشرح والتعليق المؤسسي لإعادة إنتاج خطاب ديني ذي صبغة حديثة، وربما حتى علمانية. ولقد قدمت بعض تلميذات أسد دراسات ميدانية حول علاقة الفكر الديني بإنتاج جهود المجتمع المدني والأعمال الإغاثية والتنموية من هذا المنطلق. دراسات التحولات العلمانية وتقاطعها مع السياق الديني كما يعيشه الناس بوصفه مشكِّلاً لهويتهم وثقافتهم المعاشة من الميادين الواعدة جداً، وهي أكثر وضوحاً وإلحاحاً لكي تدرس ما نشهده من جدل ومواجهات بين الخطابات التي برزت على الساحة بشكل ما كان معهوداً في سياق الربيع العربي الذي نشاهده اليوم. ومن ثم نتوقّع مستقبلاً فريداً من الدراسات والتأملات حول صيغة وشكل الهوية الدينية في ظلّ أوضاع العولمة والتحولات السياسية التي تشهدها المنطقة، وهذا يعني أنّ الدراسة الأنثروبولوجية للدين وبالذات الإسلام لا تزال تعدُ بالكثير والكثير. في الختام، ممّا يؤسف له أنّ الدراسات الأنثروبولوجية وبالذات للواقع الإسلامي والعربي لا تزال حكراً على الغربيين أو المراكز البحثية في الغرب، ومن ثم هذا –ربما- يذكّرنا بالدور الوظيفي للأنثروبولوجيا في عصر الاستعمار؛ فبالرغم من إصرار وتأكيد الدارسين الأنثروبولوجيين على أن دراساتهم، إنما تعمل من أجل غايات علمية، وهي تسعى بموضوعية واحترافية إلى مقاربة دراسة الواقع بأكبر قدر من الحياد والدقة العلمية، إلّا أن هذه الاهتمامات بالواقع المعاش لا تزال من اهتمامات المراصد والمراكز البحثية للأكاديمية الغربية، وتفعّل أو يستفاد منها من طرف قواها السياسية. صحيح أن هناك أعدادا تتزايد من الباحثين من ذوي الأصول العربية والإسلامية تشارك في إعداد هذه الدراسات، لكنهم إنما يقومون بذلك داخل إطار تلك المؤسسات والمراكز العلمية الغربية، وربما حتى الكثير من دراساتهم وأبحاثهم تبقى غير معروفة ولا تلقى الاهتمام والعناية في أوطانهم الأصلية، وهي على أية حال كتبت لمرجعيات علمية خارج إطار أوطانهم. وإنها لمفارقة مربكة وعميقة أن الدراسات الميدانية التي تهتم بالواقع والظواهر الثقافية والاجتماعية المؤثرة في السياسة والاقتصاد والواقع الاجتماعي لا تزال بعيدة عن اهتمامات جامعاتنا، وهي إنْ لقيت اهتماماً فربما من زوايا أمنية فقط، ومن طريق تكليف تلك المراكز الأكاديمية الغربية. لعلّه من المفيد هنا في ختام هذه المداخلة المقتضبة العاجلة رفع الصوت والمطالبة بضرورة إيلاء اهتمامات أكبر من أجل إعادة النظر وزيادة جدّية الاهتمام في القيام بدراسات ميدانية تأخذ ما يجري فعلاً في مدننا وأحيائنا، بل وحتى في أسرنا بجدية أكبر. وباعتبار أنها رأس مال ثقافي؛ فمن الضروري الاستثمار الجدي فيه من أجل بناء اجتماعي ثقافي أكثر رسوخاً وواقعية في عملية بناء المستقبل على أيدي أبنائه من الباحثين والدارسين، وأن تشكّل تلك الدراسات فضاء مهما وجاداً للنقاش والحوار العام، الذي من شأنه أن يبني مستقبله، وبالذات في مكوناته الأساسية، انطلاقاً من معرفة ميدانية مؤكدة، لا على طروحات وأفكار منقطعة عن الواقع، وربما لا تمثل سوى أماني القائلين بها. فمحورية الدراسة الأنثروبولوجية للدين، وبالذات في مجتمعاتنا التي يلعب فيها التصور الديني الجامع المؤسس لمعظم رؤانا وأساليب تفكيرنا، ما يعزِّز من ضرورة الاهتمام بالمقاربة الأنثروبولوجية للدين، وعندها يصبح ما تراكم من مفاهيم ونظريات وبحوث عالمية مادة مهمة للتأمل والنقد، وربما في بعض جوانبها ينبغي اكتسابها من طريق الدربة والتعلم.

أستاذ في الانثربولوجيا/ السعودية

المصدر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود بتاريخ 24 ديسمبر 2014  

تنويه : هذه الورقة كانت قد ألقيت كمحاضرة في المؤتمر الأول لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث المنعقد بتاريخ 25-26 مايو 2013 في مدينة المحمدية، المغرب، تحت عنوان: “الدين والثقافة: الواقع والآمال”.

Exit mobile version