.
يجمع معظم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، على أنّ الرحلة التي قام بها المصريون القدماء في عام 1493 قبل الميلاد إلى بلاد بونت (الصومال حالياً)بهدف التبادل التجاري، تعدّ من أقدم الرحلات التاريخية في التعارف بين الشعوب. وقد كانت الرحلة مؤلّفة من خمسة مراكب، على متن كلّ منها /31/ راكباً، وذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور .ونتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا. وتأكيداً لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صوّرت النقوش في معبد الدير البحري، استقبال ملك وملكة بلاد / بونت / لمبعوث مصري .
1-عند الإغريق (اليونانيين القدماء ):
يعدّ المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس ، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان رحالة محبّاً للأسفار، أول من صوّر أحلام الشعوب وعاداتهم وطرح فكرة وجود تنوّع وفوارق فيما بينها، من حيث النواحي السلالية والثقافية واللغوية والدينية. ولذلك، يعتبره معظم مؤرّخي الأنثربولوجيا الباحث الأنثروبولوجي الأوّل في التاريخ .
فهو أول من قام بجمع معلومات وصفيّة دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوروبية (حوالي خمسين شعباً )، حيث تناول بالتفصيل تقاليدهم وعاداتهم، وملامحهم الجسميّة وأصولهم السلالية إضافة إلى أنّه قدّم وصفاً دقيقاً لمصر وأحوالها وشعبها، وهو قائل العبارة الشهيرة : “مصر هبة النيل ” .
وممّا يقوله في عادات المصريين القدماء : ” إنّه في غير المصريين، يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أمّا في مصر فيحلقونها. ويقضي العرف عند سائر الشعوب، بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم في أثناء الحداد، ولكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، فإنّهم يطلقون شعر الرأس واللحية .
وأمّا عن المقارنة بين بعض العادات الإغريقية والليبية، فيقول : ” يبدو أنّ ثوب أثينا ودرعها وتماثيلها، نقلها الإغريق عن النساء الليبيات. غير أنّ لباس الليبيات جلدي، وأنّ عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين، بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان. وأما ما عدا ذلك، فإنّ الثوب والدرع في الحاليتين سواء .. ومن الليبيين تعلّم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة .
واستناداً إلى هذه الإسهامات المبكرة والجادة، يعتقد الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا، أنّ منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوب وحياتهم وبعض نظمهم الاجتماعية، ينطوي على بعض أساسيات المنهج (الأثنوجرافي) المتعارف عليه في العصر الحاضر باسم (علم الشعوب) .
وكذلك نجد أنّ أرسطو (348- 322 ق.م) كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر التطوّري للكائنات الحيّة، وذلك من خلال ملاحظاته وتأمّلاته في التركيبات البيولوجية وتطوّرها في الحيوان .. كما ينسب إليه أيضاً، توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات وتحليل أشكالها وأفضلها، الأمر الذي يعتبر مساهمة مبدئية وهامة في دراسة النظم الاجتماعية والإنسانية.
إنّ الدارس أعمال الفلاسفة اليونانيين يصل إلى معلومة طريفة وذات صلة بالفكر الأنثروبولوجي، وهي: أنّ اليونانيين أخذوا الكثير من الحضارات التي سبقتهم، حيث امتزجت فلسفتهم بالحضارة المصرية القديمة، وتمخّض عنها ما يعرف باسم ” الحضارة الهيليلنية ” تلك الحضارة التي سادت وازدهرت في القرون الثلاثة السابقة للميلاد.
وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي الذي يناقض – إلى حدّ ما – ما تتّجه إليه الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية (علم الاجتماع)من دراسة ما هو قائم، لا ما يجب أن تكون عليه الأحوال الاجتماعية والثقافية، فإنّ فضل الفكر الفلسفي اليوناني، ولا سيّما عند كبار فلاسفتهم، لا يمكن التقليل من شأنه أبداً.
2- عند الرومان :
امتدّ عصر الإمبراطورية الرومانية حوالي ستة قرون، تابع خلالها الرومان ما طرحه اليونانيون من مسائل وأفكار حول بناء المجتمعات الإنسانية وطبيعتها، وتفسير التباين والاختلاف فيما بينها.. ولكنّهم لم يأخذوا بالنماذج المثالية/ المجرّدة للحياة الإنسانية، بل وجّهوا دراساتهم نحو الواقع الملموس والمحسوس. ومع ذلك، لا يجد الأنثروبولوجيون في الفكر الروماني ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم مستقلّ لدراسة الشعوب وثقافاتهم، أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات .
ولكن، يمكن أن يستثنى من ذلك، أشعار / كاروس لوكرتيوس / التي احتوت على بعض الأفكار الاجتماعية الهامة. فقد تناول موضوعات عدّة عرضها في ستة أبواب رئيسة، ضمنّها أفكاره ونظرياته عن المادة وحركة الأجرام السماوية وشكلها، وتكوين العالم .. وخصّص الباب السادس لعرض فكرتي : التطوّر والتقدّم، حيث تحدّث عن الإنسان الأوّل والعقد الاجتماعي، ونظامي الملكية والحكومة، ونشأة اللغة، إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد والفنون والأزياء والموسيقى .
وقد رأى بعض الأنثروبولوجيين، أنّ /لوكرتيوس / استطاع أن يتصوّر مسار البشرية في عصور حجرية ثمّ برونزية، ثمّ حديدية .. بينما رأى بعضهم الآخر في فكر لوكرتيوس، تطابقاً مع فكر لويس مورجان ,أحد أعلام الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. وذلك من حيث رؤية التقدّم والانتقال من مرحلة إلى أخرى، في إطار حدوث طفرات مادية، وإن كان مردّها في النهاية إلى عمليات وابتكارات عقلية .
وإذا استثنينا أشعار / لوكرتيوس / هذه وما احتوتها من أفكار تتعلّق بطبيعة الكون ونشأة الإنسان وتطوّره، فإنّه من الصعوبة بمكان أن تنسب نشأة علم الأنثروبولوجيا إلى الفكر الروماني القديم، كما هي الحال عند الإغريقيين .
وعلى الرغم من أنّ الرومان اهتموا بالواقع، من حيث ربط السلالات البشرية بإمكانية التقدّم الاجتماعي والحركة الحضارية، فقد وجدوا في أنفسهم امتيازاً وأفضلية على الشعوب الأخرى. فكان الروماني فوق غيره بحكم القانون، حتى أنّ الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو شأن سلالة، أصدرت الدولة قراراً بمنح الجنسية الرومانية لأي منهما ويبدو أنّ هذا الاتجاه العنصري، وجد في معظم الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارات الشرقية : الإغريقية والرومانية والصينية .
3-عند الصينيين القدماء:
يعتقد بعض المؤرّخين، ولا سيّما الأنثروبولوجيون منهم، أنّه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء بالحضارة الرومانية وتقديرها، فلم يجدوا فيها ما ينافس حضارتهم.
كان الصينيون القدماء يشعرون بالأمن والهدوء داخل حدود بلادهم، وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية الاقتصادية المعاشية، حتى أن تجارتهم الخارجية انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع، من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة. فلم يعبأ الصينيون في القديم بالثقافات الأخرى خارج حدودهم، ومع ذلك، لم يخلُ تاريخهم من بعض الكتابات الوصفية لعادات الجماعات البربرية، والتي كانت تتّسم بالازدراء والاحتقار.
وهذا الاتّجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية، إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنّهم أفضل الخلق، وأنّه لا وجود لأيّة حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنّهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء .. ولكي يؤكّد ملوكهم هذا الواقع، أقاموا ” سور الصين العظيم ” حتى لا تدنّس أرضهم بأقدام الآخرين.
ولذلك، اهتمّ فلاسفة الصين القدماء، بالأخلاق وشؤون المجتمعات البشرية، من خلال الاتجاهات الواقعية العملية في دراسة أمور الحياة الإنسانية ومعالجتها، لأنّ معرفة الأنماط السلوكية التي ترتبط بالبناء الاجتماعي، في أي مجتمع، تسهم في تقديم الدليل الواضح على التراث الثقافي لهذا المجتمع، والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة، ويحدّد أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى. وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم الأخرى، ولا سيّما تلك التي تعنى بالإنسان.
– العصور الوسطى في أوربا :
يذكر المؤرّخون أنّه في هذه العصور الوسطى (المظلمة) تدهور التفكير العقلاني، وأدينت أيّة أفكار تخالف التعاليم المسيحيّة، أو ما تقدّمه الكنيسة من تفسيرات للكون والحياة الإنسانية، سواء في منشئها أو في مآلها. ولكن إلى جانب ذلك، كانت مراكز أخرى وجّهت منطلقات المعرفة، وحدّدت طبيعة الحضارة الغربية في تلك العصور، كبلاط الملوك مثلاً، الذي كان يضمّ في العادة، فئات من المثقفين كرجال الإدارة والسياسة والشعراء. (فهيم، 1986، ص 50)
يضاف إلى ذلك التوسّع في دراسة القانون (جامعة بولونيا) ودراسة الفلسفة واللاهوت (جامعة باريس) ممّا كانت لـه آثار واضحة في الحياة الأوربية العامة (السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية) ومهّد بالتالي للنهضة التي شهدتها أوروبا بعد هذه العصور .
لقد ظهرت في هذه المرحلة محاولات عدّة للكتابة عن بعض الشعوب، إلاّ أنّها اتّسمت – غالباً- بالوصف التخيّلي، بعيدة عن المشاهدة المباشرة على أرض الواقع. مثال ذلك، ما قام به الأسقف / إسيدور Isidore / الذي عاش ما بين (560- 636) حيث أعدّ في القرن السابع الميلادي موسوعة عن المعرفة، وأشار فيها إلى بعض تقاليد الشعوب المجاورة وعاداتهم، ولكن بطريقة وصفية عفوية، تتّسم بالسطحية والتحيّز.
وممّا ذكره، أنّ قرب الشعوب من أوربا أو بعدها عنها، يحدّد درجة تقدّمها، فكلّما كانت المسافة بعيدة، كان الانحطاط والتهور الحضاري مؤكّدا لتلك الشعوب. ووصف الناس الذين يعيشون في أماكن نائية، بأنّهم من سلالات غريبة الخَلق، حيث تبدو وجوههم بلا أنوف .
وقد ظلّت تلك المعلومات سائدة وشائعة حتى القرن الثالث عشر، حيث ظهرت موسوعة أخرى أعدّها الفرنسي / باتولو ماكوس Batholo Macus/، والتي حظيت بشعبية كبيرة، على الرغم من أنّها لم تختلف كثيراً عن سابقتها في الاعتماد على الخيال .( المرجع السابق، ص 52)
2- العصور الوسطى عند العرب :
وتمتدّ من منتصف القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية القرن الرابع عشر تقريباّ. حيث بدأ الإسلام في الانتشار، وبدأت معه بوادر الحضارة العربية الإسلامية آنذاك بالتكوين والازدهار. وقد تضمّنت هذه الحضارة : الآداب والأخلاق والفلسفة والمنطق، كما كانت ذات تأثيرات خاصة في الحياة السياسية والاجتماعية والعلاقات الدولية .( Darnell,1978, p.259)
وقد اقتضت الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات العربية الإسلامية، الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة وسبل إدارتها، حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم والحكم .
ولذلك، برز العرب في وضع المعاجم الجغرافية، كمعجم (البلدان) لياقوت الحموي. وكذلك إعداد الموسوعات الكبيرة التي بلغت ذروتها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر ميلادي) مثل ” مسالك الأمصار ” لإبن فضل الله العمري، و ” نهاية الأرب في فنون العرب ” للنويري .
وإلى جانب اهتمّام هذه الكتب الموسوعية بشؤون العمران ، فقد تميّزت مادتها بالاعتماد على المشاهدة والخبرة الشخصيّة، وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الأنثروبولوجي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية .
وهناك من تخصّص في وصف إقليم واحد مثل/ البيروني/ الذي عاش ما بين (362 – 440 هجرية) ووضع كتاباً عن الهند بعنوان ” تحرير ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ” .وصف فيه المجتمع الهندي بما فيه من نظم دينية واجتماعية وأنماط ثقافية. واهتمّ أيضاً بمقارنة تلك النظم والسلوكيات الثقافية، بمثيلاتها عند اليونان والعرب والفرس. وأبرز البيروني في هذا الكتاب، حقيقة أنّ الدين يؤدّي الدور الرئيس في تكبيل الحياة الهندية، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات، وصياغة القيم والمعتقدات .( فهيم، 1986، ص54)
كما كانت لرحلات ابن بطوطة وكتاباته خصائص ذات طابع أنثروبولوجي، برزت في اهتمامه بالناس ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكاتهم وقيمهم وتقاليدهم. فمّما كتبه في استحسان أفعال أهل السودان : ” فمن أفعالهم قلّة الظلم، فهم أبعد الناس عنه وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاضب. ومنها عدم تعرّضهم لمال من يموت في بلادهم من البيضان (البيض والأجانب) ولو كان القناطير المقنطرة. وإنّما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقّه. (ابن بطوطة، 1968، ص 672)
أمّا كتاب ابن خلدون ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ” فقد نال شهرة كبيرة وواسعة بسبب مقدّمته الرئيسة وعنوانها : ” في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان، والكسب والمعاش والمصانع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب “. وتعتبر هذه المقدّمة عملاّ أصيلاً في تسجيل الحياة الاجتماعية لشعوب شمال أفريقيا، ولا سيّما العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب بعض المحاولات النظرية لتفسير كلّ ما رآه من أنظمة اجتماعية مختلفة. وقد شكّلت موضوعات هذه المقدّمة – فيما بعد – اهتماماً رئيسياً في الدراسات الأنثروبولوجية.
ومن أهمّ الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدّمته، والتي لها صلة باهتمامات الأنثروبولوجيا، هي تلك العلاقة بين البيئة الجغرافية والظواهر الاجتماعية. فقد ردّ ابن خلدون – استناداً إلى تلك الدعامة – اختلاف البشر في ألوانهم وأمزجتهم النفسيّة وصفاتهم الجسمية والخلَقية، إلى البيئة الجغرافية التي اعتبرها أيضاً عاملاً هاماً في تحديد المستوى الحضاري للمجتمعات الإنسانية. (ابن خلدون، ج1، 1966، ص 291) كما تناول ابن خلدون في مقدّمته أيضاً، مسألة قيام الدول وتطوّرها وأحوالها، وبلور نظرية (دورة العمران) بين البداوة والحضارة على أساس المماثلة بين حياة الجماعة البشرية وحياة الكائن الحي.
وقد سيطرت هذه الفكرة على أذهان علماء الاجتماع في الشرق والغرب – على حدّ سواء – في العصور الوسطى .. حيث اعتبر ابن خلدون أن التطوّر هو سنّة الحياة الاجتماعية، وهو الأساس الذي تستند إليه دراسة الظواهر الاجتماعية.
يقول في ذلك : ” إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، وإنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. (المرجع السابق، ص 252) فعمر الدول عند ابن خلدون كعمر الكائن البشري، تبدأ بالولادة وتنمو إلى الشباب والنضج والكمال، ثمّ تكبر وتهرم وتتلاشى إلى الزوال .
لقد أرسى ابن خلدون الأسس المنهجية لدراسة المجتمعات البشرية، ودورة الحضارات التي تمرّ بها، فكان بذلك، أسبق من علماء الاجتماع في أوروبا. ولذلك، يرى بعض الكتّاب والمؤرّخين، أن ابن خلدون يعتبر المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، بينما يرى بعضهم الآخر، ولا سيّما علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون، في مقدّمة ابن خلدون بعضاً من موضوعات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ومناهجها .وفي أمريكا، أشار /جون هونجيمان / أيضاً في كتابه ” تاريخ الفكر الأنثروبولوجي ” إلى أنّ ابن خلدون تناول بعض الأفكار ذات الصلة بنظرية / مارفين هاريس / عـن ” المادية الثقافية –Cultural Materialism ” ونجد أنّ / هاريس / ذاته، يذكر أنّ ابن خلدون ومن قبله الإدريسي، قدّما أفكاراً ومواد ساعدت في بلورة نظرية الحتمية الجغرافية، التي سادت إباّن القرن الثامن عشر .(( Anderson , 1984 , p.112
واستناداّ إلى ما تقدّم يمكن القول : إنّ الفلاسفة والمفكّرين العرب أسهموا بفاعلية – خلال العصور الوسطى- في معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدخل في الاهتمامات الأنثروبولوجية، ولا سيّما التنوّع الثقافي (الحضاري) بين الشعوب، سواء بدراسة خصائص ثقافة أو حضارة بذاتها، أو بمقارنتها مع ثقافة أخرى. ولكن على الرغم من اعتبارها مصادر للمادة الأثنوجرافية التي درست (أسلوب الحياة في مجتمع معيّن وخلال فترة زمنية محدّدة) ولا سيّما العادات والقيم وأنماط الحياة، فإنّ الأنثروبولوجيا التي تبلورت في أواخر القرن التاسع عشر كعلم جديد معترف به، لم تكن ذات صلة تذكر بهذه الدراسات، ولا بغيرها من الدراسات (اليونانية والرومانية) القديمة .
ثالثاً- الأنثروبولوجيا في عصر النهضة الأوروبية
يتّفق المؤرّخون على أنّ عصر النهضة في أوربا، بدأ في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث شرع الأوروبيون بعملية دراسة انتقائية للعلوم والمعارف الإغريقية والعربية ، مترافقة بحركة ريادية نشطة للاستكشافات الجغرافية. وتبع ذلك الانتقال من المنهج الفلسفي إلى المنهج العلمي التجريبي، في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والذي تبلور وتكامل في القرن السابع عشر .
إنّ هذه التغيّرات مجتمعة أدّت إلى ترسيخ عصر النهضة أو ما سمّي (عصر التنوير) وأسهمت بالتالي في بلورة الانثربولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر، كعلم يدرس تطوّر الحضارة البشرية في إطارها العام وعبر التاريخ الإنساني. الأمر الذي استلزم توافر الموضوعات الوصفية عن ثقافات الشعوب وحضاراتها، في أوروبا وخارجها، من أجل المقارنات، والتعرّف إلى أساليب حياة هذه الشعوب وترتيبها بحسب مراحل تطوريّة معيّنة، بحيث يضع ذلك أساساً لنشأة علم الأنثروبولوجيا .
لعلّ أهمّ رحلة أو( رحلات) استكشافيّة مشهورة أثّرت في علم الأنثروبولوجيا، ما قام بها / كريستوف كولومبوس /إلى القارة الأمريكيـة ما بين (1492- 1502) حيث زخرت مذكّراته عن مشاهداته واحتكاكاته بسكان العالم الجديد، بالكثير من المعلومات والمعارف عن أساليب حياة تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها، اتّسمت بالموضوعية نتيجة للمشاهدة المباشرة .
وممّا قاله في وصف سكان جزر الكاريبيان في المحيط الأطلسي : ” إنّ أهل تلك الجزركلّهم عراة تماماً، الرجال منهم والنساء، كما ولدتهم أمَّهاتهم. ومع ذلك، فثمّة بعض النساء اللواتي يغطين عورتهنّ بورق الشجر، أو قطعة من نسيج الألياف تصنع لهذا الغرض. ليست لديهم أسلحة ومواد من الحديد أو الصلب وهم لا يصلحون لاستخدامها على أيّة حال. ولا يرجع السبب في ذلك إلىضعف أجسادهم، وإنّما إلى كونهم خجلون ومسالمون بشكل يثير الإعجاب.. ” Oswalt , 1972,p. 10) )
وكتب في وصفه لسكان أمريكا الأصليين : ” إنّهم يتمتّعون بحسن الخَلق والخُلُق، وقوّة البنية الجسدية. كما أنّهم يشعرون بحرية التصرّف فيما يمتلكون، إلى حدّ أنّهم لا يتردّدون في إعطاء من يقصدهم أيّاً من ممتلكاتهم، علاوة على أنّهم يتقاسمون ما عندهم برضى وسرور ..” (Boorstin,1983, p.628)
وهكذا كان لرحلات كولومبس واكتشافه العالم الجديد (أمريكا) عام 1492أثرها الكبير في إدخال أوروبا حقبة جديدة، وفي تغيير النظرة إلى الإنسان عامة، والإنسان الأوروبي خاصة، ممّا أثّر بالتالي في الفكر الأنثروبولوجي. وذلك، لأنّ هذه الاكتشافات الجغرافية / الاجتماعية وما تبعها من معرفة سكان هذه الأرض بميزاتهم وأنماط حياتهم، أظهرت بوضوح تنوّع الجنس البشري، وأثارت كثيراً من المسائل والدراسات حول قضايا النشوء والتطوّر عند الكائنات البشرية.
لقد تميّز عصر النهضة الأوربية، بظاهرة كان لها تأثير في توليد نظريات جديدة عن العالم والإنسان، وهي أنّ المفكّرين اتفقوا، على الرغم من تباين وجهات نظرهم، على مناهضة فلسفة العصور الوسطى اللاهوتية، التي أعاقت فضول العقل الإنساني إلى معرفة أصول الأشياء ومصادرها، وتكوين الطبيعة وقوانينها، وصفات الإنسان الجسدية والعقلية والأخلاقية. (فهيم، 1986،
ص86)
وظهر نتيجة لهذا الموقف الجديد اتّجاه لدراسة الإنسان، عرف بالمذهب الإنساني (العلمي) اقتضى دراسة الماضي من أجل فهم الحاضر، حيث اتّجهت دراسة الطبيعة الإنسانية وفهم ماهيتها وأبعادها وفق المراحل التاريخية/ التطوّرية للإنسان .
وقد تبلور هذا الاتّجاه (المذهب) العلمي في الدراسات التجريبية والرياضية، التي ظهرت في أعمال بعض علماء القرن السابع عشر، من أمثال: فرانسيس بيكون F.Becon (1561-1626) ورينيه ديكارت R.Decartes
(1596-1650) واسحق نيوتن I. Newton (1642-1727)، وغيرهم. حيث أصبحت النظرة الجديدة للإنسان عل أنّه ظاهرة طبيعية، ويمكن دراسته من خلال البحث العلمي والمنهج التجريبي، ومعرفة القوانين التي تحكم مسيرة التطوّر الإنساني والتقدّم الاجتماعي .وهذا ما أسهم في تشكيل المنطلقات النظرية للفكر الاجتماعي، وأدّى بصورة تدريجية إلى بلورة البدايات النظرية للأنثروبولوجيا، خلال عصر التنوير .
أمّا بالنسبة للدراسات الأثنوجرافية (دراسة أسلوب الحياة والعادات والتقاليد) والدراسات الأثنولوجية (دراسة مقارنة لأساليب الحياة للوصول إلى نظرية النظم الاجتماعية )، والدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، فثمةّ أعمال كثيرة قام بها العديد من العلماء .
وقد تكون محاولة الرحالة الإسباني (جوزيه آكوستا J. Acosta) في القرن السادس عشر، لربط ملاحظاته الشخصيّة عن السكان الأصليين في العالم الجديد ببعض الأفكار النظرية، المحاولة الأولى لتدوين المادة الأثنوجرافية والتنظير بشأنها.
فقد افترض آكوستا أنّ الهنود الحمر كانوا قد نزحوا أصلاً من آسيا إلى أمريكا، وبذلك فسّر اختلاف حضاراتهم عن تلك التي كانت سائدة في أوروبا حينذاك. وقدّم آكوستا أيضاً افتراضاً آخر حول تطوّر الحضارة الإنسانية عبر مراحل معيّنة، معتمداً في تصنيفه على أساس معرفة الشعوب القراءة والكتابة.
وقد وقفت أوروبا في أعلى الترتيب، وأتت بعدها الصين في المرتبة الثانية لمعرفتها الكتابة، بينما جاءت المكسيك في مرتبة أدنى من ذلك .. وصنّفت المجتمعات الأخرى بدرجات متباينة في المواقع الأدنى من هذا الترتيب. Darnell,1978,p.81)) وربّما شكّل هذا التصنيف أساساً استند إليه الأنثروبولوجيون – فيما بعد- للتمييز بين المجتمعات .
وظهر إلى جانب آكوستا / الإسباني في الدراسة الأثنوجرافية عن الشعوب البدائية، عالم الاجتماع الفرنسي، ميشيل دي مونتاني M.De. Montaigne الذي عاش ما بين (1532-1592) وأجرى مقابلات مع مجموعات من السكان الأصليين في أمريكا المكتشفة، والذين أحضرهم بعض المكتشفين إلى أوربا. وبعد إن جمع منهم المعلومات عن العادات والتقاليد السائدة في موطنهم الأصلي، خرج بالمقولة التالية : ” إنّه لكي يفهم العالم فهماً جيّداً، لا بدّ من دراسة التنوّع الحضاري للمجتمعات البشرية واستقصاء أسباب هذا التنوّع ” ويكون بذلك قد طرح فكرة (النسبية الأخلاقية).
وممّا قاله في هذا الإطار ما كتبه في مقاله الشهير عن ” أكلة لحوم البشر ” وجاء فيه : ” يبدو أنّ ليس لدينا أي معيار للحقيقة والصواب، إلاّ في إطار ما نجده سائداً من آراء وعادات على الأرض التي نعيش عليها (أوروبا)، حيث نعتقد بوجود أكمل الديانات، وأكثر الطرائق فاعلية في الحصول على الأشياء .
إنّ هؤلاء الناس (أكلة لحوم البشر) فطريون / طبيعيون، مثل الفاكهة البريّة. فقد بقوا على حالهم البسيطة، كما شكّلتهم الطبيعة بطريقتها الخاصة، وتحكّمت فيهم قوانينها وسيّرتهم .” Leach,1982,p.67)) ومن هذه الرؤية، لاقى كتابه الشهير ” المقالات ” الصادر عام 1579، اهتماماً كبيراً لدى مؤرخي الفكر الأوروبي عامة، والفكر الفرنسي خاصة .
ويأتي القرن الثامن عشر، ليحمل معه كتابات جان جاك روسو J.J. Rossow، التي احتلّت أهميّة كبيرة لدى مؤرّخي علم الأنثروبولوجيا، وذلك بالنظر لما تضمنته في دراستها الأثنوجرافية للشعوب المكتشفة (المجتمعات البدائية) مقارنة مع المجتمعات الغربية / الأوروبية .
لقد تميّزت وجهة النظر الأنثروبولوجية عند روسّو بالتجرّد والموضوعية، حيث تجلّى ذلك في نقد بعض القيم والجوانب الثقافية في مجتمعه الفرنسي، مقابل استحسان بعض الطرائق الحياتية في المجتمعات الأخرى. وفي هذا الإطار، يعدّ كتابه ” العقد الاجتماعي” من البواكير الأولى للفكر الأنثروبولوجي.
وكان إلى جانب روسّو، البارون دي مونتسكييه، الذي وضع كتاب (روح القوانين) وأوضح فيه فكرة الترابط الوظيفي بين القوانين والعادات والتقاليد والبيئة. وسادت هذه الفكرة الترابطية في أعمال الأنثروبولوجين في أوائل القرن العشرين، ولا سيّما عند الأنثروبولوجيين الإنجليز، حيث انتقل اهتمام مونتسكييه بدراسة النظم السياسية، وتأثير المناخ على نوعيّة الحضارة أو الثقافة – فيما بعد – إلى الكتابات الأنثروبولوجية، وشكّل مجالاً واسعاً للدراسات الأنثروبولوجية Darnell,1978, p.87)).
أمّا في ألمانيا، فقد تبلور الفكر في عصر التنوير، عن التفوّق العنصري والنزعة القوميّة الشوفينيّة (التعصبيّة ). وظهر ذلك واضحاً في كتابات كلّ من / جورج هيجل (1770-1831) وجوهان فخته (1762-1814)، حيث جعلا الشعب الألماني، الشعب الأمثل والأنقى بين شعوب العالم .
أمّا كتابات جوهان هيردر (1744-1803) فجاءت لتعزّز فكرة التمايز بين السلالات البشرية من ناحية التركيب الجسمي، والتفاوت فيما بينها بمدى التأثّر بمظاهر المدنية، وفي تمثّلها لمقوّمات الحضارة. وعلى هذا الأساس، يذهب هيردر إلى أنّ ثمّة سلالات بشرية خلقت للرقي، وسلالات أخرى قضي عليها بالتأخّر والانحطاط .( الخشاب، 1970، ص375 ).
لكن هذا الاتجاه العنصري في الدراسات الأنثربولوجية، واجه انتقادات كبيرة في بداية القرن العشرين ، حيث برزت فكرة أنّه لا يجوز أن تتّخذ اللغة كأساس أو دليل على الانتماء إلى أصل سلالي واحد، وأنّ العلاقة بين الجنس البشري واللغة، لا يجوز أن تكون أساساً لتقسيم الشعوب الإنسانية إلى سلالات متمايزة. وقد نقض ذلك ودحضه، فيما بعد، الفكر الأنثروبولوجي القائم على المشاهدة الواقعية، والدراسة الميدانية المقارنة لمجتمعات الشعوب الأخرى .
وهنا يمكن القول : إنّ الأنثروبولوجيا المتحرّرة التي ظهرت اتّجاهاتها وقضاياها الانسانية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تجد – ولا شكّ – في الكتابات الفرنسية في عصر التنوير، جذوراً أو أصولاً نظرية لمنطلقاتها الفكرية .( فهيم، 1986، ص101).
وتأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول : إنّ الفكر الأنثروبولوجي الذي ساد أوروبا في عصر التنوير، وتجلّى في كتابات العديد من الفلاسفة والباحثين والمؤرّخين، شكّل الملامح النظرية الأولى لعلم الأنثروبولوجيا، الذي بدأ يستقل بذاته مع بدايات القرن العشرين، ويتبلور بمنطلقاته وأهدافه في النصف الثاني من القرن ذاته.