د.حازم خيري
“القوة المطلقة خطيئة” بروميثيوس
تحكي الأسطورة اليونانية أن الإله بروميثيوس أحب الإنسان كثيرا وأشفق عليه، لِما قُضي عليه من خوف وذل وأمل عقيم، فسرق النار الإلهية، نار المعرفة، ومنحها لبنى الإنسان، فكان عقابه الأبدي أن شده كبير الآلهة، بالأغلال الفولاذية التى لا يمكن تحطيمها، إلى صخرة مرتفعة، ذات نتوءات بارزة، تُطل على ماء المحيط، وأطلق عليه النسور تنهش جلده، وكلما طلع الصباح كساه جلدا جديدا لتطعم به النسور! عذاب أبدى، شاركت المارد المُعذب فيه كل عناصر الطبيعة! بيد أن كبير الآلهة لم يكفه من بروميثيوس كل هذا العذاب الجسدي، فأرسل إليه وفدا من ربات الانتقام يعذبنه! فبروميثيوس، ككل الأبطال، له روح قوية لا تكسرها الآلام الجسدية، ولكن يكسرها أن تُفجع فى الفكرة التى تمثلها!
تلك هى أسطورة بروميثيوس، أوردتها فى صدر المقال، لارتباطها المُلهم بموضوعه، وهو الحضارة الغربية. فالغرب يحلو له دوما أن يرى نفسه بروميثيا، نسبة إلى الإله اليوناني بروميثيوس الذى سرق نار المعرفة من الآلهة ليعطيها إلى البشر! والغرب يحلو له أيضا أن يرى الحضارات الأخرى غير بروميثية!
مهمة كاتب هذه السطور، شائكة بلا ريب، فهو عازم على استخدام بعض مقولات الفكر الأنسني، فى اختبار مدى صحة الزعم الغربي المُشار إليه توا! إذ وحده الفكر الأنسني ـ فى رأي الكاتب ـ، هو القادر على تجنيب صاحبه عبء الافتراضات المُسبقة والادعاءات المُبالغ فيها، عند التعاطي مع موضوع خطير وشائك كالحضارة الغربية! فالناقد الأنسني لا يستطيع أن يبنى للغربيين نصبا يعمد إلى رجمه باللعنات، اقتداء بالكثيرين داخل عالمنا العربي وخارجه، كما لا يستطيع أن يبني لغير الغربيين، هيكلا مقدسا، يلتمس فيه البركة والخلاص! فتلك طريقة فى النقد، فجة وساذجة، أثبتت التجربة الحياتية المُعاشة فشلها، وجاء الفكر الأنسني ليستبدل بها نقدا أنسنيا، يخلو من الافتراضات المُسبقة، ويعصم صاحبه من القول بالخير المطلق أو الشر المطلق، لأنه إن فعل كان كمن يراود المستحيل..!
“إنني أتعامل مع النقد بجدية شديدة، تصل إلى درجة الإيمان بأنه، حتى في خضم معركة يقف فيها الفرد..بجانب أحد أطرافها، يجب أن يكون هناك نقد ذاتي. فلابد من وجود وعي نقدي، كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها..فينبغي على النقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يُثري الحياة، وفى حالة تضاد بناءة مع كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال؛ فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة اللاقسرية وغرضها الحرية الإنسانية”! كلمات ذات دلالة، للمفكر الأنسني إدوارد سعيد، أوردتها لأُبرز لقارئي الكريم أهمية الفكر الأنسني، على أمل تزخيم محاجتى بضرورة استبدال النقد الأنسني الواعد بالنقد التقليدي.
فى السياق نفسه، وقبل المُضي قدما فى حديثي، أرانى مُطالبا بتحديد ما أعنيه بـ “الحضارة الغربية”، إذ لا يُعقل أن أتجاهل أمرا مهما كهذا، وأنا بصدد اختبار مدى صحة زعم الغرب ببروميثية حضارته، وعدم بروميثية جميع الحضارات الأخرى! الناقد ت. س. إليوت يُقدم لنا تعريفا أنثروبولوجيا للثقافة، أميل إلى الأخذ به، وأستأذن قارئي الكريم أن أبدأ بطرحه، لقناعتى بعدم اختلاف مفهوم الحضارة كثيرا عن نظيره الخاص بالثقافة. يُعرف إليوت الثقافة بأنها طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. وأنها تظهر في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. وأن اجتماع هذه الأمور لا يكون الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن، كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة ـ بحسب تعريف إليوت المهم ـ أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا(1).
ذكرت توا أن مفهوم الحضارة لا يختلف عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، إلا أن أن الحضارة تظل هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر، تظل الحضارة هي أعلى تجمع ثقافي من البشر، وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يُميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تُعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها المرء هي أعرض مستوى، يُمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها “نحن” الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا!
قد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. فعلى مدى التاريخ وُجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لما أورده صمويل هنتنجتون فى مؤلفه الشهير “صدام الحضارات”، تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في: الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية(2). غير أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ، وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون حول العدد الإجمالي للحضارات التي وُجدت في التاريخ!
عادة ما يُؤرخ للحضارة الغربية بأنها ظهرت حوالي سنة 700 أو 800 ميلادية، والباحثون بصفة عامة يرون أنها تتكون من ثلاث مكونات رئيسية فى أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. بيد أن الاختلاف التام للتطور السياسي والتقدم الاقتصادي فى أمريكا اللاتينية عن الأنماط السائدة فى دول شمال الأطلنطي، يدفعنا إلى القول بأن الغرب يضم على الأرجح أوروبا وأمريكا الشمالية بالاضافة إلى دول الاستيطان الأوروبي الأخرى مثل استراليا ونيوزيلندة.
ولقد تغيرت العلاقة بين المكونين الرئيسيين للغرب ـ أوروبا وأمريكا الشمالية ـ مع الزمن. فعلى امتداد معظم تاريخهم، كان الأمريكيون يعرفون مجتمعهم فى مقابل المجتمع الأوروبي. أمريكا كانت هى أرض الحرية والمساواة والفرصة والمستقبل، فى حين أن أوروبا كانت تمثل الظلم والصراع الطبقي والكهنوت والتخلف. فوق هذا، كانت هناك محاجة أن أمريكا تمثل حضارة مائزة.
هذا الافتراض بوجود تعارض بين أمريكا وأوروبا، كان بقدر كبير نتيجة لحقيقة مفادها أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن لأمريكا سوى علاقات محدودة بالحضارات غير الغربية. بيد أنه بمجرد خروج الولايات المتحدة إلى المشهد العالمي، ظهر الاحساس بالتطابق الأوسع مع أوروبا. فأمريكا القرن التاسع عشر التى كانت تعرف نفسها بأنها مختلفة عن أوروبا ومضادة لها، تختلف كثيرا عن أمريكا القرنين العشرين والواحد والعشرين التى تعرف نفسها كجزء، بل كقائد، لكيان أوسع، وهو الغرب الذى يضم أوروبا. بعبارة أخرى، تُعد الحضارة الغربية حضارة أوروبية، من الناحية التاريخية، أما فى العصر الحديث، فالحضارة الغربية تُعد بحق حضارة أوروبية أمريكية أو شمال أطلنطية…
والآن، أما وقد حددت ما أعنيه بـ”الحضارة الغربية”، فليسمح لى قارئي الكريم أن أُُورد الطرح المُعلن لـ”المركزية الأوروبية”، كخطوة على طريق اختبار البروميثية المزعومة لتلك الحضارة! ولمن يسأل، عن مصطلح “المركزية الأوروبية”، وعلاقته بحديثي، أقول إن له نفس معنى نظيره الخاص بـ”خراجية الحضارة الغربية”. و”الخراجية” مصطلح لسمير أمين، معناه تقديم حضارة أو ثقافة بعينها مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته(3). غير أنى أميل، فى هذا المقال، إلى الأخذ بمصطلح “المركزية الأوروبية”، لقصره وشيوع استخدامه!
الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية:
قد يُدهش القاريء، وهى دهشة تزول لاحقا، عندما أقول له إن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية واضحة! فطبقا لهذا الطرح، ليس الغرب عالم الثروة والقوة فقط، بل هو أيضا عالم العلم والعقلانية والتسامح والاعتراف بالتعدد، فى الرأي واحترام حقوق الانسان والديمقراطية. الغرب كذلك هو عالم الاعتراف بمبدأ مساواة الفرص، والعدالة الاجتماعية! فهو أفضل العوالم الموجودة على الأرض، سواء أكان فى الماضي أو الحاضر، إذ أن بقية العوالم إلى الآن لم تتفوق عليه من أية وجهة نظر، سواء أكان من حيث الثروة والقوة أم من حيث انجاز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية! وتلك العوالم لن تُنجز تقدما إلا بقدر ما سوف تقبل الاقتداء بالغرب وحضارته، لأن أوضاعها المتردية تعود إلى تحكم ثقافات رجعية (مثل الاثنية أو السلفية الدينية..)، يجدر بها التخلى عنها!
وبحسب الطرح المُعلن نفسه، يُعتبر فتح العالم، عسكريا أو اقتصاديا أو علميا، على أيدي الغربيين خطوة بروميثية، ترمى للتنوير ونشر المعرفة، ونقل الشعوب غير الغربية إلى مرحلة جديدة من التاريخ، لابد وأن تؤدي بتلك الشعوب المتخلفة إلى اللحاق بالمستوى الغربي الأعلى، فالفتح الغربي للعالم أمر ايجابي!
الغرب لا يحتاج إلى أن يتعلم شيئا من غيره، وبالتالي فإن التطورات الحاسمة التى تحكم على مصير الانسانية كلها هى تلك التطورات التى تحدث فى الغرب، سواء فى ميدان التقدم العلمي والتكنولوجى أم فى مجالات العلاقات الاجتماعية (على سبيل المثال يمكن هنا اعتبار التقدم الذى حدث فى ميدان المساواة بين الجنسين أو فى ميدان الوعي بدور البيئة وادراك حدودها أو…إلخ). أما الحوادث البارزة التى تهز المناطق الأخرى على الأرض، فلا تعدو كونها انعكاسات لصعوبة شق الطريق نحو التغريب الذى لا مفر منه! وبالرغم من أن الكثيرين من غير الغربيين ينظرون إلى هذه الحوادث على أنها تمثل خطوات جذرية تتجاوز حدود العالم المعاصر، إلا أن هذه الادعاءات غير صحيحة! فالواقع هو أن هذه الانجازات لم تتجاوز ولن تتجاوز حدود ما حققته الحضارة الغربية!
تلك صورة موجزة، وبديهية، على ما يظهر، للطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، أوردتها لاحتفاظها فى مجملها بالقاسم المشترك بين آراء عديدة، بعضها ترى نفسها متناقضة مع الآراء السائدة! ففي الغرب من يدعى أن رؤيته لمشاكل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية تختلف عن الرؤى السائدة، من حيث وسائل تطويرها، إن لم يكن دائما من حيث المبدأ! غير أن هذه الاختلافات، على أهميتها، لا تخرج عن اطار توافق جوهرى، يُعول عليه!
الآخر الغربي/العالمي وتوظيف المركزية الأوروبية:
وعدتك، أيها القاريء الكريم، أن تزول دهشتك لقولى بأن الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية واضحة، وسأفي بما وعدت! ولتكن البداية توضيح ما اعنيه بمصطلح “الآخر الغربي/العالمي”. إذ أنى لا اعنى بـه جميع الغربيين، بوصفهم أصحاب حضارة مغايرة، على النحو الشائع والرائج فى ثقافتنا العربية الاسلامية، بل اعنى بـه أولئك الغربيين الذين يدركون “الأنسنية”، ويستأثرون بها لأنفسهم ولأبناء حضارتهم، ويعمدون لتعمية أبناء الحضارات الأخرى عنها، بمساعدة “الآخر المحلي” المحسوب ظلما على تلك الحضارات!
و”الأنسنية”، فى رأيي، هي تحقيق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين قول الأنسنية بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(4):
[1] معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وعن معياري فى التمييز بين الذات والآخر، أقول إنه المعيار الأنسني، والذى طبقا له، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. ويُعد الإنسان ذاتا أنسنية طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
وتطور التاريخ الانسانى، فى ضوء بحوثي، لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها! فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية!
لنعد إلى حديثنا عن الآخر الغربي/العالمي، ولنتفق أن تعاطيه مع أبناء حضارته ـ الذات الغربية إن وُجدت ـ ليس فى حاجة لأن يُختبر، للتحقق من عدم استئثاره بالأنسنية دونهم، وإلا كنا كمن يدفع بيديه أبوابا مفتوحة! وحده إذن سلوك الآخر الغربي/العالمي، تجاه غير الغربيين، هو الذى يستحق أن يُختبر، للتحقق من عدم استئثاره بالأنسنية لنفسه ولأبناء حضارته، وللتحقق كذلك من اقباله على تبصير أبناء الحضارات الأخرى بالأنسنية وأهمية الأخذ بها كنهج حياة! بعبارة أخرى، وحده سلوك الآخر الغربي/العالمي تجاه أبناء الحضارات الأخرى، هو الذى يستحق أن يُختبر، للتحقق من بروميثيته المزعومة! وفى رأيي أنه لا سبيل لبلوغ ذلك، إلا بأمرين: أولا، تتبع نشأة الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، السابق ايجازه، وتفسير بروميثيته الواضحة! ثانيا، مقارنة السلوك الغربي بالطرح نفسه، للتحقق من البروميثية المزعومة لهذا السلوك الغربي..!
وقد يكون ملائما، قبل الاقدام على تتبع نشأة الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية وتفسير بروميثيته الواضحة، التعريف فى عجالة بنشأة الـ “الخراجية” عموما! وأرانى أميل فى هذا الصدد إلى الأخذ برأى أورده سمير أمين فى كتابه المهم “نحو نظرية للثقافة”، أرجع فيه بدء التبلور التدريجي للـ “خراجية” عموما، إلى عصر الهيلينية، واعتبر توحيد ثقافات الشرق القديم (مصر وبلاد ما بين النهرين وفارس واليونان)، ودمج أهم عناصرها، مساهمات جوهرية فى تبلور الـ “خراجية”. وهو ما مهد السبيل ـ برأيه ـ للنشر اللاحق للمسيحية ثم الاسلام فى المنطقة التى تشمل العالم العربي والاسلامي من جانب وأوروبا من الجانب الآخر، وذلك من خلال تهيئة جو مناسب للـ “خراجية”، أو بعبارة أخرى، من خلال تهيئة جو مناسب لـ “تقديم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تخاطب البشر بكليته”!
ذلك هو توقيت نشوء الـ “الخراجية” عموما، بحسب رأى سمير أمين، أما الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، فنشوءه يرجع ـ على الأرجح ـ إلى عصر النهضة، ففيه بدأ الأوروبيون يدركون مدى تفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! أقول إن العقل فى أوروبا الغربية راح، بدءا من القرن السادس عشر أو السابع عشر، ينطلق بقوة على أسس جديدة، غير تلك التى كان يعرفها سابقا. فقد حرر سبينوزا وديكارت العقل الفلسفى من هيمنة العقل اللاهوتى المسيحى، وأعطى الرجلان الاستقلالية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية، بعد ما انتزعاها من براثن العقل اللاهوتى القروسطى. بالطبع، ليس ديكارت واسبينوزا وحدهما من فعل ذلك، وإنما كل الجيل الذى تلاهما أيضا، أى جيل فولتير وديدرو وروسو والموسوعيين وكانط والإنجليز من قبل…
والمقصود بالاستقلالية الذاتية هنا أن الذات البشرية هى التى أصبحت تُبلور الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع على مسؤليتها الخاصة. أصبح التشريع وسن القوانين مسألة بشرية بحتة. وهذا شيء ما كان ليحدث فى العصور السابقة، ما كان الإنسان الأوروبي ليجرؤ أبدا على أن يصبح هو معياريته الخاصة ويستقل عن المعيارية الخارجية عليه والتى تحكمت به طيلة قرون وقرون. هكذ اختلفت مكانة العقل كليا عما كانت عليه فى العصور الوسطى، وانتقلت أوروبا الغربية من مرحلة العقل اللاهوتى القروسطى إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي..
الآن، يمكن ارجاع عدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية من بروميثية واضحة، إلى تواكب نشأته مع عصر النهضة، وهو العصر الذى أعادت الحركة الأنسنية في مطلعه، شأنها في ذلك شأن أي ثورة ثقافية أخرى، تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، وتحدت المعنى الذي خلعه على الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر! كان طبيعيا فى أجواء كتلك أن يدرك الأوروبيون ـ كما أسلفنا ـ مدى تفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! وكان طبيعيا أيضا أن يتأثر الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية بالحركة الأنسنية، وأفكار روادها الذين أعلنوا تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية! ذلك الإعلان الذى جاء، بطبيعة الحال، على استحياء أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن أضحى أكثر جرأة فيما بعد، إذ مضت تلك الجماعة الأنسنية قُدما في تحدي الازدراء الذي نظر به رجال الدين المسيحي في العصر الوسيط إلى عالمنا، وأكدت جزما أن الأرض مقام جميل طيب، وأن الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمرا عرضيا وبغيضا كما يُروج لذلك تجار الآلام. ويُعتبر أولئك الأنسنيين الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر، ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون الوسطى، صارخة عقولهم قبل ألسنتهم: “أيتها الحرية..إننا نعشقك”!
ذلك هو تفسيرى لعدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، من بروميثية واضحة، ولكونه يشي ـ فى مجمله ـ بإيمان الغربيين بتفوقهم الحقيقي، وامتلاكهم مفاهيم ذات مغزى عالمي، تُخاطب البشر بكليته! وكذا ايمانهم بأن فتح العالم، عسكريا أو اقتصاديا أو علميا، على أيديهم، يُعتبر خطوة بروميثية، ترمى للتنوير ونشر المعرفة، ونقل الشعوب غير الغربية إلى مرحلة جديدة من التاريخ، لابد أن تؤدي بتلك الشعوب المتخلفة إلى اللحاق بالمستوى الغربي الأعلى!
أظن أن دهشة قارئي الكريم لقولى بان الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية لا يخلو من بروميثية، قد زالت الآن، بعد أن تبين له أن عدم خلو الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية من بروميثية إنما يرجع إلى تواكب نشأته مع عصر النهضة، وهو العصر الذى أعادت الحركة الأنسنية في مطلعه، تقييم الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، ومن ثم كان طبيعيا أن يتأثر الطرح المُعلن بالحركة الأنسنية، وأفكار روادها الذين أعلنوا تفسيرا للحياة يتفق مع المفاهيم الآدمية والإنسانية!
مهمتي الآن هى مقارنة السلوك الغربي بالطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية للتحقق من مدى بروميثية هذا السلوك، بيد أني لن اتطرق إلى السجل التاريخي المُخزي للغرب فى التعاطي مع أبناء الحضارات غير الغربية، رغم اكتظاظه بالأمثلة، على نحو يُبكي ويُضحك فى الوقت نفسه، لاثبات تعارض السلوك الغربي الأناني مع الطرح البروميثي المُعلن للمركزية الأوروبية! لا..لن أذهب بعيدا، فشاشات التليفزيون، فى وطننا العربي الذبيح، تنقل أمامي الآن، وأنا جالس بشقتي بأحد أحياء القاهرة، صورا مُخزية لأشلاء وجثث، لأكثر من 300 إنسان فلسطينى، مزقتهم غارات جوية اسرائيلية متواصلة، لليوم الثانى على التوالي، على قطاع غزة المُحاصر، استُخدمت فيها طائرات عسكرية متطورة، زود الغرب إسرائيل بها، على النحو الذى يُزود به الآخر العربي، بالعصى الكهربائية وأحبال المشانق وأحدث تقنيات تعذيب واهدار آدمية الذات العربية!
المثال الثاني على تعارض السلوك الغربي مع الطرح المُعلن للمركزية الأوروبية، هو ما يفعله الأمريكيون فى العراق! لقد صدقنا فى البداية أن بروميثيتهم غلبتهم على أمرهم، فجاءوا لتحرير الذات العراقية المغتربة من براثن النخبة العراقية الحاكمة آنذاك (بوصفها حجر الزاوية فى هيكل الآخر العراقي)، وتمكين تلك الذات المغلوبة على أمرها من قهر اغترابها الثقافي، عبر استعادتها لحقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة! لكننا لم نلبث أن صُدمنا، فقد بانت نية الأمريكيين، إذ تولوا ادارة سجن “أبو غريب” سيء السمعة بدلا من النخبة العراقية المُطاح بها، وتفننوا فى تعذيب واهدار آدمية نزلاءه! وفوق ذلك، نرى الأمريكيون يسعون بقوة ودأب إلى استبدال آخر عراقي مُروض بآخر عراقي غير مُروض!
………………….يتبع