موقع أرنتروبوس

البعد الأنثروبولوجي في “رحلة السودان”

sudan5

دالبعد الأنثروبولوجي في “رحلة السودان”

للشيخ محمد بن علي بن زين العابدين

 د. شاكر لعيبي – العراق

عن إشكالية النص ومجهولية المؤلف

المشكلة الرئيسية تتعلق بالسؤال فيما إذا كانت رحلة الشيخ محمد بن علي بن زين العابدين التي أنحني عليها الآن والمسماة “رحلة السودان”  هي ذاتها تلك الرحلة التي قام بها محمد بن عمر بن سليمان التونسي المسماة “تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان” ؟

ثمة في البدء شيء يلقي ظلالا من المخاوف والرِيَب على الموضوع حيث لا نستطيع إقامة مقاربة نقدية بين نصين أصليين حيث نعرف عمل التونسي “تشحيذ الأذهان” المطبوع عن مخطوطة أكيدة، بينما تتغيب أو تضيع مخطوطة زين العابدين “رحلة السودان”، ذلك أن النص الموجود الذي نعتمد عليه منقول من اللغة الفرنسية عن نسخة تركية عثمانية اعتمدت نصاً عربيا ضاع أصله على ما يبدو.

سأفيد من المقدمة المفيدة التي كتبها كل من تيودور مونو وجان- لويس باكيه-غرامون Théodore Monod et Jean-Louis Bacqué-Grammont( ) والتي قام بترجمتها كاملة مترجم النص الحالي لرحلة السودان. تفيد التحقيقات التي قام بها المؤلفان الفرنسيان، بعد مقارنة الرحلتين، أن الرحلتين مختلفتان ولم يلاحظا تطابقا بين العملين، وأن الرجلين زين العابدين والتونسي مختلفان بدورهما، وإن كانا من البلاد التونسية. لقد كانت نهاية رحلة التونسي إلى السودان عام 1813 أي أنها تسبق رحلة زين العابدين إلى دارفور 1821، الأمر الذي سمح للكاتبين الفرنسيين بالقول بإمكانية اطلاع زين العابدين على بعض مرويات التونسي المكتوبة أو الشفوية. وهو محض فرضية من طرفيهما يصعب التحقق منها.

المعلومات الوحيدة عن مؤلفنا ترد في النص نفسه ونحاول إعادة تركيبيها كالتالي:

“سيدي محمد بن علي بن زين العابدين المولود بتونس والقاطن حالياً بمصر ذكر ما يلي:

1 – تفرغتُ حتى سن اليفاعة لقراءة القرآن المجيد في الكُتَّاب مع صبية آخرين، وعملاً بتوصيات والدي رحمه  بدراسة العلوم فإني أخذت أتعلم مبادئها بتونس، مما جعلني أرتبط  بروابط المودة مع طلبة قادمين من البلدان المجاورة كنت أراقبهم بانتباه. كان معظمهم  يتفانى في دراسة الخيمياء والسحر وفن البحث عن الكنوز (…) فولعت بتلك العلوم (…) وصرفت كل جهدي لدراسة علم التمائم (…) وبما أني لم أتمكن من العثور على أساتذة عريفين فإني قصدت الشرق، وعند مروري بمصر ركبت جملا وتوجهت للحجاز” (ص25-26). قضى إذن زين العابدين طفولته في كتاتيب تونس وارتبط بعلاقات صداقة مع أشخاص من البلدان المجاورة ممن كان يرتاد بلاده، ولعل بعض السودانيين من بينهم. قرر الذهاب إلى المشرق، موئل ومحج المغاربة آنذاك، لكي يصل مصر ثم الحجاز.

2 – “رجعتُ إلى مصر سنة خمسة عشر ومائتين وألف فوضعت رحالي بركن من جامع الأزهر وأقمت هناك” (ص26). وهذا التاريخ يطابق عام 1798 الميلادي وهو التاريخ الوحيد المذكور في متن الرحلة. وهو سنة رجوعه إلى القاهرة.

3 – “عاودني [في القاهرة] الحنين إلى دراسة العلوم (…) وقمت بعدة تجارب عن العلوم الخفية (…) وتبين لي عندها أني كنت في طريق الضياع وأن طوق آمالي على وشك التمزيق (..) ولكن الأمل تملكني من جديد لما أخبرني بعض الأشخاص أنه يوجد بالسودان أساتذة في هذه المعرفة” (ص26).

4 – “فغادرتُ مصر متوجهاً إلى السنار تلك الأرض التي ليس بها ملذات ولا حضارة منظمة” (ص26). هنا إشارة صريحة أن هدف رحلته إلى السودان كانت، في الغالب الأعم، بحثا عن كنوز مخبأة سوف يكتشفها بالقدرات الميتافيزيقية والعلوم الصوفية الرائجة يومذاك والمخلوطة خلطا بفنون السحر.

5 – “وصلنا إلى ذلك البلد بعد تسعة أشهر”. يتساءل المؤلفان الفرنسيان: بما أن زين العابدين شهد الاحتلال المصري لكردفان عام 1821 فأين قضى عقدين من الزمن؟ هل قضاهما في القاهرة أم في مكان آخر من مصر؟ ويذكران “من الأكيد أنه لم يقض هذه المدة بالسنار بما أنه أوضح أنه لم يمكث هناك إلا تسعة أشهر”. وثمة في قولهم هذا التباس كبير حيث لم يقل الرجل أنه مكث بالسنار تسعة أشهر بل قال إنه وصل إليه بعد تسعة أشهر، وشتان بين الأمرين.

6 – “ومن السودان أخذت طريقي إلى كردفان وهناك تقابلت مع الشيخ إبراهيم الأسعردي” (ص27) القادم أيضا قصد إجراء أبحاث في الخيمياء والسحر.

7 – وفي كردفان شهد مع الشيخ الأسعردي المذكور غزو المدينة على يد محمد بك الدفتردار وزير الخزانة المصري وصهر محمد علي عام 1821.

هذا ما يذكره عن نفسه والمحيطين به بداية انطلاقه في رحلة إلى مجاهيل السودان. ورغم النقد الداخلي المتعسف أحيانا الذي يقوم به الكاتبان الفرنسيان للنص الذي يحملانه ما لا طاقة به، فإنهما يضعان في الهامش الأخير من بحثهما متن رسالة وردتْ إليهما من طرف ريشارد هيل عام 1976 وهو باحث انهمك قبلهما بالرحلة ذاتها- يقول فيها: “إن الدلائل التي جاءت في مقدمتكما والقرائن التي بينتموها، بما فيها ما يجيز إمكان كون السفرة خيالية وما ينفي ذلك، جعلتني أقتنع بأن زين العابدين قد وجد فعلا وأنه هو الذي كتب الرواية العربية الأصلية” ص22).

تلك المقدمة الفرنسية المكتوبة عام 1981 بروح كارتيزية مشككة ومثيرة لأسئلة مهمة، لا تتوقف أمام إمكانية قيام المترجم التركي عن النص العربي الأصلي بتأويلات وإضافات وحذوفات قد تكون ليست قليلة الشأن ومن شأنها إرباك المتن الواصل لهما. غير أنني من جهتي ألاحظ أن المتن الحالي يبدو متماسكا إلى حد كبير، ولا يعاني من ثغرات بينة، خاصة وأن كاتبه ليس بمؤرخ ولا جغرافي محترف، بل جوّاب آفاق بحثا عن كنوز باطن الأرض كما يعترف، وفي هذا السياق يجب قراءته.

تبقى مشكلة واحدة تحتاج إلى حل هي مروياته عن موقع أثري قريب من “ورا” شرقا (الصفحات 63 و73 و74 و76). وهنا يذكر الفرنسيان أن الأبحاث التي أجريت لم تبرهن، حتى لحظة كتابة مقدمتهما، على شيء مما يقول زين العابدين، في حين لستُ متخصصا بالأمر لأدلي بدلوي في مستجدات علم الآثار والتنقيبات الجارية في السودان.

علم الإناسة  وفق (رحلة السودان)

ما فتئنا نقول إن الجهد الجغرافي العربي الإسلامي، منذ القرن التاسع الميلادي، يقع في تقديم معرفة أنثروبولوجية مكتوبة ضمن مصطلحات عصرها وأدواته المعرفية. وهي لذلك تشكل إسهاماً جذرياً في معرفة تقاليد ومعايير وأعراف شعوب العالم القديم شرقا وغربا، شمالاً وجنوباً.

علينا التفريق في سياق قراءة الأدب الجغرافي العربي بين الإثنوغرافيا L’ethnographie والأنثروبولوجيا l’anthropologie ، الثاني يستند إلى الأول، لأن الأنثروبولوجيا هي علم اجتماعي يدرس الكائن الإنساني في جميع وجهاته الاجتماعية والثقافية والفيزيقية. وهذا العلم يستند إلى الدراسة الإثنوغرافية التمهيدية للمجتمعات والشعوب التي تحتفظ بثقافات مخصوصة أصلية، فالأنثروبولوجي يقدم خلاصات ومفهومات عامة انطلاقا من معطيات الإثنوغرافيا متوصلا إلى دراسة عامة للنوع البشري. ثمة، كما نعرف، أكثر من مدرسة لعل من أشهرها الأنثروبولوجية الاجتماعية البريطانية والأنثروبولوجية الثقافية الأمريكية، وتفضّل الأنثروبولوجيا الفرنسية الوجهات الرمزية والاجتماعية في دراسة المجتمعات البشرية.

أما الإثنوغرافيا فهي العلم الأنثروبولوجي الذي تكون وظيفته أصلا من طراز وصفي وتحليلي يُجرى على الأرض مباشرة من أجل دراسة أخلاق وتقاليد شعوب معينة، خاصة ما يسمى بالشعوب البدائية. ثمة اليوم تحفظات حقيقية على بعض آليات عمل ومنطلقات الإثنوغرافيا الأوربية لجهة الفكرة الضمنية الواقعة في أطروحتها الأساسية القائمة على تقسيم الشعوب إلى متحضرة وبدائية، حيث الأولى فقط، المتقدمة، قادرة على دراسة المجتمعات البدائية انطلاقا من مفهوماتها هي عما هو متحضر وما هو بدائي.

على أي حال، وضمن ذاك التفريق يبدو الأدب الجغرافي العربي مزيجا خلاقا بين هذين الدرسين. وهنا تشكّل رحلة عمر التونسي (تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان) من دون شك جهداً ثقافيا إثنوغرافيا- أنثروبولوجيا أساسيا ومختلفا نوعياً لم يُكتب مثله في الأدب الجغرافي العربي السابق، لجهة تدقيقاته وسعة أوصافه وخاصة استعانته برسوم توضيحية لعل المؤلف نفسه قام برسمها، مثله مثل البحث الحديث، من أجل تقديم مقاربات بصرية للأدوات المستخدمة في السودان والوشم وما إلى ذلك، ويتوجب لهذا السبب إدراجه بثقة ضمن أوائل الأعمال المكتوبة في علم الإناسة الحديث.

بينما تقدم (رحلة السودان) لمحات من هذا القبيل لا تقل شأنا وإن باختصار مكثف. إن قسمها الأول يبدو وصفاً مستمراً لعادات وتقاليد المناطق التي مر بها زين العابدين. ومما يُلاحظ في هذا السياق أن المؤلف كان وصافا بارداً ومحايداً، ولم تتدخل معتقداته الشخصية، إلا لماما في توصيف أو نقد ما كان يجري أمامه، وهو بهذا يشترك مع الباحث المعاصر المطالَب بالموضوعية. هذه المنهجية الوصفية التي يشترك بها العملان هي شرط من شروط البحث العلمي.

نلاحظ أن زين العابدين، قبل أن تدخل عملية التصوير منذ نهايات القرن التاسع عشر وتتوغل الكاميرات في القرن العشرين في مجاهيل أفريقيا، كان يسعى لنقل فوتوغرافي للمشهد الموصوف.

يمكننا تقسيم وصفه المنهجي إلى نوعين، وإنْ لم يفعل هو بشكل صريح، الأول يتعلق بأنثروبولوجيا جزء من القارة الأفريقية، والثاني بمظاهر دخول طلائع الحداثة إليها. الأول يقع عموما في النصف الأول من الرحلة والثاني في نصفها الأخير.

قام زين العابدين بتقديم مسح إجرائي لما عاينه مباشرة، ولاحظ أن هناك مجتمعا يقوم على مجموعة من الأعراف التقليدية السلالية، متوقفا أمام ما بدا له منها مثيرا للانتباه أكثر من غيره مثل:

1 ــ عملية الخصاء:

في كردفان التي اعتبرها متحضرة نسبيا وكان واليها يومئذ هو مسلم بن عمر الترجاوي أحد أصحاب الرتب العالية في سلطنة دارفور وكان من العبيد (هامش 3 ص28)، يذكر المؤلف أن الرعايا كانوا يدعون الملك أباً. وهذا لقب شرفي لحاشية وحكام المقاطعات في دارفور.

ويذكر “أن من أصبح وزيرا عليه أن ينزع عنه ثياب الرجولة، فتقص خصيتاه، وعليه بعد أن تتم مداواته أن يضعهما أمام السلطان كأنه يريد أن يُفهمه: ها أنا ذا يا مولاي قطعت عني هذه الأشياء التي هي أسباب الشهوات الجنسية (…) وأخيرا يفتح له بابي الحرم الملكي”(ص28).

إن هذا (الخصاء الطوعي) تؤكده مصادر أخرى مثل (تشحيذ الأذهان). إن من يسميه بالوزير إنما هو “الأب شيخ دالي” الذي يمكن أن يكون حراً أو عبداً غير أن من المتوجب، كما يبدو، أن يكون مخصياً ولو كلفه الأمر خصاء نفسه بنفسه للترخيص له بدخول ردهات الحرم. وهذه المعلومة مؤكدة كذلك من طرف البحث الحديث.

ويذكر زين العابدين بهذا الخصوص أن الرعية “اعتادت مشاهدة عملية الخصاء، لذلك فإنه عندما يأسر أحد الشبان عدوا له فإنه يستأصل خصيتيه ويجففهما في الشمس ثم يتقلدهما سمة لشهرته وشجاعته وما دام لم يفعل ذلك فلا يمكن له الزواج. لذا من صارع خصمه كانت يده على السكين للخصي أكثر منه للقتل. وإذا شعر الخصم أنه مهزوم لا محالة واستسلم فإنه يفعل ذلك دون أن يقتله”(ص29).

2 ــ العري في دارفور ونظام العبودية في جبال مره Marra:

في إطار وصفه الأنثروبولوجي يتوقف الرحالة أمام حالات القبائل الأفريقية التي تعتبر عري الجسد البشري ظاهرة طبيعية. فعندما يصل إلى جبال هي في الغالب جبال مرة Marra ويصف سكانها يذكر أنهم “عراة من كل جهة من الخارج، لا يحجب عوراتهم ولا يسترها إلا شيء من الشعر المضفور يشدونه إلى حزامهم. أما الذين يسكنون الجبال، فعلاوة على أن جلهم عراة تماماً (…) يُسكِن بعض الأثرياء الذين يعيشون في المدن هؤلاء السود في مزارعهم قصد تناسلهم وتزايد أعدادهم، ومثلما نبيع نحن الغنم والبقر فإنهم في كل سنة يبيعون الذين يصلحون لذلك من أطفالهم. منهم من يملك خمسمائة أو ستمائة عبد من الذكور والإناث، ويجيئهم التجار في كل فصل يشترون منهم عبيدا ذكورا وإناثاً يختارونهم لبيعهم فيما بعد” 33. وهؤلاء هم عبيد المزارع أو الضيعات. وتؤكد الوثائق العربية الموجودة في دارفور الوصف الذي يقدمه زين العابدين لمجتمع مؤسس على العبودية (هـ 9 ص33). يقيم المؤلف فاصلا بين نوعين من الأفارقة، الأحرار والعبيد، وأنه لا يستخدم الصفة أسود وسود بمعنى عنصري البتة، وعلى طول الرحلة وعرضها لا يوجد إلا توصيف محايد للون البشرة. وبعبارة أخرى لا يوجد في ثنايا الرحلة إلى السودان إلا القليل أو الخفيّ من أحكام القيمة jugements de valeur، انطلاقا من وعي زين العابدين المتفهم للواقع الموضوعي للسكان.  انظر مثلا إلى قوله بعد قليل: “وعلى قمم الجبال يعيش سود كثيرون كثرة أمواج البحر الأسود، وبما أنهم كانوا على هذا البعد من أصول الحضارة والعادات فإن جل هؤلاء الرجال عراة من الرأس إلى الرجلين..”(ص34-35)، بل إن هؤلاء العراة مسكونون باللطف والمسالمة طالما أن المرء مصحوب بأعوان السلطان. وهنا لا يغيب عنه تقديم لمحات عن تقاليد اللباس وأنواعه بتفصيلات ممتعة أحياناً، فخدم السلطان، مقارنة بغيرهم، يتميزون بالطربوش الذي يغطي رؤوسهم والقوس والسهام التي يتسلحون بها.

3 ــ عادات النساء وطقوس الزواج:

وكما الأنثروبولوجي المحايث الذي تشكل بالنسبة إليه قضية علاقات الزواج والنسب وما يرتبط بهما من أصول مفصلا أساسيا للدرس، يتوقف زين العابدين في أكثر من مكان أمام وضعية النساء في المجتمع الأفريقي الذي رآه. وإن لنصه أهمية النص المكتوب الطالع من المعاينة- وليس الشفاهي- في كتابة تاريخ الأعراف والطقوس في المنطقة. يذكر أن النساء في قمم جبال مرة، وخلافا للرجال،

“يحافظن على عادة من أحسن العادات هي تلميع أجسامهن وتجميلها بدلكها بالزيت. وإذا كان لشخص بنت وأحبها أحد فإنه يخالطها ويذهب عندها متى شاء ويداعبها ويمزح معها دون أن يضع يده ولو على جزء من قميصها وذلك إلى يوم الزواج. هذه العادة خاصة بالمدينة، أما الريف وحسب المكان فإن المسلمين يتزوجون وفق الشرع، أما الآخرون فيأخذون النساء غصبا. وبصفة خاصة فإنه يمكن بل يحصل فعلا أن يقتل رجال أصحاب جرأة وشجاعة تتدلى في رقابهم عقود مكونة من سبعة أزواج من الخصي، زوج المرأة التي يطمعون فيها ثم يختطفونها” (ص35).

ثمة، في هذا النص المختصر، توثيق لوجود مسلمين ووثنين في تلك البقعة، وفيه إيضاح للحرية النسبية في مخالطة النساء بل مداعبتهن في الأوساط الوثنية، حرية قد تكون امتدت إلى (الإسلام الأفريقي) بطريقة ما. وفي النص أيضاً فصل باهر بين تقاليد الريف وتقاليد المدينة، حيث الحرية أكبر في المدن كالعادة. نستطيع الحديث بثقة أن زين العابدين يقدم لنا صورة وصفية لإسلام أفريقي يزاوج بين التقاليد التاريخية للقارة وتقاليد ومفهومات الإسلام الأساسية. من الغريب أن المحققين الفرنسيين يذكران بصدد هذه الفقرة أن “تعليقات زين الإثنوغرافية هي خليط من الأحكام المسبقة التي اعتاد العرب تسليطها على السود. ومن الملاحظات التي يجوز أن نثق بها أن النسوة الفوريات fôriennes مثلا اللواتي من المفروض أن يكنّ مسلمات يتمتعن مع ذلك بحرية اجتماعية أكبر بكثير من حرية سودانيات الشمال” (هـ15، ص35)، ولا أدري أين قرءا أحكاما مسبقا في الفقرة موضوع التعليق، خاصة وأنه سيضيف بعد قليل رواية تتعلق بشيخ مسلم عالم جليل له بنت جميلة يتردد عليها عشاقها في الدار التي كان يقيم بها رحالتنا ضيفا على الشيخ العالم. لنلاحظ قبل قراءة الفقرة أن زين العابدين لا يروي قصصاً إلا لكي يؤكد أفكاره وتوصيفاته العامة، كأن تلك القصص ليست سوى براهين على النتائج العامة التي يخرج بها. في الفقرة التالية نحن في البدء أمام الظاهرة العامة وفيما يلي فحسب ثمة أمثولات وحكايات برهانية على الظاهرة:

“عندما تكون الفتاة جميلة يكون لها عشاق كثيرون ويحاولون الاقتراب منها شاء أهلها أو ما شاؤوا، متجاوزا بعضهم حائط الدار قفزا، أو داخلا آخر من الباب. وما بوسع أبيها، وهذا غريب جدا، إلا أن يخرجها من البيت ويجبرها على الإقامة بسكن آخر. وهكذا فإن صاحب بيتنا الشيخ عبد الله، أحد أعلم من في البلاد وكانت له بنت جميلة جدا، فكر أن لا مفر من إبعادها من البيت حتى لا تظهر كلما جاء محبوبها لمقابلتها. وبما أن هذا الشخص كان متشبثا بالشريعة فإنه يبذل كل الجهد لفصل العاشق عن المعشوقة، لذلك فإنه كاد يفارق الحياة ذات ليلة لمّا أصابه برأسه حجر قذفه عاشق كان يترصده بالطريق، ورغم أنه عرف من الذي ضربه فإنه اضطر إلى ملازمة الصمت” ( ص36).

وبعد ذلك يروي كيف طلب منه الشيخ الزواج منها فرفض. في مقطع أخر يجري التوقف أمام حلي المرأة خاصة وضع الأفريقيات حلق الأنف أي الخزام للزينة، الأمر الموثق في جميع المصادر التاريخية الأخرى، يقول: “بأنف كل امرأة هناك ثقب من عاداتهم أن يجعلوا به حلقا تكون من ذهب بالنسبة لزوجات الملك وتكون بالنسبة لغيرهن من مادة مناسبة إلى منزلتهن. وكان أنف سريتنا أيضا مثقوبا وكان من عاداتهم أن الذين يرغبون في التقرب من الملك – إذا كانت لهم بنت على نصيب من الجمال- يقدمونها هدية فيضمها الملك عندئذ إلى محظياته الأخريات، وإذا توفي فإن الذي يخلفه لا يرث إلا السريات المذكورة، أما زوجات المرحوم الشرعيات الأربع اللاتي بقين أرملات فيلبسن لباس الحداد ويطلين أجسامهن بالزيت على عاداتهن ويحلقن شعورهن ويتحزمن بحبل من وبر الماعز. أما في حياة الملك فإن زوجاته يضعن بأنوفهن وآذانهن حلقا ذهبية، وبمعاصمهن وأرجلهن حلقا، ويتحلين بعقيق زجاجي للبغال أو بعقيق من الصيني…” (ص41).

تتجلى طبيعة ما أسميناه بالإسلام الأفريقي في طقوس الزفاف التي تزاوج بين التقاليد الوثنية  ضاربة القدم وتقاليد الدين الإسلامي، ففي طريق موكب العرس إلى المسجد، على طريق الرحالة إلى الوداي يذكر: “ولما اقترب الصباح ظهرت مجموعة من الرجال كانوا ماسكين طبولا وما يقارب العشر من النسوة كانت بأنوفهن وآذانهن حلق قيمة الواحدة منها عشرة دراهم وكانت كل واحدة منهن ترتدي قطعة قماش أبيض اسودت من الوسخ وكانت تتدلى من نهديها إلى ركبتيها، وكان شعرهن مضفورا وبه لؤلؤ زجاجي، وكانت أجسامهن قد دهنت كلها زيتا. ولئن كانت العرائس الشابات اللاتي كن بينهن قد لبسن نفس اللباس فقد كان على رؤوسهن ضفيرة من الخيط الأحمر والأخضر مزينة باللؤلؤ الزجاجي وكانت لهن أسورة سميكة بالمعاصم. اقتربوا من الجامع….الخ” (ص48). ويصف الرقص “بالرقص الشاذ” ولعلها ترجمة رديئة إلى التركية ثم الفرنسية ثم العربية، لما قد يعني بالغريب والمثير.

4 ــ طقوس السحر

يتوجب رؤية أن البعد الرمزي الموصول بطقوس السحر، يقع في عدم القدرة على السيطرة على الظواهر الطبيعية أو حتى على الشر عند الكائن البشري، الذي ينجم عنه كله، بغياب الوسائل الأخرى أو الجهل بها، اختراع كائنات خرافية وعلاجات سحرية لإبعادها. يكرس زين العابدين فقرات طوالا لبعض الطقوس السحرية التي تتبقى معلماً في ثقافات القارة من دون شك. يشير الرحالة إلى تلبسه روحاً غريباً يسميه (الزكوكو) وهو صوت رهيب كان يجيبه عندما ينادي، ويذكر أن البعض  يحرص على استخدام الزكوكو لحراسة منازلهم وإبعاد اللصوص وهو جن من سلالة الأرواح الجهنمية. عندما يُقتل شخص وبعد أن يُرفع جسده ويُدفن تظهر الروح في المكان الذي سال دمه فيه وهي تذعر الناس ليلا. ويذكر أن هناك نوعا من السحرة المجازين بممارسة السحر، العارفين طرقا لإتلاف هذا الروح، منها أنهم يحرقون الجسد بالنار في قبره من أجل إرسال الروح زكوكو إلى جهنم، ووسائل أخرى يشرحها (ص38 و39)، راوياً قصصاً عن ذلك.

5 ــ ديانات وثنية وأكلة لحوم البشر

في صعوده إلى منطقة بين دارفور والوداي، يثير الرحالة انتباهنا إلى وجود ديانات وثنية، لا تفرق بين الرب الأعلى وآلهة أخرى، ولرجال القبيلة الوثنية زواج يتم بالتراضي دون مهر ولا زواج شرعي ويعيشون معا حتى الوفاة، وأن خلوة رجل للزنا بزوجة رجل آخر هي مناسبة لكي يهرع السكان والرجال لرؤية المشهد المُكْتَشَف، بينما لن يستطيع الزوج القيام بشيء البتة. وهم يتحاربون فيما بينهم ويبيعون أسراهم أو يأكلونهم بعد شيهم على النار (ص55).

السودان وطلائع الاحتكاك بثقافة الغرب الأوربي

أما التوقف المسحي الآخر، المفيد في كتابة تاريخ بدايات احتكاك بعض مناطق السودان والتشاد بأوربا وبالتقنيات الحديثة، فيتعلق بملاحظات الرحالة التونسي عن وجود ثلة من الأوربيين الجوالين في المنطقة، وهو الأمر الذي توقف عنده المحققان الفرنسيان ملياً ولا فائدة من استعادته هنا، بينما تقدّم الرحلة ملاحظتين على الأقل تشيران إلى طلائع الاحتكاك بأشكال ثقافية غربية جديدة:

1 ــ التقنية الحديثة، دخول البنادق والمدافع

دفعت التدخلات والصراعات المحلية والإقليمية والدولية السودان، أو بعض مناطقه، أن يشهد تفككا في البنى الاجتماعية والاقتصادية التقليدية والدخول حثيثا في عالم جديد بالتمام. في أوصاف زين العابدين ثمة كشف غير مقصود لمرحلة الاضطرابات والتغيرات الحساسة هذه، وثمة توقفات عند ذاك التأرجح المرير بين الطقوس السلالية والعالم الحديث، حتى على صعيد تقانات الحرب. “وسألني (الملك) عن الحرب البحرية والبارجات والمدافع فوصفت له البحر والسفن كما كنت قد شاهدتها، وبينت له أنه علاوة على الصخب المرعب الذي تحدثه المدافع فإنها ترمي بكور حديدية إلى مسافات بعدة وأن هذه الكور تتصف بالقدرة على تدمير القلعات وتهشيم السفن…” (ص92). هذه الملاحظة -ما يليها عن ضرورة استجلاب عتاد وذخيرة جديدين بدلا من السلاح التقليدي-  ليست من دون دلالة عن تحولات آخذة بالسريان في أكثر المناطق بعدا عن مراكز السودان الثقافية الأساسية، ويتوجب قراءة فكرة استخدام سلاح جديد ليس بمعناها العسكري فحسب وإنما بالمعنى الحضاري. يروي زين العابدين كيف أنه اشترى بناء لصالح السلطان بندقيتين وقليل من الرصاص والبارود من تاجر مغربي، وراح يجربها أمامه وحاشيته: “وأطلقت الطلقة في الهواء وسط ساحة المجلس ولقد وضعت كثيرا من البارود، فأحدثت الطلقة دويا مفزعا فزع له الحاضرون فزعا شديداً..” ثم إنه رسم دائرة كبيرة على حائط مبني من حجارة فتطاير منه الغبار، فقال السلطان: إذا أصاب هذا اللحم والدم فماذا ينتج ذلك من دمار!.

2 ــ التعرف على فن الرسم

من أطرف اللقطات التي يسجلها الرحالة وأكثرها دلالة تلك المتعلقة بتعرف مناطق السودان على فن الرسم الواقعي، وهي تشكل مع مجموعة أخرى من الملاحظات المبثوثة هنا وهناك في مراجع أدب الرحلة العربية موضوعاً جديراً بالدرس الموسع. يصف زين العابدين وصول قس أوربي يتحدث العربية إلى الوداي حاملا معه مجموعة من الهدايا. وذكر للرحالة أن الحكومة الفرنسية قد كلفته برسم خارطة البلدان التي يزورها وأراه خارطة كردفان ودارفور والمناطق التي مر بها، ولما صارا أمام السلطان أمر الأخير بوضع الصورة فوق كرسي. سافر القس ورجع بعد أربعين يوما وأتى معه برسوم القرى والجبال والأنهار التي زارها من بين أشياء أخرى. وطلب من السلطان أن يرسم مجلسه، وشرع بالغد برسم المجلس ووجوه الحاشية، وبعد ساعة رسم بالقلم وجه الملك وصورة العرش وصورة مكان المجلس وصورة الجمعية، وفسَّر للسلطان أن العمل لم ينته بعد لأنه سيلونه” (ص105). ولابد من الإشارة هنا أخيراً إلى أن التعرف على فن الرسم في السودان إنما يشكل في جانب منه تعرفا على سلاح حضاري آخر ألمحنا إليه من قبل.

 

Exit mobile version