لتحميل الكتاب أنقر على صورة الغلاف
عنوان الكتاب : كتاب الثقافة التلفزيونية سقوط النخبة وبروز الشعبى
المؤلف: عبد الله الغذامي
الناشر: المركز الثقافي العربي – المغرب – 2005
عبد الستار الكفيري*
يندرج كتاب الثقافة التلفزيونية, سقوط النخبة وبروز الشعبي في إطار الاشتغال النقدي لمؤلفه الأكاديمي السعودي عبد الله الغذامي, فالكتاب يركز على هيمنة الصورة في توجيه والتأثير على الرأي العام عبر صعود الوسيط البصري المتمثل ب¯”التلفزيون”, وقدرتها على كسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات.
لقد ساهمت الصورة في توسيع القاعدة الشعبية للثقافة, كما يقول المؤلف, وتداخلت إمكانات التأويل الثقافي الحر, حيث صار كل مشاهد يستقبل ويفهم ويفسّر ما يراه, على خلاف زمن ثقافة الكتابة حيث شرط التعلم وحيث وجود الكاتب الوصي على النص, ولم يكن لأحدٍ أن يستهلك نصاً مكتوباً إن لم يكن على وعيٍ بسياقاتِ هذا النص, الثقافية والكتابية والفكرية والجمالية, وهذا ما كَسَرته الصورة وغيّرت من شروطه, إذ بإمكان المرء أن يشاهد أي صورة من دون وجود حاجة إلى لغة أو معرفة سياقاتها الثقافية أو الفكرية كي يفهمها, وهذا ما أدى إلى ما سماه المؤلف سقوط النخبة, لكن ليس بمعنى أنها اختفت ولم تعد قائمة, وإنما بمعنى أنها فقدت دورها التقليدي في القيادة والوصاية, وتلاشت بالتالي رمزيتها التقليدية.
ومع انتشار الصورة التلفزيونية حَصَل تغيرٌ جذري, فلم تعد للكلمة المدونة حضورها كما كانت سابقاً, فالصورة التلفزيونية باتت لغة من نوعٍ جديد وخطابا حديثا له صفة المفاجأة والتلقائية مع السرعة الشديدة وقوة المؤثرات المصاحبة وحديّة الإرسال, وشدة التغيُر في الوسيلة صاحبه شدة مماثلة في تغيّر الرسالة نفسها وشروط الاستقبال, وهنا يأتي التغير الثقافي بتحوله من ثقافة النص إلى ثقافة الصورة, وهو ما أدى – طبقاً للمؤلف – إلى سقوط النخبة التقليدية, تلك النخبة التي كانت تقود الناس وتؤثر عليهم وتشكل رموزاً حيّة لهم, وحلّت محلها الصورة المتلفزة, وبالتالي تأسست ثقافة شعبية صِرنا نرى علاماتها, وهذا يكشف عن أهم وأخطر علامات التغيير الثقافي الذي يجنح إلى التعميم والتنميط الثقافي ظاهرياً, ومن تحت هذا الظاهر تتحرك قوى بشرية هامشية لا تحتاج سوى إلى التمعن كي نراها ونرى فعل الصراعات النسقية وكيفية تبادل الأدوار.
لقد ساهم الانتشار الواسع للصورة في خلق نحوية جديدة لها, فنحو الصورة هو ما شهدناه في الحادي عشر من ايلول, حيث حدث تحول في منطق الأشياء, ليعيد علاقات الفهم والتفسير ويؤسس لخطاب ثقافي جديد, ومن أهم علامات هذه المرحلة – طبقاً للغذامي – هي كلمة إرهاب حيث صارت الكلمة هي المصطلح المركزي لمرحلة الثقافة البصرية, وما جرى عليها من تحول دلالي وما استتبعها من مفاهيم هو ما يكشف عن التغير الجذري للبشرية, وسيكون علامة على مرحلة تتلو وتتبدل معها كل المصطلحات تبدلاً جذرياً لتحولها من ثقافة المنطق إلى صناعة الصورة, فالنحوية الجديدة من حيث هي تغيير في قوانين صناعة الدلالة ومن حيث هي قوانين في التأويل والفهم تقوم على خمسة أسس:
– إلغاء السياق الذهني للحدث.
– السرعة اللحظوية.
– التلوين التقني.
– تفعيل النجومية وتحويل الحدث إلى نجومية ملونة.
– القابلية السريعة للنسيان ( إلغاء الذاكرة).
فالذي حدث في زمن الثقافة التلفزيونية هو أن الإنسان قد أصبح صورة, والعالم كله تحول إلى فضاء بصري/صوري, وهذا التحول صَحِب معه تحولات ضخمة في نظريات الاستقبال والإرسال, وجرى قلب المعادلات القديمة في قوانين الفهم والتأويل, وفي قوانين الذوق ومفاهيم الثقافة والتثاقف.
إن أهم ما يعالجه الكتاب, وهو ما يمثل الأطروحة المركزية فيه, هو تراجع النخبة وبروز الشعبي بفعل هيمنة الصورة وانفتاح الفضاء الخارجي, والمؤلف لا يقول باندثار النخبة وزوالها, ولكنها موجودة, بل وتزداد نخبوية, فيما الشعبي في المقابل يزداد شعبية, والعلم الحديث يتجه إلى مزيد من التخصص والدقة البحثية, وفي مقابل ذلك نشأ العلم التلفزيوني المصور, حيث يجري تبسيط المعرفة وتسويقها في خطاب ميسر وسريع وتجاري واستهلاكي مباشر.
إن ابرز ما لا يمكن أن نتفق مع الغذامي فيه, هو إنكاره لفكرة الغزو الثقافي ومحاولته تفنيدها وإبطالها باعتبارها ليست سوى مقولة واهمة هدفها المبالغة في تخويف الذات, ولا أعرف ما الذي حَمَله على تبني هذه المقولة وترويجها واعتبار الغزو الثقافي شعورا مرضيا. إن ما يراه الغذامي تغييرات شكلية وهامشية بدءاً من تسريحة الشعر ونغمات الموسيقى وحتى فطائر الجبن في سياق مقاربته للغزو الثقافي, يعد مسّاً بالخصوصيات الثقافية ويؤكد على فكرة الغزو الثقافي, وهذا عكس ما يذهب إليه, فالذي يحدث – كما يقول الغذامي – أن الناس يمنحون بعض المظاهر الثقافية الشكلية قيمةً جوهرية ليست لها. إن محور الاختلاف مع الكاتب يكمن في كون أن الغزو الثقافي حقيقة مؤكدة, خصوصاً إذا أُخذ المتغير العولمي بالاعتبار وما نتج عنه من تأثيرات جذرية أحدثتها الظواهر المرافقة له على المجتمعات العربية, فالنموذج المُعولَم الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تصديره وتعميمه, وهيمنة النمط الاستهلاكي للأفكار والخدمات والمنتجات يبرهن على هذه الحقيقة, ولا بأس أن نرجع إلى إرث الحرب الباردة ومحاولات الولايات المتحدة في سياق حربها مع الشيوعية توظيف الثقافة لاستمالة كثير من الشعراء والمثقفين والمؤسسات الثقافية في البلدان الشيوعية لصالحها, وهو ما يبرهن على أن الغزو الثقافي هو فعلٌ مقصود ومبرمج ومخطط له, فقد قامت المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) العام 1950 بتأسيس منظمة ثقافية باسم منظمة الحرية الثقافية تحولت في العام 1967 إلى الاتحاد الدولي للحرية الثقافية تضم فروعا لها في 35 دولة تم اختيارها بعناية, وقد أصدرت أكثر من 20 مجلة ذات تأثير كبير, فضلاً عن تعدد اختصاصاتها, طالَت حتى الفنون التشكيلية والموسيقى, كان عمل هذه المنظمة يهدف إلى اختراق الثقافة الشيوعية وكان يتم هذا بتوجيه وإشراف ومراقبة من ال¯ (CIA) مباشرةً, وقد أصدرت مجلات كانت تتمتع في ذلك الحين برواج منقطع النظير نذكر منها مجلات: كومنتري, ونيوليدر, وبارتيزان ريفيو. وهناك الكثير من الحقائق المهولة التي يسردها فرانسيس ستونرسوندرز في كتابه الهام والمترجم إلى العربية: “من الذي دفع للزمار, الحرب الباردة الثقافية”, وهو ما يؤكد أن “الثقافة” من منظور الهيمنة الأمريكي, ماضياً وراهناً, تشكل ساحة معركة في سياق حروب الولايات المتحدة الكونية المشتعلة!!
*عبد الستار الكفيري -كاتب بجريدة العرب اليوم