موقع أرنتروبوس

الصراع على الإسلام: من الاستشراق والرحلات الى أنثروبولوجيا المحترفين والمحليين

رضوان السيد*

يقول ريتشارد انطون ان تطور أنثروبولوجيا الشرق الاوسط مر بأربع مراحل: مرحلة سيطرة المستشرقين، ومرحلة سيطرة الرحالة والاداريين السياسيين في العصر الاستعماري، اي الأنثروبولوجيين الهواة – ومرحلة سيطرة علماء الانثروبولوجيا المحترفين، وأخيراً مرحلة سيطرة الانثروبولوجيين المحليين.
ما يعنينا ان الاستشراق كان المصدر الاول للبدايات التأملية الانثروبولوجية في الشرق الاوسط. في تلك المرحلة كان المستشرقون (حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً) علماء للعهدين القديم والجديد، او مبشرين، وفي افضل الحالات علماء بالدراسات السامية او هواة رومنطيقيين. ومن اجل ذلك يربط ادوارد سعيد بين الاستشراق والانثروبولوجيا ليس في النشأة؛ بل في المادة التي اعتمداها، ثم في انهما علمان استعماريان او نشآ في مرحلة الاستعمار ولخدمته. لكن لا يصح الخلط في هذه الحقبة، اي مطلع القرن التاسع عشر، بين مادة العلم ومنهجه او موضوعه. فالانثروبولوجيا في القرن التاسع عشر علم وضعي متطور، كان بدأ بملاحظات وجمع معلومات في اميركا الشمالية والجنوبية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فهو فعلاً وليد الاستعمار، وإن حاول الاستقلال عنه في السبعين سنة الماضية. اما الاستشراق، فقد ارتبط بمحاولة الكنائس البروتستانتية ثم الكاثوليكية، ان تعرف اكثر عن موطن المسيح. وخضع التخصص منذ البداية لارغامات في مفاهيمه للحقيقة، ثم في علاقته بتطور العلوم التاريخية والاجتماعية، وأخيراً في علاقته بالاستعمار والسلطات الاستعمارية. مفاهيم الحقيقة فيه خضعت لإرغامات لأن صورة فلسطين والشرق كان ينبغي ان تطابق الوارد في العهدين القديم والجديد. ولهذا فطوال القرن التاسع عشر، وحتى الربع الاول من القرن العشرين، ظلت دراسات كثيرة تتراوح بين اعتبار الاسلام مسيحية محرَّفة او يهودية منحرفة؛ فتريح نفسَها بذلك من الاعتراف بالتغيير في المنطقة بعد عصور الانجيل. لكن في الوقت الذي كان الاستشراق يتعمق بين دراسة اللغات السامية القديمة، واستكشاف المعالم والآثار، كان العهدان القديم والجديد يتحطمان تحت وطأة الدراسات النقدية، التاريخية والأثرية والألسنية، فتنفصل الدراسات اللاهوتية، والاخرى النقدية عن الاستشراق، ويصير الاستشراق تدريجاً اختصاصاً في فيلولوجيات أو تاريخ الاسلام والشرق الاسلامي وشعوبه وثقافاته. ومع هذا الانفصال صار الاستشراق احد العلوم التاريخية، فاقترب مرة اخرى من الانثروبولوجيا مع فارق اساس في المنهج. فالمنهج الانثروبولوجي منهج تأصيلي يفسر كل شيء بالعودة الى الاصل المفترض رمزاً او حقيقة او تاريخاً، بينما التاريخانية التي تعتمد الفيلولوجيا النصية، والتطورات التاريخية، هي التي تسود في الاستشراق. على ان الامر الاكثر تعقيداً يتصل بعلاقة الاستشراق بالسلطة او بالأحرى السلطة الاستعمارية. ففي حين كانت اشكالية الانثروبولوجيا مزدوجة او مركبة من ازدواجين، كان هناك ازدواج من نوع آخر في الاستشراق. في الانثروبولوجيا كان هناك ازدواج البدائي في مواجهة المتحضر، والمستعمَر في مواجهة المستعمِر. بينما كان الأبرز في الاستشراق النقيض الثاني: مستعمِر/ مستعمَر. فحتى بعد الاستقلال، كان الاستشراق يمارَس في دوائر الجامعات التي انتجت الاطروحات الاساسية عن المجتمعات غير الاوروبية، وغير المتقدمة بالمقاييس نفسها. وادوارد سعيد، بل وميمي وفرانز فانون وكلاستر وغوشيه (وغيرهما من محرري مجلة Libre) يرون ان هذه الثنائية مهمة وأساسية في فهم اطروحات الاستشراق الاساسية.
في الواقع كانت هناك محنة منهجية – اذا صح التعبير – ذلك ان الاصرار على تاريخانية الاستشراق، او اعتباره جزءاً من تخصص الشرق القديم والوسيط، او جزءاً من تاريخ العالم، اوشك ان يُلحقه لدى الماركسيين الدوغمائيين او الرسميين بالمراحل الاربع المعروفة، فلم يبق ما يمكن فعله. ومن جهة ثانية، فإن الاصرار على خصوصية تاريخ الاسلام وثقافته، يدنينا مرة اخرى من اعتبار المسلمين كائنات انثروبولوجية ما خضعت للتطور التاريخي. وقد استمر هذا التجاذب والجدال، او بعبارة اخرى التساؤل عن الاستشراق، وهل هو علم ام لا، الى ان ظهرت مدرسة الحوليات، ومدرسة التاريخ العالمي، فصار ممكناً دراسة هذه المنطقة من العالم بطريقة سياقية لا تنافي ذاتيتُها عالميتَها. ولعل خير دليل على ذلك دراسات مارشال هودجسون وفرنان بروديل وجانيت او لُغد. الاولى بعنوان: “مغامرة الاسلام: الوعي والتاريخ في حضارة عالمية”، والثانية بعنوان: “البحر المتوسط في عهد فيليب الثاني”. والثالثة بعنوان: “ما قبل الهيمنة الأوروبية”، وقام الباحثون هؤلاء بدراسة الحضارة الاسلامية في سياق التاريخ العالمي المزامن، اي في القرون ما بين الثالث عشر والثامن عشر للميلاد.
أوضح انور عبدالملك في دراسته الرائدة “الاستشراق في ازمة” (1963) ان المشكلة في التخصص الاستشراقي مزدوجة.
هناك اولاً النقد الاستعماري، الذي يعتبر الاستشراق بطرائقه الفيلولوجية والتاريخانية من مواريث عصر الاستعمار. وهناك ثانياً النقد العلمي الذي يعتبر ان الاستشراق لم يفد من الثورة الحاصلة في العلوم الاجتماعية والتاريخية. وجاءت دراسة ادوارد سعيد عام 1978 ساحقة لجهة انها اثبتت (او اقنعت بذلك) ان الاستشراق تخصص استعماري، اي انه نشأ في حضن الاستعمار، ونقل اطروحاته، او انه حشر الاسلام والشرق في صورة اشبعت وتُشبع طموحات الغرب ومطامعه في استعمار، واستمرار امتلاك، الاسلام والعالم الاسلامي.
إن الذي لم يتنبه اليه ادوارد سعيد وأنور عبدالملك والعروي وبراين تيرنر وآخرون، انه في الوقت الذي كانوا يسعون لتحطيم الاستشراق، بحجة امبرياليته او قصوره او الامرين معاً، كان ذاك التخصص او المجال يتعرض لتفريغ واختراق تدريجيين، افضى الى تحوله الى احد اربعة امور: نزوع ألسني يبدأ بمسائل نقد النص، ويصير الى شكل من اشكال التفكيك – او بقاء على ما كان عليه مع تسميته نفسه دراسات اسلامية او شرق اوسطية – او دخوله ضمن دراسات التاريخ العالمي – او تحوله الى انثروبولوجيا. ولأن التوجه الرابع او الاخير هو الاكثر ظهوراً في العقدين الاخيرين، فسأقوم بتتبع بعض وقائعه وصولاً للعام 2002.
عندما بدأ ادوارد سعيد يجمع المادة لدراسته عن الاستشراق، كان إرنست غلنر يصدر دراسته عن الاصولية الجزائرية. وإذا عرفنا ان ذلك كان عام 1972ادركنا كم كان الرجل سبّاقاً في الاستشعار. وتوالت دراساته عن الاسلام بعد ذلك في السبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات. وقد جمع اهمها في كتاب: “المجتمع المسلم”. ومع اتساع تأثيره، كثر تلامذته او متبنو فهمه للسلام وتطوراته، وبخاصة بعد تفاقم ظاهرة الحركات الاسلامية، وصعود الاسلام السياسي، باعتباره يقدم نظرية جاهزة فيها شيء من التبسط والتبسيط، لتلك التطورات. وأثارت دراسات غلنر رؤى مناقضة او مخالفة لدى أنثروبولوجيين آخرين اهمهم كليفورد غيرتز، وزملاؤه من امثال جيلسنان وأيكلمان، في حين استمرت مدرسة Libre، واستمر طلال أسد، وجيرار لكلرك، وفرد هاليداي، وسامي زبيدة، في اعتبار الانثروبولوجيا علماً امبريالياً، كما استمروا جميعاً يفسرون الظواهر في ضوء هذه المقولة. وانفرد طلال أسد بنشر نقد جذرالصراع على الإسلام: من الاستشراق والرحلات الىي لأطروحة “أنثروبولوجيا الاسلام”.
يرى غلنر ان الجوهر الاصلي للاسلام انه دين نصي أُخروي، يتميز بنزوع طهوري شديد. هذه الطهورية يخفف من حدتها وحروفيتها التقليد الاكثري للسُنّة في صورة توازن بين الأعراف المدينية والسلطة والعلماء. لكن في الازمات الاجتماعية او السياسية، وعندما تصل الازمة الى الثقافة، يعود النص الى البروز، ويظهر علماء منشقون او متشددون يتسلحون بالنص من اجل استعادة الطهورية او البراءة الاولى. ولن تستعاد البراءة الاصلية طبعاً، لكن النص هو اساس المشروعية وليس التقليد او مرجعية الجماعة في الاسلام. وقد تكون الازمة الحالية تعبيراً عن تقبل للحداثة في هذه الصيغة المعقدة، فلكي تتمكن من الثبات لا بد من ان تتغير قليلاً!
ويختلف غيرتز مع غلنر في رؤيته العامة للإسلام. فبحسب غيرتز لا يمكن ان يحدث تغيير ما في المجتمع او الثقافة اذا اخذنا برؤية غلنر حول الدورات المكرورة على النص الواحد والمجتمع الواحد مع بقاء الجوهر ثابتاً، كما يزعم غلنر. بل الاحرى القول ان المجتمع الاسلامي مثل سائر المجتمعات موار شديد الحركة والتغير. اما البنى والثوابت البادية فهي رموز، تبقى عناوينها وتتغير معانيها، وتنقطع او تتضاءل علاقاتها بالواقع في الازمات، فيظهر التشدد بسبب توتر المقدس. فليس هناك مجتمع عالمي اسلامي، بل هناك مجتمعات اسلامية وتقاليد اسلامية متعددة لا تجمعها إلا رموز ومقدسات عليا، تظهر وحدة او شبه وحدة في الوعي، لكن لا علاقة في الواقع بين ما يحدث في المغرب، وما يحدث في اندونيسيا.
غلنر وغيرتز هما الشخصيتان اللتان سادتا ما عرف بأنثروبولوجيا الاسلام في العقود الثلاثة، الاخيرة. وفي حين مال شبان المستشرقين في الاكثر الى رؤية غيرتز او رؤية كلاستر ولكلرك وطلال أسد، مضت قلة قوية باتجاه رؤية غلنر، لأنها مباشرة، ويمكن استعمالها بطريقة اسهل في حكم سريع على الاسلام. وهذا هو في الحقيقة السبب في اختراق الانثروبولوجيا ليس للاستشراق وحسب، بل لكل العلوم التاريخية، والمنظومات التفسيرية والتأويلية. فالانثروبولوجيا تملك دعوى النظرية الشاملة التي يمكنها ان تفسر كل شيء في الظاهرة او الدين او الثقافة. والحق ان غلنر يعرض استثناءات كثيرة (الدولة العثمانية عنده استثناء، اذ كانت السلطة السياسية فيها – بعكس نظريته – اقوى من الثقافة او المؤسسة الدينية)، ويتحفظ، ويضيف، ويحذف، لكن ما يهم الناقلين المتسرعين عنه او عن غيرتز الرؤية الاساسية.
على اي حال، في العام 1977 ظهرت دراستان استشراقيتان افتتحتا مرحلة جديدة في مجال تجاوز الاستشراق الكلاسيكي. اولى تلك الدراستين عنوانها: “دراسات قرآنية” لجون وانسبورو. وثانية تينك الدراستين اسمها: “الهاجرية” تأليف باتريشيا كرون ومايكل كوك. اما وانسبورو فيُخضع النص القرآني لمبادئ “نقد النص” وآلياته في العهدين القديم والجديد. فينتهي به الامر في كتابه الثاني: بيئات منقسمة (1979) الى انه ما كان هناك في القرنين الهجريين الاولين قرآن ولا مَن يحزنون. وأما كرون وكوك فلا يصدقان اي شيء في المصادر الاسلامية عن القرنين الاولين من الهجرة النبوية، باعتبار ان تلك النصوص – بما فيها القرآن – مزورة وضعها اهل السنة بعد ان صاروا امبراطورية، اي ان الامبراطورية العربية هي التي صنعت الدين الاسلامي ونصوصه. ولذلك يلجأ الباحثان الى المصادر والمراجع اليهودية والمسيحية الموروثة عن القرنين السابع والثامن للميلاد، للتعرف على الدين الاسلامي، والتاريخ الاول للاسلام! وصدرت لكرون نصوص ودراسات عدة بعد ذلك مع زملاء آخرين، او بمفردها. وهي تأخذ عن ماكس فيبر قوله بقوة الدولة وضعف المجتمع والثقافة في الاسلام، كما تأخذ عن غلنر القول بأصولية الاسلام ونصوصيته، اي الاستعصاء على التغيير: لكن لماذا يستعصي الاسلام على التغيير، اذا كان هو نفسه اخترع نصوصه في القرن الثاني الهجري؟ تقول كرون: لأنه اذا نحَّى النصوص هذه او غيَّرها فسينكشف انه لم يكن ديناً متماسكاً، بل كان شراذم نصية يهودية ومسيحية، ويهودية على الخصوص.
عدّلت كرون من آرائها في العقد الاخير، واستعادت النصوص العربية لديها سلطتها واحترامها ولغير سبب ايضاً. لكن تلامذتها وتلامذة كوك ووانسبورو كتبوا في العقدين الاخيرين مئات النصوص في نقد النص القرآني او السنَّة النبوية او السيرة النبوية، حيث صارت الدراسات الاسلامية في اكثر الجامعات الاميركية والبريطانية هواجس وتخمينات و”اكتشافات” في نطاق اللامفكر فيه من قبل. فوجود النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) اقل ثبوتاً من الناحية التاريخية من وجود المسيح. والسيرة النبوية تقليد لسيرة موسى او انها حواشٍ على القرآن كُتبت بعد ظهور القرآن في القرن الثاني. والسنة مكذوبة كلها، وما عاد منها الى أوائل القرن الثاني مأخوذ عن اليهود والنصارى. والفقه الاسلامي في اصوله الاولى روماني ويهودي ومحلي ولا علاقة له بالقرآن او بالسنَّة!
وما بقيت هذه الدعاوى من دون ردود طبعاً من دارسين آخرين. لكن الشديدي الايجابية من بينهم وصلوا بالأمور الى اواخر القرن الهجري الاول، وقالوا انهم لا يعرفون شيئاً عما حدث من ايام دعوة النبي وحتى مطلع القرن الثاني الهجري: فما دامت النصوص الواردة باعتبارها من القرن الاول، ليست مسجلة عندما قيلت على رق او بردي او صخر، فمعنى ذلك انها ليست قديمة او منحولة ومتأخرة، او انه ينبغي التوقف من دون اثبات او نفي.
اول مساوئ هذا التخريب طوال العقدين الماضيين، تضاؤل العروض الجدية والشاملة عن الحقبة الاسلامية المبكرة. فالمسائل المبحوثة من القرن الاول، ومن عصر النبي والراشدين، دقيقة وتفصيلية، وتعتمد النقد والتفكيك، ليس بسبب تطورات الدراسات النصية والتاريخية وحسب، بل لسواد مقولة انه لا شيء ثابتاً من تلك الحقبة، ولا بد من اعادة النظر في كل شيء. وثاني مساوئ تلك المقولات والمقالات: تعليم الشبان من الدارسين الجدد الاستخفاف بالنصوص المهمة والمبكّرة من مثل تاريخ الطبري او طبقات ابن سعد او صحيح البخاري، باعتبارها زائفة، او لا يصح الاخذ بها على علاتها. بيد ان الأسوأ من ذلك كله مصير الاستراتيجيين، والمختصين بالشرق الاوسط المعاصر، ومعلقي الصحف والمجلات السيارة، الى استخدام مقولات التفكيكيين والتأصيليين باعتبارها دراسات ومقولات علمية. فقد ادت احداث السنوات الماضية، الحافلة بالصراع على الحركات الاسلامية، وحركات الاسلام السياسي – منذ مقتل الرئيس السادات عام 1981 وحتى احداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والحرب على العراق اخيراً – الى صيرورة الاسلام موضوعاً شعبياً مثيراً، مع ما يتفرع عن ذلك من حديث حول طبيعته العنيفة او الجامدة والسياسات الضرورية ازاءه، وطبائع الجاليات الاسلامية ومصائرها في الغربين الاميركي والاوروبي، ومنظر الحكومات العربية والاسلامية ومظهرها في الغرب. في هذه المواضيع كلها تؤخذ آراء الخبراء، وما ادراك من هؤلاء الخبراء! فقد صدرت مقالة هنتنغتون عن “صدام الحضارات” في الـ”فورين افيرز”، شتاء العام 1993 وعندما ذهبت بعدها في خريف العام 1994 الى جامعة هارفرد للتدريس، ارادني هنتنغتون ان اشارك في ندوة معه حول الموضوع، وعندما سُئل عن مصادر رأيه عن الاسلام ذكر غلنر وبرنارد لويس. ولويس تاريخاني، اي انه لا يزال من اتباع المدرسة القديمة في الاستشراق. لكنه، وبسبب الحاجات السوقية المتزايدة للتعرف على الاسلام، كتب خلال العقد المنقضي خمسة او ستة عروض شبه شعبية، توصل الى النتائج نفسها التي اوصلت اليها آراء المتأثرين بالانثروبولوجيين. قال لويس مثلاً في كتابيه الاخيرين “كيف حدث الخلل؟” (2001) و”أزمة الاسلام” (2003) “ان العرب يعانون عقدة، معالمها الاساسية: رؤية فشلهم في الحاضر، ومجدهم في الماضي، وحسد الغرب لنجاحاته. وبذلك فالمرض مرضهم، ولا ذنب للغرب فيه”. وقد شهدنا في كلام المحافظين الجدد، ومحرري الصحف السيّارة، والمذيعين التلفزيونيين، بعد احداث 11 ايلول، عودة كثيفة لكتب برنارد لويس عن الاسلام والتاريخ الاسلامي. لكن السائد الآن بين المحافظين والليبراليين على حد سواء كتابان مستندهما في شكل اساس غلنر مبسطاً الى جانب لويس. والكتابان هما: “الاسلام المسلح ينال من الولايات المتحدة”، لدانييل بايبس، و”برج عاجي على رمال: فشل الدراسات الشرق اوسطية في الولايات المتحدة”، لمارتن كريمر. ودانييل بايبس صهيوني متطرف معروف منذ الثمانينات. وهو في كتابه عن احداث 11 ايلول وتفكير الاسلاميين الذين هاجموا اميركا، يصل الى ان الاسلام كله اصولي ومتطرف، لكن بعض تياراته اكثر تطرفاً من بعضها الآخر. وكما لا ينبغي من وجهة نظره تجاهل التطرف الاسلامي الخارجي في السعودية ومصر وباكستان، لا ينبغي تجاهل التطرف المنتشر بين الجاليات الاسلامية في الولايات المتحدة وأوروبا. اما كتاب مارتن كريمر فهو هجوم صاعق على سائر المستشرقين الاميركيين وأساتذة دراسات الشرق الاوسط هناك، لأنهم فشلوا في تنبيه الولايات المتحدة الى خطورة الراديكاليين المسلمين. ويرجع ذلك الى انهم – باستثناء برنارد لويس وكوك وكرون وبوول – واقعون تحت تأثير ادوارد سعيد، ونعوم تشومسكي. وفي اوائل العام 2002 انشأ بايبس وكريمر على الانترنت برنامجاً سمّياه: “مراقبة الكامبوس”، المقصود من ورائه تتبع ما يكتبه اساتذة الدراسات الشرق اوسطية والعلوم السياسية مما لا يعجب اليمينيين او انصار اسرائيل. وبايبس هو الذي اثار الضجة حول مايكل سللز، صاحب كتاب “قراءات قرآنية” الذي يستعرض فيه مختلف التأويلات وآيات السيف في القرآن، وآيات المسالمة والموادعة، اذ زعم بايبس ان في ابراز تعددية تفسيرات القتال والعنف في التراث الاسلامي، احتقاراً للأميركيين الذين قتلوا في 11 ايلول باسم الجهاد.
فالانثروبولوجيا تتطور وتتعدد وتتحرر من أكثر المقولات التأسيسية التي ظهرت في المرحلة الاستعمارية. ثم إن المناهج الجديدة في قراءة النصّ، وفي فهم العلاقات بين المتقدم والمتأخّر من النصوص والمقولات، تركت آثاراً عميقةً بين المتقدم والمتأخر من النصوص والمقولات، تركت آثاراً عميقة في الدراسات التاريخية، وفي الصور التاريخية، وفي مفاهيم الحقيقة والواقع، ولن تبقى الدراسات الإسلامية بمنأىً عنها، في شتّى الظروف والمناهج. وأرى أن الطريقة الأنجع للتصدي لكتابة تاريخنا العقدي، والثقافي (بالفهم والاستيعاب والتجاوز) تتمثل في المشاركة الفاعلة والقوية في الدراسات المعاصرة والمناهج المعاصرة دونما خوفٍ أو وَجَل. ويقتضينا ذلك المزيد من المعرفة بالعالَم والعصر، ووقائع الحداثة وما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالواقع أن الدراسات الإسلامية والعربية في المغرب ما كانت على ما يرام في ظل التاريخانية الاستشراقية، لنزعم الآن أنّ غروب الاستشراق، بالمعنى القديم، نكسةٌ لنا.
بيد أن هناك أمراً مهماً يتعلق بما شخصَهُ فوكو من علائق للمعرفة بالسلطة. فهناك صراعٌ هائلٌ منذ عقود على حاضرنا ومستقبلنا عرباً ومسلمين، يبلُغُ الآن إحدى ذُراه، وتُستخدم فيه كل الوسائل؛ بما في ذلك الإسلام والوعي به، والعروبة ومعناها الثقافي والسياسي. ومن هنا ينسحبُ الحاضر على الماضي، أو يسحبُ المهتمون والخائضون لهذا الصراع الحاضرَ على الماضي، فيبدو الإسلام الأول، بالصورة أو الصور التي يظهر فيها الإسلام الحالي والعربُ المعاصرون: الانقسام والضعف والشرذمة والتهافت على المقولات والمنظومات المتعددة والمتناقضة. ففي الحقبة بين 1957 و1967، حين بدا ان العرب قادرون على النهوض والنمو والتوحُّد، ظهرت ايجابياتٌ في دراسة التاريخ الإسلامي، وفي بيان قدرة العرب والمسلمين على تجديد تقاليدهم، ودخول العالم المعاصر من بابه الواسع. وأذكر أن هاملتون غب وفون غرينباوم وفرتز شتيبات، هؤلاء جميعاً (بل وبرنارد لويس في كتابه “العرب في التاريخ”)، كتبوا آنذاك في مبادرة العرب والمسلمين الى المزاوجة الناجحة بين الحداثة والتقليد. أما مايكل هدسون، فقد انصرف الى الكتابة في “تجديد المشروعية” في نظام الحكم لدى العرب – خارج أطروحات ماكس فيبر – تحت شعار التغيير والتجديد، والعلاقة الأخرى بين الجمهور والسلطات. واتخذت الأمور مناحيَ أُخرى منذ منتصف السبعينات من القرن المنقضي، على وقع هزيمة العام 1967، والفشل في استثمار نتائج حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، واستعلاء الاستبداد، وانتشار الحروب الأهلية وايديولوجياتها وقطائعها. وكان من ضمن المتغيرات (السلبية: إذا صحَّ التعبير التقويمي هذا)، تعبيراً عن العلائق المتبادلة بين المعرفة والسلطة، ظهور انثروبولوجيات السلب تجاه الماضي الإسلامي: فما دام العرب على هذه الحال في الحاضر، فإن ذلك يعني أن الحال كانت كذلك في الماضي البعيد أيضاً. وبدلاً من أن يكون جمال عبدالناصر استمراراً لصلاح الدين، صار الرئيس السادات والرئيس صدام حسين استمراراً لمحمد رسول الله، وعمر بن الخطاب، ليس بالضرورة لدى غلنر أو لويس؛ بل لدى الإنجيليين الجدد، ودارسي الشرق الأوسط؛ ومن بينهم عربٌ كارهون لأنفسهم وأمتهم مثل بسام طيبي وفؤاد عجمي. فبسّام طيبي الذي كتب مقدمةً للترجمة الألمانية لكتاب كليفورد غيرتز في عنوان “الإسلام بين المغرب وإندونيسيا”، نقده استناداً لأُطروحة غلنر التي بالغ في تأويلها وصولاً الى القول بتحطُّم الاسلام لنصيته وجموده وعجزه عن التغيير والتجدد، وبذلك لفَّق بين أُطروحتي غلنر وغرتز بوعي. وله ثلاثة كتبٍ أُخرى عن الإسلام تحملُ دائماً في عناوينها كلمة: الأزمة. أما فؤاد عجمي – اللبناني الأصل، والذي اندفع باتجاه المحافظين الجدد بعد يسارية قصيرة – فقد انصبت حملاته على فشل الايديولوجيا القومية العربية؛ إذ لا عربَ هناك. ثم عندما طُلب منه في خريف العام 1993 التعليق على أُطروحة هنتنغتون حول “صدام الحضارات”، طمأنهُ الى عدم خطورة الإسلام، لتشرذمه وانهياره وسقوطه في وجه عـواصف الحــداثة.
في مطلع شهر نيسان (ابريل) 2003 نقلت وكالات الأنباء أن الرئيس جورج دبليو بوش رشَّح دانييل بايبس، السالف الذكر، لتولّي ادارة المعهد الأميركي للسلام. والمعروف عن الرجل أنه أكبر دُعاة الحرب على العروبة والإسلام. لذلك ما بقي أحدٌ من الليبراليين الأميركيين ولا من العرب إلا واحتجّ على هذا الأمر. لكنّ بايبس سيتولى هذا المنصِبَ في الغالب، وللسبب ذاته الذي يطالب الآخرون من أجله بتنحيته! لكأنّ المحتجين لا يزالون يأملون من بوش شيئاً ما، وكأنما لا يعرفون بيت الشاعر العربي:
المستجيرُ بعمروٍ عند كربته              كالمستجير من الرمضاء بالنار.

* مفكر لبناني، حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة توبنغن الألمانية، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، مدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية ورئيس التحرير المشارك لمجلة “الاجتهاد”.

Exit mobile version