موقع أرنتروبوس

التنوّع الثقافي الإنساني في الخطاب الإناسي

tnawa

منير السعيداني

تقديم :
يهتمّ ما هو مقترح أدناه بالخطاب الأناسي بوصفه خطابا بانيا للهويات ومصنـّفا لها. وتتأسس مشروعية ذلك في ما هو آخذ بالرسوخ من معالجة الأنساق الفلسفية والعلمية الإنسانية والاجتماعية باعتبارها بناءات ثقافية خاضعة لشرط إنتاجها التاريخي والاجتماعي تنمّ عن حال مشيديها أكثر مما تنبئ عن أحوال واضيعها.
ولئن كانت بدايات ذلك تعود إلى بداية الثمانينات مع صدور الاستشراق لإدوارد سعيد فإن رجوع الصدى التي تواترت في ميادين الدراسات الثقافية المختلفة وسّعت آفاق النظر النقدي إلى ما عدى تلك المتون الأدبية التي كانت محل نظر التناولات الأولى . وتشهد الإناسة بوصفها حقلا علميا اجتماعيا بحوثا متواترة في نفس الاتجاه تقريبا وإن كان ذلك من منطلقات مختلفة .
إن ما نرتاده هنا مختلف عما سبقت الإشارة إليه باعتباره، وعلى خلاف اقتصار الأول على الثقافي ، يتعاطى مع الحضاري. ويطرح ذلك صعوبة مزدوجة يتمثل أول جانبيها في عدم الترحاب الواضح الذي يقابل به لفظ الحضارة في المجال العلمي الاجتماعي عامة وهو ما يفرض تأسيسا نظريا سنسعى للإيفاء ببعض مستلزماته الإجرائية الدنيا،أما ثاني الجانبين ففيه يطرح تحدي التحلي بنظرة شاملة ومتفحصة وفي آن معا للتراث الإناسي بما ييسر الاستنتاجات العامة ولا يخل بشرط التدقيق.
ينطلق البحث من معاينة مأزق التحديدات الخاصة بمفهومي الثقافة والحضارة والذي امتد حتى منتصف القرن التاسع عشر ليقف عند تجاوز الإناسيين له وما حمله ذلك في طياته من مناظير تصنيفية تراتبية تاريخية اجتماعية من جهة وعرقية حضارية من جهة أخرى تزامنا مع ولادة علمي الإناسة والاجتماع في منتهى القرن نفسه. وسيسمح ذلك، كما نفترض، بأن تكشف آلية اختراع الهويات الحضارية الكامنة في أصول الخطاب الإناسي الاثنوغرافية والفلسفية والجغرافية والتاريخية بصورها وحكاياتها المتداولة منذ افتتاح خطاب الآخرية الحديثة لدى غزو أمريكا في مطالع القرن السادس عشر. كما يفترض البحث أن تلك الآلية وعبر ما حققته حاضنتها المعرفية من أسباب إعادة إنتاجها هي عينها التي تتكفل بإنارة بعض جوانب أزمة آخرية الإناسة الحادثة منذ سبعينات القرن العشرين تحت ضغط كينونات المجتمعات المدروسة التاريخية الخاصة وأنساقها الرمزية المخصوصة وأنظمتها السيميائية العصية. ويختتم البحث إطلالاته التقييمية بتشوف آفاق اصطراع المثاقفة الطاغية والتثاقف الهش في ما نحيا من انطلاق سيرورة العولمة ورسوخها المتسارع وجيبا لصدى الحروب والنزاعات الساعية إلى إعادة رسم خارطة الحضارات الإنسانية.

1- بين الحضارة والثقافة :

1-1- التقليد الألماني : الثقافة
يرتبط لفظ الثقافة في أصوله اللاتينية بلفظ Cultus الذي يشير إلى إجلال الآلهة وتقديس القيم المرتبطة بهم وبعبادتهم وصيانة مقاماتهم وتعهدها وهو ما كان يعنيه الفعل Cultiver أصلا . وقد انتقل معنى الكسب والإكساب ذاك إلى مجال فلاحة الأرض بما هو مجال للإثمار وإخصاب التربة وإنبات الزرع . يكمن في ذلك التحويل الانتقال المزدوج في المعنى بإضفاء الصبغة الإنسانية عليه وفي المجال بتحويله منظورا أناسيا باعتبار ما في إثمار الطبيعة من تفاعل خلاق محول للطبيعة وللإنسان في آن معا متبادلين التأثير والتأثر . اعتمدت اللغة الألمانية هذا المعنى الاختراعي المبتدع للأشياء وللإنسان باستعمالها لفظ Kultur والذي كان كانط مثلا يكتبه محتذيا رسمه الفرنسي تقريبا (Cultur) ، وباختراعها لفظا آخر هو Bildung توافقا مع اتجاه المعنى نحو الإشارة إلى اكتساب العلوم والآداب وهو ما استقر في القرن الثامن عشر في الإشارة إلى التكوين العقلي والتقدم الفكري الذي يكتسبه الإنسان أو المجموعات البشرية بصفة عامة .
ذهب التقليد الألماني إذا إلى التمييز بين الثقافة في معناها المبينة خطوطه الكبرى أعلاه ذي السمات الفكرية والروحية، وبين الحضارة باعتبار معناها مخصوصا بما هو مادي أساسا.

1-2- التقليد الفرنسي : الحضارة
عنى لفظ الحضارة في معناه الأكثر أصالة ومباشرة فن تحويل الناس إلى متمدنين جديرين بالحياة ضمن مجتمعات وداخل كيانات سياسية . ومنذ القرن الثامن عشر أضفي على ذلك المعنى بعد تراتبي يقابل الحضارة بالبربرية الواصمة حالة طبيعية كان فيها الإنسان شبيها بالحيوان مجردا من أية صفة إنسانية . ارتبط التحويل الأول باجتراح معنى قريب من Policiere أي إقامة العدل وذلك بتحويل المجرم (لأنه طبيعي) إلى متمدن Civil واشتقاق كلمة جديدة من هذا النعت : Civil>>Civilisation. وعلى ذلك الأساس كان الكتاب الفرنسيون ومنذ القرن السابع عشر يصنفون الشعوب درجات هي ترتيبا من الأسفل إلى الأعلى المتوحشون فالبرابرة فذوو المدنية وفي هؤلاء درجات أيضا، بما كان يعني إيلاء الأهمية الأخطر إلى الجانب المادي وترقية الحياة المدنية وتنمية الصفة المجتمعية للإنسان والمجتمع نفسه .

1-3- التقليد الأناسي التوفيقي :
مهما يكن من أمر ذلك القلب والإبدال الذي عرفته الاستعمالات الفلسفية الاجتماعية والسياسية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر داخل الأوساط العلمية والفكرية الأوروبية من إضفاء اللبوس الفكري والروحي على الثقافة على حساب الحضارة أو الإعلاء من شأن الحضارة باعتبارها ترقية لاجتماعية الإنسان فإن مأزق التحديدات كان قائما فعلا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. انبنى التقليد الأناسي على وراثة ما ساد قبله وتجاوزه في آن معا. ففي انتقال استخدامات تلك الألفاظ-المفاهيم إلى إنكلترا وتوطينها في بدايات تأسيس الإناسة ترادفت كلمتا ثقافة وحضارة كما بدا ذلك عند تايلور في كتابه “الثقافة البدائية” (1871) والذي اعتمد فيه منظورا تأليفيا جامعا بين معنيي اللفظ باتخاذ منحى وصفي لا يصرح بتقييم معياري ، بما شمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون الأخلاق والتقاليد والفاعليات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع. حقق هذا التعريف الذي مارس تأثيرا واسعا امتد عقودا تجاوز ذلك الإرث النزاعي حول التحديدات والتعريفات كما تقاسمتها الفلسفات والبحوث التي سعت إلى كتابة “تاريخ الإنسانية الثقافي”. ولكن ذلك لم يمنع واضعه من اعتبار العادات والمعتقدات التي كانت سائدة في المكسيك عند إنجازه بحوثه المقارنة فيها “رواسب” من المجتمعات القديمة وهو ما يكشف عن منظور تطوري تتفاوت الثقافات فيه حسب درجة قربها من راهن الثقافات المعتبرة متطورة كما تجسدها المجتمعات الأوروبية.
برز ذلك المنظور بصفة أكثر صراحة في كتابات هنري لويس مورغان وخاصة في كتابه “المجتمع القديم” والذي قدم فيه المراحل السبعة للتطور الإنساني وهي الهمجية الدنيا ثم الوسطى ثم العليا والبربرية الدنيا ثم الوسطى ثم العليا ثم الحضارة، وذلك انسجاما مع عنوان كتابه الفرعي (بحوث في خطوط التطور الإنساني من الهمجية حتى الحضارة مرورا بالبربرية) .
من المهم أن نشير إلى أن ذلك كان موازيا تاريخيا لحركتين متزامنتين عاشتهما المجتمعات الحاضنة لهذه التطورات. فقد انبنت بدايات الإناسة في تيار علمي أناسي أول وسم “بالتطورية” كان رديفا فكريا لتوسع استعماري في اتجاه شعوب وثقافات وحضارات رشحتها آليات التطور التاريخي-الاجتماعي للمجتمعات الأوروبية إلى التحول إلى مواضع استعمار ومواضيع استكشاف وتعرف ووصف وتصنيف وإنشاء. كان لمحصلة الجهد التعريفي المهتم بالحضارة ورديفتها الثقافة رنين تصنيفي تراتبي اجتماعيا وعرقي تاريخيا يستبعد الأميين والفقراء والنساء من جهة والهمج والبرابرة اللامتحضرين من الشعوب الأخرى من جهة ثانية.
ورغم ما استقر عليه لوسيان ليفي بروهل (1857-1939) من تجاوز لمقولاته الأولى فإن اعتماد مقولة البدائية ظل سائدا إلى ما بعد منتصف القرن العشرين بكثير مثبتا بقوة في شأن العرب والمسلمين مثلا أنه “وجدت نزعة تنقيصية من فولتار إلى كلود ليفي ستروس ومن ريمون شارل إلى برنار لويس وهوتنغتون تعمد إلى التشهير بأقل عيوبنا وتحصرنا في أحكام مسبقة على تعصبنا الإسلامي المطلق وبدائية نضالنا القومي العربي وعجزنا الذريع عن معايشة سائر الأمم معايشة سوية” .
انتقل المعنى العام لكلمة ثقافة إذا من المجال الديني إلى المجال الزراعي ثم إلى المجال الفكري. وقد تظافرت في تيسير ذلك الانتقال بحوث الفلاسفة والمؤرخين وتراوحت مجالات التعيين في تلك المراوحات بين الفلسفتين الاجتماعية والسياسية والتاريخين الاجتماعي والفكري إضافة إلى تطوير بحوث اثنوغرافية. كان ذلك مطبوعا في توجهه العام بالاعتقاد الحداثي الأنواري بوجود خط تاريخي إنساني واحد شامل لكل المجتمعات والشعوب والثقافات والحضارات. وسواء أتعلق الأمر بالميل إلى سيادة مفهوم الحضارة وكثافة أكبر في استعماله (فرنسا) أو الميل إلى سيادة مفهوم الثقافة (ألمانيا) فإن تلك التنظيرات ظلت موسومة بالثنائية التي قابلت الفكر بالمادة والأحاسيس بالعقل والأفكار بالأشياء.
ومما أدى إليه وجود هذين الطابعين كان التوجه نحو اعتماد التمييزين التاليين :
§ يستعمل لفظ حضارة لتعيين مجموعة ثقافات مخصوصة تتمتّع بجملة من السمات المشتركة أو المنابع الموحدة وهو ما أدى إلى نسبة الثقافة إلى مجتمعات محددة قابلة للحصر وتخصيص لفظ الحضارة لتعيين مجموعات أكثر اتساعا وشمولا في الزمان والمكان.
§ و يستعمل اللفظ أيضا مطبقا على مجتمعات بلغت مراحل تصور على أنها متقدمة من التطور العلمي والفكري والاجتماعي العمراني.
وقد نشأ عن هذين التمييزين تقابلان إثنان بين الثقافة والطبيعة من جهة أولى بما جعل للأولى من خصائص الروحية والفكرية والعلمية والفنية وللثانية خصائص المادية والتطبيقية المرتبطة بالممارسة المتعينة في التاريخ وفي الجغرافيا، وكذلك بين الثقافة والطبيعة وهي مقابلة مدعومة بتقابل الإنساني والحيواني والمكتسب والفطري والبيولوجي والاجتماعي والثقافي والغريزي بما يصنع فرادة الإنجاز الإنساني القابل للكسب والتداول . وقد كان لانطباع ذلك بالنزعة التاريخية التطورية في عزلها عالم الثقافي أن بوأته مكانة أرقى وأنبل وأكثر تميزا من أن تكون في متناول قوى تاريخية غير تلك “الأمة المجيدة ” عند الألمان أو البرجوازية الأنوارية عند الفرنسيين وهو ما كان استبعاد أمم وطبقات اجتماعية وسمت بأنها لاتاريخية نتيجة له.

2- الخطيئة الأصلية واختراع الهويات الثقافية-الحضارية :

يمكن للبحث أن يستأنف استقصاءاته متبينا ذلك الاندغام بين الثقافي والحضاري والذي بات سائدا في الدراسات الإناسية المختلفة وخاصة منها تلك التي كانت ذات اتجاه ثقافي. ولابد لتلك الاستقصاءات أن تعود إلى بدايات تلك الدراسات بالبحث في تكويناتها الأولى وفي حاضناتها من مختلف الخطابات.

2-1- تراث الإثنوغرافيا :
من المعلوم أن أولى تلك الخطابات كانت الآداب الوصفية المختلفة والتي كانت من تدبيج الرحالة والمؤرخين والجغرافيين ورجال الدين والتجار بل و شذاذ الآفاق والمغامرين أيضا. لم يكن الواقع في تلك الآداب مدركا إدراكا مباشرا قط ، ومهما تكن درجة اقتناعنا بأنه ما كان للأوروبي أن ينتج خطابه المقولب للشرق، وغير الشرق، والمخترع له إلا بتواطؤ من الشرق نفسه معه فإننا ندرك أننا إزاء ذلك الخطاب نكون بصدد خطاب ذات فاعلة في “المعرفة” ولكن في المجتمع والتاريخ أولا، وفعلها ذاك يكون عملا بقدر ما هو فكر . يمتد تاريخ تلك الإثنوغرافيا الأوروبية الأكثر قربا من العصر الحديث إلى رحلة ماركوبولو (1254-1324)، وقد كانت النتيجة التي تمخضت عنها إقامة الستة عشر سنة في الصين وصفا لها في كتاب بعنوان “عجائب الدنيا” أو “المليون” غلبت عليه المناظير العجابية والغرائبية مما كان آخذا بالاندراج في اختلاق “الشرق العجيب”. ولكن، وحتى لا نتجاوز ما بات بمثابة العودة التقليدية، نشير إلى أن غزو أمريكا على إثر رحلة كريستوف كولومب لها (1450 أو 1451-1506) كان هو المثال الأبرز على تموضع الذات الناظرة في قلب ما تبتدعه أنظمة العلامات والرموز من تصاوير للمنظور إليه فيها أمشاج من أوصاف الواقع والأساطير ونبوءات السحرة وأحلام المغامرين وهلوسات القساوسة المعتقدين في مهمة تبشيرية تمدينية نبيلة .
جسّد ظهور كتاب “الإنسان المتوحش” ما كانت أسطورة “المتوحش الطيب” تحفره عميقا في متون القصص والروايات والمسرحيات التي تواتر ظهورها عصرئذ مستندة إلى ما كان يستقى من تلك الأوصاف والأحلام والنبوءات وغيرها، وكانت تلك الخطابات المنسوجة حول شعوب لم تكن معروفة حق المعرفة تصاغ انسجاما مع منظور كان يرى فيها ما يريد أن يراه في مجتمعه هو بحيث لم تكن مادة الوصف مشهود الموصوف بل منشود الواصف. ومهما يكن من أمر ذلك فقد رسخت تلك الخطابات صورة الشعوب البدائية والمتوحشة والمفتقرة للكتابة وللمدنية والحضارة وهو ما ظل فاعلا بتأثيره في ما سجلته كتب تاريخ علم الإناسة .

2-2– فلسفات التاريخ :
مكنت تلك الموصوفات من بناء فلسفات للتاريخ اعتمد أغلبها الأوليات التالية :
Ø تسكن هذا الكون إنسانية هي التي تحتل مركز أشياء العالم.
Ø طبيعة تلك الإنسانية مصير يبنى تاريخيا.
Ø لتكوّن الإنسان داخل ذلك التاريخ غاية ومنتهى هي الدولة ذات النمط الغربي.
Ø ينشأ المصير التاريخي من توافق الضرورة (ابنة الطبيعة) والحرية (ابنة الفكر).
Ø آية ذلك التوافق وتجسّده هي الإنسان الواعي والحر، مواطن الدولة الديمقراطية .
ولا يكون ذلك الإنسان أبدا ابنا للطبيعة بما أنه ذو تاريخ وهو بالذات تاريخ الثقافة التي ابتدعها هو ذاته . ومن الواضح أن فلسفة التاريخ التاريخانية هذه تقربنا لا من هيغل وحسب بل وكذلك من ذلك المنظور الألماني للثقافة الذي كنا بصدده وهو أقرب إلى اعتبار الفكر وروح الشعب Volksgeist بما هي ترق عن حالة الطبيعة وتدرج تاريخي أبعد عنها فأبعد.

2-3– جغرافيا الحضارات :
حملت الآداب الإثنوغرافية في طياتها معارف جغرافية عينت حدود الاكتشافات المتلاحقة منذ توسع رقعة المعلوم من العالم. كان شاتوبريان (1768-1848) من أوائل الرحالة الحديثين وكان في ما خلّفه عن رحلته إلى أمريكا (1791) ثم إلى الشرق (1811) ما يدل على اعتباره أن من مكاسب المعارف الناشئة عن الترحل ترقيها بالذات العارفة، وعنده ينشطر التنوع الإنساني بين الثقافي والطبيعي بحيث يتميز أهل الشرق من عبرانيين وإغريق وعرب ومصريين بالتاريخ والآداب والفنون والعلوم والحضارة، ولكنها غابرة في التاريخ السحيق. ولذلك كانت نبرة أفضلية المجتمع المترقي في صورته المسيحية التي تجسدها المجتمعات الأوروبية لا تخفى في كتاباته. كان رأس تلك الجغرافيا إذا هو المتروبول وأجزاؤها مترامية على أطراف القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأمريكا. وقد تواترت موصوفاتها حتى حدود العشرية الأولى من القرن العشرين شعوبا وقبائل في شمال أمريكا وأستراليا وبعض مناطق إفريقيا والمحيط الهادي بحيث أمكن تجميعها في ما عرف في الولايات المتحدة الأمريكية بالـ H.R.A.F ، وكان باشوفون (1815-1887) من أوائل الجغرافيين الذين رسموا حدود الثقافات والحضارات وكذلك هنري مين (1822-1888). وقد تناول ذلك الحضارات القديمة في أوروبا (الإغريق والرومان) وغير الأوروبية (الهند القديمة).
تجد المدرسة الانتشارية في الإناسة منابعها الأولى في أعمال جغرافيين شأن الألماني راتزل (1844-1904) الذين ورثوا تقاليد عريقة طورها نمساويون وبروسيون. وقد كان من تأثير ذلك أن وقع تقسيم الكرة الأرضية إلى مناطق ودوائر وبؤر وغير ذلك من المناظير الجغرافية والمناطقية التي اهتمت بمسارات تنوع الثقافات وامتداداتها في الأمكنة وذلك بدفع من تلاميذ راتزل الذين بدأوا جغرافيين وتحولوا إلى علماء إناسة شأن غرابنار (1877-1934) وفرانز بوواس (1858-1924)، أو أعلام مدرسة فيينا التي كانت تعمل في دائرة ما كان فيلهلم شميت (1868-1954) أطلقه من أفكار.

2-4-التاريخ الكوني :
بالتوازي مع مناظير جغرافيا الحضارات هذه والتي تتبعنا تأثيراتها القريبة، تطورت بحوث تسعى إلى إعادة تركيب تاريخ عام للإنسانية ورسم لوحات تأليفية تربط ما كان يعتقد أنه منابع الحياة الإنسانية مع راهن الثقافات وواقع الحضارات بما شمل خاصة العادات والسلوك والمؤسسات والفنون والآداب ، وأبرز تنوع المجتمعات والحضارات ولكن على خلفية تاريخ واحد للإنسانية هو تاريخ التقدم بما يمكن أن تكشف عنه الدراسات المقارنة . ويستعرض كروبر وكلوكهن أعمال جوهان كريستوف آدلونغ باعتبارها مثالا من بين أمثلة أخرى على ما اكتسبه ذلك البحث من قوة دفع بفعل اعتماده على الأعمال الميدانية المتمرسة.
كان من نتائج هذه الأصول المتباينة في منابعها والمتحدة في اتجاهاتها أن تمخضت عن صورة للأرض عينت جغرافيا الحضارة بين عوالم جديدة وأخرى قديمة وبين شرق وغرب وبين شمال وجنوب، وعن حكاية للعالم روت تاريخ التمدن من منظورها التطوري الحداثي وعن فلسفة للإنسان وضعته في مركز الكون تجاه الله وفي مركز العالم تجاه الطبيعة وفي مركز المجتمع تجاه الدولة بما جعله منبعا للتفكير ومحورا له في آن معا. ويوازي تاريخ تكون أصول الخطاب الإناسي تلك تاريخ التملك الرأسمالي الأوروبي لمجتمعاته وللعالم. وكانت محصلة ذلك التاريخ المزدوج مقولات المجالات الحضارية والعوالم الثقافية بتلوناتها المتفاضلة تراتبا قيميا ومعياريا وتقسيما فعليا للإنسانية تحتل فيه أوروبا مركز الدائرة مع لاحقاتها وبقية الشعوب الأطراف والهوامش، بحيث كانت تلك الأصول الأجناسية والإناسية بمثابة الخطيئة الأصلية المحملة بعنصرية اختراع الهويات الثقافية وعرقية ابتداع التراتب الحضاري التفاضلي.
3- أزمة آخرية الأناسة :
كان ذلك هو الأساس الذي انبنى عليه التراث الأناسي العالمي. ولقد سبقت الإشارة إلى تواصل آثاره إلى ما تجاوز أواسط القرن العشرين والذي ارتبطت ستيناته بوعي متزايد بأزمة الخطاب الإناسي التقليدي سواء أكان تطوريا أم انتشاريا أم ثقافيا أم وظيفيا . وقد كان توجه علماء الإناسة إلى حل تلك الأزمة ضمن تجارب فكرية مخصوصة لعل أهمها كان البنيوية والماركسية والرمزية التأويلية.
3-1- ليس من المفيد العودة إلى تفاصيل ذلك ولكن تجدر الإشارة إلى إعلاء البنيوية كما تبلورت لدى كلود ليفي ستروس من شأن النسبية الثقافية معتمدة في ذلك :
§ تعلّق الدراسة الإناسية للأساطير وآداب المائدة ومقولات العقل المتوحش بإبراز طريقة التفكير التي تشترك فيها البشرية بصرف النظر عن تعيناتها الزمانية والمكانية المخصوصة.
§ إمكانية تعدد التفاسير في ما يخص ذلك وبصفة متكاملة.
§ انصباب الاهتمام على العلاقات الناظمة والبنى .
من الواضح أن إرادة الإفلات من وصمة العرقية والتفكير التصنيفي المعياري هي الدافع الأبرز وراء اعتماد هذا المنظور “إنّ التسامح ليس موقفا تأمليا… إن تنوع الثقافات الإنسانية وراءنا وحولنا وأمامنا… والطلب الملح الوحيد… هو أن يتحقق هذا التنوع بأشكال يكون لكل واحد منها مساهمة سخية…” . ولذلك كان التعلق منهجيا بالشكلانية والتجريد خاصة أن البيئة الفكرية ظلت تحت توجيه نظريات العرق واختلاف الخصائص المتأصلة في الأعراق وعند الشعوب منذ أن نشر غوبينو تحليلاته حول تفاوت الأعراق البشرية ، وحصر فيها مارسال موس الحضارة في شعوب بعينها هي بالذات تلك التي تأصل فيها الميراث الإغريقي الروماني وطور فيها لوسيان ليفي وبروهل تحليلاته للبدائية . وبفعل ما أحدثه من تغيير للرؤى بدا ليفي ستروس ممثلا للتطور الأهم في الإناسة الفرنسية خلال ستينات القرن العشرين وسبعيناته لأنه كان الأقدر على تمثل تراث تلك الإناسة نفسها وعلى الاطلاع على التراث الإناسي العالمي والأكثر تأكيدا على أن الثقافة الإنسانية واحدة مختلفة التجسدات. ولكن ورغم الإقرار “بأن التصنيفات التي يمكن أن تقف عندها البحوث في الثقافات المختلفة مختلفة كل حسب منظارها” “فإن المجتمعات التي يطلق عليها نعت البدائية أو القليلة التطور تبدو مرتبكة كليا في إطار العلاقة بين قدرات الإنسان وما يضعه من وسائل آلية تحت تصرّفه” و”في ذلك تبدو الحضارة الغربية الأكثر قدرة من بين الحضارات على التمتع بالفعالية التجميعية لإيجابيات التقدم الحاصل منذ الثورة النيوليتية أولا ثم لما عقبها من تحسينات” . وبالإضافة إلى تلك الانتقادات الموجهة إلى البنيوية من حيث عدم إقامتها الوزن الكافي للتاريخ بوصفه بالضبط موطن خصوصية الإبداع الثقافي الخاص بكل شعب أو ثقافة والتي باتت الآن كلاسيكية، فإن بحثها في معاني ما لاحظته من تضادات (العسل والرماد، النيئ والمطبوخ،…) كان يرتكز على لا معنى العناصر في حد ذاتها من موجودات الاجتماعية والثقافية أي لا معنى ما كان يبدعه الأفراد وما تخلقه الجماعات في البيئات الحضارية الخاصة ومسارات تطوراتها التاريخية .
3-2- وبالتوازي مع ذلك وربما على خلافه كانت خمسينات القرن العشرين وستيناته تشهد ما يمكن اعتباره التفاتا جديا إلى الجوهر التاريخي للمجتمعات المقصودة بنعت البدائية بحيث يسار إلى البحث في الانقلابات الاجتماعية والتاريخية التي يمكن أن تعتريها مثلها في ذلك مثل سائر المجتمعات انطلاقا من ملاحظة حضور التمايزات والنزاعات الاجتماعية فيها والحركة واللاتجانس والتغير. لقد كانت مسارات التحرير الوطني وسيرورات البناء القومي والتغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تلك المجتمعات مسرحا لها في منعرجها التاريخي ذاك تكشف أنها لا يمكن أن تنحصر في دور موضوع الدرس الأناسي بل يمكن لها أن تكون ذاتا عارفة ذات تواريخ مخصوصة وثقافات متكاملة منها ما يضرب في عمق التاريخ بآلاف السنين .
تزامن كل ذلك مع بدايات نقد الاستشراق كما ظهرت في مقالة أنور عبد الملك في مجلة ديوجان (1963) من جهة ومع بداية التوجهات التي انبنت عليها المادية الثقافية بما تعتمده من مقاربات تنهض على المعطيات المادية والظروف العينية وما تبرزه البحوث الميدانية. ولئن كانت تلك التوجهات موزعة على ما بدأ به جورج بالاندييه وومارفين هاريس من بين آخرين وكل على حدة فإن ما كان يجمع بينها هو الاستناد على تراث الإناسة الماركسية كما وردت في تأسيسات فريدريك انجلز وعلى ما استقاه هو نفسه من كاتبات لويس هنري مورغان .
كانت وجهة التحليل المادية والمادية الثقافية تركّز على ظروف الإنتاج وإعادة الإنتاج ماديا وفكريا مع محاولة التخلص من تلك النزعة التفاضلية التراتبية التي كانت سائدة .
3-3- ومن جهة أخرى مثلت الإناسة الرمزية والتأويلية أساس انبناء إناسة ثقافية تعتمد المقارنات ما بين الثقافات بالسعي إلى كشف النقاب عن تراتب المعاني المقصودة التي تحفل بها المجتمعات سواء في سلوك فاعليها الاجتماعيين المعتبرين لاعبين أو ممثلين أو في إنتاجاهم الأدبية والفنية والعلمية والاجتماعية عامة. يحمل ” تأويل الثقافات” لكليفورد غيرتز بصمات من يعتني بتفسير تفهمي بالمنظور الفيبيري واهتمامات تداولية تفاعلية يستقيها من مارتن هايدغر ولودويغ فتغنشتاين، وهو ما يبرز في تتبعه مقاصد الفاعلين. ومن الواضح أن في ذلك ما يمكن اعتباره بمثابة ردة الفعل على البنيوية بإيلاء أهمية مركزية للفاعلين ضمن أنساقهم الاجتماعية والثقافية المخصوصة من جهة وردة فعل ثانية على المادية بالإلحاح على الطبيعة الرمزية للثقافة.
يمكّن تركيز الرمزيين والتأويليين على الأساطير والطقوس ونظريات النشوء والإبداعات الفنية وكل ما يبنيه الإنسان من بناءات ثقافية وعلى المعاني التي يضفيها عليها من غوص في الأعماق الثقافية والأنساق الرمزية التي تحملها بحيث ينفتح النظر الأناسي على ما في الثقافات من تنوع. ويبدو تحليل الثقافة هاهنا علما تأويليا إلا أنه يركز على الدلالات الموروثة ولا ينفتح على تأثيرات التثاقف وينفصل، وهذا هو الأهم، عن متغيرات الواقع الاجتماعي وهو ما يقطع النظر في الخصوصيات الفعلية التي تنفرد بها كل ثقافة .
مسحت هذه التوجهات العشريات الأربعة اللاحقة لأواسط القرن العشرين وقد انبنت أساسا على ما يمكن اعتباره وعيا شقيا بأزمة آخرية الإناسة التي أظهرت عجزا مزمنا على إدراك التنوع الثقافي الإنساني وخصوصيات المجتمعات في ما تبنيه من أنساق ورموز ومعان وما تتداوله من أشياء وظواهر وتتعاطى معه من كائنات بحيث كانت تقطع النظر إما عما يخص تواريخها المخصوصة لتحشرها ضمن ما يصور على أنه تاريخ إنساني شامل أو عن آليات انبنائها المتفردة فتختزل في ترسيمات جاهزة أو عن طبيعتها الحية والتاريخية المتحركة بحيث تصور على أنها جامدة لاتاريخية أو عن نزاعيتها وتغيرها الدائمين فتنعت باللاتطور والثبات. ويكمن في أصل ذلك ما تناولنا بعض جوانبه من موروث.
وقد تزامن ميلاد ذلك الوعي الشقي وتشعب مفرداته مع التراجع الحاد الذي عرفته النظريات التفسيرية الكبرى ودخولها أزمات نظرية ومنهجية عميقة من ناحية واستنفاد فرص اكتشاف مجتمعات مجهولة يمكن أن تكون مواضيع بحث بكر. وقد لعب التاريخ الاستعماري وما بعد الاستعماري دورا محددا في الانطفاء التدريجي لما يعتقد أنه غرائبي وعجائبي وبمعنى ما مؤسس لمشروعية الإناسة. وليس أدل عن عمق ذلك من الأزمة التي يعيشها “متحف الإنسان” في باريس .
4– آفاق :
يتطور بالتوازي مع تأسيس الانتقادات المشار إلى بعضها نزوع العديد من اختصاصي الإناسة إلى التركيز على العودة إلى مجتمعات الباحثين الأصلية واتخاذها مواضيع للدراسة ، وكذلك ظهور بعض الاجتهادات الإناسية المحلية. ولئن كان ذلك ينبئ عن اتجاه نحو إعادة بناء حقل الدراسات الإناسية فإن تأسيسات ذلك النظرية لا تزال تعيش تحت وقع عدم إنجاز النقد الجذري الذي تحتاجه الأنثروبولوجيا حتى تبدأ ببناء مشروعيتها العلمية الحقة ومن حق الجميع التساؤل حينئذ عن الفائدة العلمية والعملية من مثل هذه الاختصاصات المعرفية .
لا يقف التساؤل عند الحدود المعرفية فلقد تنبهنا طوال تقصينا لتاريخ الخطاب الإناسي في الثقافات والحضارات إلى ما يكتنف ذلك التاريخ من التلبس بالسياسة والأيديولوجيا والمصالح الإستراتيجية، خاصة وأن الخطابات المعرفية في الحضارات أكدت منذ ما لا يزيد عن العقد وعلى إثر ما سمي بحرب الخليج الثانية وبمناسبة ظهور مقال صاموئيل هانتغنتون ثم كتابه أنها محط نظر الدراسات الإستراتيجية وبفعالية تتجاوز بكثير جدا فعالية النظر المعرفي المنقطع إلى العلم. ولقد مكن التاريخ المستندين إلى تلك الفعالية من فرصة لمزيد تعضيد شرعية أقوالهم وتبريراتها النفعية ضمن ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، إذ تمثل أجواء الحروب الإطار الأمثل لتبادل الثقافة والسياسة العملية أدوار المسوغ والمسوغ به وهي أجواء تضيق فيها الحرية الأكاديمية بمعناها الحاف فما بالك بسعة النظر التي تتمكن من الإفلات من أسر لحظة التواجه التاريخية .
قد يكون من المبالغة القول فيما يهمّنا هاهنا من الاعتناء بالخطاب الأناسي المتعاطي مع التنوع الثقافي الإنساني أنه يتجاوز منعرجا تاريخيا مصيريا ولكن اجتماع العناصر التي عددنا في منتهى ما هو معروض هنا يجعله في مفترق طرق واضح الجسامة. ولعل تعميق ما أشرنا إليه من مراجعات نظرية خاصة من منظور حاجة الإنسانية إلى بناء ما يجعلها تدرك فعلا ذلك التنوع الثقافي الإنساني من زاوية المعرفة الحقيقية لا من زاوية الاختراع وباعتباره ثراء لها هو أحد ضمانات مستقبلها إن لم يكن أخطرها. فجوهر السؤال هاهنا يمس بالمعرفة من حيث هي إمكان تاريخي-اجتماعي منشود ولقد كان سلاح النقد فعالا دائما في البحث عن شروط تحقق ذلك الإمكان وإن في حدود، ولكن تلك القولة الشهيرة المؤكدة على أن ليس بإمكان سلاح النقد تعويض نقد السلاح تجد لها في ما نرى تبريرات بحيث نكاد نعجز عن تفادي سماع دويها الملحاح اللجوج.
ينبني اختراع الهويات وبناؤها أيضا على ما يمكن أن تستجمعه الحركات الاجتماعية من مقدرات مادية ورمزية وتحديدها غاياتها التاريخية ونماذج المجتمعات التي تسعى إلى بنائها في لحظة تاريخية مواتية للتغير الاجتماعي . ولقد أشرنا في معرض تأريخنا لاختراع الهويات الحضارية والثقافية كما وردت في الخطاب الإناسي إلى أن ذلك ينبني على حركة اجتماعية تاريخية هي حركة بناء المجتمع الرأسمالي التي لم تستوف بعد على ما يبدو اندفاعاتها التاريخية موالية المراحل والحلقات. ويعني ذلك أن ما نحن بصدده من آفاق الخطاب الإناسي يحتاج نظرة معمقة في ما يعتري المجتمع الحاضن لذلك الخطاب من حركة أو حركات تغيير في ظرف العولمة الجارية.

Exit mobile version