أين وصل علم الأنثروبولوجيا في عالم تزداد فيه الصراعات بين الثقافات والأقليات؟
وهل يستفيد منه أصحاب القرارات؟
وكيف تطور هذا العلم من دراسة تقاليد المجتمعات البسيطة إلى تعقيدات المجتمعات الحديثة؟
والسؤال أيضا لماذا لا نرى أنثروبولوجيين من دول العالم الثالث يجرون دراسات عن مجتمعات الدول الغربية؟
ما هي التغيرات التي طرأت على هذا العلم المهم؟
وما هي آخر مستجداته؟
وكيف يستفاد منه لجعل البشرية تنعم بما هو أفضل؟
أكثر من ثلاثين عالم أنثروبولوجيا من مختلف أنحاء العالم حضروا الاحتفال باليوبيل الذهبي لإنشاء قسم الأنثروبولوجيا بـ «جامعة الخرطوم» الذي أسس عام 1958، ويعد، تاريخياً، الأول من نوعه المتخصص في هذه الدراسات في القارة الأفريقية والأكبر حجماً.
معظم المشاركين في الاحتفال هم أنثروبولوجيون غربيون مخضرمون عرفوا السودان عندما كانوا طلاباً يافعين في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وجاؤوا لإجراء أبحاثهم. فقد بدا السودان يومها البلد الأفريقي الأجدر بالدراسة أنثروبولوجياً بالنسبة للغرب. فهو الأكبر حجماً في القارة، ويضم ثقافتين عربية وأفريقية وفيه أكبر عدد من القبائل ـ أكثر من 500 قبيلة ـ لكل منها لغتها الخاصة وتقاليدها وعاداتها.
يخبرنا خليل عبد الله، عميد كلية الدراسات الاجتماعية بجامعة النيلين ان السودان من أكثر الدول التي حظيت بدراسات أنثروبولوجية. وحتى قبل الاستعمار البريطاني، تمت دراسة قبائل «الشلك» و«النوير» و«الدينكا» و«الشايقية» و«الحسانية» و«الأحامدة» و«الهدندوة» و«الحمر» و«الكبابيش» وغيرها. لم تكن السلطة المستعمرة تأتي بحاكم للسودان دون قيامه بقراءة أنثروبولوجية، لما لهذا العلم من فائدة لمساعدتهم، على فرض سيطرتهم وتحديد نوعية المشاريع التنموية، كما كان على حاكم أي إقليم في البلاد أن يكتب تقريراً يومياً عن منطقته، يتم جمعها في ما يسمى بـ Sudan Daily Records. وهي موجودة الآن في مكتبات جامعات عديدة حول العالم، ومنهجها العلمي والنظري لا يزال يتبع من قبل طلاب الأنثروبولوجيا حتى الآن.
لكن علم الأنثروبولوجيا عرف تحولات كبيرة من يومها، وهو اليوم يعنى بالحياة المعاصرة وتعقيداتها المتداخلة. وبحسب ألن جرونبوم، رئيسة قسم الأنثروبولوجيا بـ «جامعة بوردو» في الولايات المتحدة فإن «الأنثروبولوجيا تسهم اليوم بدور كبير في فهم ما يجري في العالم، خاصة ان المجتمعات تتغير باستمرار. «فمن خلال الاستماع إلى ما يقوله الناس في المناطق المحلية نحاول أن نقارن هذه المتغيرات بأخرى مشابهة مرت بها شعوب غيرها، لنتجنب الصراعات وسوء الفهم من خلال المقارنات والاستنتاجات. أما المتغيرات الحديثة كالعولمة والاستثمارات الاقتصادية على أنواعها، فالسياسيون ينسون أن ينتبهوا إلى آثارها في الآخرين. وتضيف ألن قائلة «أنا كمتخصصة في الأنثروبولوجيا الطبية والاجتماعية وعملت في السودان في السبعينات، قمت بإلقاء محاضرات على طلاب كلية الطب بجامعة إليندي بكاليفورنيا عن ختان الإناث في السودان لأن هناك عددا كبيرا من المهاجرين السودانيين بالولايات المتحدة، وعلى أطباء المستقبل أن يتعرفوا على طبيعة هذه العملية تاريخياً وثقافياً حتى يتفهموا الوضع أثناء عملهم. وهناك اهتمام مماثل في السويد والنرويج وبريطانيا أيضا بالختان، لتدفق المهاجرين هناك. ومن آثار العولمة الاقتصادية أذكر أني مرة أردت شراء جلابية سودانية الصنع من الخرطوم في إحدى زياراتي، إلا أني وجدت كل الجلاليب مستوردة من الصين والإمارات. فكيف يحدث ذلك؟ معروف أن أول ما تقوم به جمعيات رعاية الأسرة هو تعليم النساء الحرف اليدوية حتى يساهمن في زيادة دخل الأسرة. فالسلع الجاهزة المستوردة تؤثر بالتأكيد في وضع الأسر الفقيرة، وهنا نلفت المسؤولين الاقتصاديين إلى هذا الجانب. مثال آخر عن تأثير الثقافات، فقد التقيت بربة أسرة بمدينة كسلا شرق السودان كان زوجها قد سافر للعمل في السعودية وعاد بعد عشر سنوات بثقافة مختلفة وأمرها بأن ترتدي النقاب وألا تخرج للعمل في الحقل. وهذا شيء غريب وافد على ثقافة منطقتها. فهي تحتاج للخروج والعمل في الزراعة لإعالة أسرتها، وكانت حزينة للغاية. هذا موضوع مهم لي كأنثروبولوجية أجنبية، لكن على الأنثروبولوجيين المسلمين أن يدرسوه بدقة ويوضحوا مدى التغيير الذي يريدونه لمجتمعاتهم، وما يلائم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. فالمجتمعات دوما في حالة تغير، لم أر مجتمعا ظل على حاله لسنوات. والقضية هنا هي اختيار التغيير الذي تريده نحو الأفضل، الأمر يحتاج إلى دراسات معمقة».
د. خليل عبد الله يشرح لنا كيف ان الدراسات الأنثروبولوجية كان بمقدورها ان تجنبنا الكثير من المجازر والدماء لو أنها أخذت بعين الاعتبار: «كل صراع كبير سببه تفاصيل صغيرة. في عام 1961 صدر كتاب بعنوان The Ethnic Inequality in Rwanda وتنبأ بالمجازر التي ستحدث بين قبيلتي التوتسي والهوتو في رواندا، وبالفعل هذا ما جرى بعد ثلاثين عاماً. وخرج كتاب أنثروبولوجي آخر تنبأ بتمزق الصومال وهذا ما حصل. وعام 1978 كتبت عن بذور تمرد لقبيلة الدينكا بجنوب السودان رغم أنها قبيلة لم يسبق لها أن تمردت، وذلك عند قيام مشاريع زراعية آلية في أماكن رعوية، فحدثت احتكاكات بينهم تطورت لتمرد. وهي نفس المشاكل بين البقارة والفور، كذلك مشكلة أبيي وتوسعت الصراعات حين أصبح السلاح سهلاً بين أيدي الناس. لذا يجب فهم التغيرات التي تحدث في المجتمع بصورة مستمرة. لكن من نسميهم Armchairs” Scholars أو مثقفي الكراسي الوثيرة يتخذون القرارات من مكانهم من دون أن يعرفوا ما يدور على الأرض. يستطرد عبد الله: «في السودان على سبيل المثال، كل الاتفاقيات التي تمت بين الحكومة والحركات المتمردة بها فجوات لأن الأنثروبولوجيين لم يستشاروا ليستفاد من معارفهم. لا يمكن لبلد أن يتطور دون قيام دراسات اجتماعية توفر معلومات دقيقة. والأبحاث الأنثروبولوجية الجارية الآن ليست على مستوى المشكلات الخطيرة التي يواجهها المجتمع، وغالبيتها تدور عن خروج المرأة للعمل وأثره في الأسرة أو تزايد الهجرة الى دول الخليج والغرب وغيرها».
نسأل عن سبب عزوف الانثروبولوجيين العرب عن دراسة المجتمع الغربي، ولماذا نكتفي بمعرفة تلك المجتمعات عبر ما يقدمونه لنا من كتب ودراسات أو ما نفهمه من أفلامهم السينمائية ومسلسلاتهم التلفزيونية؟! يحكي د. منزول أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة الخرطوم تجربته الخاصة في هذا المجال، فيقول: «منذ سنوات قليلة، تقدمت إلى جامعة بيرجين بالنرويج لعمل دراسة أنثروبولوجية عن مجتمع المهاجرين السودانيين والصوماليين بالنرويج، وتمت الموافقة من قبل أساتذة الجامعة هناك إلا أن الجهة التي تمنح التمويل هناك ترددت كثيراً عندما عرفت أن ميدان بحثي هو مجتمعهم. فشيء جديد عندهم، أن يأتي غريب ويبحث في أرضهم. وجاءني خطاب بالموافقة على التمويل، على أن أقوم ببحثي في مكان آخر! ولم تكن لتحل المشكلة لولا مساعدة أكاديميين من الجامعة. وهذا له علاقة بميزان القوة الاقتصادية. أي أن الغربيين لديهم المال وبه يفرضون شروطهم على الآخرين. فأي طالب أنثروبولوجيا يأتي من الغرب، لديه ما يكفي للإقامة والتنقل لمدة عامين ليقوم بدراسة مجتمعاتنا بكل أوجهها، بينما طلاب العالم الثالث لا تمويل لهم وبالتالي لا بحوث! أعرف أن الأوروبيين يحلمون بأن يأتي آخرون لدراستهم، ورأيت نرويجيين يسعدون وأنا أطرح عليهم أسئلتي، ووجدت كماً من المعلومات في غاية الدقة والسهولة في مكاتب الإحصاء. لذا تقدمت من خلال هذا المؤتمر بطلب لتوفير الدعم المادي لطلاب دول العالم الثالث حتى يقوموا بأبحاثهم في المجتمعات الغربية.
ويوافق الأنثروبولوجي جونار هالاند من جامعة بيرجين بالنرويج على الفكرة ويقول: «علم الأنثروبولوجيا، كما قال الشهير ليفي شتراوس هو أن ترى نفسك كما يراك الآخرون. والغربيون يهتمون بمعرفة صورتهم من خلال الآخرين». أما ويندي جيمس رئيسة معهد الأنثروبولوجيا الملكي بلندن والأستاذة في جامعة أكسفورد سابقاً فتعلق بالتالي: «نعم ليس هناك طلاب عرب، لكن معظم من يأتون لدراسة الأنثروبولوجيا في جامعاتنا من الدول الأخرى يأتون برغبة منهم في تطوير مجتمعاتهم وفهمها أو هم يرغبون في الحصول على وظيفة في المنظمات الدولية كأوكسفام واليونيسيف وغيرهما، لذا يدرسون بكلياتنا، لكن أبحاثهم الأنثروبولوجية يقومون بها في بلادهم، وكل من لديه فكرة جديرة بالدراسة عن مجتمعنا نرحب به ونشجعه».
تغير علم الأنثروبولوجيا في السنوات الأخيرة، وتوسعت ميادينه، وتقول ألن جرونبوم: «لقد تغير من دراسة الثقافات والاثنيات إلى مجالات أرحب، فأنا في كليتي يقوم طالب بدراسة عن مدمني المخدرات ليعرف لماذا يقومون بذلك؟ وماذا يفعلون إذا أصيبوا بالأيدز؟ يجلس معهم يسألهم ويقوم بمراقبتهم وقد خرج بمعلومات مهمة جداً عن أسباب تعاطيهم للمخدرات حتى يتفهمهم الناس. فالأسباب معظمها اجتماعية وتساعد كثيراً على علاجهم وعلى تجنيب أجيال جديدة مشكلة الإدمان».
أما ويندي جيمس فتضيف: «هناك اختلاف بين هذا العلم في بريطانيا والولايات المتحدة. فكما هو معروف هناك الأنثروبولوجيا الاجتماعية، الأنثروبولوجيا الثقافية، والأنثروبولوجيا الأثرية التي تهتم بدراسة حياة الشعوب القديمة عبر دراسة معداتهم. وقد بدأ هذا الفرع يضمحل وينظر له كموضة قديمة فما جدوى النظر الى المتاحف والهياكل العظمية والموتى؟ لذا بدأ الاهتمام بالحياة المعاصرة ، كيف يعيش الناس؟ ما الذي يسعدهم؟ ما هي معاناتهم؟ وهناك الأنثرولوجيا الطبية. فالصداع مثلا، تعالجه بعض الشعوب بالفصد وأخرى بالأسبرين، وبدأنا نتعمق أكثر في فهم كيفية عمل جسم الإنسان؟ وفهم الأمراض من وجهة نظر المريض حسب ثقافته والعلاقة بين الجسد والروح. وإذا ما أدرك الطبيب الخلفية الثقافية للمريض سيصف له بالتأكيد علاجاً أفضل. وفي جامعة أوكسفورد الآن، هناك علاقة قوية تربط كلية الأنثروبولوجيا بكلية الطب. فالطلاب في الكليتين يشتركون في دراسة بعض المناهج، ولديّ الآن طالبة من كندا تجري بحوثها الأنثروبولوجية الطبية عن كيفية تعامل الممرضين مع الأجهزة الطبية»!
وتتابع جيمس: «أشرفت حديثاً على بحث ماجستير قامت به طالبة يابانية، وهو عن علاقة البريطانيين بالحيوانات والحشرات. وهو بحث أعتقد أنه جديد من نوعه. فقد قامت تلك الطالبة بالعيش في اسكتلندا لمدة عامين لتدرس عن كثب تربية الكلاب والقطط والخنازير وركوب الخيل وهواية جمع الفراشات. وهي ممارسات تاريخية في اسكتلندا لتوافر طبيعة ساحرة ومساحات شاسعة يفتقدها اليابانيون. ومن الحوادث الطريفة أذكر أنني عندما حضرت للسودان أول مرة عام 1964 كأستاذة أنثروبولوجيا بجامعة الخرطوم كنت أربي كلباً أليفاً، وأخذته معي إلى منطقة النيل الأزرق، حيث كنت أجري أبحاثي، فاستغرب الناس وأخذوا يكررون السؤال: هل هو خطر؟ وكانوا يتجنبونه وينفرون منه. وقام الكلب يوماً بعض صديقة لي، ومنذ ذلك اليوم أصبح الكلب محبوبا من أهل المنطقة ونال إعجابهم، فهو برأيهم يقوم بدوره على أحسن وجه أي توفير الحماية ومهاجمة الغرباء. فالتعامل مع الحيوانات يختلف من مجتمع لآخر». وتستدرك الباحثة ويندي جيمس: «توسعت دائرة اهتمام علم الأنثروبولوجيا أكثر من ذي قبل. كان الأنثروبولوجيون يركزون على الحروب والأقليات والمشاكل. الآن صرنا نبحث ما الذي يحرك المجتمع؟ كيف يتعلم الناس الكومبيوتر، التطريز؟ كيف يمكن استخدام الجسد لإنتاج الفن؟ كيف تتطور المعرفة وتنتقل إلى الموسيقي؟ كيف يتوارث الحرفيون مهارة العمل اليدوي كالتطريز وصناعة الخزف. كذلك صرنا نهتم بمجال البيئة، ففي بريطانيا ممنوع صيد الحيتان لأنها مهددة بالانقراض بينما في اليابان، يعد لحم الحيتان من الأطباق الشهية»