موقع أرنتروبوس

عوالم الجنسانية في يوميات بيروت الكولونيالية ودمشق الجديدة

11054_10207063285479768_770801507650542953_n

 

 الجنون….الاستعمار….شبقنة اللباس

عوالم الجنسانية في يوميات بيروت الكولونيالية ودمشق الجديدة

 

كاتب المقال :محمد تركي الربيعو

 

أخذت  العديد من المقاربات الإنسانونية تسعى في العقود القليلة الماضية، الى إعادة قراءة مفهوم الجنس عبر تحريره من حالة الاختزال البيولوجية، لصالح رؤية تنظر الى تاريخ الجنس بوصفه بناء اجتماعيا تاريخيا، لطالما عبر عن تداخل بين البيولوجي والنفسي و السوسيو- اقتصادي و الثقافي و الأخلاقي و الديني ،

و قد نتج عن  تبني هذه الحرتقات الجديدة بروز مفهوم  “الجنسانية” داخل الحقل المعرفي  بدل مفهوم الجنس التقليدي الذي بقي عاجزا عن احتواء القطيعة المعرفية و القيمية التي أحدثتها الدراسات الحديثة في حقل الدراسات السوسيو- انثربولوجية و النسوية، الأمر الذي نتج عنه  بحسب عالم الاجتماع المغربي عبد الصمد الديالمي كما عبر عن ذلك  في كتابه  “سوسيولوجيا الجنسانية العربية ”  الى الإقرار بأن “الجنسانية” ظاهرة اجتماعية كلية “بامتياز فهي تتركب من قضايا و مشاكل معقدة لا حصر لها، فالجنسانية افرازات، هويات، علاقات، سلوكات، مؤسسات، و إعادة إنتاج قيم….”.

أي أن  الجنسانية قبل أن تكون موضوع بحث علمي، هي أولا و قبل كل شيء ظاهرة اجتماعية  تتضمن تفاوضا مستمرا بين الأفراد و محيطهم الاجتماعي – الثقافي، كما أنها تطرح بحدة أسئلة حول التاريخ و السياسات الصحية للدول الاستعمارية والحديثة، و كذلك أسئلة حول الهوية و الاستهلاك خاصة بعد ظهور مساحات عالمية أخذت تتخطى الحدود القومية و تتجاوز الحداثة، لصالح الغارات الكاسحة لعمليات التسلية الجماهيرية – بكل تقنياتها البصرية و الرقمية- و ما نتج عنه من صراع حول القيم و المعاني الأخلاقية و الجنسية و دورها في صياغة هويات مجنسنة جديدة.

ضمن هذه  المقاربة الجديدة يأتي  كتاب  “الجنس في العالم العربي ، دار الساقي 2015، ترجمة أسامة منزلجي” تحرير كل من د. سمير خلف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية ببيروت، و البروفيسور  جون غانيون  الذي يعمل أستاذا فخريا لعلم الاجتماع داخل جامعة نيويورك، ليتفحص المساهمون من خلاله مفاهيم الذكورة و المخيلة و الاستعمار  و الصحة الجنسية ومسائل الهويات المثلية و الحقائق المعاشة، كمدخل للبحث في  أسلوب معايشة الأفراد و الجماعات للدساتير الجنسية المتنافرة و المستندات الثقافية، و لانعكاسات الهويات المجنسة الجديدة على المستويين العام و الخاص داخل الحياة التاريخية واليومية للمنطقة.

الحب والذكورة والجنون  في بيروت الكولونيالية 1860:

في هذا السياق،  يشرع ينس هايسن – أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورنتو- الى استكشاف الأنثربولوجيا التاريخية للبنية الاجتماعية لمدينة بيروت،  من خلال دراسة النشاط الجنسي و الجندر و العلاقات الطبقية في بيروت نهاية القرن التاسع عشر .

فقد شهدت المدينة في فترة الستينيات من القرن التاسع عشر بروز طبقة جديدة عرفت بأنها من  “البرجوازية المثقفة”  بما أنهم تلقوا تعليمهم في مدارس تبشيرية مسيحية خاصة الأميركية و الإنكليزية و الألمانية، و أخذت هذه الطبقة الاجتماعية تظهر تأثيرا كبيرا لأنها احتلت نظام الثقافة المحلي في بيروت، حيث كان للمدارس و الصحف أثر هائل على الثقافة المدينية بعد عام 1860. ورغم محاولات مجتمع بيروت التقليدي العمل على  “خصي”  هذه الفئة الجديدة -و هي استراتيجة  كانت شائعة في المجتمعات البرجوازية – بحكم الطريقة الغريبة لهم انذاك  في الملبس و الكلام و الجلوس على الموائد و اختلاطهم بحرية مع النساء، فانها استطاعت أن تزعزع  أعراف الجماعات التقليدية حول النظام الأبوي، بيد أن هذه الاختراق كان ينعكس في مرات عديدة  بشكل سلبي على النساء و المراهقين، و لعل مصير نجلاء أرسلان التي تنتمي لعشيرة أرسلان في جبال الشوف المطلة على مدينة بيروت خير مثال على ذلك .

فقد  وقعت في حب قريب لها يدرس في الكلية اليسوعية (المضطرب عقليا بسبب ثقافته الحداثوية)، الأمر الذي أشعر والدها بمهانة شديدة بسبب جحود ابنته و تحديها لذكورته، من ناحية  و لوقوعها تحت تأثير  “حب مقلد للأساليب الأوربية”.

و بعد عام من الاحتجاز في أعالي جبال الشوف انتشر خبر في بيروت مفاده، أن نجلاء تعاني من اضطهاد جسدي و عقلي، ليتم لاحقا تسليمها الى  أكبر مشفى للأمراض العقلية في اسطنبول. و لتختفي القضية في غياهب الأرشيف العثماني.

الجنس و الاستعمار و ولادة كليات الطب الحديثة:

لكن  الجديد برأي هانس أنه خلال السنوات الخمس عشر الأخيرة من القرن التاسع عشر للمدينة، أخذ مدخلا الطب و الصحة العامة يوفران  منفذا هاما   للتدخل الاستعماري الفرنسي في الشرق. فقد كان تأسيس كلية الطب الفرنسية في جامعة القديس يوسف عام 1883 بمثابة مدخل للموظفين الفرنسيين الى عالم السيطرة، من خلال  اجراء استطلاعات الصحة العامة التي عكست حالة من القلق الاستعماري الفرنسي في بيروت، كما في التقرير الذي نشره الطبيب الفرنسي بنوا بوييه  “أحوال العادات الصحية في بيروت”  في ليون عام 1897.

فقد عكس هذا التقرير المكون من 174 صفحة المخاطر الصحية و الأمراض في بيروت و خارجها. و بحسب ميشيل فوكو كان هذا التقرير بمثابة أول تمثيل سياسي – بيولوحي نظامي لبيروت مولع بالتكنولوجيا السياسية التي تدك أوجه الحياة الانسانية كلها – بدءا بنظام الحمية الى عادات النوم، من التخطيط للمدن الى التخطيط لإنشاء عائلة – ثم ينتقل الى مجال معرفة / قوة الدولة، و يبرزها، و يعمل عليها، و يغيرها لصالح صحة المجتمع بأكمله.

و لذلك  نجد بحسب – ينسن –  أنه خلافا لمؤلفات العديد من المندوبيين الأوربيين الاخرين في بلاد الشام و الشرق الأوسط عموما، فإن هذا التقرير لا يحتوي على صور لنساء شبه عاريات من  “السكان الأصليين المنحطين”  أو  “النبلاء الغريبي الأطوار”، بل يحتوي على رسوم توضيحية لالات تالفة مرمية  “في وضعية فنية” و نظام صرف، و رموز المنزل “الصحي” و خريطة لمدينة بيروت. كما أن الملفت أن بوييه في هذا التقرير لم يكن مدفوعا برغبات شبقة و لا بغزوات جنسية على طريقة المستشرقين التقليديين، بل كان الاحتواء هي مهمته الشاملة : حاويات مختومة من البراز الإنساني، اعتدال المتع الإنسانية و عاهرات معزولات في مناطق يضبها رجال الشرطة أمنيا و منارة بالضوء الأحمر.

كما أن ما يثير الاهتمام  أن  بوييه يشبه في الفصل الخامس من كراسته “عن الأمراض في بيروت”،  مرض السل بالهستيريا والإرهاق العصبي، حيث كتب قائلا” إن الإفراط في التناسل، و السهر الطويل و مناورات الاستمناء (العادة السرية) هي التي ترهق الشباب و تساعد على انتشار عدوى السل. و هذا هو ما يفسر سبب وقوع “الشرقيين” ضحايا للمرض – و أيضا تعرض النساء يعود سببها الى حد كبير الى تأثيرات “الأخلاقيات الجديدة الأقل تشددا بصورة أو بأخرى ، والانهماك بالأمور المادية والفساد الخلقي الذي كانت النساء عرضة له لكي يشبعن نزوة أجسادهن.”. و لعل ما يثير- و الكلام هنا للكاتب – أن بوييه –  لم يصور تعرض جسد المرأة للكبت خلف الحجاب أو من تحت مشد الخصر، و لا سجن المرأة داخل سجون الحريم، كسبب أساسي للهستيريا، بل على العكس و يا للدهشة، المغالاة في الحرية و الفراغ هما اللذان كانا يعرضان المرأة البيروتية  للمرض.

من ناحية أخرى، نجد أن الهوس الذي يبديه بوييه بالسلوك الصحي و النظافة ما هو الا تجسيد لقلق أعمق بشأن الصلة بين السكان المحليين و الجاليات الأوربية التي لم تعد مؤلفة من “الرواد” قناصل و مبشرين و تجار. فطبقا لإحصاءات قنصلية ارتفع عدد سكان المستعمرة الفرنسية وحدها من 600 الى 1400 بين عامي 1891و1897.

كما أنه خلافا للمدن الاستعمارية في شمال إفريقيا، لم يستقر الأجانب في بيروت في مدينة موازية صممت خصيصا بعيدة عن السكان المحليين. فالدبلوماسيون و القساوسة و الأطباء و رجال الأعمال استأجروا طوابق أو أبنية كاملة من ملاك في مناطق سكنية مجاورة للمدينة القديمة، أو خلف الملاهي الساحلية و مناطق الفنادق. و لذلك نجد الفصل الخامس من كراسة بوييه، الذي ينتهي بمقطع عن  “معدل الوفيات و نسبة الأمراض بين الفرنسيين”  يعبر عن تنامي الإحساس بالهشاشة في المؤسسات الأجنبية في بيروت : ظهور الأجانب من غير النخبة الذين يختلطون بالطبقات المحلية الدنيا و يشاركون في الممارسات الجنسية و في جلسات شرب الخمر. و هذا يعيدنا الى قضية الدعارة التي عرفها بوييه بأنها مشكلة مدينية خطيرة لأن المواخير الموجودة و المرخصة رسميا ليست معزولة بالقدر الكافي و لا معينة بحدود يميزها عن باقي أنحاء المدينة.

و هو ما أحدث قلقا عند أطباء الصحة الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم على خط المواجهات الأول ضد انتقال الأمراض من اسيا الى أوربا. و قد شكل تشابك الجغرافيات للحياة الراقية و السافلة، و الأحياء الأجنبية و المحلية و الأعمال الأخلاقية و اللاأخلاقية في بيروت,، شكل مأزقهم بالذات لأنه تحدى الفجوات السريرية التي يعتمد عليها التدخل العلمي – و أيضا بالمصادفة، سياسة الهوية.

و يخلص ينسن من خلال قراءته لكراسة بوييه الى نتيجة مفادها، أن هذا الاستطلاع بات يوحي بأن الأحاديث الإستشراقية حول مدينة بيروت قد انتقلت من الغزو الجنسي الى المحتوى السلوكي، كما أن العادات الصحية الإستعمارية أخذت تكافح لتجاري النمو المتسارع للمدينة و التحول الذي هدد صحة الجالية، و هي مواقف شبيهة بمواقف النخب الذكرية المحلية. فقد شغل التحرر من القيود و الحجز و الهويات الجنسية الجديدة أذهان المختصين بالصحة الإستعمارية بقدر ما أقلق بال النخب الذكرية المحلية على قدم المساواة.

استراتيجيات العفة عند النساء الدمشقيات:

من جانب اخر،  ترى د. كريستا سالامتندا الحاصلة  على درجة الدكتوراه من اكسفورد عن أطروحتها  “دمشق القديمة الجديدة” من خلال بحث ميداني و اثنوغرافي بين طبقات النخبة في دمشق، أن مضاعفة أهمية الصورة بقي بمثابة الجائزة التي توضع لمظهر العفة عند النساء الدمشقيات (الشاميات بالتحديد). حيث يصبح مظهر النقاء من الناحية الجنسية شكلا من رأس مال الفتاة الشابة، و غيابه يمكن أن يكون مدمرا على امالها في المستقبل، و يمكن أيضا أن يصبح ذخيرة للعائلات المعارضة كي تهاجم أعداءها. و حفاظا على رأس مال عفتهن كان ينبغي على الصبايا ألا يُروا و هن يختلطن بالرجال، خاصة في خلوة، اذا لم تكن هناك خطبة.

بيد أن الجديد هو أن الفتيات الشابات اللواتي يحظر عليهن الإختلاط بالشباب، أخذن يتبعن استراتيجيات الجذب عبر الإستعراض. حيث  أخذت بعض المناطق التي تقع بين العام و الخاص توفر أماكن لعرض النفس على الاخرين. مثلا، نادي العناية الصحية في حي أبو رمانة هو مكان مختلط لممارسة التمارين الرياضية في حي يسكنه الى حد بعيد أهالي الطبقة الراقية، نجد أن النساء القادرات على تكاليف الذهاب الى هناك ينتقلن بسياراتهن أو بسيارة شخص اخر، و يتعمدن عدم المشي في الشوارع، حتى وهن مرتديات ملابس محافظة. و لكن غالبا داخل النادي يضعن مساحيق تجميل ثقيلة، و يرتدين الملابس الضيقة جدا و الرقيقة. وبما أن دروس الحركات الرياضية تجري في منطقة خالية أمام الات الأوزان و التمارين. و رافعو الأثقال – و غالبيتهم من الرجال – يمكنهم أن يراقبو المؤخرات الملتوية، التي تبرزها بجلاء الملابس الضيقة و الرقيقة، لنساء يتلقين دروس المحافظة على الرشاقة .

كما ترصد الباحثة من جانب اخر، مسألة الأزياء الجديدة بين النساء الشابات أو المتوسطات في العمر داخل المدينة، التي برأيها باتت تبدي ميولا في السنوات الماضية  نحو نزعة جنسية أكثر وضوحا : الملابس الضيقة، الملتصقة بالجسم و أحيانا التي تكشف الأخاديد، و الألوان الفاقعة، و مساحيق التجميل الثقيلة، و الشعر الطويل، و الحذاء العالي الكعب .      و هو ما تجد له تفسيرا  لكون الفضاء الاجتماعي الجديد الذي بات يحيط بالفتيات غالبا ما تكون فيه الصور و ليس الإنجاز هي التي تحدد المكانة، لذلك  يكون الرهان على العرض عاليا. و يخضع كل جانب من جوانب مظهر المرأة للفحص الدقيق و التقييم من قبل النساء الأخريات. وخسارة رطل أو زيادته، و تجفيف الشعر بطريقة مختلفة، و لبس التنورة بدل البنطلون أو سماكة قليلة في رسم خط العين، كلها تثير التعليق : أحيانا، و لكن ليس دائما من باب المديح.

المصدر : القدس العربي

http://www.alquds.uk/?p=382923

Exit mobile version