أ. شيهب عادل
جامعـة جيجـل/ الجزائر
مقدمــة:
في الوقت الذي يشهد فيه مفهوم الثقافة، منذ فترة، نجاحاً خارج دائرة العلوم الاجتماعية الضيقة، نجد مفهوماً آخر هو مفهوم” الهُوية الثقافية” – وهو غالبا ما يرتبط بالأول- يشيع استخدامه تدريجياً لدرجة جعلت بعض المحللين يرون فيه أثراً من آثار الموضة، لكن ما الذي تعنيه “موضة” الهُويات هذه؟.
يُحيلنا هذا التساؤل المُثار حول الهُوية إلى مسألة الثقافة، فنحن نرمي إلى رؤية الأشياء الثقافية حيثما نظرنا، كما نريد أن يحظى كل منا بهُويته، فهل يعني هذا أنه علينا وضع تطور هذه الإشكالية في إطار الضعف الذي يشهده نموذج الدولة-الأمة في المجتمعات؟، أو في مدى الدمج السياسي الذي يتجاوز الحدود الوطنية؟ أو في شكل معين من أشكال عولمة الاقتصاد؟ أو بشكل أكثر دقة نقول: هل الشكل الهُوياتي الحديث هو امتداد لظاهرة تمجيد الاختلاف التي انبثقت في السبعينات كنتيجة للتحركات الإيديولوجية المتنوعة، أي المتناقضة ( الاشتراكية والرأسمالية)، سواء كانت المديح للمجتمع المتعدد الثقافات من جهة أو نتيجة لمقولة “ليبق كل منا في بيته محافظاً على هويته” من جانب آخر؟
ومع ذلك، حتى لو ارتبط مفهوما الثقافة والهُوية بمصير واحد، فليس من السهل خلط أحدهما بالآخر، إذ يمكن للثقافة أن تعمل بدون وعي للهوية، بينما يمكن لاستراتيجيات الهُوية أن تعالج الثقافة أو تغيرها، وبالتالي لا يبقى هناك شيء مشترك مع ما كانت عليه في السابق.
تنشأ الثقافة في جزء كبير منها، عن عملية لا واعية، أما الهُوية فتحال إلى معيار انتمائي يجب أن يكون واعياً لأنها، أي الهُوية تقوم على تعارضات رمزية.
في مجال العلوم الاجتماعية يتميز مفهوم الهُوية بغموضِه وتعدد معانيه. ونظرا لحداثة هذا المفهوم، فقد شهد عدداً من التعاريف والتأويلات المكررة، وتحولت فكرة الهُوية إلى مفهوم في الولايات المتحدة خلال الخمسينات، وكان فريق البحث في علم النفس الاجتماعي مشغولاًً آنذاك بإيجاد أداة مناسبة تسمح بإيضاح المشاكل الناجمة عن اندماج المهاجرين، هذه المقاربة التي كانت ترى في الهُوية والهُوية الثقافية محدداً ثابتاً لسلوك الأفراد، قد تجاوزها الزمن لحساب مفاهيم إلى حد ما ديناميكية لا تجعل من الهُوية معطى مستقلاً عن السياق العلائقي.
وبهذا فالهُوية هنا تلقي بنا في إشكالية مفهوم العلاقة بين كل من الثقافة والهُوية، حتى يمكن تحليل وتحديد كلاً منهما وما العلاقة أو الحدود المرسومة بينهما؟.
1- مفهـوم الثقافة:
ومفهوم (الثقافة) هو من المفاهيم الملتبسة في كل اللغات لأنه يراد التعبير بكلمة واحدة عن مضمون شديد التركيب والتعقيد والتنوع والعمق والاتساع ويضاعف الالتباس أن علم الثقافة والانثروبولوجيا الثقافية وعلم اجتماع المعرفة وعلم البرمجة العصبية اللغوية، ما زالت تُدرس على نطاق ضيق كتخصصات فردية ولم تصبح من العلوم التي يقرأها كل الدارسين كالفيزياء والجغرافيا والكيمياء والتاريخ لذلك ظل معظم الناس لا يعرفون الحقائق الهامة التي توصلت إليها العلوم الإنسانية.
الإسهام العربي في تحديد ” الثقافة يستعرض د . حسين مؤنس المعاني العربية لمادة ” الثقافة ” كما وردت في ” لسان العرب ” نختار منها التالي : ” ثقف الشيء ثقفاً وثقوفاً : خدمة ، ورجل ثقف : حاذق فهم ” .
ابن السكيت ” رجل ثقف لقف ، وثقف لقف ، وثقيف لقيف : بين الثقافة واللقافة. ”
ابن دريد : ثقفت الشيء : حذقته ، وثقفته إذا ظفرت به.
وتثقيفها، تسويتها، ويعلق د. حسن مؤنس على ذلك بالقول : ” فليس في معاني لفظ ثقف ما يتفق مع المعنى الذي نريده نحن اليوم من كلمة ثقافة ، بل نحن لا نستعمل ثقف أو ثقف بل تثقف يتثقف بمعنى اطلع اطلاعاً واسعاً في شتى فروع المعنى حتى أصبح رجلاً مثقفاً، فاللفظ يستعمل اليوم في معنى الاطلاع الواسع المطلق غير المحدد بتخصص، ولا وجود لهذا المعنى في المعاني القديمة للفظ الثقافة ” .
ويمكن أن نلاحظ في هذا الصدد أن كلمة ” ثقافة ” باللغة العربية تتميز تميزاً واضحاً عن كلمة ” حضارة ” وذلك بتركيزها على الجوانب النظرية والفكرية والمعرفية والفنية والجمالية بوجه عام ، أي على النواحي المعنوية من الحضارة.
وتشكل الثقافة ضمن النسق الاجتماعي العام نسقاً فرعياً متميزاً ومستقلاً، لكنه يتفاعل مع بقية الأنساق الفرعية الأخرى ويتطور معها وبها، وتقوم الثقافة بتكوين جملة الطرائق والمعايير التي تحكم رؤية الإنسان للواقع، لذلك فإن الثقافة هي مجموع القيم والقواعد والأعراف والتقاليد والخطط التي تبدع وتنظم الدلالات العقلية والروحية والحسية، وتعمل على الحفاظ على توازن النسق الاجتماعي واستقراره ووحدته وتوحيد الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي عن طريق توحيد الأنماط العقلية التي تحكمها، فالثقافة تغذي الأنساق الفرعية للنسق الاجتماعي بقيم مماثلة فتخلق نسيجاً اجتماعياً واحداً قادراً على إعادة إنتاج نفسه. لذلك فإن الثقافة في الحقيقة ليست إلا المجتمع نفسه وقد أصبح مظهراً للوعي أو وعياً، وهذا الوعي هو في ذات الوقت وعي للذات .
ويعود الفضل في التعريف الإنساني الأول للثقافة إلى ادوارد تايلور الذي عرف الثقافة أو الحضارة بمعناها الإنساني الأوسع على أنها؛ “هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع”
ويعرفها ليفي شتراوس يمكن اعتبار الثقافة كمجموعة من المنظومات الرمزية التي تحتل المرتبة الأولى فيها اللغة وقواعد الزواج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين.وهذه المنظومات كلها تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الواقع المادي والواقع الاجتماعي وكذلك العلاقات التي يقيمها هذان النمطان مع بعضهما بعض وتلك التي تقوم بين المنظومات الرمزية نفسها مع بعضها.
ويكمن مفهوم الثقافة عند عالم الاجتماع الأمريكي وأشهر المنظرين الاجتماعيين في عصرنا الحاضر تالكوت بارسونز، في أنظمة رموز تعمل على توجيه الفعل والعناصر الذاتية الشخصية الفاعل والأنماط المؤسسية للأنظمة الاجتماعية ، ويقول جان بول سارتر عن الثقافة : ” إن الإنسان يضفي ذاته ، يتعرف فيها على ذاته ، وهي وحدها المرآة القوية التي تعكس صورته.
و يعرف جيرارد اودوننيل (Gérard O’Donnell ) الثقافة بأنها؛ عندما تأسس جماعة بشرية ما طريقة لحياتها ، وحيث تكون هذه طريقة مقبولة بصورة عامة من الإدارة، الملبس، وآداب السلوك والمعتقدات، توصف هذه بأنها ثقافتهم .
والثقافة تعني “ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبير والإبداعات التي في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل دينامكيتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء”.
والثقافة في التاريخ هي ” تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة.
والثقافة تعرف بصورة عملية على أنها ” مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه”، فهي على هذا التعريف المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.
ويقدم لنا مالك بن نبي محاولة أراد أن يقدم فيها إيضاحا اشمل لوظيفة الثقافة من خلال مماثلتها بوظيفة الدم، فيؤكد على أن الدم يتكون من كريات دموية حمراء وبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد من البلازما ليغذي الجسد الواحد، والثقافة في مماثلته هي ذلك الدم في جسم المجتمع الواحد يغذي حضارته، ويحمل أفكار الصَفوة كما يحمل أفكار العَامَة، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة الأذواق.
لقد أعلنت الأمم المتحدة في ندوتها المقامة لمناقشة الحقوق الثقافية من حيث هي حقوق إنسانية 1970: إلى أن الثقافة تعني دائماً كل الحقوق التي تمكن الإنسان من أن يأخذ حجمه الكامل، وقد قدَّم أحد المشاركين، وهو من أمريكا اللاتينية رأياً بقوله: يمكن أن نضيف إلى معنى الثقافة أنها أي جهد إنساني يعطي الإنسان شعوراً بالكرامة، فَرَدَ آخر إنَّ لكل شعب حضارته مقهوراً كان أم قوياً غير أنَّه يمكن أن يعاني من غزو ثقافي أو يتبنى ثقافة القوي.
وقد انتهت الندوة إلى تعريفات شتى خلاصتها: “إن ثقافة أي شعب هي طريقته الخاصة في الحياة، وموقفه منها، وآراؤه فيها، وفلسفته تجاه مشاكلها، ثم تصوره لوضعه في الحياة”3).
وبسبب تعدد التعريفات للثقافة جاء إعلان مكسيكو لغرض تحديد معنى الثقافة في إطار عام وواسع كالأتي :
” إن الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن يُنظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات”.
1-1- خصائص الثقافـة :
إن الخصائص الرئيسية للثقافة هي :
1- إنها من اكتشاف الإنسان باعتبارها مكتسبة وليست وراثية أو غريزية ، وبالاستناد إلى ذلك لا يمكن أن نجد أية ثقافة لدى الحيوان لاعتماده على الغريزة، إذن الثقافة إنسانية الملامح، ولا مجال لقيام أيةِ ثقافةٍ دون الوجود الإنساني الذي ينمي هذه الثقافة ويكتسبها عن الغير من خلال تطور حياته الاجتماعية فناً وفكراً وسلوكاً .
2- الثقافة تنتقل من جيل لآخر، ومن مجتمع لآخر، من خلال العادات والتقاليد والقوانين والأعراف، وعملية النقل هذه تتم من خلال التعلم، مع إضافة كل جيل لما يكتسبه مما يطرأ على حياته من قيم ومبادئ وأفكار وسلوكيات جديدة نتيجة لتغير الظروف .
3- الثقافة قابلة للتعديل والتغير من جيل لآخر، حسب الظروف الخاصة بكل مرحلة، ويمكن للأجيال الجديدة أن تضيف قيماً ومفاهيم جديدة لم تكن موجودة لدى الأجيال السابقة.
2- مفهـوم الهُوية:
إن مسألة الهُوية توحي وللوهلة الأولى، إلى المسألة الأوسع وهي مسألة الهُوية الاجتماعية التي تعد الهُوية إحدى مكوناتها، إذا لا يمكننا التطرق إلى مفهوم الهُوية إلا إذا حددنا بعدها الاجتماعي.
وعليه تعبر الهُوية الاجتماعية “محصلة مختلف التفاعلات المتبادلة بين الفرد مع محيطه الاجتماعي القريب والبعيد، والهُوية الاجتماعية للفرد تتميز بمجموع انتماءاته في المنظومة الاجتماعية؛ كالانتماء إلى طبقة جنسية أو عمرية أو اجتماعية أو مفاهيمية…الخ، وهي تتيح للفرد التعرف على نفسه في المنظومة الاجتماعية وتمكن المجتمع من التعرف عليه”.
لكن الهُوية الاجتماعية لا ترتبط بالأفراد فحسب، فكل جماعة تتمتع بهوية تتعلق بتعريفها الاجتماعي وهو تعريف يسمح بتحديد موقعها في المجموع الاجتماعي.
الهُوية الاجتماعية هي احتواء وإبعاد في الوقت نفسه: إنها تحدد هوية المجموعة (المجموعة تضم أعضاء متشابهين فيما بينهم بشكل من الأشكال)، في هذا المنظور تبرز الهُوية الثقافية باعتبارها صيغة تحديد فئوي للتمييز بين نحن وهم، وهو تمييز قائم على الاختلاف الثقافي.
في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة يقول فيلسوفنا الكبير ابن رشد ” أن الهُوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود وهي مشتقة من الهُو كنا تشتق الإنسانية من الإنسان ” وهو بهذا بعود بنا إلى مفهوم الهُوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها تماثل الشئ مع ذاته. ولهذا نرى في التعريفات للجرجاني ” أن الهُوية هي الأمر المتعلق من حيث امتيازه عن الاغيار”، والامتياز هنا بمعنى الخصوصية والاختلاف لا بمعنى التفاضل، ولعل ابن خلدون قد استطاع أن يبرر هذا المعنى أكثر وضوحا بقوله في المقدمة “بكل شئ طبيعة تخصه”، وعلى هذا فانتفاء خصوصية الشئ هو انتفاء لوجوده ونفيه.
أما الهُوية فلغويا هي مأخوذة من “هُوَ.. هُوَ” بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب.
فهوية الإنسان .. أو الثقافة.. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنساناً أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة.
إن هوية أية أمة أو مجتمع هي صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية
والهُوية دائماً تجمع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى.
واللغة هي التي تلي الدين، كعامل يميز ثقافة شعب ما عن ثقافة شعب أخرى، ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهُوية.
وأهم عناصر الهُوية، الدّين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهُوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهُوية دائماً بالدين.
وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد ”من أنا؟“، ”ولمن أنتمي؟“، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهُوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهُوية.
وفي السياق نفسه يرى جاك بيرك أن الهُوية تتحدد من خلال :
– الاستمرارية والتحول لأنه لا توجد هوية دون تغير.
– في الهُوية يلتحم الذاتي مع الموضوعي من خلال تبادل كل من الأنا والأخر النظرة إلى هويتهما.
– الهُوية نشطة وحركية.
– الهُوية كلية؛ أي مركبة تنقسم إلى عناصر وأجزاء مترابطة.
– الهُوية تتميز بالتبادل بين أجزائها وفي التبادل بين أجزائها وتقاطعها مع هويات أخرى في علاقة جدلية ما يجعلها متحركة وحية، ويتضح كون الهُوية تبدو في صور عدة منها؛ الهُوية المستمرة وخطوطها الكبرى تتناقلها الأجيال من جيل إلى آخر. أما الهُوية المتحولة فتتشكل بواسطة التأثيرات التي تتلقاها، ولكونها تتحول عموما داخل الاستمرار ذاته،وبالمقابل تعد الهُوية المرآة العاكسة لرسم الذات والأخر خشية الذوبان والاضمحلال.
وإذا كانت هذه هي الهُوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهُوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية.
أن الهُوية هي كل ما يشخص الذات ويميزها ،فالهُوية في الأساس تعني التفرد، والهُوية هي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، والهُوية ليست منظومة جاهزة ونهائية ، وإنما هي مشروع مفتوح على المستقبل ،أي أنها مشروع متشابك مع الواقع والتاريخ، لذلك فان الوظيفة التلقائية للهوية هي حماية الذات الفردية والجماعية من عوامل التعرية والذوبان،آن هذا التصور الوظيفي لمفهوم الهُوية يجعلنا تمييز بين تأويلين لمعنى الهُوية:
أ- التصور الستاتيكي أو الماهوي للهوية ،الذي يرى آن الهُوية،عبارة عن شيء اكتمل وانتهى وتحقق في الماضي،فيفي فترة زمنية معينة ، آو نموذج اجتماعي معين وان الحاضر ما هو آلا محاولة أدراك هذا المثال وتحقيقه .
ب – التصور التاريخي والديناميكي للهوية الذي يرى أن الهُوية شيء يتم اكتسابه و تعديله باستمرار ، وليس أبدا ماهية ثابتة ، أي آن الهُوية قابل للتحول و التطور ، وذلك لأن تاريخ أي شعب هو تاريخ متجدد ومليء بالأحداث والتجارب ، فأن الهُوية الأصلية تتغير باستمرار ، وتكتسب سمات جديدة ، وتلفظ أخرى وهذا يعني أن الهُوية شيء ديناميكي و هو سلسلة عمليات متتابعة كما أنها تتحول مع الزمن فهي ديناميكية ، وهي ترتبط بالأثر الذي تتركه الحضارة عبر التاريخ ، ويمكن النظر إلى الهُوية في صورتها الديناميكية على أنها مجموعة من المقررات الجماعية آلتي يتبناها مجتمع ما ، في زمن محدد للتعبير عن القيم الجوهرية ( العقائدية ) و الاجتماعية والجمالية والاقتصادية والتكنولوجية والتي تشكل في مجموعها صورة متكاملة تتغير عن ثقافة هذا المجتمع وأي تهديد لكل أو أحد هذه القيم ، يجابهه سخط الدفاع العفوي آو المقاومة الثقافية، الذي يعمل حافظا لهذه القيم، من التصدع والانهيار، آو التلاشي .ويتولى خط الدفاع مهمة تكييف العناصر المهددة لنواة الثقافة، وتكييف بعض العناصر المشكلة لنواة الثقافة بما يضمن حفظ جوهرها لتشكيل الصورة الاجتماعية للهوية المرغوب فيها .
2-1- خصائص الهُوية:
ان تحديد هوية مجتمع او جماعة او فرد يقتضي العودة الى جملة من العناصر التي يمكن تصنيفهاالى المجموعات التالية:
اولا: عناصر مادية وفيزيائية تشمل:
– الحيازات: الاسم، الالات والموضوعات الاموال والسكن والملابس.
– القدرات: القوة الاقتصادية و المالية والعقلية.
– التنظيمات المادية: التنظيم الإقليمي، نظام السكن، نظام الاتصالات الانسانية.
– الانتماءات الفزيائية: الانتماء الاجتماعي، التوزعات الاجتماعية، والسمات المرفولوجية الاخرى الممزة.
ثانيا: عناصر تاريخية وتتضمن:
– الاصول التاريخية: الاسلاف، الولادة، الاسم، المبدعون، الاتحاد، القرابة، الخرافات الخاصة بالتكوين، الابطال الاوائل.
– الاحداث التاريخية الهامة: المراحل الهامة في التطور، التحولات الاساسية، الاثار الفارقة، التربية والتنشئة الاجتماعية.
– الاثار التاريخية: العقائد والعادات والتقاليد، العقد الناشئة عن عملية التطبيع او القوانين والمعايير التي وجدت في المرحلة الماضية.
ثالثا: عناصر ثقافية نفسية وتتضمن:
– النا الثقافي: المنطلقات الثقافية، العقائد، الاديان والرموز الثقافية، الايديولوجيا ونظام القيم الثقافية، ثم اشكال التعبير المختلفة “فن، ادب”.
– العناصر العقلية: النرة الى العالم، نقاط التقاطع الثقافية، الاتجاهات المغلقة، المعايير الجمعية، العادات الاجتماعية.
– النام المعرفي: السمات النفسية الخاصة، اتجاهات نظام القيم.
رابعا: عناصر نفسية اجتماعية وتتضمن:
– اسس اجتماعية: اسم، مركز، عمر، جنس، مهنة، سلطة، واجبات، ادوار اجتماعية، نشاطات، انتماءات اجتماعية.
– القيم الاجتماعية: الكفاءة، النوعية، التقديرات المختلفة.
– القدرات الخاصة بالمستقبل: القدرة والامكانيات، الاثارة الاستراتجية، التكيف، نمط السلوك.
3- العلاقة بين الهُوية والثقافة:
أما العلاقة بين الهُوية والثقافة، فإنها تعني علاقة الذات بالإنتاج الثقافي، ولا شك أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة، دون الخوض في الجدال الذي يذهب إلى أسبقية الذات على موضوع الاتجاه العقلاني المثالي، أو الذي يجعل الموضوع أسبق من الذات، وإن كل ما في الذهن هو نتيجة ما تحمله الحواس وتخطه على تلك الصفحة (ذهن الإنسان) كما يذهب لوك، والاتجاه التجريبي بشكل عام.
الخلاصة أن الذات المفكرة تقوم بدور كبير في إنتاج الثقافة، وتحديد نوعها وأهدافها وهويتها في كل مجتمع إنساني وفي كل عصر من العصور، وبناء على ما سبق فإنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الهُوية الثقافية، فالهُوية الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كما تختلف باختلاف التوجهات الفكرية والأيديولوجية لمنتجي الثقافة.
3-1- مفهوم الهُوية الثقافـية:
أن الهُوية الثقافية كيان يصير ويتطور، وليس معطى جاهز ونهائي،فهي تصير وتتطور آما في اتجاه الانكماش ، آو في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم ،انتصاراتهم وتطلعاتهم ،وأيضا باحتكاكها سلب وإيجاب مع الهويات الثقافية الأخرى، التي تدخل معها في تغاير من نوع ما . وعلى العموم تتحرك الهُوية الثقافية في ثلاث دوائر متداخلة ذات مركز واحد، وكما يأتي:
أ- الفرد داخل الجماعة الواحدة، هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة عبارة عن أنا لها آخر داخل الجماعة نفسها، أنا تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من الآخر القبيلة ،المذهب والطائفة أو الديانة ،التنظيم السياسي أو الجماعي .
ب- الجماعات داخل الأمة، هم كالأفراد داخل الجماعة، لكل منها ما يميزها داخل الهُوية الثقافية المشتركة، لكل منها أنا خاصة بها و آخر من خلال وعبرة على نفسها بوصفها ليست إياه.
ت- الشيء نفسه يقال بالنسبة إلى الأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى غير أنها أكثر تجريدا، وأوسع نطاقا، وأكثر قابلية على التعدد والتنوع والاختلاف.
3-2- المفاهيم الموضوعية والذاتية للهوية الثقافية:
ثمة علاقة وثيقة بين المفهوم الذي نتصوره عن الثقافة وبين مفهومنا للهوية الثقافية، أولئك الذين يعرفون الثقافة بـ”طبيعة ثانية” تأتينا بالوراثة ولا يمكننا الهروب منها، يرون في الهُوية معطى من شأنه أن يحدد الفرد بشكل نهائي ويطبعه بطابعه بشكل لا يقبل الجدل تقريباً في هذا المنظور، يمكن للهوية أن تحيل بالضرورة إلى المجموعة الأصلية التي ينتمي إليها الفرد “والأصل” أو الجذور التي وفقاً للتصور العادي، هو أساس الهُوية الثقافية أي ما يحدد الفرد بشكل أكيد وأصيل.
إن إشكالية الأصل المطبقة على الهُوية الثقافية يمكن أن تؤدي إلى جعل الأفراد والجماعات عنصريين وبما أن الهُوية، كما تقول بعض الأطروحات المتطرفة، محفورة في الإرث الوراثي، وبما أن الفرد بطبيعة وراثتهِ البيولوجية يولد مع العناصر المكونة للهوية العرقية والثقافية ومنها الصفات النمطية الظاهرية phénotypiques والمزايا النفسية الناشئة عن (العقلية) و(العبقرية) الخاصة بالشعب الذي ينتمي إليه الفرد فإن الهُوية ترتكز بالتالي على شعور غريزي بالانتماء إلى حد ما. وتعد الهُوية شرطاً ملازماً للفرد وتحدده بشكل ثابت ونهائي.
وهنا أيضاً تعرّف الهُوية الثقافية على أنها سابقة في وجودها على وجود الفرد، وتبرز الهُوية الثقافية ملازمة للثقافة الخاصة، وبالتالي فإننا نسعى إلى وضع قائمة بالخصائص الثقافية التي يمكن أن تشكّل حاملاً للهوية الجماعية، أي هويتها “الأساسية” الثابتة تقريباً.
هناك نظريات أخرى حول الهُوية الثقافية توصف بالنظريات “الأوّلية” وهي ترى أن الهُوية العرقية الثقافية هي هوية أولية “أساسية” لأن الانتماء للمجموعة العرقية هو أول الانتماءات الاجتماعية وأكثرها جوهرية، ففيها تنعقد أكثر الروابط تحديداً لأن الأمر يتعلق بروابط قائمة على السلالة المشتركة.
وبهذا التعريف تبدو الهُوية الثقافية بمثابة ملكية أساسية لازمة للجماعة لأن هذه الجماعة تقوم بنقلها عبر أفرادها وإليهم دون الرجوع إلى الجماعات الأخرى، ويكون اكتساب الهُوية بمثابة تحصيل حاصل لأن الأمر يبدأ به.
ما يربط هذه النظريات ببعضها هو المفهوم الموضوعي نفسه حول الهُوية الثقافية وفي كل الأحوال، فإن الأمر يتعلق بتحديد الهُوية والقيام بوصفها انطلاقاً مما هو مشترك (الوراثة والسلالة) واللغة والثقافة والدين وعلم النفس الجماعي(الشخصية الأساسية) والارتباط بأرض معينة…الخ، ويرى الموضوعيون أن الجماعة التي تفتقر إلى لغة خاصة بها آو إلى ثقافة أو أرض تختص بها، أي كما يقول البعض، الجماعة التي لا تملك نمطاً ظاهرياً خاصاً بها لا يمكنها أن تكون جماعة عرقية-ثقافية ولا يمكنها المطالبة بهوية ثقافية أصيلة.
لقد لاقت تعريفات الهُوية الثقافية هذه نقداً شديداً من قبل المدافعين عن المفهوم الذاتي لظاهرة الهُوية، فهم يرون أنه لا يمكن اختزال الهُوية ببعدها الوصفي attributive وهي ليست هوية مكتسبة بشكل نهائي.
والنظر إلى تلك الظاهرة على هذا النحو يعني عدها بمثابة ظاهرة سكونية جامدة تحيل إلى جماعة محددة بشكل ثابت، وهي نفسها غير قابلة للتغير، ويرى “الذاتيون” أن الهُوية العرقية- الثقافية ليست سوى شعور بالانتماء أو التماهي في جماعة خيالية إلى حد ما، وما يهم هذه التحليلات هو التصورات التي يكونها الأفراد عن الواقع الاجتماعي وعن انقساماته.
وينظر هذا التيار العقلاني النقدي إلى الهُوية في كونها هوية مرنة متجددة تتجدد عناصرها حسب التطور ومستجدات العصر، مع احتفاظها بخصوصيتها في كونها هوية عربية تستوعب ثقافة الآخر وتوظفها في بناء ثقافة منفتحة وتطرح الدين الإسلامي بصورة تتميز بالتسامح يقبل الآخر ويتعامل معه، الهُوية الثقافية العربية عند التيارين الأولين تتميز بالتعصب لما هو تراثي إسلامي بالنسبة للتيار الأول، ولما هو غربي بالنسبة للتيار الثاني، أما التيار الثالث فيتبنى هوية ثقافية تتميز بالمرونة والتشكل المتجدد المستمر، فهي نتاج ذوات وموضوعات وثقافات، فالهُوية الثقافية هي الانعكاس لتكوين الأنا ” إن تشكل الأنا عبارة عن ولادة مستمرة … ”، أي الولادة المستمرة للأنا أو الهُوية الثقافية تعني الحياة والاستمرار والنمو والتطور، هوية متجددة تستفيد من معطيات العصر في ميادينه المختلفة واستثمارها لصالح الإنسان ومتطلباته المتعددة في مختلف مناحي الحياة. هوية ثقافية تعيش داخل التاريخ لا خارجه ولا متعالية عليه.
غير أن وجهة النظر الذاتية المتطرفة تؤدي إلى اختزال الهُوية إلى مجرد مسألة اختيار فردي عشوائي بحيث يكون أيّ منا حراً في تماهياته، إن مثل هذه الهُوية الخاصة، وفقاً لوجهة النظر السابقة يمكن تحليلها باعتبارها تكوناً استيهامياً محضاً نشأ عن خيال بعض الإيديولوجيين الذين يتلاعبون بجماهير ساذجة إلى حد ما أثناء بحثهم عن غايات يمكن الإقرار بها.إذا كان للمقاربة الذاتية من فضيلة فهي تلك التي توضح الطابع المتغير للهوية، لكن هذه المقاربة اتجهت كثيراً إلى التركيز على المظهر المؤقت للهوية في الوقت الذي لا يندر فيه أن تكون الهويات ثابتة نسبياً.
3-3- المفهوم العلائقي والظرفي للهوية الثقافية:
إن اعتماد مقاربة موضوعية بحتة أو ذاتية بحتة يعني أن نضع أنفسنا في طريق مسدودة.والبرهنة بمعزل عن السياق العلائقي لبحث مسألة الهُوية الذي يعتبر وحده هو القادر على تفسير السبب في ترسخ هوية معينة في فترة معينة وكبتها في فترة أخرى.
إذا كانت الهُوية فعلاً اجتماعيا بنّاء وناشئة عن التصور وليست مُعطى، فهي ليست وهماً يتعلق بمجرد ذاتية الفاعلين الاجتماعيين، إن تكوين الهُوية يتم داخل الأطر الاجتماعية التي تحدد موقع الفاعلين وتوجّه تصوراتهم وخياراتهم، ومن جانب آخر فإن تكون الهُوية ليس وهماً لأنه يتمتع بفاعلية اجتماعية وله آثار اجتماعية حقيقية.
ليس هناك هوية في حد ذاتها ومن أجل ذاتها فقط، وبعبارة أخرى، الهُوية والغيرية شريكان تربط بينهما علاقة جدلية، والتماثل يوازي الاختلاف، طالما أن الهُوية هي محصلة عملية مطابقة في كنف حالة علائقية، وطالما أنها أيضاً نسبية لأنها تتطور بتطور الحالة العلائقية فلا شك أنه من الأفضل أن نأخذ بمفهوم التماثل باعتباره مفهوما عمليا للتحليل بدلاً من مفهوم الهُوية.
وفقاً للحالة العلائقية، لاسيما علاقة القوة بين مجموعات التماس-التي يمكن أن تكون علاقة قوى رمزية- يمكن أن تتمتع الهُوية الذاتية (الفردية) بشرعية أكبر من الهُوية الجماعية. وهذه الهُوية الجماعية أو المتعددة تكون في حالة هيمنة مميزة، تترجم من خلال الآثار التي تعاني منها مجموعات الأقليات.وغالباً ما تؤدي في هذه الحالة إلى ما سميناه ب”الهُوية السلبية”ن و نظراً لأن الأغلبية تعرّف الأقلية على أنها مختلفة بالنسبة للمرجعية التي تشكلها هذه الأغلبية فإن الأقلية لا ترى في نفسها إلا اختلافاً سلبياً.وغالباً ما نرى أيضاً لدى الأقليات ظواهر عادية عند الخاضعين مثل احتقار الذات، مرتبطة بقبول صورة الذات التي كونها الآخرون عنهم واستبطانها، عندها تبرز الهُوية السلبية كهوية تدعو للخجل وتكون مكبوتة إلى حد ما وهو أمر غالباً ما يتبدى على شكل محاولة لإلغاء العلامات الخارجية للاختلاف السلبي.
ومن هنا فإن الهُوية تشكل رهان صراعات طبقية، إذ لا تملك المجموعات كلها قوة التماثل نفسها لأن قوة التماثل هذه ترتبط بالوضعية التي نحتلها في منظومة العلاقات التي تربط المجموعات فيما بينها.ولا تملك المجموعات السلطة كلها لتسمي نفسها وتسمي غيرها.
هناك مقالة كلاسيكية لبورديو عنوانها “الهُوية والتصور” يقول فيها إن من يملك السلطة الشرعية، أي السلطة التي تمنحها القوة هو القادر على فرض تعريفه لنفسه ولغيره، ومجمل تعريفات الهُوية يعمل كمنظومة تصنيف تحدد المواقع المتتالية لكل مجموعة، والسلطة الشرعية تملك القوة الرمزية لجعل الآخرين يعترفون بمقولاتها المتعلقة بتصور الواقع الاجتماعي وبمبادئها حول تقسيم العالم الاجتماعي على أنها مبررة، ومن هنا قدرتها على تشكيل الجماعات وتفكيكها.
وإذا ما فهمت الهُوية على أنها رهان صراع فإنها تبدو قضية إشكالية، وبالتالي علينا ألا ننتظر من العلوم الاجتماعية أن تقدم تعريفاً صحيحاً غير قابل للنقض، لهذه الهُوية الثقافية أو تلك ولا يقع على عاتق علم الاجتماع أو علم الإناسة أو التاريخ أو أي فرع معرفي آخر أن يحدد التعريف الدقيق للهوية أو الهُوية الثقافية، وليس من شأن العلوم الاجتماعية أن تقرر الطابع الأصيل أو غير الأصيل لهذه الهُوية الثقافية أو تلك (باسم أي مبدأ من مبادئ الأصالة تقوم بهذا الأمر؟)ن إن دور رجل العلم يقع في موقع آخر هو تفسير عمليات التصنيف دون الحكم عليها، ومن واجبه توضيح المنطق الاجتماعي الذي يقود الأفراد والجماعات إلى تحديد (تصنيف، منح هوية) أو وضع جماعة في فئة معينة وتصنيفها بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى.
4- الهُوية شأن من شؤون الدولة:
مع نشوء الدول والأمم الحديثة أصبحت الهُوية شأنا من شؤون الدولة التي تدير قضية الهُوية وتضع القواعد والضوابط حيث بقول منطق الدولة (الأمة أن تكون صارمة شيئا فشيئا من موضوع الهُوية لان الدولة الحديثة تسعى إلى توحيد الهُوية فإما أنها لا تعترف إلا بهوية ثقافية واحدة لتحديد الهُوية الوطنية) أو أنها بعد قبولها لنوع معين من التعددية الثقافية في كنف الأمة، تقوم بتحديد هوية مرجعية تكون الهُوية الوحيدة, والهُوية الوطنية المتعصبة هي دولة أيديولوجية تقوم على استبعاد الاختلافات الثقافية ويقوم منطقها المتطرف على منطق (التطهر العرقي).
لكن علينا ألا نعتقد بان عمل الدولة لا يستجلب أي رد فعل من قبل الأقليات التي أنكرت هويتها أو تم التقليل من شأنها, وتنامي المطالبة بالهُوية الذي نلاحظه في كثير من الدول المعاصرة هو نتيجة لبيروقراطية السلطة ومركزيتها ولا يمكن لتمجيد الهُوية الوطنية إلا أن يجر إلى محاولة تخريب رمزية ضد تلقين الهُوية.
وكما يقول بيار بورديو:
” إن الأفراد والجماعات يستثمرون كينونتهم الاجتماعية كلها في صراعات التصنيف، وكل ما يحدد الهُوية التي يكونونها عن أنفسهم، وكل ما لا يمكن التفكير فيه والذي من خلاله يتشكلون ك”نحن” في مقابل “هم” و”الآخرون” ويتمسكون بهذا الذي لا يمكن التفكير فيه عن طريق التحام شبه جسدي.وهو ما يفسر القوة التعبوية الاستثنائية لكل ما يمس الهُوية”.
إن الإحساس بالظلم الاجتماعي يؤدي بأعضاء مجموعة التمييز إلى شعور قوي بالانتماء إلى الجماعة والى التباهي بها، وقد أصبح التباهي بهذه الجماعة قويا لدرجة أن تضامن الجميع أصبح ضروريا من اجل الحصول على الاعتراف, ومع هذا يبقى خطر الانتقال من هوية مرفوضة إلى هوية حصرية كأولئك الذين ينتمون إلى الجماعة المهيمنة والتي ينبغي على كل فرد أن يتعرف على نفسه من خلالها بشكل مطلق.
5- الهُوية ذات الأبعاد المتعددة:
طالما أن الهُوية تنتج عن بناء اجتماعي فإنها تكتسب طابع التعقيد الاجتماعي، وإذا أردنا اختزال الهُوية الثقافية إلى تعريف بسيط”صافي” فهذا يعني أننا لا نأبه بتنوع المجموعة الاجتماعية، ليس هناك جماعة أو فرد لا يسبق له أن يكون حبيس هوية ذات بعد واحد، الهُوية تتميز بطابعها المتقلب الذي يمكن أن يخضع لتأويلات واستخدامات مختلفة.
واللجوء إلى مفهوم “الهُوية المزدوجة” يندرج في إطار جهود التصنيف المذكورة سابقاً.والمفهوم “السلبي” للهوية يسمح بالتقليل من شأن بعض الجماعات من الناحية الاجتماعية، لا سيما السكان المنحدرين من الهجرة.وعلى العكس، فإن من يريد رد الاعتبار لهذه المجموعات تراه يبني، خطأ، خطاباً يشيد بالهُوية المزدوجة باعتبارها تغني الهُوية.لكن مهما كان التصور، إيجابياً أم سلبياً، ل”الهُوية المزدوجة” المفترضة فإن مصدر الهويتين ناتج عن الخطأ التحليلي نفسه.
الواقع أن الفرد يدمج في ذاته، بشكل تركيبي، تعددية المرجعيات الخاصة بالهُوية المرتبطة بتاريخ هذا الفرد.الهُوية الثقافية تحيل إلى مجموعات ثقافية مرجعية لا تتوافق حدودها.والفرد يعي أنه يحمل هوية ذات هندسة متغيرة تبعاً لأبعاد المجموعة التي يرجع إليها في هذه الحالة العلائقية أو تلك، هذه الهُوية ذات الأبعاد المتعددة، لا تسبب أية مشكلة، وهي مقبولة.
المشكلة بالنسبة للبعض هي “الهُوية المزدوجة” التي يقع قطبا مرجعيتها على المستوى نفسه.ومع هذا فلا نرى سبباً في أن القدرة على دمج عدة مرجعيات خاصة بالهُوية في هوية واحدة يمنعها من العمل في هذه الحالة، إلا إذا قامت سلطة مهيمنة بمنعها باسم الهُوية الخاصة.
حتى في حال دمج مرجعيتين للهوية لهما المستوى نفسه في هوية واحدة فإن المستويين نادراً ما يكونا متساويين لأنهما يحيلان إلى مستويات تكاد لا تكون دائماً متساوية في إطار حالة معينة.
6- الاستراتيجيات المتعلقة بالهُوية الثقافية:
إذا كان من الصعب حصر الهُوية وتحديدها، فهذا يعود إلى طابعها الديناميكي المتعدد الأبعاد، وهو ما يضفي المرونة عليها كما أنّ الهُوية تشهد تنوعات وتخضع لإعادة صياغات وتداولات.
يلجأ بعض المؤلفين إلى استخدام مفهوم “استراتيجية الهُوية” لكي يشيروا إلى البعد المتغير للهوية الذي لا يعد أبداً حلاً نهائياً .في هذا المنظور تبدو الهُوية بمثابة وسيلة لبلوغ هدف معين، وبالتالي فهي ليست مطلقة بل نسبية، ويشير مفهوم الإستراتيجية إلى أن الفرد، باعتباره ممثلاً اجتماعياً، لا يفتقر إلى شيء من هامش المناورة.وتبعاً لتقديره للحالة فهو يستخدم مصادره المتعلقة بالهُوية بشكل استراتيجي.وطالما أن الهُوية تشكل رهاناً لصراعات” التصنيف” الاجتماعية الهادفة إلى إعادة إنتاج أو إلى قلب علاقات السيطرة، فإن الهُوية تتكون من خلال استراتيجيات الممثلين الاجتماعيين.
مع هذا فإن اللجوء إلى مفهوم الاستراتيجية لا ينبغي أن يقود إلى الظن بأن الممثلين الاجتماعيين يتمتعون بحرية كاملة في تحديد هويتهم بما يتفق مع مصالحهم المادية والرمزية الآنية.لابد للاستراتيجيات من أن تأخذ الحالة الاجتماعية بعين الاعتبار، وكذلك علاقة القوة القائمة بين الجماعات ومناورات الآخرين وغير ذلك.فإذا كانت الهُوية، عبر مرونتها، قابلة للتجيير، أي تستخدم كوسيلة فهي “أداة” بل “علبة أدوات”-، فلا يمكن للجماعات والأفراد أن يفعلوا ما يحلو لهم فيما يتعلق بالهُوية:لأن الهُوية هي دائماً ناتج تحديد شخصية معينة يفرضها الآخرون على المرء وعلى التحديد الذي يؤكده الإنسان بنفسه.
إن الطابع الاستراتيجي للهوية الذي لا يقتضي بالضرورة، كما يقول بورديو، وعياً كاملاً بالغايات التي يسعى الأفراد إليها يتميز في أنه يسمح بتوضيح ظواهر اختفاء الهويات وظهورها، وهي ظواهر كثيراً ما تثير تعليقات قابلة للجدل لأنها غالباً ما تتميز بشيء من النزعة الذاتية.
وبشكل أعم يمكن لمفهوم الاستراتيجية أن يفسر تنوعات الهُوية وهو ما يمكن تسميته بانتقالات الهُوية.وهذا المفهوم يبين نسبية ظواهر التحقق حيث تنبني الهُوية وتتفكك ويعاد بناؤها تبعاً للحالات.إنها دائمة الحركة، وكل تغير اجتماعي يقودها إلى إعادة صياغة نفسها بشكل مختلف.
7- حدود الهُوية الثقافية:
إن ما يفصل بين مجموعتين عرقيتين ثقافيتين ليس الاختلاف الثقافي كما يتصور الثقافيون خطأً إذ يمكن للجماعات أن تعمل تماما وفي كنفها شئ من التعددية الثقافية, ويعود السبب في هذا الفصل أي وضع الحد إلى إرادة الجماعة في التميز واستخدامها لبعض السمات الثقافية كمحددات لهويتها النوعية ومن شأن الجماعات القريبة من بعضها ثقافيا أن تعد نفسها غريبة تماما عن بعضها بعض بل ومتعاديـة حينما تختلف حول عنصر في المجموعـة الثقـافية.
فان العلاقات التي تقوم مدة طويلة بين المجموعات العرقية لا تؤدي بالضرورة إلى الإلغاء المتدرج للاختلافات الثقافية بل غالبا ما تنتظم هذه العلاقات بشكل تحافظ معه على الاختلاف الثقافي بل أحيانا تزيد هذا الاختلاف عن طريق لعبة الدفاع (الرمزي) عن حدود الهُوية لكن هذا لا يعني أن الحدود لا تتبدل، وكل تغير يصيب الحالة الاقتصادية أو السياسية من شأنه التسبب في انزياحات الحدود ودراسة هذه الانزياحات ضرورية إذا أردنا تفسير تنوعات الهُوية وبالتالي تحليل الهُوية لا يمكن أن يكتفي بمقارنة تزامنية بل عليه أيضا أن يخضع لمقاربـة تطورية.
خاتمــة
إن الهوية لا تعني الانغلاق على الذات أو على التراث والثبات وعدم التغيّر والتطوّر مما لا يقود إلا إلى التعفن والاندثار والموت، فالهوية ليست كياناً دائماً وثابتاً لا يحول ولا يزول، نشأ هكذا دفعة واحدة وإلى الأبد، استلمناه من أسلافنا دون تغيير ونسلمه بأمانة لأخلافنا دون أن نتصرّف فيه، وحتى لو أردنا ذلك فإننا لن نستطيع، لأن التغيير حادث لا محالة، وهو يحدث رغماً عنا، ومن الأفضل أن نعرف كيف نتعامل مع التغيير من أن يفرض علينا ونحن عنه غافلون.
لذلك فإن تعزيز الهوية بنظرنا يعني القدرة على الاستمرار والتجدد الدائم والحوار النقدي الايجابي مع المتغيّرات الجديدة ومع الثقافات الأخرى، لأن الهوية بغير ذلك مجرّد ذكرى، ولأن الثقافة التي لا تحاور وتتجدد وتتغيّر هي ثقافة خالية من الإبداع، وميتة لا محالة، ولا نريد لثقافتنا أن تكون كذلك.
هنا يضيف مفهوم الهوية الثقافية التباساً آخر إلى صلة الخصوصية بالكونية حين تجري الدعوة إلى الانغلاق على الماضي ورفض التجديد، وإثارة الخوف من أن المزيد من التغيير سوف يؤدي في النهاية إلى نسيان ماضينا وتراثنا والقضاء على أصالتنا وخصوصيتنا وهويتنا الثقافية.
خلاصة القول إن الحرية السياسية والفكرية وبناء قاعدة اقتصادية، وغرس روح النقد والحوار والجدل واحترام الرأي المخالف والتوجه لدراسة الطبيعة، والاستفادة من إمكانات العصر الراهن العلمية والمنهجية وتبيئتها في العالم، والانفتاح على الآخر والدخول في حوار مع الحضارات الأخرى، ومراجعة تراث المجتمعات بمنهجية نقدية، ونقد ثقافة الآخر، جميع هذه العناصر ضرورية لبناء ثقافة عصرية وتكوين هوية ثقافة قوية، تمتلك القدرة والآليات لمواجهة الهيمنة الثقافية، والانخراط في الحضارة المعاصرة وإثرائها وتصحيح بعض عناصرها بما يناسب خصوصيات المجتمع، وبذلك يتم إنتاج مشروع ثقافي يحافظ على الهُوية الثقافية التي تتميز بالمرونة وقابلة للتطور ومواكبة مستجدات العصر دون أن تفقد ثوابتها، التي يحتاج بعضها إلى إعادة صياغة وتنشيط وفهم عن طريق التفسير والتأويل بما يلائم منجزات العصر في مجال العلوم التجريبية والإنسانية ويبث الحياة فيها.
الهوامش
:GALLISSOT René, « Sous l’identité, le procès d’identification », L’Homme et la Société n0 83, 1987, p.12-27 (numéro thématique : « La mode des identités » .
: حواس محمود: الثقافة والمثقفون، الحوار المتمدن، العدد 1384، بتاريخ 20/11/2005.
: برهان غليون: اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1990م، ص ص 68- 94.
: دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة، قاسم المقداد، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، سنة 2002، ص 22.
: دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 54.
:حواس محمود: الثقافة والمثقفون، مرجع سابق.
: محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية ، مركز دراسات الوحدة العربية،، بيروت، لبنان، سنة 1994، ص 213.
: مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، الطبعة الرابعة، سنة 2000، ص 77.
: مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، مرجع سابق، ص 74.
: حواس محمود: الثقافة والمثقفون، مرجع سابق.
: دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 97.
: محمد امين العالم: الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، دار المستقبل العربي، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، سنة 1998، ص 15.
: الشريف الجرجاني: التعريفات، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ – 1987م، ص: 314.
: محمد عمارة: مخاطر العولمة على الهُوية الثقافية، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 6.
: ندوة الهُوية العربية عبر حقب التاريخ، للمدة 25-26/6/1997م، المجمع العلمي بغداد، الكلمة الافتتاحية للندوة، ص: 7.
: محمود سمير المنير: العولمة وعالم بلا هوية، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ – 2000م، ص: 146.
: صامويل هنتنجتون: صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب ،تقديم صلاح قنصوة، ط 2، سنة 1999م، ص: 116.
: : صامويل هنتنجتون: صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، المرجع السايق، ص 103.
: ليلى العرباوي: إشكالية الثقافة الوطنية في الجزائر، المستقبل العربي، العدد 275، سنة 2002، ص 131.
: محمد عمارة: مخاطر العولمة على الهُوية الثقافية، مرجع سايق، ص 46.
: هانس بيتر مارتن ، هارولد شومان ” فخ العولمة “: سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ,1998, ص ص 10-20
: اليكس ميكشيللي: الهُوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، سوريا، سنة 1993، ص ص 18-20
: عبد العزيز الدوري “الهُوية الثقافية العربية والتحديات ” مجلة المستقبل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ،العدد 248 ، 10/1999 ، ص ص 6-15
: مجموعة من المفكرين: تساؤلات الفكر المعاصر، ترجمة محمد سبيلا ،، دار الأمان، الرباط ، المغرب ، بدون سنة نشر، ص 91 .
: دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص ص 97-99.
: GALLISSOT René, « Sous l’identité, le procès d’identification », ipd, p 31
: دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، مرجع سابق، ص 101.
: دوني كوش: مرجع سابق، ص 102-103.
: دوني كوش: مرجع سابق، ص ص 103-106.
: دوني كوش: مرجع سابق، ص ص 106-107.
: نفس المرجع، ص ص 108-110.