الحركات الاجتماعية الجديدة ..من مطلب العدالة إلى نزع الاعتراف
عمر بولوز*
كلية الاداب، جامعة مولاي اسماعيل (مكناس)
يسجل التاريخ الاجتماعي أنه لا توجد سياسية اجتماعية بدون حركة اجتماعية فاعلة في اقتصاد السوق الاجتماعي[1]. هكذا رسم بورديو بوصلة الطريق إلى العدالة أمام الفاعل في الحركات الإحتجاجية/الإجتماعية، في لحظة الالتزام بالاختيار العقلاني[2] الذي يروم تحقيق أهداف وغايات مشتركة بناء على التفعيل الجيد لمجموع الوسائل الممكنة (العصيان المدني.. التهديد بحرق الذات.. الاضراب عن الطعام.. الاعتصام المفتوح..) في ارتباطها المنهجي بالمقصد الممكن (رفض النظام.. المقاومة.. تنفيذ التغيير الاجتماعي).. هذا المسار الذي انتقل خلاله الفاعل من أرضية المطالبة المادية (الحركة العمالية) إلى تحقيق الذات وشعار -الحرية، الكرامة والعدلة الإجتاعية.
من المطالب الخبزية.. إلى الحقوق الرمزية، يبقى سؤال لماذا يتمرد البشر مطروحا باستمرار.. هذا السؤال الذي أجاب عنه تيد غير في مرحلة سابقة وقال أن الأمر يتعلق بالحرمان النسبي وهو الدافع وراء العنف السياسي[3]، وهذا الطرح يعين في بدايات الفهم والتحليل، لكن فور الانتقال إلى التأويل تتضح صعوبة الإحاطة الممكنة والنقد المقبول لبناء النظرية الصلبة حول تمرد البشر. هذا البشر الذي يبدع في كل مرة طريقة جديدة للمقاومة في تفاعله مع مستجدات الصراع في الحقل الإجتماعي والسياسي، ليس هذا وحسب. بل يحول مطالبه باستمرار.. بحيث يدفع العلماء والمهتمين إلى المزيد من البحث والتقصي.
انتهى مفهوم الصراع الطبقي مع الحركة العمالية، ثم تحطمت نظرية تعبئة الموراد مع الحركات الاجتماعية/الكلاسيكية. أما تورين الذي قال بانه “لا توجد حركة اجتماعية يتحدد صاحبها بالإستعباد أو التهويش أو الحبس. فالسجناء مثلهم مثل العاطلين عن العمل لا يشكلون حركة اجتماعية”[4]. وحدد مبادئ الحركة الثلاث (الهوية-التعارض-الشمولية) فنظريته عاجزة وتكاد لا تسعف في فهم وتحليل تطور الحركات الجديدة (الدينية-الثقافية-الاثنية..)، وأما بيات الذي عبر أن الحقيقة التي مفادها أن الناس قادرون على مساعدة أنفسهم والتوسع في شبكاتهم الإجتماعية تكشف بالتأكيد عن النشاطية السياسية وصور النضال اليومي”[5]. بحيث أبدع فكرة الزحف الهادئ مبرزا دور بسطاء الناس في تغيير سياسة الشرق الأوسط، والذي أثار بذلك نقاشا جديدا عن اللاحركة اجتماعية المتسمة باللا قادة واللا ايديولوجية[6]، لكن هو نفسه لا يمكن أن يطمئننا بخصوص هذا الطارئ العميق الذي جعل الفاعل و “المناضل” يخفي ورقته الجديدة/القديمة “العدالة” ويخرج ورقته الأخيرة “الاعتراف”..
لماذا يتمرد البشر إذن؟ يبدو أن السؤال مرتبط بالمجال الذي ولد فيه التمرد، فقد يستحيل فهم الأمور في شموليتها.. الثورة الفرنسية لا تشبه ثورة كوبا، ولا حركة 20 فبيراير في المغرب شبيهة بثورة 25يناير بمصر.. أو ثورة تونس.. ولكن في الغموض وضوح هام، لأن أرضية المطالب الاجتماعية دائما ما تحدد سقف التعاطي السياسي. ذلك أن الفعل الجماعي مرتبطة جذوره بالخلفية الحقيقة للذات الفاعلة من خلال سيرورة اشتغالها بداية مع الرفض العام للنظام، ثم مقاومته وتحقيق التغيير الاجتماعي المفترض.
انتفض البشر بداية ضد رجال الدين والكنيسة، ورسم كونت معالم الانسانية كدين جديد في ألمانيا، ثم رفض البشر استبداد الدولة والسلطة الواحدة فأبدع نظام الديموقراطية –التشاركية. و ثارت البرولتارية على البرجوازية فصنعت ديكتاتوريتها الخاصة. البشر اليوم يتمرد من جديد ضد الظلم واللاعدالة واللاكرامة.. من أجل نزع الإعتراف. هذا هو المشروع الجديد للانتفاضات المتقطعة.. انطلاقا من اعتصام ايميضر و حراك الريف.. مرورا بانتفاضة العطش بزاكورة.. وانتهاء عند حراك جرادة، يختلف السياق وتختلف الظروف.. لكن المغزى واحد هو تحقيق الإعتراف الممكن.. الإعتراف بمشروعية المطالب.. الإعتراف بضرورة المقاومة.. الإعتراف بالجدوى من تنفيذ التغيير الإجتماعي والسياسي.
الإعتراف.. هذا المطلب الذي ولد من رحم العدالة “الأم” الحبلى بالحرية والكرامة.. هو التعبير الوحيد اليوم، الذي ينبغي انتزاعه من لدن نظام سياسي يستمد مشروعيته من الدين (إمارة المؤمنين) و العلم (رئاسة المجلس العلمي) ثم النسب “الشريف” و التدبير (رئاسة مجلس الوزراء) و الجيش (القيادة العليا لأركان الجيش). يقول الكواكبي : ” وأشد مراتب الإستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية”[7].
من عمق الآبار إلى جبال الريف.. اختارت صرخة جرادة في بدايات الاحتجاج الأولى غداة استشهاد عمال الابار.. أن ترفع شعار “الشعب يريد.. ناصر الزفزافي”[8]. هذا الاستدعاء للأيقونة الذي قاد حراك الريف هو اعتراف هامشي-هامشي، وهي محاكاة لشهداء الابار (جرادة) وشهيد السمك (الحسيمة) تزكي خطاب الحراك وتضفي مشروعية على مطالبه. هذا الإعتراف الذي يحاول الهامش أن ينتزعه من المركز، وحين تعذر ذلك في الوقت الراهن اكتفى بتثمين المبادرات الهامشية للشخوص الذاتية والمعنوية، ونقصد هنا المرافعات المدنية للعلماء والادباء وكذا الحملات التضامنية الموسعة في ربوع الوطن وخارجه. الشيء الذي يعجل بنهاية مرتقبة ربما.. لمفهوم “المخزن”.
المخزن.. هذا الرجل العجوز الذي يحتمي بالتبعية (فرنسا.. أمريكا) و يتقوى بتفرقة المتمردين يضعف دائما عند العمل المشترك، ونجازف أنه يحمل في عمقه بذور فنائه. هذا “المركز” الذي انتعش تاريخيا بالصراع الأفقي وهذا يتجلى أساسا في الثقافة السائدة (ثورة الملك والشعب.. المسيرة الخضراء.. صوت الحسن ينادي.. رؤية الأمير الخامس في هلال القمر..)، لذلك لم يستوعب هذا الصراع العمودي ضده، ومن ثم عمل على تزييف الحقيقة (شعبي العزيز.. لم أكن اعلم.. الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه.. أنا بدوي أتسائل كما يتسائل المغاربة باستمرار أين الثروة؟ ..) ، في حين طبع الخلاف مع المتمردين خطاب مغاير من قبيل ( الأوباش.. العدميين.. الصغار غادي يجري مايجري على الكبار..) ، فالوطن إما أن يكون للمخزن و إما شبح السيبة. فكانت (23مارس.. انتفاضة كوميرا..) بداية التمرد من أجل “الخبزة” والتقسيم العادل للثروة، وانطلق إبان 20فبراير شعار /الحرية.. الكرامة والعدالة الإجتماعية..، ثم نادى حراك الريف برفع ظهير العسكرة.. بناء مستشفى وافتتاح جامعة..) كانت هذه هي الطريق إلى نزع الاعتراف. وهي تحملنا إلى انتظارات جديدة في القريب.. الحق في الوطن والاختلاف.
الهوامش:
[1] – Bourdieu Pierre, Pour un mouvement social européen, in, Manière de voir, Le Monde diplomatique, Bimestriel, N° 103, Février- Mars 2009, p. 67. (Cet article a été publié en juin 1999 dans le Monde diplomatique). Lien : https://www.monde-diplomatique.fr/1999/06/BOURDIEU/3080.
[2] – Ruth A. Wallace and Alison Wolf, Contemporary Sociological Theory, Chapter Six, Theories of rational choice, Prentice Hall, Inc., new Jersey, 1995,pp.279-341.
[3] – تيد روبرت غير، لماذا يتمرد البشر، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، 2004.
[4]– – الان تورين، نقد الحداثة، ترجمة انور مغيث، طبعة 1997 ،المجلس الاعلى للثقافة، ص 231.
[5]– آصف بيات، الحياة سياسية : كيف يغير بسطاء الناس الشرق الاوسط، ترجمة : احمد زايد، المركز القومي للترجمة، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين، سلسلة العلوم الاجتماعية للباحثين، العدد 2420، الطبعة الاولى2014 ، ص119.
[6] – رضوى عمار -الزاحفون (نموذج اللاحركات الاجتماعية في تحليل سياسات الشارع) -ملحق اتجاهات نظرية -مجلة الاهرام.
[7] – عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومعالم الاستعباد، شركة كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة-مصر. طبعة 2011، ص16.
[8] – (*) موقع الأول، موقع الكتروني نشر مادة تحت عنوان “عاجل.. جرادة تدخل في إضراب عام والمحتجون يرفعون شعار “الشعب يريد ناصر الزفزافي”. الرابط : http://alaoual.com/politique/90903.html.
- طالب باحث في علم الاجتماع