التنافس في المجالس
من أجل الاعتراف بالمكانة الاجتماعية
عبدالرحمن بن عبدالله الشقير*
يستخدم الإنسان جسده ومظهره العام بوصفه رأس ماله الاجتماعي من أجل استخدامه في المجتمع وفي المجالس الرسمية للاعتراف بمكانته الاجتماعية، ونظراً لأن هذه الفكرة موجودة بين كثير من المتطلعين للوصول للنخب، فقد كانت المجالس الرسمية مسرحاً للتنافس على الحظوة بالجلوس في موقع قريب من صدر المجلس. وتحلل المقالة هذه الظاهرة المتخفية في الحياة اليومية والتحولات التي طرأت عليها عبر الأجيال.
الجسد في الدراسات الاجتماعية
يصنف إرفنج جوفمان، وهو من رواد دراسات الجسد، الإشارات التواصلية عبر الجسد بأنها تكمن في اللبس ومستوى الصوت وملامح الوجه وعلامات حركة اليد والأصابع والعواطف…؛ وهذا التعريف الشامل خضع لقواعد السلوك الاجتماعي وآدابه منذ القدم، واستقر على آداب وسلوك وإيماءات إيجابية متفق عليها، وإيماءات سلبية مرفوضة وتمثل اعتداء على الآخرين، ومن يخالفها يكون قد ارتكب خطأ اجتماعياً، ومن أهمها أحقية الجلوس في المكان المخصص للضيوف، وهذا الخطأ يخضع لتقييم الحاضرين، وعادة يعاقب عليها بنصحه، أو توبيخه، أو التقليل من سمعته، أو نبذه، وتتفاوت النظرة لهذه القواعد بحسب الطبقة الاجتماعية.
وقد درس إرفنج جوفمان تأثير إدارة الجسد في المجالس على التفاعل الاجتماعي في كتاب “تقديم الذات في الحياة اليومية”، وذكر أنه على الإنسان أن يكون حساساً بالموقف الذي هو فيه ومنتبهاً للحاضرين ومستعداً لفهم الإيحاءات؛ لأن أحدهم سينبهه بأنه في وضع سلوكي غير ملائم، وأن عليه تغييره بسرعة. ولذلك فإذا وقع في سلوك جسدي خاطئ ومكشوف، فإن أمامه أن يبرر موقفه، أو يعتذر، أو يقلب الموقف إلى ضحك، لأنها تمر بعد رد الفعل بعملية تقييم للموقف من قبل الحاضرين، ويبدو أن هذا التحسس ناشئ من ترسبات تاريخية فرضتها العادات القديمة واكتسبت رسوخها من مراعاتها عبر الزمن.
طرأت تحولات كبرى على فكرة التنافس من أجل الجلوس في مكان مميز يحقق الاعتراف بالمكانة الاجتماعية، وذلك لأن صدر المجلس لم يعد من الموارد الشحيحة التي يتنافس عليها الناس، نظراً لأن وعي الناس ارتفع، ولم يعد مكان الجلوس معياراً للمكانة الاجتماعية. ولوضوح الصورة الذهنية عن كثير من المتنافسين، وعدم أهلية كثير منهم. إضافة إلى وجود أماكن ضيافة مختلفة الآن، مثل توزيع الجلسات على نظام الفنادق، أو وجود أكثر من مجلس في المكان الواحد.
التنظيم الدبلوماسي
يحفل تاريخ الدبلوماسية بصراع مماثل في البروتوكول، اتفق على تسميته بمصطلح “أحقية الجلوس” ضمن آداب المائدة والحفلات، وقد نشأ هذا بعد سجل طويل من ادعاءات الأحقية مستخدمين معايير تخدم أحقيتهم، مثل: أسبقية التعيين، وأهمية الدولة التي يمثلها الدبلوماسي، وقد أثمرت عن تراث دبلوماسي يحدد قواعد السلوك في اللقاءات والمجالس العامة، وأن تجاهل الالتزام بها قد يضر العلاقات الدبلوماسية، لذلك من حق الدول أن تتقيد بالبروتوكول الدبلوماسي وتتجاهل الشخص إذا أرادت.
أما في المجتمع السعودي فتعتبر القبيلة والأسرة وأعيان البلد، وفيما بعد دخل المنصب الحكومي الكبير، هم الضامن للضبط الاجتماعي في إدارة التشريفات وقواعد السلوك، ويحفل التراث الشعبي بأشعار وأمثال كثيرة تحدد أحقية الجلوس ومتطلباته، وتنتقد ظاهرة من ينصب نفسه لمكان لا يستحقه، وكانت الأخلاق وقيم الكرم والمروءة والنبل والعلم هي المحدد الرئيس للوجاهة.
صدر المجلس كرأس مال اجتماعي
تحتل ظاهرة “صدر المجلس”، بوصفه رأس مال اجتماعي، مكانة عالية في الذهنية العربية وفي الذاكرة الشعبية، فهو ساحة صراع خفي ناعم، لا يؤبه له كثيراً، ولكن دور علم الاجتماع تكمن في ملاحظة مثل هذه الظواهر وتفكيكها، للتعرف على تأثيرها في المجتمع. وبما أن الصراع على “صدر المجلس” وما يليه يمثل أحد المؤشرات التي يمكن أن يقاس بها الحراك الاجتماعي في المجتمع، لعلاقته بتقدير الذات وتحقيق الهوية الذاتية والحاجة إلى الاعتراف الاجتماعي. وتأتي هذه المقالة لتحلل ظاهرة ثرية بالمعرفة الاجتماعية، وتعد من المسكوت عنه، وتتعرف على معانيها الرمزية.
إن الصراع والتنافس في المجالس صورة مصغرة للصراع والتنافس في باقي مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية، يقول إكسل هونيت، وهو من أبرز علماء الاجتماع المعاصرين الذين درسوا ظاهرة الاعتراف بالمكانة، في كتابه “الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية” (2014): “إن أشكال الحياة الإنسانية قد انطبعت كلياً بصفة تجعل الفرد فقط، عبر الاعتراف المتبادل، عضواً في الحياة الاجتماعية، وتالياً في علاقة إيجابية مع ذاته”.
تعد المجالس الرسمية في المجتمع السعودي من أعلى درجات الضبط الاجتماعي، من خلال تحقيقها عبر منظومة من التعليمات الصارمة للصغير قبل الكبير، وجميعها تتعلق بكيفية إدارة الجسد بما فيه من صوت ونظرات وسلوك وهندسة اجتماعية للجسد، وذلك لأن المجالس تصمم معمارياً من أجل استقبال الضيوف، فتزيد العناية بها، ومن ثم صار لها تنظيم أحقية الجلوس. وينقسم المجلس إلى ثلاثة أقسام ذات رمزية اجتماعية، وهي:
“صدر المجلس”، وغالباً هم كبار السن، والضيوف الجدد، وكبار الشخصيات.
ثم يأتي بعد “صدر المجلس” عدد محدود من الكراسي يتنافس عليها عدد كبير من الأشخاص الذين يتسمون بأن لديهم تطلعات لأن يكونوا في مكان مجاور لصدر المجلس، وغالباً ما يمتلكون مناصب مرموقة أو قضاة أو ماليين، وغالباً لا تخضع غالباً للتنظيم كما يخضع “صدر المجلس”، ولكنها أعلى درجة اجتماعية من بقية الجلسات الأخرى، ولوجود أشخاص مدعوين منحوا أنفسهم الحق بها، ومن هنا تنشأ مسألة “التزاحم” على الجلسات الملاصقة لصدر المجلس.
القسم الثالث يتمثل في بقية الجلسات البعيدة عن صدر المجلس، وهي تتساوى في الأهمية المنخفضة، ولكنها تقوم بأدوار التقييم ومنح الاعتراف، كما سيأتي.
صدر المجلس في الذاكرة الشعبية
تعد المجالس أيضاً فضاء مغلقا لتوزيع المكانات الاجتماعية، أبرزه ما يسمى “صدر المجلس”، وهو المكان المخصص للنخب وعلية الحضور والضيوف، وتقل أهمية الشخص بحسب بعده عن صدر المجلس، وأسوأ مكان للجلوس في المجالس الشعبية القديمة، هو المجاور لباب الدخول والخروج، حيث توضع بجواره الأحذية قبل الدخول غالباً. وبناء على هذه التقاليد المترسخة في الذاكرة الشعبية، صارت المجالس الرسمية مجالاً للتنافس بل والصراع أحياناً من أجل الحصول على الاعتراف بمكانة الشخص استناداً على قدرته على الحصول على مكان جلوس يرى أنه يليق به.
ويتنافس الأشخاص المتطلعون في الحظوة بالجلوس قريباً من المقدمة، وخاصة ممن حققوا مكانة اجتماعية واقتصادية لا بأس بها، ولكنهم بحاجة إلى الاعتراف الاجتماعي بمكانتهم من قبل فئتين في المجلس هما: فئة الكبار الذين يتصدرون المجلس، والفئة الشعبية الكثيرة العدد والتي تمنح الاعتراف الخفي من خلال إعجابها بالفرد، أو سحبه منه. ومن هنا تعد إدارة الجسد أحد أهم أشكال التواصل الفعال في المجالس.
هذه الظاهرة تعكس بوضوح الحالة الذكورية، فهي ليست ظاهرة في المجالس النسائية، وربما يعود السبب إلى أن المجلس يمثل التنافس في الحياة العامة المصغرة، الذي يهيمن عليه الرجال والمتمثل في المكانة وتقدير الذات والاستحواذ على المناصب والمال والشهرة، وليس لدى النساء ما ينافسن من أجله آنذاك، إلا بجماليات الجسد.
الاستهلاك المظهري أمام الاستهلاك الثقافي
تتركز غالباً في لبس البشت المطرز بالذهب، والأناقة في المظهر العام، ورائحة العطر أو البخور الفاخر، وقد تستخدم أدوات استهلاكية مظهرية تعزز من مكانة الشخص مثل نوع سيارته وساعته، ويبدو أن هذا الاستهلاك المظهري يحقق قبولاً واسعاً في المجتمعات المتخلفة، التي تستخدم مقاييس ساذجة ومظهرية لتقييم الأشخاص، فالناس البسطاء يقدسون المظاهر والمناصب والثروة، حتى ولو تأكدوا أنها بيد أناس لن يفيدوهم، ولن يفيدوا المجتمع بشيء.
وأفضل ما يمكن أن يستهلكه الشخص لتحقيق الاعتراف بمكانته الاجتماعية هو الاستهلاك الثقافي المتمثل في لباقته، وحسن توجيهه الاهتمام للحضور، وابتسامته، وعدم تجاهله لأحد، وهذه مهام أخلاقية وفكرية نادرة أمام كثافة الاستهلاك المظهري.
أزمة التجانس بين المركز الاجتماعي والمكانة الاجتماعية
يقصد بالمركز الاجتماعي: حصول الشخص على مؤشرات عليا في تحقيق الثروة أو المنصب، ويقصد بالمكانة الاجتماعية: المؤشرات التاريخية والثقافية للأسرة. ويكون التجانس الكبير إذا توفر في الشخص مكانة اجتماعية ومركز اجتماعي، أما إذا امتلك مركزاً عالياً ومكانة اجتماعية منخفضة، أو العكس، فإنه يدخل في أزمة مع المجتمع. ومن معايير المجتمع المتوارثة أن المكانة الاجتماعية لها طابع الديمومة والثبات عبر الأجيال، بوصفها منتجا جماعيا ثقافيا تراكميا، في حين أن المركز الاجتماعي يكون مؤقتاً، ومرتبطا بوجود المال أو المنصب، بوصفه منتجا فرديا ماديا.
ومن ثم تكون المكانة والمركز سلاحا ذا حدين، فمن يستخدم مكانته الاجتماعية وهو ذو مركز اجتماعي منخفض، فإنه لا يعترف به غالباً، سواء علنياً أو ضمنياً لأنه يقتات من تراث أسرته. ومن يستخدم مركزه الاجتماعي وهو ذو مكانة منخفضة، فإنه سيشعر من ذاته بهذا النقص، ويحاول أن يهاجم فكرة المكانة المستمدة من التاريخ لتحطيمها كمعيار يؤذيه.
أزمة الأحقية
كثيراً ما تتجلى أزمة الأحقية بالجلسات القريبة من صدر المجلس عندما تجتمع نخب من مجالات مختلفة، مثل اجتماع النخب الدينية والاقتصادية والإدارية، فهذه إن اجتمعت في مناسبة خاصة تكون خطأ دبلوماسيا من المضيف، وإن كانت مناسبة عامة فإنها تدار بأسلوب توزيع الجلسات الذي لا يجعل في المكان صدرا للمجلس، أو تكتب أسماء المدعوين لأهم الجلسات.
من هذا التنظيم الدبلوماسي البسيط تنشأ بقية الأزمات، ومن أبرزها: حضور أشخاص لا يعترفون بهذا التوزيع، فيجلسون حيثما يرون مكانتهم، وقد يضطر البعض بتفريغ موظف مختص لحماية الجلسات أو تنبيه الضيوف، وغالباً ما تنتهي بمصالحة، وليس بفرض تنظيم.
قد يتعمد البعض فكرة أسبقية الوصول لمنح نفسه أحقية الجلوس، لضمان عدم إزاحته.
كما قد يحضر أحد النخب للمناسبة متأخراً، وبعد أن أخذ الجميع أماكنهم، فيكون أمامه خيارات مفتوحة تتحدد بمستوى تقييمه من قبل المضيف أو الحضور، من أبرزها أن يستند إلى قوة هيبته المالية أو الإدارية، أو يستند إلى رصيده الأخلاقي الذي يجعل من المروءة إفساح المجال له لأخذ مكانة متقدمة. وإذا لم يتمكن من تدبير موقع جلوس يليق بمكانته فإنه غالباً يعز عليه الجلوس في مكان منخفض قد يسجل عليه اجتماعياً، لذلك يضطر البعض إلى أن يسلم على الجميع ثم يغادر.
أهداف المتصارعين
تتركز أهداف المتصارعين على هدف رئيسي وهدف فرعي، هي:
أن يكون في مكان قريب من الضيف الرئيسي ومحل وقوع نظره عليه، وهذا يرفع نسبة حظوته، أو فرصة لتقديم ذاته، وبالتالي بقاءه في ذاكرته، التي قد يحتاجها يوماً لترشيحه لمنصب أو تمكينه من فرصة إدارية ومالية. كما أنها فرصة لبناء علاقات جديدة أو تجديد علاقات قديمة أو توثيق علاقات ثانوية، إذ تتيح المجالس صفة الودية، وتمنح وقتاً أطول للحضور، ومساحة حرة للحوار الثنائي بين المتجاورين.
الهدف الفرعي هو الحصول على اعتراف الحضور، وهم يمثلون الشعبية والجماهيرية، بوصفهم أهم ناقل للأخبار ووصف المشاهدات.
دور الحضور
تتأكد المنافسة على أحقية الحظوة بمكان مميز في المجلس إذا زاد عدد الحضور، فكثرة الحضور يمثل الجمهور في المسرح التمثيلي الذي يمنح التقييم للمتنافسين على صدر المجلس أو مجاور له، وتكمن أهمية الحضور في أنه لولا وجودهم لما حصل الصراع، وذلك لأن النخب تتنازل بأريحية عن أماكنها في الجلسات المغلقة والمحدودة العدد والودية.
يمثل الحضور في المجالس قوة صامتة لتقييم النخب ومنح الاعتراف الاجتماعي، فهم مثل الحضور في مدرجات المسرح الذي يقيم أداء الممثلين، ويعترف بالبطل.
أخيراً
إذن؛ تنشأ أسباب ظاهرة الصراع على “صدر المجلس” من تقدير الذات واحترام الذات، والتي تواجه تهديدات بفقدان المكانة والتعرض للإهانة. وبالتالي ينبغي أن تكون المنافسة على صدر المجلس حافزا على الإنجاز والدافعية للنجاح، وليس مجرد احتلال أجوف لمقاعد الغير.
وتبقى إدارة الجسد اليوم هي اللوحة الفنية التي يقدمها الإنسان في المجالس في الحياة اليومية، وجزءًا من هويته، ومن أهم محددات مكانته الاجتماعية والاقتصادية.
*أكاديمي سعودي