موقع أرنتروبوس

الاستشراق وحوار الحضارات

ناجي شنوف
جامعة المدية

من القضايا المهمة التي لاقت اهتمام الباحثين في إطار إيجاد نسق تفاعلي في مسألة حوار الحضارات، موضوع الاستشراق، إذ يعدّ من المواضيع القديمة الجديدة والمستجدة في إثارة عوامل التثاقف والتحاور في الحضارات، في إطار عدم إلغاء ما يسمى بالآخر، ورغم السعي الحثيث في إيجاد تصور تحاوري يمكن الركون إليه في تلك العملية، إلاّ أنّ ثمّة معطيات جديدة يُستند إليها في جعل عملية حوار الحضارات من المسائل الصعبة التي تقتضي صياغات أخرى وعوامل جديدة تساهم في تلطيف الأجواء المستعرة، خصوصا إذا علمنا أن الطرف الثاني المتحاورُ معه ينتهج طرقا ملتوية يمهّد لها مسارات غامضة توحي في ظاهرها – شكلها – استعداده المباشر للحوار، والتنازل الاستراتيجي في المبادئ والأهداف، في سبيل دعم مسارات الحوار، غير أنّه يضمر في باطنه شيئا ما يوحي بخلاف ظاهره من استمرار للصراع، والإصرار على إزالة الطرف الآخر من دائرة التعارف أو التثاقف أو التحالف الحضاري.
ومن بين المسارات التي تتخذ لها أشكالا وقوالب باطنية موضوع الاستشراق. فالرؤية العامة لهذا الموضوع تجعل من الدارس له، المتعمّق فيه، يستنتج خطّان متوازيان له، خطّ يرسم له منهجا تصادميا مع الآخر من حيث دراسة تفاعلاته المتنوّعة لا من باب التشبّع بنظرية عامة حول خصائص ومميزات ثقافة الآخر بقدر ما هي أساليب مستعملة في البحث عن نقاط ضعفه، المؤسسة في نقاط ارتكازه القوية، حتى يتسنى له الانقضاض عليه كانقضاض المفترس على فريسته، من خلال بثّ عناصر أخرى غريبة عن نسقه العام حتى يصاب بالترهّل المفضي للانهيار.
وخطّ آخر يرسم له منهجا تعارفيا تثاقفيا يحاول أن يتعرّف على دقائق تفاصيل الآخر من خلال قراءة سيرته قراءة متأنية دقيقة ومتخصصة، من أجل بناء تصوّر تفاعليّ إيجابي يسمح له بناء نظرة عامة تضفي عليها جوا من الأمان والاطمئنان للجانب الآخر.
يعدّ الاستشراق عند كثير من الباحثين الوجه الأكاديمي أو المدوّن للسياسة الاستعمارية في الشرق الأوسط، ويؤخذ عادة بمعان متداخلة ومتكاملة، ولعلّ أهمّ معنى للكلمة هو المعنى الأكاديمي، حيث تطلق كلمة مستشرق على كل من يتخصص في أحد فروع المعرفة المتصلة بالشرق من قريب أو بعيد(1)، وهو ما سنتطرق له بالبحث في مفهوم الاستشراق.
مفهوم الاستشراق:
حصل خلاف بين الباحثين في تحديد مفهوم الاستشراق، وهذا بسبب القوالب الفكرية التي يبني عليها هؤلاء تصوراتهم تجاه المفاهيم والمصطلحات، فمن أهم التعاريف له:
– “الاستشراق هو علم العالم الشرقي، وهو ذو معنيين، عام ويطلق على كل غربي يشتغل بدراسة الشرق كلّه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه، ومعنى خاص وهو الدراسة الغربية المتعلّقة بالشرق الإسلامي في لغاته وتاريخه وعقائده(2).
– الاستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تقريرات حوله، وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه(3).
– وثمّة مفهوم آخر للاستشراق أكثر عمومية، هو اعتباره أسلوبا للتفكير يرتكز على التمييز الأنطولوجي والإبستمولوجي بين الشرق والغرب، إذ يهدف هذا المفهوم إخضاع الشرق للغرب، وأداة ووسيلة للتعبير عن التناقض بين الشرق والغرب(4).
من خلال هذه التعاريف نستنتج له أبعادا هي:
البعد الأكاديمي: من حيث اعتبار هذا المنهج من يتخصص فيه من المستشرقين ينبني على أصول علمية، تكون الجامعات والمعاهد المخبر الحقيقي له.
البعد العرقي: إذ يعتبر الاستشراق أسلوبا للتفكير يرتكز على التمييز الثقافي والعقلي والتاريخي والعرقي بين الشرق والغرب.
البعد الاستعماري: من حيث اعتباره الأسلوب الحقيقي لمعرفة الشرق بغية السيطرة عليه ومحاولة إعادة تنظيمه وتوجيهه والتحكم فيه(5).
وهذا المفهوم هو الذي فضح الاستشراق وهو يمثل البعد الثالث لرسالة الاستشراق حيث أصبح أداة ووسيلة للتعبير عن التناقض والتباين بين الشرق والغرب(6).
فالاستشراق بهذا المفهوم الاستعماري يعمل في مجالين خطيرين:
“الأول: التمهيد للاحتلال العسكري والسياسي والاقتصادي بتهيئته الملائمة للاستعمار.
الثاني: تشويه صورة كلّ مُنْتَمٍ للإسلام، وإبراز مبررات احتلال البلاد الإسلامية بالشكل الذي يتناسب مع كلّ بلد من بلاد المسلمين”(7).
بدايات ظهور الاستشراق:
يعدّ الاستشراق القاعدة الروحية للغرب في إمداده بمسوّغات الهجوم على الشرق، وبالتالي، فإنّ المستشرقين يعدّون مشكلة ثقافية ودينية كبرى، “وهذه الحقيقة لابد من الاعتراف بها اعترافا صريحا كاملا، ثمّ مواجهة المشكلة ودراستها دراسة جديدة، وتحديد موقفنا إزاءها تحديدا دقيقا”(8).
بدايات النشاط الاستشراقي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا، إذ بنى له هيكلا نظاميا حوى العلوم الإسلامية بمختلف مشاربها، وشتى تخصصاتها، “وقد ابتدأ فيما ابتدأ فيه، بإنشاء جمعيات لمتابعة الدراسات الاستشراقية، فقد تأسست أولا الجمعية الآسيوية في باريس عام 1822، ثم الجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وأيرلندا عام 1823، والجمعية الشرقية الأمريكية عام 1842، والجمعية الشرقية الألمانية عام 1845″(9).
ساهمت هذه الجمعيات في إصدار المجلات، إذ أول مجلة صدرت في فيينا متخصصة في الدراسات الاستشراقية سميت بـ ينابيع الشرق، رئيس تحريرها “هامر بريجشتال” استمرت من 1809إلى 1818(10).
كما ظهرت مجلة في باريس اهتمت بالعالم الإسلامي وهي “مجلة الإسلام، وقد خلفتها في عام 1906 مجلة العالم الإسلامي التي صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية في المغرب وقد تحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية”(11).
وفي ألمانيا ظهرت مجلة الإسلام عام 1910، وفي روسيا ظهرت مجلة عالم الإسلام، عام1911.
أما المؤتمرات الدولية فلقد شهدت أوربا عددا منها وقد “أتاحت للمستشرقين في كل مكان الفرصة لزيادة التنسيق وتوثيق أواصر التعاون، والتعرّف بصورة مباشرة على أعمال بعضها بعضا، وتجنب ازدواج العمل حرصا على تجميع الجهود وعدم تبديدها في أعمال مكرّرة”(12).
وأوّل مؤتمر عقد للمستشرقين كان عام 1873 بباريس، وفي عام 1849 عقد مؤتمر بألمانيا، ولقد ضمّ مؤتمر أكسفورد مئات العلماء قدّروا بتسعمائة عالم من خمس وعشرين دولة، وخمس وثمانين جامعة وتسع وسبعين جمعية علمية، وأربع عشرة مجموعة اختصاص، كلّ مجموعة منها تبحث في مجال معيّن من الدراسات الاستشراقية، وجعْلها منهجا يلتجأ إليه كدليل للباحث في دراسته الاستشراقية(13).
وهذا الكمّ النوعي والكيفي يدلّ على الاهتمام الذي اتجه إليه المستشرقون، ليوظّفوا ملكاتهم وقدراتهم تجاه الحضارة الإسلامية لدراسة كلياتها وجزئياتها ودقائقها بغية الوقوف أمام حقائق تساعد المنصفين منهم في تجلية المواقع التي تجعل منها في أتم استعداد للحوار مع الآخر، وتمدّ المناوئين منهم بنقاط ضعف تلك الحضارة لتشويه محاسنها، وتزوير شكلها وجوهرها، وجعله مناوئا للحضارة الغربية، مما يؤثّر على الرأي العام الغربي وتجنيده ليكون وجها آخر للصراع الحضاري مع الحضارة الإسلامية.
ويتطلب منّا هذا الأمر البحث في فئات المستشرقين الذين تعاقبوا عبر الزمان والمكان مشخصين البناء العام للحضارة الإسلامية، ويرجع بعض الباحثين التنوع في المستشرقين إلى اعتبارات أهمها:
إنّ تاريخ حركة الاستشراق في الغرب، وإنّ تأثير العنصر السياسي فيها في مختلف العصور، قصد به وجه الإسلام في أوروبا في فترة الحروب الإسلامية وما بعدها كان يخدم الأهداف السياسية المحضة، لكنّ المصالح السياسية والاقتصادية قد أدّت في القرون التالية إلى ازدياد الحاجة إلى معلومات موضوعية حول هذه الإمبراطورية العثمانية الكبيرة القوية، التي كانت تقيم بجوار أوربا، وكانت تهددها، ولقد بدأ الانفتاح الثقافي نحو الشرق الإسلامي في أوربا فقط في الفترة التي شهدت التهديد العثماني يبتعد عن الغرب، في هذه الفترة بالذات أصبحت الرحلات إلى الشرق في ازدياد(14).
ولقد وقف الباحثون على أهم الفئات من المستشرقين التي كان لها الدور البارز في تلك التجلية:
أ- فريق من طلاب الأساطير والغرائب الذين كان همّهم إبراز خصائص الحضارة الإسلامية في ثوب من الدجل والشعوذة، والغوص في الأساطير التي تتنافى والمنهج العلمي، وما إصرارهم على إبراز النتاج الثقافي الذي أفرزته عقلية متأثرة بالتقاليد البالية، ككتاب ألف ليلة وليلة وغيره من الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، أملى على المتخصصين خلو هذه الفئة الاستشراقية منهج علمي دقيق يسقطونه على هذه الحضارة في إبراز محاسنها ومساوئها بموضوعية غير متأثرة بالذاتية، وهو هدفٌ أُريد من خلاله تشويه ثوابت الحضارة الإسلامية، ومساراتها المعتدلة “وقد ظهر هذا الفريق في بداية نشأة الاستشراق واختفى بالتدرّج”(15).
ب- كما ظهر فريق من المستشرقين وظّفوا أساليبهم ومناهجهم في تدعيم المصالح الغربية الاقتصادية والسياسية الاستعمارية، القائمة على أهداف ذرائعية، غير أنّ البعض يعتقد أنّ هذا الإسناد غير مبرّر حيث يكون من الخطأ إذا “قلّلنا من أهمية مخزون المعرفة الموثّقة وتقنيات السنة الاستشراقية – في كتابات الغربيين من أمثال “كرومر” و”بلفور”- فأنْ نقول ببساطة إنّ الاستشراق كان إضفاء لعقلنة منظِّرَةٍ مسوَّغَة على الحكم الاستعماري هو أن نهمل المدى البعيد الذي كان عليه الحكم الاستعماري قد سُوِّغ من قبل الاستشراق بصورة مسبقة، لا بعد أن حدث”(16).
ج- وفريق آخر غابت عن أفكاره ومناهجه وأقلامه روح العلمية، والنزاهة الفكرية، فتمادى في بثّ الشكوك في تراث الحضارة الإسلامية، من أمثال “بدويل” و”بريدو” و”سيل” من القرن الثامن عشر، ولقد كان لكتابات بعضهم مثل “سيل” أثر كبير في الغرب لمدة طويلة”(17).
وفريق آخر واكب المنهج العلمي، غير أنّه نهج طريق الغاية تبرر الوسيلة، لما في هذا المنهج من أثر سلبي على المادة أو العينة أو التراث المراد دراسته، فانصبَّت جهود المستشرقين في إبراز عوامل الضعف في الحضارة الإسلامية، والتشكيك في ثوابتها، والحطّ من إنجازاتها باسم منهج البحث العلمي، وهو ما أكّده “رودي بارت” في قوله: “فنحن معشر المستشرقين عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية، لا نقوم بها قَطًََََََُّ لكي نبرهن على ضِعَةِ العالم العربي الإسلامي، بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام، ومظاهره المختلفة، والذي عبّر عنه الأدب العربي كتابة، ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كلّ شيء ترويه المصادر على عواهنه، دون أن نُعْمِلَ فيه النظر، بل نُقيم وزنا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخي أو يبدو وكأنّه يثبت أمامه، ونحن في هذا نُطَبِّقُ على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي نطبّقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدوّنة لعالمنا نحن”(18).
ولقد بالغ مستشرقو الغرب في تمييز ثقافتهم، والتعالي بحضارتهم إلى أن أَنْقَصُوا من قدر الحضارات الأخرى، خصوصا الحضارة الإسلامية التي يعدّ الإنسان المعادلة الأساس في ارتقائها أو كمونها، والشرقي الذي هو لفظة تطلق على المسلم دون القصد التعبير الجغرافي لها، لا يملك أدوات التقدم التي يملكها الأوروبي – الغربي-، خصوصا أنّ طبيعة تعامله مع الأدوات العلمية يتميز بالسطحية وأحيانا غياب الذكاء الذي يفرض عليه التقدم، إذ نجد كرومر يشرح لنا هذه الطبيعة في صورة تؤكد طبيعة الصراع الحضاري الكامن في نفسية وعقلية الإنسان “الغربي” إذ يقول: “الافتقار إلى الدقّة الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداما للحقيقة، هو في الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي، الأوروبي ذو محاكمة عقلية دقيقة، وتقريره للحقائق خال من أي التباس، وهو منطقيٌّ مطبوع، رغم أنّه قد لا يكون درس المنطق، وهو بطبعه شاكٌّ ويتطلب البرهان قبل أن يستطيع قَبُول الحقيقة أي مقولة، ويعمل ذكاؤه المدرّب مثل آلة ميكانيكية، أمَّا عقل الشرقي فهو على النقيض، مثل شوارع مدنه الجميلة صوريا، يفتقر بشكل بارز إلى التناظر، ومحاكمته العقلية من طبيعة مُهَلْهَلَةٍ إلى أقصى درجة، ورغم أنّ العرب القدماء قد اكتسبوا بدرجة أعلى نسبيا علم الجدلية “الديالكتيك”، فإنّ أحفادهم يعانون بشكل لا مثيل له من ضعف ملكة المنطق، وغالبا ما يعجزون عن استخراج أكثر الاستنتاجات وضوحا من أبسط المقدمات التي قد يعترفون بصحتها بدءاً، خذ على عاتقك أن تحصل على تقرير صريح للحقائق من مصري عادي، وسيكون إيضاحه بشكل عام مسهبا ومفتقرا للسلاسة، ومن المحتمل أن يناقض نفسه بضع مرات قبل أن ينهي قصته، وهو غالبا ما ينهار أمام أكثر عمليات التحقيق لينا”(19)، وبوجه عام فإنّ الشرقي “يتصرّف ويتحدّث ويفكّر بطريقة هي النقيض المطلق لطريقة الأوروبي”(20).
وأمام هذه المعادلة التي تجعل من الباحث يشخّص الأدوات المستعملة في تحليل وضع قائم بالقوة للحضارة الإسلامية يؤكد على ضرورة التأني في الإطلاقات الجزافية للأحكام، والدقة في البحث في مقاصد الدراسات الاستشراقية تجاه الحضارة الإسلامية في إطار التأسيس الفعلي والإيجابي لحوار الحضارات، من خلال اجتناب الذاتية السلبية لتلك الإطلاقات، فالردّ الحقيقي على المستشرقين إنما ينبني حقيقة على “إنتاج دراسات وفق مناهج دقيقة وصارمة تبتغي الحقيقة ولا تخفي منها شيئا، مع تقديم فكرنا العربي الإسلامي للآخرين على أنّه فكر إنساني عالمي، وذلك بترجمة ودعم هذه الأعمال إلى لغات أمم المستشرقين،على أيدي علماء مسلمين، ولا بأس من فتح حوارات مع المستشرقين، ولكن بشرط ألاّ نقع في مغالطة كبرى، ولا يتحوّل الحوار إلى حوار ديني ديني، بل يبقى حوارا إنسانيا”(21).
غير أنّ الاستشراق يبقى يتراوح مكانه في تبرير سياسة الغرب في الهيمنة على الشرق أو ما يسمى بالصراع الحضاري، فرغم النقلات الهامة التي شهدها الاستشراق “على مدى القرنين المنصرمين، ظلّ في الجوهر عاجزا عن التطوّر بسبب تمسّكه بخرافة كبرى حول الشرق، أنّ الثقافة الشرقية هي في حدّ ذاتها ثقافة التطوّر الموقوف بصفة دائمة”(22)، فإذا اتسم الفكر الاستشراقي بهذا الوضع، تصعب إمكانية بناء صرح تعارفي بين الحضارتين، ولن يتمّ هذا إلاّ إذا أزاح الاستشراق هذه المعادلة الاحتمالية عن نسقه الفكري في إرادته الحوار مع الآخر، وبمعنى آخر لابد من إزاحة مزاعم القوة والمعرفة التي يعتقدها الغرب في بسط هيمنته على الآخر، وذلك بوجود إرادة عازمة على مثل هذا التعارف أو التواصل بين الحضارات دون إقصاء أي طرف لآخر.
أما الوسائل التي انتهجها المستشرقون في تدعيم حركتهم الاستشراقية، فقد قاموا بمجموعة من الإجراءات كان من أهمها:
أ- إنشاء كراسي اللغات الشرقية في الجامعات الأوربية في جميع أنحاء أوربا،كما أنشأ له معاهد في البلدان محلّ دراسته، إذ قامت فرنسا مثلا بإنشاء المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة ودمشق وطهران وتونس، “إلى جانب كراسي اللغات الشرقية في جامعات إنجلترا مثل جامعة أكسفورد وكامبريدج الخ…”(23).
ب- إنشاء المكتبات الشرقية التي تحتوي ملايين من الكتب والمخطوطات والنفائس العلمية والأدبية والتاريخية(24).
ج- إنشاء المطابع الشرقية، وعقد المؤتمرات الدولية(25).
الاستشراق وحوار الحضارات:
يعدّ الاستشراق الخلفية التبريرية للحضارة الغربية، يمدّها أشكالا مختلفة ومتباينة من التصورات القائمة على نوع التأثر وشكل الفئة التي ينتمي لها المستشرقون، والتي ذكرناها سلفا، مما أفرز قوالب فكرية جاهزة يعتمد عليها الغرب في تبرير سياسته تجاه الشرق، غير أنّ الملاحظ في هذه السياسة اقتصار الغرب على القوالب التي تزيد من حدّة الصراع بين الحضارتين -الإسلامية والغربية -، وتقضي على كلّ ما من شأنه أن يقرّب وجهات النظر بينهما، خصوصا إذا تركّز الأمر حول بناء النسق الفكري الاستشراقي القائم على زعزعة الاستقرار الفكري للمجتمعات الإسلامية، وإقصاء المنهج العلمي أو توظيفه لغير الأغراض التي وضعت له في هذه الدراسات بغية إيجاد قواسم تسمح بهذا اللقاء المفضي إلى التعارف، والذي من نتائجه حوار الحضارات المبني على الإيجابية وروح المسؤولية، وعدم إقصاء طرف لآخر.
ولقد لعب المستشرقون خصوصا ممّن ينتمون لفئات المشكّكين والمستعملين للمناهج العلمية خدمة لأغراض سياسية واقتصادية في إثارة نقاط التعارض بين الحضارتين وذلك “بنشر لنوع معيّن من الوعي في النصوص الغربية العلمية والاجتماعية والتاريخية والفلسفية والجمالية، وأنّ هذا الوعي كان يؤكد دوما انشطار العالم إلى شطرين متساويين هما الشرق والغرب”(26)، أي يميل اتجاه التحول في تاريخ الاستشراق من إدراك الغرب للشرق نصوصيا “الوعي”، إلى إدراكه ممارسة “الفعل”، أي ممارسة الغرب عمليا وتطبيقيا لطموحاته وأطماعه ومشاريعه القديمة على الشرق عبر مؤسسة الاستشراق”(27).
فهذا الأمر يجدر التنبّه له، وإدخاله في عملية التحاور أو التفاوض، إذ يتمثل الاستشراق في اعتماده على “طريقة ثابتة من أجل استراتيجيته على التفوق الموقعي المرن، الذي يضع الغرب في سلسلة كاملة من العلاقات المحتملة مع الشرق دون أن يفقده للحظة واحدة كونه نسبيا صاحب اليد العليا، ولماذا كان ينبغي أن يكون الأمر على غير هذه الشاكلة،خصوصا خلال مرحلة الهيمنة الأوروبية الخارقة منذ أواخر عصر النهضة حتى الوقت الحاضر، لقد كان العالم أو الباحث أو الإرسالي أو التاجر أو الجندي في الشرق، أو فكّر بالشرق، لأنّه كان قادرا على أن يكون هناك أو على أن يفكّر به، دون مقاومة تذكر من جانب الشرق، وتحت العنوان العام للمعرفة بالشرق، وتحت مظلّة التسلّط الغربي على الشرق”(28)، وأهمّ ما يمكن استنتاجه من هذا العرض:
أولا: “كي نفهم مصدر الإخضاع اللاحق للشرق فهما سليما ونفسّره تفسيرا صحيحا فإنّ الكاتب إدوارد سعيد يحيلنا باستمرار إلى أزمنة ماضية بعيدة لم يكن الشرق فيها حاضرا بالنسبة إلى الغرب، إلا على مستوى الوعي والكلمات والنصوص والصور الذهنية وتعاليم الحكماء وصفحات الكتب.
ثانيا: الاستشراق الثقافي الأكاديمي هو المسئول الأساسي عن ظاهرة بروز شخصيات شهيرة في الغرب من أمثال نابليون بونابرت، واللورد كرومر، وأرثر بلفور، ولورنس العرب أشرفت على عمليات غزو الشرق وحكمه ومراقبته ودراسته واستغلاله”(29).
وما يجدر التأكيد عليه أنّ مثل هذه التيارات الفكرية في العهود الأولى للإسلام بما تحتويه من مخزون استراتيجي للأفكار التي تبدو غريبة عن البيئة الإسلامية، إلاّ أنّها مثّلت حافزا للمسلمين “للوقوف أمامها بقوة وصلابة، وقد كانت المواجهة على مستوى التحدّي، بل تفوقه، فقد هضم الفكر الإسلامي تلك التيارات هضما دقيقا، واستوعبها استيعابا تاما، ثم كانت له معها وقفته الصلبة بالأسلحة الفكرية نفسها، فالمواجهة إذن كانت مواجهة فكرية”(30).
وفي وقتنا المعاصر إذا أراد المسلمون مواجهة الغرب مواجهة حقيقية، فلابد أن يتحصّنوا بما تحصّن به الأوّلون أو أشدّ تحصنا بقراءة متأنية متخصصة لنتاج المستشرقين، ونقدهم نقدا منهجيا، وقبل ذلك كلّه فلابد أن “نواجه أنفسنا مواجهة حقيقية بعيوبنا وقصورنا وتقصيرنا وأن نكون على وعي حقيقي بالمشكلات التي تواجهنا في هذا العالم المعاصر”(31).
وإذا كان الاستشراق يأخذ له منهج الصراع سبيلا ثابتا دون اللّجوء لوسائل التحاور أو التعارف أو التواصل، أو ما يسمّى بأساليب التهدئة، فإنّ ذلك الهجوم يمثّل بالنسبة للمسلمين طريقا إيجابيا يستكشفون فيه عيوبهم، ومواطن ضعفهم، والمنهاج العام الذي يساعدهم مستقبلا في الارتقاء بالفكر نحو غاية تثبت حقيقة خلو منظومة الحضارة الإسلامية من أشكال العنف والإرهاب التي تلصقها به الحضارة الغربية.
وقوة الاستشراق كامنة في مقدار الضعف الذي انتهى إليه الإنتاج الفكري لدى المسلمين، وبالتالي فإنّ سبب القوة مشروطة بضعف الآخر، فإن عُدِم الضعف بطل السبب الموجب للقوة، فإذا وعى العالم الإسلامي “ذاته ونهض من عجزه وألقى من على كاهله أسباب تخلفه الفكري والحضاري، يوما سيجد الاستشراق نفسه في أزمة، وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام”(32).
والحقيقة التي يراها البعض في التعامل الاجتماعي أو السياسي وغيره تفترض من كلّ واحد أن “يقدّم صورته الأفضل “الوجه الإيجابي”، وان يدافع عن شخصيته من تدخل الآخرين أو ما يسمونه بـ “هجوم” الآخرين “الوجه السلبي” في الحوار، هذا الهجوم يمكن أن يظهر في أسلوب الأمر والنهي مثلا، أو في مقاطعة كلام الآخر، أما الموقف المختلف فيظهر في التواضع من أجل إعلاء الآخر وفي أسلوب الاعتذار في المجالات”(33).

الهوامش:
1 – عامر رشيد مبيّض: موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية، مصطلحات ومفاهيم، دار المعارف، سوريا 2000، ص 68.
2 – محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري كتاب الأمة، قطر 1404هـ، ص 41.
3 – إدوارد سعيد: الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، ط 2، بيروت 1984، ص 39.
4 – عامر رشيد مبيّض: المرجع السابق، ص 68.
5 – محمد إبراهيم الفيومي: الاستشراق رسالة استعمار، تطور الصراع الغربي مع الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة 1993، ص 144 بتصرف.
6 – المرجع نفسه، ص 149.
7 – السيّد أحمد فرج: الاستشراق، الذرائع النشأة المحتوى، دار طويق، الرياض 1994، ص 74.
8 – عفاف صبره: المستشرقون ومشكلات الحضارة، دار النهضة العربية، مصر 1985، ص 9.
9 – محمود حمدي زقزوق: المرجع السابق، ص 41.
10 – المرجع نفسه، ص 41.
11 – نفسه.
12 – المرجع نفسه، ص 42.
13 – نفسه.
14 – ناديا انجيليسكو: الاستشراق والحوار الثقافي، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 1999، ص 21.
15 – حمدي زقزوق: المرجع السابق، ص 42.
16 – إدوارد سعيد: المرجع السابق، ص 70.
17 – حمدي زقزوق: المرجع السابق، ص 42.
18 – رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية، في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، دار الكتاب العربي، القاهرة، (د. ت)، ص 10.
19 – إدوارد سعيد: المرجع السابق، ص 70.
20 – نفسه.
21 – عفاف صبره: المستشرقون ومشكلات الحضارة، ص 30.
22 – إدوارد سعيد: تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتعليق صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996، ص 27.
23 – عفاف صبره: المرجع السابق، ص 30.
24 – المرجع نفسه، ص 31.
25 – المرجع نفسه، ص 32.
26 – إدوارد سعيد: الاستشراق، ص 60.
27 – صادق جلال العظم: الاستشراق والاستشراق معكوسا، دار الحداثة، بيروت 1981، ص 10.
28 – إدوارد سعيد: الاستشراق، ص 71.
29 – صدق جلال العظم: المرجع السابق، ص 11.
30 – حمدي زقزوق: الاستشراق، ص 124.
31 – المرجع نفسه، ص 126.
32 – حمدي زقزوق: المرجع السابق، ص 128.
33 – ناديا أنجيليسكو: الاستشراق والحوار الثقافي، ص 22.

Exit mobile version