خلفية تاريخية للنشأة :
تعرض علم الاجتماع بصفة عامة و النظرية الاجتماعية بصفة خاصة إلى الكثير من الشك و النقد من جانب الشباب من دارسي علم الاجتماع ، الذين لم يقتنعوا بما درسوه عن الوضعية و الوظيفية ، خاصة مع التغيرات العميقة التي حدثت في المجتمعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية و الأزمات التي مر بها العالم الرأسمالي.
و قد اتخذت هذه المقاومة لقيم المجتمع الرأسمالي الصناعي أشكالاً متعددة، فعلى المستوى السلوكي لجأ الكثير من الشباب إلى رفض هذه القيم و ما يرتبط بها من تصرفات و انسحبوا من المجتمع انسحاباً سلبياً دون أن يحاولوا إحداث تغيير جذري فيه و استبدلوا هذه القيم بقيم أخرى تتمركز في معظمها حول الغوص في الذات و التعبير عنها بحرية فكانت حركات الهيبز و جماعات العقاقير المخدرة و سواها من الجماعات.
أما على المستوى الفكري فقد لجأ الشباب المثقف و بخاصة من المتخصصين في العلوم الاجتماعية إلى رفض الاهتمام بدراسة أو فهم الواقع الموضوعي و ارتدوا مثل جماعات الهيبز إلى الاهتمام بالذات من الداخل وكانت الفلسفة الظاهراتية خير معين لهم على ذلك.
و على ذلك فإن الاتجاه الفينومولوجي يمكن النظر إليه باعتباره رد فعل محافظ لفشل الوضعية و الوظيفية مقابل الاتجاهات الراديكالية التي تعتبر رد فعل ثوري لفشل هذه الاتجاهات السابقة الذكر، و يشبه هذا الموقف ذلك الموقف القديم الذي نشأ كرد فعل لفشل الفلسفات الميتافزيقية إبان عصر التنوير . (أحمد،1977م،ص233ــ234(
إذاً فقد بدأ علماء الاجتماع يتشككون في قدرة المناهج الوضعية والأمبيريقية على فهم الواقع الاجتماعي فهماً عميقاً مما دفعهم إلى طرح بعض البدائل المنهجية كالفهم الفينومينولوجي والتحليل الأثنوميثودولوجي وحينما حققت هذه البدائل المنهجية قدراً من الذيوع والشهرة، بدأ علم الاجتماع الحديث يشهد تنوعاً لم يعرفه من قبل،
ويحاول الاتجاه الفينومينولوجي في علم الاجتماع إعادة النظر في كثير من المسلمات النظرية والمنهجية الشائعة في الفكر السوسيولوجي الحديث وهي:
– تأكيد الفارق الهام بين الظواهر الطبيعية والظواهر الاجتماعية.
– يرفض اعتبار العلوم الطبيعية نموذج يمكن أن تحاكيه العلوم الاجتماعية.
– الظواهر الطبيعية لا تعبر عن بناء خارجي من المعاني وبالتالي يتيح للباحث حرية الملاحظة وتفسير الظواهر التي يدرسها تفسيراً خارجياً مستقلاً.
– يدرس الباحث في العلوم الاجتماعية عالم يتشكل من خلال المعاني التي تمثل بالنسبة له وسيلة لفهم الواقع كما أن الظواهر الاجتماعية تكتسب معاني خاصة بالنسبة للأفراد الذي يعيشون في إطار ثقافي معين ومن هنا يتضح مدى الاختلاف بين دور عالم الاجتماع في فهم الواقع الاجتماعي ودور العالم الطبيعي في دراسة العالم المادي فالعالم الطبيعي يدرس ظواهر لا تتخذ بناء معرفي مسبق وبالتالي فهي لا تعرف القصد أو الإرادة، وعلى الرغم من أن العالم الطبيعي يدرس ظواهر طبيعية توجد في إطار اجتماعي إلا أن علاقته بهذه الظواهر هي علاقة خارجية تختلف تمام الاختلاف عن علاقة العالم الاجتماعي بالظواهر الاجتماعية التي يدرسها.
ويتعارض الاتجاه الفينومينولوجي مع النزعة الوضعية، فيؤكد الفينومينولوجيون صعوبة الفصل بين العالم الاجتماعي من ناحية وأساليب تفسيره وفهمه من ناحية أخرى.
وقد انتقد هوسرل 1859 – 1939علم الاجتماع بسبب ميله إلى محاكاة العلوم الطبيعية عند النظر إلى الواقع الاجتماعي لقد افتقد بذلك علماء الاجتماع القدرة على الإحساس بظواهر الوعي.
والواقع أن الملاحظات النقدية التي سجلها هوسرل لا تنطبق فقط على الموضوعات التي يهتم بها علماء الاجتماع بل تنطبق أيضاً على المناهج التي يستخدمونها في دراسة الواقع الاجتماعي.
ويستطيع هؤلاء العلماء إنقاذ علمهم من السطحية إذا ما حاولوا العودة إلى ظواهر الوعي باستخدام الفهم الفينومينولوجي، فالفينومينولوجيا هي جهد موظف لوصف الظواهر كما تتبدى لنا من خلال وعينا بها. وبذلك يصبح الوعي وسيلة وهدفاً للفينومينولوجيا. .
من مساهمات بعض علماء الاتجاه الفينومينولوجي
الفريد شوتز :
لم يكن شوتز معروفا ً إبان حياته إنما اشتهر بين علماء الاجتماع بعد وفاته ، حيث انتبه علماء الاجتماع المعاصرون و المحدثون إلى عمله عن الفعل الاجتماعي و أعماله حول ” علم الظاهرات ”
ولد شوتز في فينا ــ النمسا ــ عام 1899م و توفي عام 1959 درس في جامعة فينا و حصل على إجازة في القانون ، ثم اشتغل موظفا ً في المصارف المالية ( البنوك ) لكن هذا العمل لم يشبع طموحه المعرفي و لم يشكل معنى للعمل في الحياة ، بيد أنه وجد في دراسة الظواهر الاجتماعية متعة معرفية تشبع طموحه العلمي .
و لم يكن أكاديميا ً حتى عام 1920 م و كان لديه أصدقاء محاضرون غير رسميين يلتقي بهم و يناقشهم بأفكار ماكس فيبر المتأثر بها ، و بالذات تظرية الفعل الاجتماعي و النموذج الأمثل ، و بالفيلسوف ادموند هورسل و هنري برجسون ، لذا كانت إسهاماته في المدرسة النمساوية الاقتصادية منطلقة من الفعل الاجتماعي .
هذه المؤثرات قادت شوتز إلى نشر كتاب عن علم الظواهر للعمل الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1932 م الذي لم يرتجم إلى اللغة الانجليزية حتى عام 1967 م أي تأخرت ترجمته 35 عاما ً .
و لما وقعت الحرب الكونية الثانية عمل في باريس ونيويورك كقنصل قانوني في عدة مصارف مالية ، بذات الوقت كان يمارس الكتابة عن الظواهر الاجتماعية مع إلقاء محاضرات حول الموضوع ذاته ، و عن النظرية و البحث الاجتماعي في مدرسة البحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك عام 1943 م .
و في نفس العام كتب في النظرية و البحث الاجتماعي و في عام 1956 م توقف عن عمله في المصارف المالية و تفرغ للعمل التدريسي و الكتابة حول الظواهر الاجتماعية فأثر على اتجاهات طلبته العلمية أمثال بيتر برجر و توماس لوكمان و هارولد جارفنكل ، هذا التأثير منحه الدخول إلى صلب النظرية الاجتماعية ، و في نهاية مطاف حياته أدرك أن مفردات و إيقاعات الحياة اليومية ذات صلة بالمعطيات الثقافية و التاريخية و لا يود فصل بينهما فضلا ً عن ذلك لم يكن متفائلا ً من نظرته للحياة الاجتماعية . ( عمر ، 1997 م ، ص 286 ــ 287 )
المفاهيم التي تشتملها النظرية :
تركز النظرية على مفهومها الأكبر ” التخلل الذاتي أو الذوات المتداخلة ”
و التي تعني إجابات عن التساؤلات الآتية :
1 ــ كيف نعرف أفكار الآخرين ؟
2 ــ كيف نعرف أنفسنا ؟
3 ــ كيف يتم تبادل رؤانا و إدراكاتنا مع الآخرين ؟
4 ــ كيف يحصل التفاهم المشترك بين المتفاعلين ؟
5 ــ كيف يتصل الفواعل فيما بينهم ؟
معنى ذلك أن تداخل ذوات الفاعل لا يحصل بشكل منفرد أو من جانب واحد بل يتطلب حضور الآخر أولاً ، و طرح أفكار و آراء يتم نقاشها ثانيا ً و تبادل التفاعل بينهم ثالثا ً ( ساعتها يحصل تبادل المشاعر بينهم حبا ً أو كرها ً ، ودادا ً أو بغضا ً ، إعجابا ً أو استعلاء ) و من ثم يحصل تبادل الذوات بين الفاعل و الحضور .
بتعبير آخر يشترط حضور الآخرين حيوية مفعمة بوساطة نقاشه معهم و استماعهم له و محادثته إليهم و تفاعلهم معه في فترة زمنية معينة ، و بقعة جغرافية معلومة الأبعاد ، آنذاك يتبلور التخلل الذاتي . •
مفهوم نظري آخر :
و بناء على حالة ” التخلل الذاتي ” طرح شوتز مفهوما ً آخر في نظريته ليتكامل مع مراد بنائه النظري ، و هو ” النمذجة ” حيث يدخل إلى مدار أوسع ليسبر غور تصانيف الحياة الاجتماعية للآخرين ، الذين يصنفهم حسب معرفته الذاتية لسلوكهم و أقوالهم و أفكارهم و أشكالهم فيسمهم بسمات تحددها معرفته المحيطية التي غالبا ما تتبلور عن :
1 ــ طريقة عيشه في محيطه الاجتماعي .
2 ــ و علائقه المتنوعة مع زملائه و أصدقائه و أقاربه .
3 ــ و أهدافه الثقافية .
أي بوساطة التخلل الذاتي يستطيع الفاعل تشكيل نموذج فردي اجتماعي ، يضم صفات المتفاعل معه يختزل فيه سيرته الذاتية أو سماته الشخصية ، أو نمط تفكيره بصفة عامة و شاملة ، تغطي أغلب صفاته السلوكية أو الفكرية الظاهرة و الباطنة ( أي يسمه بسمة تفسر معظم صفاته التي عثر عليها أو لمسها أو تفاعل معها ) كأن يسمه بأنه طيب القلب أو غليظ القلب أو حسود أو كريم النفس و سواها .
أي نمذجة سلوك الناس الذين يتفاعل معهم و يتخلل ذواتهم و بهذه الكيفية تكون النمذجة ممثلة لحكم ذاتي يتضمن معايير ذاتية ــ اجتماعية تعكس تأثيرات المحيط الاجتماعي الذي يعيش في وسطه الفاعل .
أما وسيلة التعبير عن النمذجة فهي اللغة إذ شبهها شوتز ببيت المال لتعطي معنى و دلالة عن النموذج الذي نحته أو شكله أو بناه الفاعل في تفاعله و تخلله الذاتي مع الآخر .
علما ً بأن المحيط الاجتماعي للفاعل يلعب دورا ً حيويا ً في اختيار العبارات اللغوية التي تصور ذلك النموذج الذاتوي الذي تبلور بوساطة تخلل ذوات الفاعل .
مفهوم نظري ثالث :
بالإضافة إلى ما سبق من مفاهيم ، فهناك مفاهيم أخرى منها ما ذكره شوتز عن ” ذخائر الخبرات ” التي شبهها بكتاب الطبخ الذي تجد فيه ربة البيت مقادير طبخ الطعام و كيفية إعداده و تقديمه على شكل طبق شهي جاهز للأكل .
أي أن ما يسجله الفاعل من خبرات ذاتية مع الفواعل الذي يتفاعل معم لا يقوم بتكديسها لتكون تراكما ً من الخبرات بل يصنفها حسب أنواعها و طبيعتها .
فالفاعل اللئيم على سبيل المثال يتسم بصفات تحددها خبرته مع الآخرين من هذا النوع من الفواعل , و غالبا ً ما تلعب معايير محيطه و ثقافته و علائقه المتنوعة التي صادفها في حياته الاجتماعية ، فيتم تخزين هذه الخبرات عبر تنشئته الاجتماعية ( الأسرية و المحلية و الرسمية و الدينية و الثقافية ) ثم يقوم بتنصيفها و بالتالي يبلورها على شكل نماذج و كل نموذج يمثل صنفا ً متألفا ً من مجموعة خبرات ذاتية .
كما طرح شوتز كذلك عدة مفاهيم أخرى منها طريقة الإجراء أو مقادير طريقة الإعداد ، و كذلك معرفة جديدة سماها شوتز مخزون المعرفة ،كما قدم مفهوم الموقف المتشابك أو إشكالية الموقف ، بعدها طرح شوتز عدة مصطلحات اجتماعية توضح جوانب أوسع من الفعل الاجتماعي ، و هي عالم الحياة ، عالم البديهيات ، عالم الحياة اليومية ، عالم العمل اليومي ، الواقع الدنيوي ، الواقع الأسمى .
ففي مصطلح عالم البديهيات أشار إلى المواقف الطبيعية للناس التي تعني تعيينهم فيها دون أن يساورهم الشك فيها، أي مواقف مقنعة لا تقبل الطعن بسبب اختمارها و نضجها و تعود الناس على مواجهتها و تآلفهم لها .
أما مصطلح عالم الحياة اليومية فإنه يشير إلى الصفات الآتية :
1 ــ يتسم هذا العالم بتوتر إدراكي يجعل الفاعل يقظا ً و حذرا ً من الفواعل و الأحداث التي يواجهها و يتفاعل معها .
2 ــ لا يبدي الفاعل عن شكوكه في العيش في هذا العالم .
3 ــ يعمل الفواعل على معايشتهم هذا العالم .
4 ــ يمنح هذا العالم خبرة ذاتية خاصة متكاملة الجوانب .
5 ــ يبلور التخلل الذاتي بين المتفاعلين نسيجا ً اجتماعيا ً يعكس طبيعته .
6 ــ خضوع تفاعل الفواعل إلى العامل الزمني . •
مفهوم نظري آخر تناوله شوتز هو” عوالم الواقعية الاجتماعية ” حدد شوتز أربعة عوالم اجتماعية مميزة بدرجة وضوحها وبداهتها المباشرة لا تحتاج إلى برهان أو سند ، بيد أنها مختلفة بعضها عن بعض لأنها مستخلصة من ظروف و فترات زمنية خاصة بها و هي ما يلي :
1 ــ عالم الخبرة المباشرة ، مستخلصة من الواقع الحي و يشير إلى الاتصال التفاعلي ( وجهاً لوجه ) يدرك المتقابلان أحدهما الآخر ، و يشتركان بمشاعر و أحاسيس و أفكار واحدة و متشابهة فيتبلور عندهما علاقة “النحن” التي توجه الأنا أو الأنت فتغذي خبرات كل منهما .
2 ــ عالم الخبرة غير المباشرة :
مستخلصة من الواقع البعيد زمانيا ً أو عبر وسائط بشرية أو غير بشرية ( سلكية أو لا سلكية ) و يشير إلى الاتصال غير التقابلي عبر قنوات تقلل من تدخل المتفاعلين في مشاعر و أحاسيس مشتركة .
3 ــ عالم الإرث المخلوف من الزمن القريب .
4 ــ عالم الاستخلاف من الزمن البعيد .
و يمثلان بواقي الحالات الماضوية الناقصة في معرفتها الجزئية ، أو العناصر الدقيقة و تختلف في معاييرها و مقاييسها بحيث إذا تم قياسها بمقاييس معاصرة يحدث إساءة تقدير الأحداث القديمة و تشويه تفسيرها ، لذا فإنها تمثل خصوصية تراثية لا تمثل معايير الحضارة و الخطأ كل الخطأ إذا تم قياسها بمقاييس الحاضر . ( عمر، 1997 م، من ص 246 ــ ص 253)
كما يميز شوتز بين المنظور الطبيعي لعضو الجماعة الاجتماعية و المنظور الظاهراتي للملاحظ الخارجي ، و يصف مصطلح الطبيعي المدخل الفطري والبديهي الذي يسلم به أعضاء جماعة اجتماعية معينة ، و ينظر هؤلاء الأعضاء إلى أسلوب حياتهم على أنه عادي و هم بصفة عامة غير واعين بالمدى الذي يعكس به هذا الأسلوب خبراتهم الذاتية فقط، و على النقيض من ذلك يسعى الملاحظ الخارجي (الذي يتبنى منظارً ظاهراتياً) إلى وصف أسلوب حياة جماعة ما، و مع هذا فهو يقوم بهذه المهمة من زاوية الفاعلين لا من زاوية منظور تفسيري خارجي.(عبد الجواد، 2009م،ص187 ــ 188)
و كمثال على المنظور الطبيعي لو استخدمناه لتفسير حياة أفراد مجتمع قبيلة قريش حين قالوا: “هذا ما وجدنا عليه آبائنا” فهم ينظرون إلى أسلوب حياتهم من عبادة للأصنام و شرب للخمور و وأد للبنات بأنه عادي، غير مدركين أن هذا الوضع يعكس خبراتهم الذاتية و ما تعلموه من خلال التنشئة الاجتماعية ، فيما يركز المنظور الظاهراتي على وصف حياة هذه الجماعة حيث يتم استخدام الملاحظة كأداة جمع للبيانات من خلال استخدام المنهج الكيفي ، فيتم وصف أسلوب حياة هذه الجماعة كما تبدو و من زاوية الفاعلين أنفسهم لا من زوايا بنائية أو صراعية قد لا تعكس الواقع المعاش ، حيث يتم التركيز على ما يرويه الناس حول عبادة الأصنام أو وأد البنات، و من ثم تحليل هذه البيانات لتقديم تفسير ملائم للواقع الاجتماعي.
تقييم لإسهامات الفريد شوتز
لا بد من الإشارة إلى أن شوتز دخل مباشرة في مفهوم ” التخلل الذاتي ” بين المتفاعلين بيد أنه لم يقل لنا كيف حصل هذا التخلل بينهما ؟
هل من خلال تقارب آراؤهما أو مشاعرهما أو مصالحهما أو أفكارهما أو انتماءاتها الاجتماعية ؟
لأن تقبل الفواعل ذاتيا ً كلا ً منهما للآخر لا يحصل اعتباطا ً أو فجأة بمجرد لقائهما و لم يعرض لنا مساحة أو مدة للفترة الزمنية التي تستغرق الفواعل لوصولهما حالة التقبل الذاتي و الذهاب إلى مرحلة تبادل ذواتهما ، فهي حلقة مفقودة في رؤية شوتز مما جعلت هناك ثغرة في تركيبة نظريته .
و في إطار النمذجة أوضح شوتز أن الفاعل يختزل ما يحس به و يراه من سلوك و يسمح من حديث عن الفاعل المتفاعل معه من خلال معاييره الذاتية و الاجتماعية فيلصق به سمة أو صفة ترمز إلى نوع سلوكه أو تفكيره أو شكله ، و لكن لا بد من القول أن الفاعل إذا مر بظروف سيئة أو قاسية نجده يلون نماذج الناس السلوكية بألوان قاتمة و قاسية و متشائمة ، و إذا عاش في ظل ظروف سهلة وسعيدة و قليلة المثالب ، فإنه يلون نماذج الناس السلوكية بألوان وردية و متفائلة و طيبة .
مثل هذا التوصيف الدقيق لم يذكره شوتز في نظريته بل مر ّ عليه مرور الكرام ، لا غرو من التساؤل في هذا المقام : أين دور العقل في تحكيمه و موازنة الواقع المرئي و المدرك و خبراته السابقة ؟
لماذا افترض شوتز أن الفاعل دائما ً ينجر انجرارا ً نحو خبراته الماضوية تلقائيا ً و يرضخ لنماذج صاغها هو في ظروف ولت و بادت لا تعكس ظروفه الحالية ، فضلا ً عن كون سلوكيات الناس قابلة للتبدل من فترة إلى أخرى ، و بالذات الإنسان العصري الذي يفاضل عقله و منطقه على عاطفته ناهيك عن تبدل معايير الناس عبر الزمن على ألا ننسى أن الفاعل ذاته يطور و يبدل و يعدل رؤاه و أحكامه و نمط تفكيره حسب التطورات التي يرتقي إليها و الأهداف التي يرنو منها .
يضيف معن خليل عمر قائلا ً : أقول أن شوتز اقتصرت نظريته على نوع واحد من الفواعل و ليس معظم أنواع الفواعل .
أي اهتم بالفاعل المحدود الأفق و صاحب الذكاء السطحي أو الكسول ذهنيا ً و ترك الطموح و اللماح و الحيوي و المتوقد الذكاء .
كما أن الخبرة الذاتية لا تكون تراكمية دائما ً كما يرى شوتز بل قد تأخذ حالة التنافر ( كرد فعل ) أما إذا حصل امتداد للخبرة الذاتية ، فإن ذلك يعني عدم تنوع خبرات الفاعل بل السير في خط واحد من الخبرة ، و هذا نادرا ً ما يحدث في المجتمع المعاصر المكتنز بالتنوع و التبدل .
و يتساءل معن خليل عمر عن موقف و رؤية نظرية شوتز و أتباعه عن الفاعل دون سن الخامسة عشر ( على سبيل المثال لا الحصر ) الذي لا يمتلك نماذج خبراتية كثيرة و متنوعة ، بل محدودة بحدود عمره القصير ، و يواجه مواقف عديدة و متباينة , و هو في حالة اكتساب خبرات و يحولها إلى مخزون في ذاكرته و يستدعيها عند الحاجة ، تكون خبرته الاجتماعية هزيلة و قليلة غير ناضجة ، فما هو موقفه إذا واجهه موقف أو فاعل ليس له ذخيرة خبراتية في ذلك النوع من المواقف أو الفواعل . ( عمر ، 1997 م ، ص 260 ــ 266 )
تعليق عام على الاتجاه الفينومينولوجي :
لاشك أن هذا الاتجاه يركز على دراسة المعاني والخبرات المشتركة بين الأفراد في المجتمع بوصفها أساساً للحياة الاجتماعية وبإهمال الاختلافات والصراعات الواقعية داخل المجتمع. ويتعارض ذلك تماما مع التحليل العلمي الواقعي للمجتمع الذي يبين بالأدلة القاطعة أن العالم تمزقه الصراعات على كافة المستويات، وأن القدر المتاح من المعاني والخبرات المشتركة بين الأفراد في المجتمع الواحد أو في مجتمعات العالم أقل بكثير من الاختلافات والصراعات فهناك صراعات عديدة بين الشباب والشيوخ، النساء والرجال، الأغنياء والفقراء، الأميون والمتعلمون، أصحاب السلطة والقوة والخاضعين لهم، ودعاة الحرب، الاشتراكيون والرأسماليون، العالم الثالث والبلدان المتقدمة.
أي أن المسلمة الأساسية التي تنص عليها التحليلات الفينومينولوجية عن طبيعة الواقع الاجتماعي (الخبرات الفكرية المشتركة) لا تدعمها الأدلة الأمبيريقية بل هناك أدلة تنفيها وقد تجاهل أصحاب الاتجاه الفينومينولوجي مسألة الصراع الطبقي العنيف في مجتمعاتهم ورفضوا حتى أن يروه أو يشيروا إليه أو يفسروه على الرغم من أنَّه كان يفرض نفسه على الجميع، كما أنهم تجاهلوا الواقع الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع ودرسوا الخبرة اليومية وأسلوب التفكير كما لو كانا منفصلين عن الواقع ولا يتأثران به.
و يرى العديد من النقاد بأن الاتجاه الفينومينولوجي اتجاهاً محافظاً من الناحية الأيدولوجية. (أحمد، 1977م، ص 249ــ 251)
نهاية نقول أن هذا التنوع السوسيولوجي مهما قـُدم له من نقد و محاولات تصحيح، يظل إثباتاً على أن ما يمكن تسميته بالبحيرة السوسيولوجية ليست بحيرة راكدة و أن أحجار الواقع لا زالت تترك تأثيرها عليها بحيث تتحرك بها المياه باستمرار، تاركة هذا التنوع الفكري و الذي يأخذ بعلم الاجتماع نحو التطور و التنوع من نظريات كبرى إلى نظريات متوسطة المدى إلى نظريات تهتم بالحياة اليومية كما رأيناها في المنظور الفينومينولوجي، و نراها لاحقاً مع الاتجاه الاثنوميثودولوجي ، و ما هذا النقد إلا مواصلة للطريق العلمي و سبيلاً لتنقيحه و تعديله.