موقع أرنتروبوس

البنيوية في طورها الفرنسي: ليفي شتراوس، لاكان، ألتوسر، فوكو، ديريدا 2\3

الجزء الثاني


1-3 البنى الأولية للقرابة‏

غالباً ما يعتبر الأنثروبولوجيون أنّ أنظمة القرابة هي المؤسسات الأساسية في تلك المجتمعات التي يدرسونها. وكتاب ليفي شتراوس الأوّل، البنى الأولية للقرابة‏

(1949)، كان كتاباً في هذا الموضوع. والتّبصر الذي يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو أنّ المجتمع مبنيٌّ على تابو الزنا بالمحارم، أي على تحظير الجنس ضمن العائلة، مما يدفع الرجال لتبادل النساء، من عائلة إلى أخرى، بغية الزواج. وهذا ما يخلق بنيةً اجتماعية إجماليةً أكبر من العائلة النووية (المؤلّفة من أب وأم وأولادهما).‏

وتشتمل هذه المجتمعات على ثلاثة أشكال أساسية للتبادل، هي التي تجمع المجتمع معاً وتؤمّن تماسكه؛ الشكل الأول هو تبادل الهبات، الذي يناظر البنية الاقتصادية في مجتمع أشدّ تعقيداً؛ والثاني هو تبادل النساء، تبعاً لقواعد بالغة التعقيد والتكلّف تخلق بنيةً قرابية؛ والثالث هو تبادل الرسائل الكلامية عبر اللغة، الذي يخلق معظم ثقافة المجتمع، التي هي في أعمال ليفي شتراوس اللاحقة عبارة عن بنية رمزية، أو نظام دواليل.‏

ويتمثّل مفعول القواعد التي تدفع الزواج لأن يكون من خارج العائلة النووية وضمن مجموعات مفروضة في أنّ البنية الأولية للقرابة ليست العائلة النووية المؤلّفة من زوج، وزوجة، وأولاد، بل العائلة التي تضمّ الزوج، والزوجة، والأولاد، وأخا الزوجة (الخال) أو شخصاً ذكراً موافقاً له من طرف المرأة، يمارس في الأصل سيطرته على هذه المرأة ويقوم بالتخلّي عنها. وتأخذ هذه البنية أشكالاً متنّوعة وتترافق مع مواقف متنوعة يتّخذها عضو بنية قرابية تجاه عضو آخر (وهي مواقف مستقلة عن الطابع الشخصيّ للأفراد المعنيين، ولا تتوقف إلا على موقعهم في بنية العائلة). وهكذا فإن الطفل الذكر في بعض المجتمعات يكون له أب شديد، محترم، يصعب الدنوّ منه، في حين تربطه بخاله علاقة حميمية، ناكتة؛ بينما تكون الأمور معكوسة في مجتمعات أخرى.‏

ولقد حاول الأنثروبولوجيون تفسير قواعد القرابة ومواقفها هذه؛ ومن بين هذه التفاسير ثمّة التفسير الاقتصادي، من النوع الذي يفضلّه ماركس وهاريس، حيث يُرى أنّ لهذه القواعد وظيفة اقتصادية جوهرية تمكّن المجتمعات التي تتبنّاها من البقاء. وهو تفسير لا يرضي ليفي شتراوس بالطبع. والتفسير الآخر هو التفسير التاريخي الذي يرى أن وجود ظواهر معينة يعود إلى تطورها التاريخي. وهو تفسير يصطدم بإشكاليات كثيرة، ويؤدي في بعض الأحيان إلى تاريخ قائم على التأمل، لدى تبنّيه من قبل الأنثروبولوجيا التي تُعنى أساساً بمجتمعات أميّة لا تعرف الكتابة ويصعب إزاحة النقاب عن تاريخها. أمّا التفسير البنيوي فيركّز على ما يمكن تفسيره بالانطلاق من العلاقات بين أجزاء البنية القائمة، دون تأمّل تاريخي. والقياس على الدراسة الألسنية التزامنية واضحٌ هنا.‏

والحقيقة أنه ليس من شأن اختصاصيّ في الأدب والألسنية أن يحكم على نجاح فرضيات ليفي شتراوس في تفسير أنظمة القرابة، أو حتى أن يقدّر مدى منطقيتها. فهذا واحد من الميادين التقنية في الأنثروبولوجيا، لا يجرؤ على أن يطأه سوى الاختصاصيين وحدهم. كما أنّ مصاعب التأويل هنا مخيفة. وقد نشب خلاف علنيّ بين ليفي شتراوس ومترجمه، الأنثروبولوجي المعروف روني نيدهام، حول ما يعنيه كتابه فعلياً، وهو خلاف موثّق في تصدير ثانٍ لليفي شتراوس وفي تعليق مرتبك ومذهول لنيدهام على ترجمته. إلا أنّ شيئاً واحداً يظلّ واضحاً، من وجهة نظري كقواعديّ توليديّ على الأقلّ، وهو أنّ ليفي شتراوس لا يبدو مهتمّاً بالوقائع كما يراها المراقبون من الخارج بقدر ما هو مهتمّ بتمثيلاتٍ ذهنيةٍ معينة للواقع في عقول المساهمين فيه. وهو يحمل وجهة النظر الخاصة هذه إلى عمله الثاني الذي يتناول فيه مشكلة الطوطمية (1962) القديمة في الأنثروبولوجيا، وكذلك إلى كتابه عن الفكر البرّيّ (1962)، الذي وُصِفَ بأنه توسيع لذلك العمل بحيث يطال مجالاً جديداً.‏

1-4- استقصاء البنى الذهنية:‏

إنّ الاهتمام الأساسي لكلّ من الطوطمية اليوم، والفكر البريّ هو الطريقة التي ينظّم بها العقل المعطيات. فالأنثروبولوجيون الأوائل كانوا قد أشاروا، مثلاً، إلى أنّ اتّخاذ حيوانات طوطمية لتمثيل مجموعات اجتماعية هو إحدى البقايا التاريخية من تلك الأيام التي كانت فيها هذه الجماعات تأكل ذلك الحيوان (الذي أصبح الآن مُحرّماً عليهم)؛ وذلك إلى جانب الكثير الكثير من التفسيرات الأخرى. أمّا ليفي شتراوس فيعتبر مشكلة الطوطمية برّمتها، كما وُصِفَت إلى الآن، ضرباً من الوهم والانخداع. ويرى بدلاً من ذلك أن ننظر إلى نظام علاقات؛ نظام تقابلات بين الحيوانات الطوطمية هو بمثابة طريقة لتنظيم العالم ثقافياً. فما يتمّ استقصاؤه هنا هو طريقة في التفكير بواسطة نظام من الأصناف، تجسّدها الحيوانات الطوطمية. وهذه طريقة في المقاربة تبدي كثيراً من نقاط التشابه مع تلك الطريقة التي يستخدمها علماء المعرفة المهتّمين بالآثار التي تتركها الأنماط البدئية في التفكير.‏

والحقيقة أنّ أعمال ليفي شتراوس جميعاً تبدي هذا التوجّه إلى دراسة تمثيلات لبنىً موجودة في العقل، شأنها في ذلك شأن أعمال القواعديّ التوليديّ. ولكي ندفع هذا التشابه قُدُمَاً إلى الأمام، نقول: إنّ كلود ليفي شتراوس كان يطمح دوماً إلى السير بهذا الأمر إلى حدٍّ يتمكّن عنده من إزاحة النقاب عن خصائص العقل الكونية اللاواعية. وبخلاف ما قد يبدو لأولئك الذين لديهم ألفة بالأسلوبين المختلفين تماماً لدى شومسكي وليفي شتراوس، فإنّ هذين المفكّرين يبدوان، كلٌّ في فرعه وفي قارّته، منهمكين في البحث ذاته عن الكليّات الذهنية، على الرغم من أن مسألة تأثّر واحدهما بالآخر لم تُطرَح أبداً، وعلى الرغم من اعتقاد شومسكي بأن عمل ليفي شتراوس هو عمل فارغ.‏

بيد أن أحد الفروق الكبرى بين الاثنين هو الهوّة الواسعة التي تفصل بين التقاليد الفكرية التي بدأ كلّ منهما العمل فيها. فقد اصطدم شومسكي في أميركا أوائل الخمسينيات بمدرسة سلوكيّة ظافرة – تشكّل أعمال عالم النفس السلوكي العظيم ب.ف. سكينر مثالاً لها – حاولت أن تردّ حتى اللغة البشرية إلى “سلوك كلاميّ” وأنكرت أية إمكانية لوضع الظواهر الذهنية موضع بحث علميّ. أمّا الفلسفة المسيطرة فكانت فلسفة تجريبية، وإن تكن أشدّ تكلّفاً من السلوكيّة؛ ولعل كوين، نصير راسل، أن يكون أهم فيلسوف للتجريبية الفجّة يمكن أن نصادفه؛ غير أنّ الفلسفة كانت أقلّ أهمية بالنسبة للألسنية من سلوكيّة معمّمة قامت باستقصاء كل شيء حتى الدلالات التي يبدو للألسنيين أنّ الانهماك فيها هو نشاط بعيد عن العلم ولا يرمي إلى شيء.‏

وبالمقابل، فقد اصطدم ليفي شتراوس بوجودية سارتر. وبالنسبة لهذه الفلسفة، لم يكن لوجهات النظر العلمية والموضوعية عن الإنسان أية أهمية على الإطلاق؛ فهي تهمّ “علم الحشرات”. أما الوعي -أو “الوجود لذاته”- فهو نوع من العدم أو الافتقار إلى الكينونة الذي يخلق على الرغم من ذلك عالماً من الأشياء أو الموضوعات انطلاقاً من ركام غير متمايز من الوجود في ذاته. وإذا ما كان هذا الوعي مرتبطاً بالعالم وبماضيه الخاص بالضرورة، إلاّ أنّه يظلّ حرّاً في اتّخاذ خياراته الراهنة. أمّا إنكار ذلك فليس سوى ضرب من الإيمان الفاسد. فالإنسان في المذهب الإنسانويّ الوجودي يجعل من نفسه ماهو عليه ويجعل نفسه جديداً في كلّ لحظة، وذلك في حرّيةٍ لا تقيّدها أغلال البنية الاجتماعية، أو الظروف المادية، أو البواعث اللاواعية أو بيولوجيا الشخص. وهذه هي الفلسفة التي حاول سارتر لاحقاً أن يوفّق بينها وبين الماركسية.‏

ربما كان هذه العرض جائراً. فهو يظلم حذق سارتر ودقّته؛ كما أنّ من الخطأ بلا شكّ أن نطابق فكر سارتر مع الفلسفة الفرنسية ككلّ. غير أنّه من الخطأ القول إنّ الفلسفة الفرنسية قد نظرت نظرةً متغطرسة وفوقية في علاقتها بعلوم الإنسان التجريبية وغالباً ما حاولت أن تخنقها آن ولادتها. وهو أمر موثّق بإسهاب لدى واحد من بين قلّة من علماء الاجتماع الفرنكوفونيين الذين تضاهى منزلتهم الدولية منزلة ليفي شتراوس، ألا وهو جان بياجيه، في كتابه تبصّرات الفلسفة وأوهامها (1965). وهذا الكتاب سِجِلّ معركة خاضها بياجيه طوال حياته للاعتراف بشرعيّة الاستقصاءات التجريبية التي تناولت تطور المقولات المنطقية في عقل الطفل، في مواجهة مؤسسة تعتبر أي استقصاء من هذا النوع مجرد دليل على خطأ فلسفيّ واضح تماماً. وتجربة بياجيه تسير في خطٍ موازٍ لتجربة ليفي شتراوس؛ إلا أن بياجيه لم يتخلّ عن دعاويه التجريبية.‏

1-5 فلسفة جديدة عن الإنسان:‏

ربما كان من المحتوم أن يتمّ تأويل الأنثروبولوجيا البنيوية بوصفها فلسفةً بديلة عن الإنسان. ولعلّ من الأصحّ القول إنه كان ثمّة خيار بين أن تصبح الأنثروبولوجيا البنيوية فلسفةً جديدةً عن الإنسان، أو أن يتمّ بناء فلسفة جديدة عن الإنسان تعمل على تكييف هذه الأنثروبولوجيا واحتوائها؛ ذلك أن فلسفة سارتر أو غيرها من الفلسفات المنضوية في إطار التقاليد الظاهراتية والوجودية لم يكن بوسعها أن تقوم بذلك. ولقد عمل ضغط المعركة الفلسفية على تغيير طبيعة تصوّر ليفي شتراوس للأنثروبولوجيا، الأمر الذي يشير إليه المقتطف الذي أوردناه من قبل من الأنثروبولوجيا البنيوية، المجلد الثاني (1976). فحين تقتصر على طرح الأسئلة الفلسفية وحدها، تكون مدفوعاً بقوة لأن تصبح فيلسوفاً، لدرجة أنه كان على ليفي شتراوس في بعض الأحيان أن يذكّر جمهوره بأنّه معنيّ بالمعطيات الإثنوغرافية أساساً وبأنه قام ذات مرةً ببعض العمل الميداني. وبالطبع، فإنّ الفلسفة قد كانت المبحث الذي انطلق منه ليفي شتراوس في الأصل.‏

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمكن للبنيوية أن تقدّمه بوصفها موقفاً فلسفياً؟ إنه تلك النظرة التي ترى المجتمع محدّداً بمجموعة من التمثيلات الذهنية اللاواعية التي يتقاسمها أفراده. وهذا يعني في جانبٍ هام من جوانبه أن لنظام التمثيلات الذهنية أولوية منطقية على كلّ من المجتمع والأفراد. فالذوات الفردية متشكّلة من إدراج الفرد في مثل هذا النظام؛ والمجتمع متشكّل من خلال الطريقة التي يدير بها مثل هذه النظام الذهني السلوك الاجتماعي الذي لولا ذلك لكان بلا معنى. فليس ثمة عالم اجتماعي موضوعي خارج تمثيلاته الذهنية؛ وليس ثمة ذات حرّة إلا وهي مُشكّلة من خلال هذه التمثيلات. وما هذه في جوهرها سوى مثالية كانطية جديدة. وقد شكّلت أيضاً نقطة الانطلاق في تفكير لاكان، وألتوسر، وفوكو.‏

1-6- أسطورة عن الأسطورة:‏

لقد كرّس ليفي شتراوس كثيراً من أعماله اللاحقة لتحليل الأسطورة؛ حيث نجد تأثير النموذج الألسني لا يزال حاضراً وعميقاً، إلا أنّ ليفي شتراوس يعمل هنا مستخدماً ضروباً من القياس والمماثلة مهلهلة ورخوة إلى حدّ بعيد. فهو ينظر إلى الأساطير المختلفة، التي تحكيها شعوب مختلفة في القارّة الواحدة، بوصفها جزءاً من اللسان الواحد، ودليلاً على أصناف أو مقولات كونية. وبمعنىً ما فإنّ هذه الرؤية مهلهلة ورخوة شأن عمليات السبر التي قام بها يونغ للوعي الجمعيّ، وإن تكن أقلٍّ مقروئية منها. ووصف ليفي شتراوس عمله بأنه أسطورة عن الأسطورة يبدو صائباً إلى حدٍّ بعيد.‏

وعلى الرغم من ضخامة واتّساع أعمال ليفي شتراوس في ميدان الأسطورة، إلا أنّها تتّبع بصورة أساسية مبادئ التحليل التي وردت في مقالته المكتوبة عام 1955 “الدراسة البنيوية للأسطورة”. فقد اهتمّ ليفي شتراوس طوال حياته بالأدب والأساطير. وتعاون مع جاكوبسون في تحليل بنيويّ للأدب، وأشهر مثال على ذلك هو تحليلهما قصيدة بودلير “القطط”، حيث يبدو جاكوبسون شريكاً مسيطراً، ذلك أنّ التقنية التحليلية المستخدمة شديدة الشبه بتقنيته الخاصة التي استخدمها في تقطيع أوصال سونيتة لشكسبير ليكشف ما فيها من تقابلات قواعدية وصوتية فضلاً عن دلالتها المفترضة.‏

أمّا تقنية ليفي شتراوس الخاصة وشُغل يده فيظهران في تحليله لأسطورة أوديب؛ هذا العمل الذي ينتمي إلى أعماله الأولى، لكنه يبدي نقاط القوة والضعف في مقاربته عموماً. فهو يقوم بتقطيع الأسطورة إلى أحداث (إبّيسودات) ويرتّبها في شبكة ذات بعدين، ليستخرج التقابلات الهامة ذات الدلالة التي يفترض بالأسطورة أن تدور حولها. فأسطورة أوديب من دون هذه الشبكة تجري على النحو التالي:‏

قدموس يبحث عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس. قدموس يقتل التنين. السبارتوي، المولودون من أسنان التنّين يبيدون بعضهم بعضاً. لابداكوس، والد لايوس، أعرج (؟). أدويب يقتل أباه لايوس. لايوس يعني أعسر (؟). أوديب يقضي على الهولة. أوديب يعني ذا القدم المتوّرمة(؟). أوديب يتزوج أمّه جوكاست. إيتيوكليس يقتل أخاه بولينيس. أنتيجون تدفن أخاها بولينيس. منتهكةً بذلك أحد المحرّمات.‏

إنّ هذا التقسيم إلى أحداث هو تقسيم اعتباطيّ إلى حدّ بعيد، ويستثني كثيراً من الأحداث الأخرى الواردة في المصادر الأصلية ممّا يراه القرّاء مهماً. ومن ثمّ فإنّ ليفي شتراوس يضع هذه الأحداث في أعمدة أربعة، تبعاً للمعايير التالية:‏

الإفراط في تقدير صلات القرابة: (قدموس يبحث عن أوروبا؛ أوديب يتزوج جوكاست؛ أنتيجون تدفن بولينيس)؛ الحطّ من قَدر صلات القرابة: (السبارتوي يبيدون بعضهم بعضاً؛ أوديب يقتل أباه؛ إيتيوكليس يقتل أخاه)؛ قتل الوحوش: (قدموس يقتل التنين؛ أوديب يقتل الهولة)؛ صعوبة الوقوف بانتصاب: (لابداكوس أعرج؛ لايوس أعسر؛ أوديب ذو قدم متوّرمة).‏

وهذه المعايير أيضاً اعتباطيّة إلى حدٍّ بعيد.‏

وبعد ذلك يقوم ليفي شتراوس بتأويل فئتيه الأخيرتين -قتل الوحوش وعدم القدرة على الوقوف بانتصاب – فيرى أنهما تعنيان على التوالي نفي التولّد الذاتي للإنسان واستمرار التولّد الذاتي للإنسان. وهكذا يصبح للأسطورة معنىً علائقي؛ “فالإفراط في تقدير صلات الرحم يكون من التفريط أو الاستهانة في تقديرها على نحو ما يكون الجهد المبذول في سبيل التخلّي عن عقيدة التولّد الذاتي من استحالة تحقيق هذا التخلّي”. وتعبّر هذه الأسطورة، كما يقول ليفي شتراوس، “عن الاستحالة التي يقع فيها مجتمع ينادي بتولّد الإنسان ذاتياً… حين يريد الانتقال من هذه النظرية إلى الاعتراف بأنّ كلاًّ منا قد وُلِدَ في حقيقة الأمر من اقتران رجل بامرأة”.‏

ولابدّ من القول إنني لست أصدّق كلمة واحدة من هذه القصة الطويلة. وما لستُ أصدّقه على وجه الخصوص هو أن يكون هذا المنهج منهجاً علمياً في الاستقصاء. فالأمور أو النقاط التي يمكن للباحث أن يتخّذ بشأنها قرارات اعتباطية تتعلق بمحتوى الأسطورة أو تصنيف وحداتها، بحيث تثبت النتائج ما يريده لها أن تثبته كائناً ما كان، هي أمورٌ ونقاطٌ كثيرة جداً. كما يمكن للباحث أن يطبخ الكتب بقدر ما يريد. والحقيقة أنّ ما كتبه ليفي شتراوس عن الأسطورة ربما كان شيئاً مطبوخاً من هذا القبيل.‏

1-7- البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم الإنسانية:‏

لابدّ لردّة فعلي هنا من أن تصدم المنظّر الأدبيّ الحديث -وربما القارئ أيضاً- لشدّة فجاجتها. فالدافع المناهض للمنهج العلمي، الذي نجده لدى ليفي شتراوس، قد تطور إلى حدّ بات فيه النقّاد الموغلون في ذلك يتكلمون لغة أخرى تماماً. وقد جاء التحول الحاسم في عام 1967، مع مقالة ديريدا “البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم الإنسانية”، التي ألقاها في المؤتمر ذاته الذي ألقى فيه نيفين دايسن -هدسن نقده التجريبيّ الذي أشرنا إليه من قبل، إلاّ أنّ هاتين المقالتين تنتميان إلى عالمين فكريين مختلفين. فدايسن -هدسن يعتبر أنّ ليفي شتراوس ليس تجريبياً بما فيه الكفاية ويرى أنّ النكهة التخييلية، والأدبية، والفلسفية التي تنبعث من المداخل والمقدّمات التي يكتبها لأعمال شتراوس أشخاصٌ أمّيون في الأنثروبولوجيا مثل جورج شتاينر وسوزان سونتاج هي نكهة مريبة تثير الشكوك، كما يرى الرأي ذاته في السلالة الفلسفية الطويلة التي يدّعيها شتراوس نفسه.‏

أمّا ديريدا فيرى أنّ ليفي شتراوس عالقٌ في مشكلة هي مشكلة فلسفية في جوهرها، إلا أنّه، بمعنى ما، ليس فيلسوفاً بما يكفي لأن يحلّها. فالإثنولوجيا (والأنثروبولوجيا) علم أوروبيّ يستخدم مفاهيم أوروبية تقليدية (بما في ذلك، بالطبع، كلّ المفاهيم التي يستخدمها دايسن – هدسن وجميع الأنثروبولوجيين التجريبيين). ولأن هذا العلم يدرس مجتمعات غير أوروبية، فإنّ عليه أن يقدّم نقداً لكلّ مقولات المركزية الإثنية، بما في ذلك مفاهيم العلْميّة التي قام عليها هذا العلم ذاته. وإلاّ فإنّ هذا العلم سوف يقوّض علميّته الخاصة حتى لو كان بين يديّ ممارس بارع ورفيع مثل ليفي شتراوس (فما بالك لو كان بين يديّ تلك التجريبية الفجّة التي يمثّلها دايسن – هدسن).‏

ومن هنا فإن ليفي شتراوس محقٌ في محاكمته التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين المحسوس والمفهوم وفي تعاليه عليه، هذا التقابل الذي أربك العلوم الإنسانية بأسئلة تتعلق بما إذا كانت هذه العلوم تدرس أشياءً مادية، وسلوكاً فيزيقياً، الخ، أم أنها تدرس المعنى؟ إلا أنّ ليفي شتراوس يجري هذه المحاكمة ويتعالى هذا التعالي عن طريق وضع نفسه، منذ البداية على مستوى الدالول، في حين أن مفهوم الدالول ذاته، بوصفه اقتراناً لدالّ ومدلول، مشروط بالتقابل بين المحسوس والمفهوم، ويتعذّر فهمه من غير هذا التقابل. وهكذا فإن الإثنولوجيا، بوصفها نقداً للتفكير الغربيّ، لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها إلا عبر مفهوم أساسي من مفاهيم الميتافيزيقا الغربية.‏

وبالمثل، فإن ليفي شتراوس يميّز تمييزه الشهير بين نمطين من التفكير. أولهما هو الذي تُصاغُ فيه مفاهيم جديدة بغية تفسير العالم، على النحو الذي يقوم فيه مهندس بصنع آلة من أجزاء جديدة، حسنة التصميم، (ويُفهَم ضمناً من ليفي شتراوس أن هذا التفكير هو تفكير المنظّر الحديث). أما الثاني فهو الذي تُستخدم فيه تصنيفات مُعَدّة مسبقاً، كتلك التي تفرّق بين نوع حيواني وآخر، لأغراض معرفية مختلفة تماماً كالتصنيف الاجتماعي للبشر، كما هو الحال فيما جرت العادة قبل ليفي شتراوس على تسميته بالطوطمية، (ويُفهم أنّ هذا التفكير هو تفكير المجتمعات البدائية التي تفكّر بمصطلحات وحدود أسطورية). ويشبه هذه المنهج الفكري عمل المُحَرتِق (Bricoleur) الذي يصنع أشياءه مما تيسرّ له من قطع قديمة تبقّت عن عمل آخر. غير أن ديريدا يشير إلى أن جميع مفاهيمنا متبقيّة عن عمل آخر. وأننا نبدأ جميعاً بمفاهيم جاهزة، أُنتجت في الأصل لأغراض أخرى، ونعدّلها لتوافق ما نفعله الآن. فليس هناك إذاً نوع خاص وبدائي من التفكير شبيه بالحرتقة (bricolage)، إنّما كلّ تفكير هو حرتقة.‏

وديريدا في غاية السرور لأن الأمر كذلك. وما يروقه في الحرتقة ليس علميتها، بل قوتها الأسطورية -الشعرية. وما يروقه في معالجة ليفي شتراوس لأسطورة من أساطير شعب البورورو، في عمل له متأخر ويحمل عنواناً ملائماً تماماً، “النيئّ والمطبوخ”، هو غياب أية أسطورة مرجعية ذات امتياز، وإمكانية مباشرة التحليل من أيّ مكان، نظراً لغياب أي “مركز”، أو مبدأ مؤسّس يؤخذ كمسلّمة أو بداهة. إلاّ أنّ ذلك يقتضي أن تضرب صفحاً عن الخطاب العلميّ أو الفلسفيّ؛ فالخطاب البنيوي في الأساطير هو خطاب أسطوري الشكل، إنتاج أسطورة عن الأسطورة.‏

ستكون لنا عودة لاحقاً إلى هذه المناهضة الميتافيزيقية للميتافيزيقا والتي تشكّل أساس موقف ديريدا. أمّا الآن فيهمنّي تأثيرها. فما إن أصبحت صيغة التأويل المناهضة للعلم هذه ذات نفوذ في بعض الأنحاء، خاصةً الأدبية، حتى اختفت تماماً طروحات ليفي شتراوس الأصلية. ومن الأمثلة على ذلك هذا التعليق في عام 1982 على معالجة ليفي شتراوس أسطورة أوديب:‏

غير أنّ هذا الإزاحة وهذا البحث عن محتوى كامن، أو عن “بنية عميقة”، لا يمكنهما أن يفترضا مسبقاً وجود معنى جوهري إلا بقدر ما يمكنهما أن يفترضا وجود معنى حرفيّ. وإذا ما كان ليفي شتراوس قد اكتشف أن أسطورة أوديب تعبّر في النهاية عن التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس، فإنّ ذلك لا يعني أنّ من الممكن اختزال الأسطورة إلى هذه الدلالة المحددة. فقيمة التحليل تكمن بالدرجة الأولى في تفكيك علاقات النصّ السيميائية على جميع المستويات، تماماً كما تكمن أهمية التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس في الدور الذي يلعبه هذا التقابل في نظام الشيفرات الثقافية أو السنن الثقافية بأكملها -الاتصالية، والقانونية، والاقتصادية – حيث يصبح مجرد دالّ آخر.‏

(ألوين باوم: سبانوس وآخرون 1982، ص91).‏

ربّ قائل يقول إنّ باوم، كاتب هذا المقطع، ليس تفكيكياً “جامحاً” بأيّ حال من الأحوال، وهو يزعم أنّه “يشارك في السعي وراء شعريّة بنيوية، أو نظرية سيميائية بوجهٍ عام”. ولكن لاحظوا كم هي مهلهلة واستعارية هذه النظرية التي يسعى وراءها. فهو يستعير مصطلح “البنية العميقة” من القواعد التوليدية 1965، التي تستخدمه كمصطلح تقني، إلا أنّه يضعه بين أقواس ليشير أنه لا يستخدمه بمعناه التقنيّ. وما يقلقه أساساً ليس تفسير الأشياء، بل تفادي أن يكون اختزالياً إزاءها. وفي سياق خطابٍ كهذا سوف يبدو عتيقاً ومن غير اللائق أن نطالب بأنّ نظريةً في علمٍ من علوم المجتمع ينبغي أن تقوم على أسس تجريبية، وأن تكون لديها القدرة الكافية على التفسير، وأن تكون اختزالية؛ بمعنى أن تكون أبسط من الوقائع التي تزعم تفسيرها؛ وسيبدو سوقياً أن نطالب بألاّ نسمّي شيئاً “اكتشافاً” إلا إذا كنّا نعتقد بأنّه حقيقي.‏

1-8-الأنثروبولوجيا والقواعد التوليدية:‏

إذاً، لقد حجبت عنّا الافتراضات والمزاعم الحديثة كلاً من الطابع الحقيقي للعمل الذي جرى في الأربعينيات والخمسينيات والإمكانيات الحقيقية التي ينطوي عليها. فقد كان هذا العمل علمياً إلى حدّ بعيد في طابعه وفي غاياته، على الرغم من الطبيعة الإنسانوية التقليدية لكثير من مادته. وكان النجاح بالنسبة له يقوم بالدرجة الأولى على تقديم توصيفات بنيوية نظامية لعلاقات القرابة، والأسطورة، والفولكلور، والشعر، الخ. أمّا على مستوى أعلى، فكان النجاح يقوم على اكتشاف مجموعة من المقولات الكونيّة في اشتغال العقل البشري، وهذا ضربٌ من كانطية بيولوجية أكثر منه كانطية فلسفية. (وقد قبل ليفي شتراوس توصيف موقفه بأنه “كانطية دون ذات متعالية”).‏

وثمة تماثل دقيق هنا مع قواعد شومسكي التوليدية، التي بدأ تطورها بعد أكثر من عشر سنوات على أنثروبولوجيا ليفي شتراوس. وها نحن من جديد أمام وقفة علمية واعية لذاتها حقاً؛ ولا تمكن مقارنة تفحّصها لعلميتها بما يقوم به أي علم اجتماعي آخر على هذا الصعيد. كما أننا أمام ازدهار هائل للتوصيف الألسنيّ، على نحوٍ أنجح بكثير من كلّ ما قدّمته الأنثروبولوجيا، الأمر الذي يعود من جهة أولى إلى ما قام به شومسكي من اكتشافات تقنية تتعلّق بالبنى الرياضية التي تبديها اللغة، كما يعود من جهة أخرى إلى حقيقة أنّ وصف اللغة أبسط من وصف المجتمعات. وها نحن من جديد أمام سعيٍ وراء كليّاتٍ ألسنية هي خصائص للعقل البشري؛ حيث يمكن القول هذه المرّة إن بعضاً من هذه الخصائص قد أضحى معروفاً؛ كحقيقة أنّ اللغات لا يمكن أن تنبني على نموذج بسيط من “التسلسل والاختيار” (قواعد الحالة المتناهية).‏

أمّا ما يميّز القواعد التوليدية عن الأنثروبولوجيا البنيوية فهو علاقتها بالتجريبي، فكلٌ من هذين الفرعين كان قد رفض الفكرة التجريبية القائلة بأنّ موضوع البحث في العلوم الاجتماعية هو السلوك الفعليّ، واعتبر أنّ هذا الموضوع هو التمثيلات الذهنية. وهذا ما عرّضهما كليهما إلى هجوم عنيف شنّته المدارس التجريبية القديمة. غير أنّ القواعد التوليدية أثبتت أنها أقدر بما لا يقاس على تقديم توصيفات للواقع التجريبي شاملة وقابلة للاختبار. وعدد القواعديين التوليديين الذين قاموا بما يكافئ العمل الميداني الواسع (كوصف اللغات المختلفة وصفاً مفصّلاً، على سبيل المثال) هو أكبر بكثير من عدد الأنثروبولوجيين البنيويين الذين تصدّوا للعمل الميداني. والأنثروبولوجيا البنيوية، على هَدْيٍ من زعيمها، لم تتجه صوب شرط الألسنية العلمية، بل بقيت أو عادت من جديد موقفاً فلسفياً. ولذا فقد كانت عرضةٌ لانتقادات ديريدا الفلسفية المحضة، بخلاف القواعد التوليدية.‏

والحقيقة أنه كان ينبغي أن أقول إن انتقادات ديريدا تنطبق على القواعد التوليدية كما تنطبق على الألسنية البنيوية، بل وتنطبق كما يبدو لي على كلّ بحث عقلاني في الوقائع. إلا أنّ قوة النقد الفلسفي المحض لعلم من العلوم تختلف تماماً تبعاً لما إذا كان لدى هذا العلم نتائج واسعة يقدّمها أم لا.‏

والسؤال المطروح هو إلى أين يؤدّي علم يعمل بمثل هذا التوجّه المعرفيّ؟ ليس مدهشاً أن نجد مثل هذا العلم مترافقاً مع ثلاثة أنماط مزدهرة من البحث العلمي الحديث، هي الدراسات المعرفيّة في علم النفس، والأبحاث الفيزيولوجية العصبية، والمحاكاة الحاسوبية للسلوك البشري في أبحاث الذكاء الاصطناعي. (نظريات شومسكي الباكرة عن اللغة هي أجزاء أساسية من النصوص العلمية الحاسوبية). ويبدو لي أن مثل هذا البحث هو من بين أشدّ الأبحاث أهمية في العالم كلّه اليوم؛ وما يثير حيرتي هو انصراف منظّري الأدب عن أيّ اهتمام به في العادة. (هل هناك أيّ منظّر أدبيّ اهتمّ بعلم النفس الخشن منذ أيام إ.أ.ريتشاردز؟) واعتقادي، على أي حال، أنّ العلوم المعرفيّة هي الوريث الحقيقي لأهداف البنيوية الأولى.‏

غير أنّ السيميائيين المحدثين غالباً ما تقلقهم مثل هذه الأهداف التي يرونها أهدافاً وضعيّةً ساذجة أو رجعية سياسياً وربما متنكّرة للحرية الإنسانية؛ وتراهم يقدّمون أسباباً لاعتقادهم بأن من المستحيل تحقيقها تتّصف بأنها أسباب ميتافيزيقية وغير مقنعة على الإطلاق. ولقد أضحت أعمال ديريدا كتاب هذه المدرسة المقدّس. غير أنّه ما من مجال لإنكار أن البنيويين الأوائل قد أرادوا أن يأتوا إلى العلوم الإنسانية بمنهج علمي صلب واعتقدوا أن لديهم نموذجاً مناسباً لهذا المنهج هو النموذج الذي قدّمته الألسنية البنيوية.‏

ومقالات ليفي شتراوس الباكرة حاسمة تماماً بهذا الشأن. إلا أن مقالاته اللاحقة تمثّل نقلة حاسمةً أيضاً بعيداً عن هذه المقاربة العلمية الصارمة باتجاه ما أصبح في النهاية ضرباً من المقاربة الأسطورية، كما يعترف هو نفسه. وربما كان من العسير أن نحدد ما إذا كان الخلاف مع سارتر- بعدائه الشديد لمقاربة الإنسان مقاربةً أنثروبولوجية موضوعية- هو الذي أدّى إلى إعادة طبع المشروع بأكمله بالطابع الفلسفي؛ أو ما إذا كان عمل ليفي شتراوس الباكر في القرابة لم يصمد أمام التجريب فكان لابدّ من إعادة تأويله تأويلاً مثالياً بمفعول ارتجاعيّ؛ أو ما إذا كانت هناك قوى عميقة الجذور في الثقافة الفرنسية، أو ربما في الموقع الاجتماعي المهمّش للمثقفين الأدبيين في أي بلد حديث، هي التي تعادي الدراسات التجريبية التي تدور حول الإنسان.‏

فبصرف النظر عن السبب، كانت النتيجة أنّ البنيوية، في هذه المرحلة الثالثة التي شهدت محاولات طموحة لتنظيم جميع حقول البحث تبعاً لمبادئ مستمدةً في جوهرها من الألسنية، قد انقلبت وتحولت من استراتيجية للبحث في العلوم الاجتماعية إلى موقف فلسفي مناهض للإنسانوية عموماً وللوجودية السارترية على وجه الخصوص، موقف قاصر، ومستهتر، بل مترفّع وازدرائي، في تعامله مع التجريبيّ. ولهذا الغرض بالذات فإنّ دو سوسور، الذي ينظر إليه الآن على أنّه السلف الوحيد للألسنية البنيوية (ربما لأنه كتب بالفرنسية)، قد خضع لنوعٍ من إعادة التأويل جعلت منه فيلسوفاً، معنياً أساساً بطبيعة التجربة الذاتية، أو حتى بمكانة العقل اللاواعي. وهو دور كان كفيلاً بأن يثير دهشته واستغرابه إلى أبعد حدّ، كما يحتاج إلى مقطع آخر كي نصفه.‏

2-البنيوية الرفيعة: نظرية الذات وسوسور الجديد المُحَسّن‏

2-1-المواجهة مع الفلسفة:‏

كانت المغامرة الكبرى التي خاضتها البنيوية في فرنسا هي مواجهتها مع الفلسفة الفرنسية، التي أعني بها بصورة أساسية الفلسفة الظاهراتية والوجودية إضافةً إلى جانب هيغليّ يتحدّر من المحاضرات التي ألقاها كوجيف قبل الحرب وطبعات فلسفية متكلّفة من كلّ من ماركس وفرويد. ولست أريد هنا أن أضفي طابعاً ملحمياً، أو تاريخياً عالمياً، على هذه المعركة الفكرية. فالقول إنّ الفلسفة الفرنسية في أواخر الخمسينيات قد أنجبت بنيوية رولان بارت هو بلا ريب كالقول إنّ السفوح قد تمخضت فأنجبت فأراً. ذلك أنّ الجبلين الراسيين في خلفية هذا القياس أو التشبيه هما هوسرل وهيدغر. وهما يبدوان لي فيلسوفين عظيمين أصيلين، أفلحا في طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة المعرفة والوجود على التوالي، وبالتالي حول طبيعة الفلسفة ذاتها. وليس استخفافاً بسارتر أو حتى بميرلوبونتي أن نقول إن عملهما، على الرغم من أهميته وأصالته، لم يتعدَّ توطين فلسفة الوجود وعلم الظاهرات في البيئة الفرنسية وفي إهابٍ فرنسي.‏

ولقد بدت البنيوية لهذه الطبعة الوطنية من الوجودية وعلم الظاهرات بمثابة منافس محليّ. وبقدر ما يتعلق الأمر بالنظرية الأدبية، فإنّ رولان بارت هو البنيوي والسيميولوجي الفرنسي الأكثر شهرة. أمّا حين يتعلقّ الأمر أساساً بمثالٍ للحوار بين الفلسفة والبنيوية، فربما يكون على المرء ألا يختار بارت كممثّل لهذه الأخيرة. وقد يكون من الأفضل أن نختار ليفي شتراوس، الذي أهدى كتابه “الفكر البرّي لميرلوبونتي، وضمّنه فصلاً ختامياً كرّسه لفلسفة سارتر. كما يمكن أن نختار لاكان، الذي تأثّر تأثّراً عميقاً بهيغل وهيدغر وتأثّراً طفيفاً بليفي شتراوس، وقدّم طبعة بنيوية مزعومة من اللاوعي الفرويدي وضعها في وجه تنكّر سارتر للوعي ورفضه له. أو قد يكون الخيار هو لوي ألتوسر، الذي قدّم “ماركسيةً بنيوية” هي، من بين أشياء أخرى، ثقلٌ يقابل تنويع سارتر الوجوديّ على الماركسية.‏

أمّا بارت، كما أرى، فليس من هذه العصبة. فهو كمنظّر، ربما كان الأقلّ اهتماماً بالفلسفة بين البنيويين الكبار. ومن بين عمليه النظريين الرئيسين، “مبادئ السيميولوجيا” و”س/زد”، نجد أنّ الأول، الذي كان له الأثر الكبير بين السيميائيين، لم يكن من الناحية الفلسفية أكثر من تكييف باهتٍ لسوسور، في حين كان “س/زد”، في العديد من النواحي، وكما سأحاول أن أبيّن، أقرب إلى عمل أدبيّ حداثيّ منه إلى الفلسفة أو العلم. كما أنّ تعامل بارت مع النظرية هو إلى حدّ كبير تعامل ناقد أدبيّ يتوق إلى نيل الاحترام الأكاديميّ. لقد كانت هذه هي اهتماماته الأساسية في وقت من الأوقات، غير أنّ من الخطأ أن نرى أنها منجزاتها الكبرى.‏

بيد أنّ البيئة الثقافية الفرنسية في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات، كانت تفرض حتى على عمل رجل مثل بارت أن يقدّم إطاراً فلسفياً يُظهر ما كان من الواجب الارتكاس ضدّه وإظهار ردّة الفعل عليه. وبارت لم يكن أبداً غير مبالٍ (كعادة النقّاد الإنجليز) بالأزياء الفلسفية في أيامه، أو بما كان الاختصاصيون في الأنثروبولوجيا، أو التحليل النفسي، أو الفلسفة الماركسية يفعلونه بها. فقد ألقى ليفي شتراوس، ولاكان، وألتوسر ظلالاً متعددة الألوان على السيميولوجيا والنظرية الأدبية بتقديمهم نظريات في الثقافة، والذات، والأيديولوجيا. وفي هذه البيئة الفكرية بالذات كان أن أمُسِكَ بسوسور وأعيدت قراءته، لا كألسنيّ علميّ، بل كفيلسوف سيميولوجيّ لديه ما يقوله عن الذات بل وعن اللاوعي.‏

وما أقصده بـ “الفلسفة الفرنسية” هو شيء أوسع من أعمال ميرلوبونتي وسارتر، وإن كان يشمل هذه الأعمال. ولعلّ محاضرات ألكسندر كوجيف التي كرّسها في الثلاثينيات لكتاب هيغل “علم ظاهرات الروح” وتركت أثراً منقطع النظير هي التي أذّنت بمبادئ هذا التقليد على نحوٍ شديد الوضوح. وإليكم هذا المقطع من ترجمة الفصل الرابع في كتاب هيغل والتعليق عليه، وهو فصل يدور حول جدلية السيد والعبد:‏

الإنسان وعي للذات. فهو واعٍ لذاته، واعٍ لواقعه الإنساني وكرامته الإنسانية؛ وهو بهذا يختلف اختلافاً جوهرياً عن الحيوان، الذي لا يمضي إلى أبعد من مستوى عاطفة الذات البسيطة. ويصبح الإنسان واعياً لذاته في اللحظة التي يقول فيها -للمرة الأولى- “أنا”.‏

وما يؤدي إلى ذلك ليس مجرّد المعرفة المنفعلة أو السلبية، معرفةُ ذاتٍ محض تواجه موضوعاً ما. فهذه لا تؤدّي إلى وعي الذات؛ ولا يمكن أن تؤدي إلاّ إلى ترك الذّات سابحةً خارج نفسها، لا تعرف سوى الموضوع. ما يؤدّي إلى وعي الذات هو نوع من الرغبة الإنسانية التي تستردّ الذات إلى نفسها وتدعوها إليها (ولو اقتصرت هذه الرغبة على الرغبة بالأكل).‏

الرغبة هي ما يحوّل الوجود، المتكّشف لذاته بذاته في معرفةٍ حقّة، إلى “موضوع” متكشّف لـ “ذات” بذاتٍ تختلف عن الموضوع و”تقف قبالته”. إنّ الإنسان ليتشكّل ويتكشّف -لنفسه وللآخرين- في رغبته وبرغبته – والأصحّ القول، بوصفه رغبته – على أنّه “أنا”، على أنه الأنا التي تختلف جوهرياً عمّا هو ليس أنا وتقف قبالته جذرياً. فالأنا “الإنسانية” هي أنا رغبة أو أنا الرغبة.‏

انتظروا الجزء الثالث

Exit mobile version