موقع أرنتروبوس

الإثنوغرافيا – مقاربة

تشير الإثنوغرافيا[1] ضمن بعض التخصصات إلى الملاحظة المباشرة لما يقوم به الناس ضمن موئلهم “الطبيعي”، فهي ليست مجرد إجابة على إستمارة!

لكن، ضمن الأنثروبولوجيا، مبدأ الإثنوغرافيا الأساسي هو الوقت، الوقت الذي يقضيه الباحث ضمن حقله، والذي لا بد أن يتخطى السنة!

كما لا بد للأنثروبولوجي أن يفهم لغة الناس المحلية، ولا يكفي أن يفهم الحديث الموجه إليه! بل الحديث الذي يدور بين الآخرين أيضاً، وهي الخطيئة التي أوقعت مارغريت ميد في متاهة مكان مختلق (ضمن دراستها المشهورة «البلوغ في ساموا»)!!

يتم توصيف الإثنوغرافيا (ضمن الأنثروبولوجيا) أحياناً بأنها “ملاحظة بالمشاركة”، إذ بدلاً من الملاحظة عن بعد، على الأنثروبولوجي أن يندمج ضمن المجتمع المحلي! عليه أن يبني صداقات حقيقية.

إن الفشل في الإندماج هو ما يجعل البحث مصطنعاً، لا الإندماج – كما يشتبه على البعض –!

هناك طريقة أخرى لتعريف الإثنوغرافيا (ضمن الأنثروبولوجيا بالطبع) ، وهي لا تتعلق بالطريقة التي نتصرف بها (كمشاركين) بل بالنتائج التي تتوخى تحقيقها.

إن أفضل توصيف لأساس الأنثروبولوجيا هو إلتزامها بالسياقية الشمولية، وهذا يعني أننا عندما نبدأ دراسة أمر ما، على إفتراضنا الأساسي أن يكون “الجهل”، أي أننا ببساطة لا نعرف ما هي العوامل التي تؤثر في حياة من ندرسهم وكيف تؤثر وتتأثر؟ قد يكون الجندر، الدين، العمل، أو العائلة. أضف إلى ذلك، أن أياً من هذه العوامل لا يمكن عزله لتقديم إرتباط إحصائي يعول عليه. لأننا – في الحياة الواقعية – لا يمكننا ذلك.

الفرد، لا يواجه العوامل السابقة فقط، لكن مجموعة أكبر بكثير منها. فهو قد يكون: امرأة، هندوسيةً، أماً، عاملة في مصنع، إنطوائية، مهووسة بالمسلسلات، ومعجبة بأبطال أفلام بوليوود! – كل هذا في ذات الوقت!!

لا نحاول – كأنثروبولوجيين – أن نصعّب الأمور، أو أن نظهر قدراتنا العجائبية في تفكيك المعقّد، إلا أننا نؤمن بأن هذا يقدم توصيفاً أكثر واقعية لما يعايشه الناس في حياتهم.

تعني السياقية الشمولية أن كل أمر يقوم به الأفراد يقدم سياقاً لكل أمر آخر يقومون به! من هذا المنطلق، لا يمكن للإثنوغرافيا أن تحيط بكل مناحي الحياة لفرد ما، لكن في محاولتها تحقيق ذلك، تحصل على معنى أوسع لماهية هذه المناحي.

إذن، مجهز بالمهارات اللغوية اللازمة، والوقت اللازم، على الأنثروبولوجي أن يلتزم بالعيش مع مجموعات مختلفة من الناس ضمن الحقل الذي إختاره، من أجل أن يقدر على المشاركة والملاحظة بأفضل وأقصى ما يستطيع.

يكفي في العلم الصلب (hard science) حصولك على قضية سالبة لتنفي فرضية! لكن ضمن المجتمع، لا وجود لفرد يقوم بذات الأمور لذات الأسباب! والقضية السالبة – في هذه الحالة – هي مجرد قضية أخرى.

على الإثنوغرافي أن يحاول أن يكون صديق الجميع، وهذا ما تتيحه معيشته بينهم، ومعايشته ظروفهم الحياتية البسيطة و/أو الصعبة (ندرة المياه مثلاً – زلزال – إنفجار بركاني – أوضاع أمنية … وغيرها)!

مكون أساسي من مكونات الإثنوغرافي هو تعلم السلوك المناسب – التكيف والإعتماد التدرجي لأساليب الناس الحياتية –. على الإثنوغرافي أن يتشبه بالحرباء، قدرته على تغيير سلوكه، مظهره، ولغته، لتناسب الجماعات المختلفة ضمن المجتمع المحلي الذي يدرسه، وهدفه أن يجعل الآخر مرتاحاً لحضوره، ليصبح تواجده طبيعياً.

بالطبع، لا بد من التوضيح أن الباحث/الباحثة قد قام بالتعريف عن نفسه وعن طبيعة بحثه الذي يجريه، وأخذ موافقات (مكتوبة أحياناً) من الإخباريين لاستخدام المعلومات التي يقدمونها، كما عليه أن يحمي مصادره من أي ضرر مادي أو معنوي، لذا يتم اللجوء إلى عدم ذكر الأسماء الحقيقية، وأحياناً يتم تغيير بعض التفاصيل (كالعمر أو العمل) طالما أنها لا تؤثر على نتائج البحث، وهذا من الشروط الأخلاقية للعمل الحقلي!

إن مظهر الباحث يلعب دوراً أساسياً في نجاحه أو فشله، إذ لا يمكن له أن يلبس ربطة عنق ليتواصل (فيصادق) عمال مصنع – لأنه سيشبه الإداريين لا العمال –. والباحثة قد تضطر للبس الحجاب إذا كان المجتمع محافظاً لتقدر على مصادقة النساء! أحد الباحثين إضطر إلى ثقب أذنيه، وتبني الزي المحلي لكي يقدر على ممارسة عمله الإثنوغرافي!

على أسئلة الإثنوغرافي ألا تكون مباشرة، لذا فالجزء الأكبر من المعلومات سيتوفر عبر الثرثرة، والتي على الباحث أن يتأكد من مدى دقتها من أكثر من مصدر، ولاحقاً – بعد نشوء الصداقة والثقة – من ذات المصدر الذي قد يغير في بعض خبرياته (فهو قد يكون قال ما قاله سابقاً رغبة في إثارة الإعجاب أو إخفاءً للحقائق).

لا يمكن تحديد عينة، فهي تعتمد على البحث الذي يتم إجراؤه، كما على الحقل الذي يتم العمل فيه! أحياناً يكفي بعض الإخباريين ممن بُنيت ثقة مشتركة معهم على مدار السنة!

أخيراً، يجد الأنثروبولوجي صعوبة جمة في كتابة طلبات التمويل، لأنه من غير الممكن توقع ما الذي سيقدمه الحقل! فالباحث الذي بدأ بحثه مشدداً على أهمية العائلة التقليدية إكتشف هامشيتها، وإختلاف المقدمات هذا، يعني أن توقعاته المسبقة قد فشلت، وهذا وإن يشير إلى أصالة البحث لكنه يعني ضعف التمويل!!

بالمختصر، الإثنوغرافيا هي طريقة الأنثروبولوجيا، وربما يجوز القول أنها الطريقة الوحيدة، وإلا تماهى الأنثروبولوجي بالسوسيولوجي! وهو تماهٍ سيعني بإختصار زوالها!!




الهوامش:

[1]  ترجمة حرة لمجموعة أفكار من كتاب:

Miller, D., et al. (2016). How the World Changed Social Media. London: UCL Press. Chapter three: p.p. 25-41.




ملاحظة: تم نشرها مسبقاً على مدونتي على هذا الرابط.

Exit mobile version