موقع أرنتروبوس

الأنثروبولوجيا الأوروبية والشرق الأوسط: النموذج الدنماركي

الأستاذ الدكتور : عبدالله عبدالرحمن يتيم*

 بول أولسن، بلباسة العربي في أقصى يسار الصورة، في الميدان يقوم بتسجيلات صوتية لرقصة العرضة بساحة قصر الرفاع، 1962م.
بول أولسن، بلباسة العربي في أقصى يسار الصورة، في الميدان يقوم بتسجيلات صوتية لرقصة العرضة بساحة قصر الرفاع، 1962م.

عالج الكاتب والأنثروبولوجي البحريني، الدكتور/عبدالله عبدالرحمن يتيم، في عدد من الدراسات السابقة تجارب أنثروبولوجية أوروبية تناولت ثقافة ومجتمعات الخليج والجزيرة العربية، فقد نشرت دراساته مثل: «الأنثروبولوجيون الدنماركيون في الخليج العربي: هني هانسن نموذجاً – المرة والنعيم في ترحالهم الأخير – بحثاً عن الموسيقى في البحرين: تجربة من الدنمارك – مشيخات شرق الجزيرة العربية: رؤية أنثروبولوجية بريطانية» في مجلات ودوريات خليجية وعربية متفرقة، وإستكمالاً لجهوده تلك نشرت مؤخراً مجلة شؤون اجتماعية، الصادرة عن جمعية الاجتماعيين الإماراتية والجامعة الأمريكية بالشارقة، دراسة مطولة له عن علاقة الأنثروبولوجيا الأوروبية بمجتمعات وثقافات الشرق الأوسط بصفة عامة، والخليج العربية بصفة خاصة، وذلك من خلال رصده للنموذج الدنماركية، هذا ويسر الملحق الثقافي لجريدة الأيام، رؤى، نشر هذا المقطع المطول الوارد في مقدمة الدراسة.


شغلت الدراسات الأنثروبولوجية الأوروبية حول ثقافات ومجتمعات الخليج العربي اهتمام الباحثين في مجال أنثروبولوجيا الشرق الأوسط بصفة عامة، وأنثروبولوجيا الجزيرة العربية بصفة خاصة، خصوصاً وإن بعضاً من تلك الدراسات أخذ في الصدور بعد عدة عقود من قيام أصحابها بأعمالهم الحقلية الإثنوغرافية. ولعل من أبرز الأمثلة في هذا الصدد، دراسة الأنثروبولوجي البريطاني بيتر لينهاردت (1928–1986م) عن مشيخات شرق الجزيرة العربية في الإمارات، وكلاوس فرديناند (1926–2005م) عن البداوة في قطر، وبول أولسن (1922–1982م) عن الموسيقى والغناء التقليديين في البحرين، وقد سبق كل هؤلاء في النشر، بطبيعة الحال، الأنثروبولوجية الدنماركية هني هانسن (1900–1993م) في دراستها عن المرأة الريفية في قرى البحرين.
لقد اتسمت الدراسات الدنماركية عن الخليج العربي بخصائص وسمات ميزتها عن الدراسات الأنثروبولوجية الأخرى، سواء الأوروبية أو غيرها. إن الدراسة الحالية للكاتب تنطلق من معاينة تجربة الأنثروبولوجيين الدنماركيين في دراسة ثقافة ومجتمعات الخليج العربي، كنموذج، للوصول إلى خلاصات عامة حول تاريخ الفكر الأنثروبولوجي الدنماركي وعلاقاته بثقافة ومجتمعات الشرق الأوسط.
إن أعمالاً دنماركية مثل «المرأة في قرية سار البحرينية» و«البداوة في قطر» و«الموسيقى في البحرين» تنتمي إلى، أو أنها بالأحرى، نتاج للمشروع الدنماركي الذي انطلق في عصر التنوير الأوروبي منذ القرن الثامن عشر، هذا إذا أردنا الاستيعاب الأفضل للخلفيات التي يستند إليها الفضول الأنثروبولوجي لباحثين مثل هني هانسن، وكلاوس فرديناند، وبول أولسن، أوغيرهم من الأنثروبولوجيين والأركيولوجيين الدنماركيين الذين انطلقوا لدراسة الثقافات والمجتمعات القديمة والمعاصرة في الشرق الأوسط. فالمنهج الذي اتصف بالشمولية والتعددية العلمية والذي اتسمت به البعثة الدنماركية التي وفدت إلى منطقة الخليج وشرق الجزيرة العربية منذ السنوات الأولى للنصف الثاني من القرن العشرين، ظل بخصائصه تلك ليشكل بعد ذلك السمة البارزة للمشروع والتجربة الدنماركية أينما توجهت للعمل البحثي حتى عهد قريب.
الدنماركيون، نيبور، والشرق
إن المشروع ا لدنماركي منذ أن انطلق في تجربته الأولى في نهاية القرن الثامن عشر على يد كارستين نيبور (1733-1815م) في بعثته الاستكشافية للجزيرة العربية (1761-1767م)، اشتملت بعثته على علوم متعددة فكان بينهم: عالم آثار وعالم لساني، وعالم نبات، وآخر متخصص في الدراسات الكلاسيكية القديمة، وعالم طبيعة، وعالم حيوان، وعالم في الطب، وجغرافي متخصص في رسم الخرائط مثل كارستين نيبور. وبالرغم من النهاية الحزينة التي آل إليها مصير البعثة، حيث توفي معظم أعضائها خلال عمل رحلتها الاستكشافية وذلك بعد إصابتهم بأمراض متفرقة، إلا أن تجربة البعثة وأسلوب عملها والنتائج الباهرة التي حققتها في دراسة الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، جعلها بعد ذلك بمثابة الأمثولة. وقد تكون تلك البعثة تعكس في طموحاتها، والجذور الأولى التي استمدت منها ذلك المنهج الشمولي، النتائج التي حققتها «البعثة الفرنسية» التي رافقت حملة نابليون بونابرت على مصر وأعمالها المعروفة بــ «وصف مصر».
هكذا كان شأن البعثات الدنماركية بعد ذلك، أي منذ أن توجهت البعثات الأركيولوجية والأنثروبولوجية لدراسة الثقافة والمجتمعات والحضارات الشرقية، وهي مدفوعة بأفكار وفلسفات ومفاهيم متعلقة بالواقع الحضاري الأوروبي آنذاك، وذلك من خلال مقارنته بالحضارات والثقافات الأخرى. فكان بروز ظاهرة استقلال العلوم الإنسانية والطبيعية عن الفلسفة واللاهوت من جهة، وازدياد ظاهرة بروز المتاحف الأوروبية المتطلعة إلى تشكيل مقتنيات متفرقة من الثقافة المادية للحضارات غير الأوروبية، من بين الأسباب الرئيسية وراء انطلاق البعثات الاستكشافية إلى الشرق وغيره من العالم غير الأوروبي. علينا هنا أن نُـدرك أمراً آخر ساعد على تلك الانطلاقة الاستكشافية ومن ورائها الفضول العلمي، وهو تبني البورجوازية الأوروبية، وأبناء الطبقات الوسطى الصاعدة، مشاريع دعم لتلك البعثات وتمويلها ماديآًّ. فكما لعبت شركة الهند الشرقية التجارية دورها في المشروع البريطاني، كان الحال كذلك بالنسبة لشركات تجارية أوروبية كان لها مشاريع أخرى مشابهة. وكانت تلك الشركات بمجملها تعكس تطلعات وأحلام البرجوازية الأوروبية وأبناء طبقاتها الجديدة، كالطبقة الوسطي كما ذكرنا. ففي الحالة الدنماركية مثلاً لعبت مؤسسة كارلزبيرغ، التابعة لشركة كارلزبيرغ، دوراً في رعاية وتمويل البعثات الدنماركية إلى الشرق. ونستطيع أن نلحظ أنه منذ انطلقت أولى الأعمال الاستكشافية الدنماركية لبحث جذور مشكلات كانت تشغل الفكر ا لأنثروبولوجي آنذاك، مثل إشكالية أصل الحضارة والبداوة؛ كانت الرؤية الأنثروبولوجية مبنية على التناول العلمي المنهجي المستند إلى وجود حزمة من العلوم المتكاملة والقادرة على توفير منظور شامل لتلك الإشكالية. وعليه، فعندما تم دراسة ومعالجة الثقافة في المجتمعات الشرقية، فأنه لم يتم فصل جانبها المادي عن غير المادي. ويتضح ذلك المنهج جلياً منذ أولى البعثات الأنثروبولوجية التي توجهت في عام 1908م إلى الجزائر وتونس ومصر بقيادة هانز بيتر ستينزبي (1875-1920م)، والأخرى الأركيولوجية التي توجهت إلى فلسطين وسوريا خلال أوائل القرن العشرين (1938-1924م)، حيث توجَّه آنذاك عالما الآثار والمستشرقان الدنماركيان، هارلر أنقولت إلى سوريا وأيج شمدث إلى فلسطين. يصف لنا عالم الآثار الدنماركي بيدر مورتنيسن، الذي ساهم في اكتشاف معبد باربار التابع للحضارة الدلمونية بالبحرين في الخمسينيات من القرن الماضي، المناخ العام والحالة اليومية لأعمال الحفريات فيقول: «من المتوقع جداًّ أن يشبه غداً اليوم الذي سبقه، حيث البرد والظلام في الصباح وما يصاحبهما من تراكم الأتربة في البلعوم. فهي أيام رتيبة بطبيعتها وشديدة الحرارة. عرق يلتصق بالجسم وغبار وذباب وآلام مصاحبة في المعدة. يضاف إلى كل ذلك عمل مضنٍ في كيلوغرامات من الحجارة والمعادن التي يتعين تسجيلها، وأمتار وراء أمتار من المقاطع ا لأرضية التي يجب قياسها ورسمها وتحليلها».
إلا أن تلك المعاناة اليومية التي يصفها مورتنيسن لم تمنع الباحثين الدنماركيين من مواصلة أعمال الحفريات والتوصل إلى نتائج في غاية الأهمية، فمع نهاية القرن الماضي استطاعت أعداد متفرقة من البعثات الأركيولوجية الدنماركية إنجاز حفريات أثرية في مواقع تعود لحضارات شرقية هامة في دول مثل: سوريا، والأردن، والعراق، ومصر، وتونس، وإيران، والخليج العربي؛ ولم تتوقف تلك الحفريات إلا في سنوات الحرب العالمية الثانية. ومع نهاية القرن الماضي بدأت نتائج تلك الحفريات تلفت أنظار الاهتمامات الثقافية الجادة ووسائل الإعلام في الدول الأسكندنافية نحوها. وكان من بين الأسماء التي بدأت تبرز بوضوح: عالم الأركيولوجيا الدنماركي البارز بيتر غلوب (1911-1985م)، الذي قاد أعمال البعثة الدنماركية إلى دول الخليج العربية، حيث كان غلوب وراء تحقيق الكشوفات الهامة للحضارة الدلمونية من مركزها في البحرين وامتدادها في دول خليجية أخرى مثل الكويت وشرق المملكة العربية السعودية، وكذلك حضارة أم النار في أبوظبي. واليوم تدين الأركيولوجيا في العالم بالفضل لجهود وأعمال البعثة الدنماركية في الكشف عن الحضارات والثقافات التي كانت سائدة في شرق الجزيرة العربية والتي بدأ يُـكشف النقاب عن معالمها العامة، سواء من خلال مشاريع الحفريات الأثرية الهامة التي تمت أو تلك النتائج والأعمال التي يتواصل نشرها خلال العقود الأخيرة.
أنثروبوولوجياًّ، نستطيع القول ان المشروع الأنثروبولوجي الدنماركي كان رديفاً للمشروع الأركيولوجي، بل إن تاريخ الأنثروبولوجيا الدنماركية هو نتاج للتزاوج الكبير الذي كان قائماً بينهما، ولواقع المؤسسات الأكاديمية والمتحفية والتجارية التي في ظلها نشأت تلك العلوم ومشاريعها البحثية أيضاً، كما أوضحنا في السطور السابقة. وإذا ما ألقينا نظرة على الأماكن الجغرافية المتفرقة في الشرق الأوسط التي توجهت إليها البعثات الدنماركية، سنجد أن تلك الرؤية الشمولية والتكاملية العلمية لدراسة الحضارة والثقافة والمجتمع في الشرق قد فرضت وجود الأنثروبولوجيين جنباً إلى جنب مع زملائهم الأركيولوجيين وغيرهم من الرسامين، وعلماء الطبيعة، والمصورين، وعلماء الموسيقى التقليدية. لكن كيف كان مسار الأنثروبولوجيا الدنماركية في دراسة ثقافة ومجتمعات الشرق الأوسط؟ ما هي الموضوعات المطروحة؟ وما علاقتها بالمدارس والاتجاهات النظرية التي كانت سائدة آنذاك؟ وإلى أين توجه أولئك الأنثروبولوجيون للبحث عن إجابة لتلك المشكلات التي كانت تشغل أذهانهم؟ سنحاول في الأسطر القليلة القادمة الإجابة عن هذه التساؤلات.
التجارب الأروربية: أنثروبولوجيا من نوع آخر
هل ينبغي وضع المعرفة والنتاج الأنثروبولوجي الدنماركي في مقابل نظيره البريطاني أو الفرنسي أو الأمريكي، أو حتى الألماني، وذلك من أجل إدراك خصائصه وتمايزاته؟ لا نعرف، ولكن ربما يكون الاقتصاد السياسي لإنتاج المعرفة والعلوم في تلك الدول الأوروبية خاصة، والغربية عامة، مفتاحاً للوقوف على ما يمكن تلمسه من موقع هامشي للأنثروبولوجيا الدنماركية، أو الأسكندنافية بصورة عامة، وذلك مقارنة بنظيرتها المشار إليها. لعل المتتبع لتاريخ الفكر الأنثروبولوجي في أوروبا وأمريكا يستطيع أن يقف على شيء من النمطية التي أخذت تُشكّل ملامح التجربة الفرنسية في مقابل البريطانية أو الأمريكية، أو حتى الألمانية على سبيل المثال.
من المؤكد أن التفوق على المستوى المعرفي الإبستيمولوجي في المجال الأنثروبولوجي كان له علاقة بتطورات داخلية خبرتها فرنسا وبريطانيا وأمريكا وألمانيا، كل منها على حدة، ولكن لابد من البحث عن علاقة ذلك التفوق بالاقتصاد السياسي للمعرفة والسلطة، سواء على مستوى كل دولة على حدة، أو على الصعيد العالمي آنذاك. لنأخذ على سبيل المثال التفوق في مجال الهيمنة الكولوينالية لكل من بريطانيا وفرنسا في مقابل الهيمنة الأمريكية أو الألمانية، ومدى ما أتاحه ذلك من مقدرة على وضع مجتمعات وثقافات متفرقة، في العالم القديم والجديد معاً أمام عددٍ من الدراسات الحقلية الأنثروبولوجية، وما نتج عنها من مفاهيم ونظريات أنثروبولوجية لعبت دورها، ليس على صعيد إعادة صياغة نظرية المعرفة في المجال الأنثروبولوجي الضيق، وإنما حتى على المستوى الفلسفي والفكري العام.
الأمر الملاحظ في تلك التجارب، وهذه ملاحظة واحدة من جملة ملاحظات عديدة، هو اختلاف كل تجربة عن الأخرى في الطريقة التي تم بموجبها رفد نظرية المعرفة في الفكر والفلسفة الأنثروبولوجية، فأصبح كما لو كان هناك طريق بريطاني، وآخر فرنسي، وأمريكي، وألماني، وغيره؛ هنا يكمن المأزق الدنماركي، الذي سنأتي على ذكره. فالطريق البريطاني كان عادة ما يقود الأنثروبولوجيين البريطانيين، كما هو الحال عند إدوارد إيفانز بريتشارد، وإرنست غيلنر، وريموند فيرث، وميري دوغلاس، وإدموند ليش، في الانطلاق من الواقع الإثنوغرافي، أي في معايشة واكتشاف الأفكار والفلسفات المجردة كما هي قائمة وممارسة في الواقع والحياة اليومية في ثقافات ومجتمعات بسيطة ومتفرقة من العالم، ثم التوصل من خلالها، أي من خلال تلك الوقائع الاجتماعية والثقافية الإثنواغرفية المعيشية، إلى رؤى وتعميمات فكرية إنسانية تقترب من نضوج التجارب الفردية لأولئك الأنثروبولوجيين ومن الرؤى والمفاهيم الفلسفية العامة، وبالتالي من إعادة إنتاج نظرية المعرفة.
أما التجربة الفرنسية، فكانت ولا تزال، تختلف في مسارها التاريخي عن نظيرتها البريطانية. لنلقِ هنا نظرة متفحصة على تجارب أنثروبولوجيين فرنسيين مثل: كلود ليفي ستروس، لويس دومون، مارسيل موس، موريس غودلييه، وبيير بورديو، ونحاول أن نكتشف معالم نمط متشابه ومتكرر، فماذا نكتشف؟ أن تجربة هؤلاء جميعاً كانت عادة ما تنطلق من مخاض أصحابها وانشغالهم بصياغات ومفاهيم فلسفية، أو أنها نتاج الأكاديميات التي ينتمون إليها أو المحيط الفكري والفلسفي الذي يعيشه الشارع الفكري الفرنسي، أي الشارع بوصفه مؤسسة هنا. وقد حمل كل هؤلاء الأنثروبولوجيين عدتهم من تلك المفاهيم والأفكار الفلسفية إلى الحياة اليومية في تلك المجتمعات والثقافات غير الأوروبية، وذلك في محاولة منهم للوقوف على السياق المحلي الذي يعاد فيه إنتاج تلك المفاهيم والأفكار الفلسفية. ووفقاً لذلك ذهب كلود ليفي ستروس إلى هنود البرازيل، ولويس دومون إلى الهند وموريس غودلييه إلى بولونيزيا، وبيير بورديو إلى الجزائر، ومارسيل موس إلى الإسكيمو. وبعد ذلك، أي عندما عاد هؤلاء جميعاً إلى الأكاديمية الفرنسية، أصبح لكل منهم تجربته الحقلية الأنثروبولوجية، أي الفلسفة هنا كما هي معايشة وممارسة، وهو الأمر الذي مكَّن كل منهم متفرداً من المساهمة في إعادة إنتاج نظرية المعرفة والفلسفة.
أما التجربة الأمريكية فيمكن القول انها قد اشتقت طريقاً شبيهاً بالطريق البريطاني حتى الستينيات من القرن الماضي، ثم بدأت منذ ذلك اقتفاء الطريق الفرنسي. لذا فقد غلب على الأنثروبولوجيين الأمريكيين الأوائل مثل: فرانز بواز، الفرد كروبير، مارغريت ميد، روث بندكيت، وكلايد كلوكهون، ليزلى وايت، وآخرين، الاستغراق في التجربة الإثنوغرافية الميدانية والخروج منها بمفاهيم ونماذج نظرية في مجال الأنثروبولوجيا حصراً. أما الجيل الثاني والثالث، فقد لعب دوراً من خلال ممارسة الفكر والفلسفة، في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وفكرية شبيهة بتلك التي أحدثها الفرنسيون، نذكر منهم على سبيل المثال: كليفرد غيرتز، جورج ماركوس، جيمس كليفرد، فيكتور تيرنر، أريك وولف، طلال أسد، جيمس فرنانديس، وآخرين. فلكل من هؤلاء تجربته الأنثروبولوجية التي مكنته من الإسهام في إعادة صياغة مفاهيم وأفكار فلسفية في غاية الأهمية. ولعل نظرة سريعة على تجربة التيار الفلسفي لما بعد الحداثة، والنقد، والنقد الأدبي، جديرة بأن تظـهر لنا حيوية هذا الإسهام الفلسفي، أي الانطلاقات من المعيشي واليومي على الصعيد الأنثروبولوجي.
اللافت للنظر إن التجربة الأسكندنافية بصورة عامة، والدنماركية على الوجه الأخص، فعلى الرغم من اختلاف السياق التاريخي لاقتصادها السياسي في إنتاج المعرفة الأنثروبولوجية، وذلك من حيث أن الدنمارك وان كانت قد ارتبطت بالتجارة البحرية الخارجية والاتصال والهجرة إلى العالم الجديد، فإنها لم تتمكن، مثلما تمكنت دولة أوروبية أخرى مثل هولندا أو بريطانيا وفرنسا أو حتى ألمانيا وإيطاليا، من التوسع والهيمنة الكولونيالية، لذا ظلت تجارب الاتصال بالثقافات والمجتمعات الأخرى في حدود الاتصال التجاري وفضول التعرف واكتشاف الآخر الثقافي في إفريقيا وآسيا والشرق عموماً.
وهكذا كانت الأنثروبولوجيا الدنماركية، حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أسيرة التراث والتجربة الألمانية المرتكزة على دراسة التاريخ الثقافي والجغرافيا الاجتماعية، الهادفة إلى اكتشاف أثر الحتميات الجغرافية والثقافية والتاريخية في الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات والثقافات الإنسانية من حيث تفاوتها وتراتبيتها، وبالتالي «تفوق» إحداها على الأخرى. وعليه، فقد ظلت الدراسات الأنثروبولوجية الدنماركية أسيرة الإثنولوجيا والمتاحف، ولعل ذلك يعكس محدودية تأثير الفلسفة والفكر الاجتماعي الفرنسي والبريطاني على الأنثروبولوجيا الدنماركية، بقدرما كان للفكر الفلسفي الألماني من تأثير وتفوق. والحصيلة، أو المأزق هنا، هو تفوق التجربة الدنماركية الأنثروبولوجية في دراسة الثقافات المعاصرة وخاصة جانبها المادي، حيث كان من بينها مثلاً الخلاصات الهامة التي تم التوصل إليها أركيولوجياًّ في الحفريات التي تمت في الثقافات القديمة في الشرق. ففي مقابل متقنيات إثنوغرافية، تم جمعها ودراستها من مجتمعات إفريقية وآسيوية متفرقة، أوضحت جوانب هامة من الثقافة المادية، بل ربما حيوية كما أوضحت عراقة المجتمعات والثقافات التي تنتمي إليها، ضعفاً بل وندرة في الأعمال الأنثروبولوجية وخلاصتها النظرية حول تلك المجتمعات والثقافات. وكان ذلك سبباً لغياب سماع الصوت الدنماركي في المجال الفكري الأنثروبولوجي الدائر آنذاك في الأكاديميات الغربية، سواء في بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا، حيث كانت السيادة للخطاب الأنثروبولوجي المعاصر.واستمرت الحالة الدنماركية على هذا المنوال حتى عهد قريب.
التابع للحضارة الدلمونية بالبحرين في الخمسينيات من القرن الماضي، المناخ العام والحالة اليومية لأعمال الحفريات فيقول: «من المتوقع جداًّ أن يشبه غداً اليوم الذي سبقه، حيث البرد والظلام في الصباح وما يصاحبهما من تراكم الأتربة في البلعوم. فهي أيام رتيبة بطبيعتها وشديدة الحرارة. عرق يلتصق بالجسم وغبار وذباب وآلام مصاحبة في المعدة. يضاف إلى كل ذلك عمل مضنٍ في كيلوغرامات من الحجارة والمعادن التي يتعين تسجيلها، وأمتار وراء أمتار من المقاطع ا لأرضية التي يجب قياسها ورسمها وتحليلها».
إلا أن تلك المعاناة اليومية التي يصفها مورتنيسن لم تمنع الباحثين الدنماركيين من مواصلة أعمال الحفريات والتوصل إلى نتائج في غاية الأهمية، فمع نهاية القرن الماضي استطاعت أعداد متفرقة من البعثات الأركيولوجية الدنماركية إنجاز حفريات أثرية في مواقع تعود لحضارات شرقية هامة في دول مثل: سوريا، والأردن، والعراق، ومصر، وتونس، وإيران، والخليج العربي؛ ولم تتوقف تلك الحفريات إلا في سنوات الحرب العالمية الثانية. ومع نهاية القرن الماضي بدأت نتائج تلك الحفريات تلفت أنظار الاهتمامات الثقافية الجادة ووسائل الإعلام في الدول الأسكندنافية نحوها. وكان من بين الأسماء التي بدأت تبرز بوضوح: عالم الأركيولوجيا الدنماركي البارز بيتر غلوب (1911-1985م)، الذي قاد أعمال البعثة الدنماركية إلى دول الخليج العربية، حيث كان غلوب وراء تحقيق الكشوفات الهامة للحضارة الدلمونية من مركزها في البحرين وامتدادها في دول خليجية أخرى مثل الكويت وشرق المملكة العربية السعودية، وكذلك حضارة أم النار في أبوظبي. واليوم تدين الأركيولوجيا في العالم بالفضل لجهود وأعمال البعثة الدنماركية في الكشف عن الحضارات والثقافات التي كانت سائدة في شرق الجزيرة العربية والتي بدأ يُـكشف النقاب عن معالمها العامة، سواء من خلال مشاريع الحفريات الأثرية الهامة التي تمت أو تلك النتائج والأعمال التي يتواصل نشرها خلال العقود الأخيرة.
أنثروبوولوجياًّ، نستطيع القول ان المشروع الأنثروبولوجي الدنماركي كان رديفاً للمشروع الأركيولوجي، بل إن تاريخ الأنثروبولوجيا الدنماركية هو نتاج للتزاوج الكبير الذي كان قائماً بينهما، ولواقع المؤسسات الأكاديمية والمتحفية والتجارية التي في ظلها نشأت تلك العلوم ومشاريعها البحثية أيضاً، كما أوضحنا في السطور السابقة. وإذا ما ألقينا نظرة على الأماكن الجغرافية المتفرقة في الشرق الأوسط التي توجهت إليها البعثات الدنماركية، سنجد أن تلك الرؤية الشمولية والتكاملية العلمية لدراسة الحضارة والثقافة والمجتمع في الشرق قد فرضت وجود الأنثروبولوجيين جنباً إلى جنب مع زملائهم الأركيولوجيين وغيرهم من الرسامين، وعلماء الطبيعة، والمصورين، وعلماء الموسيقى التقليدية. لكن كيف كان مسار الأنثروبولوجيا الدنماركية في دراسة ثقافة ومجتمعات الشرق الأوسط؟ ما هي الموضوعات المطروحة؟ وما علاقتها بالمدارس والاتجاهات النظرية التي كانت سائدة آنذاك؟ وإلى أين توجه أولئك الأنثروبولوجيون للبحث عن إجابة لتلك المشكلات التي كانت تشغل أذهانهم؟ سنحاول في الأسطر القليلة القادمة الإجابة عن هذه التساؤلات.
التجارب الأروربية: أنثروبولوجيا من نوع آخر
هل ينبغي وضع المعرفة والنتاج الأنثروبولوجي الدنماركي في مقابل نظيره البريطاني أو الفرنسي أو الأمريكي، أو حتى الألماني، وذلك من أجل إدراك خصائصه وتمايزاته؟ لا نعرف، ولكن ربما يكون الاقتصاد السياسي لإنتاج المعرفة والعلوم في تلك الدول الأوروبية خاصة، والغربية عامة، مفتاحاً للوقوف على ما يمكن تلمسه من موقع هامشي للأنثروبولوجيا الدنماركية، أو الأسكندنافية بصورة عامة، وذلك مقارنة بنظيرتها المشار إليها. لعل المتتبع لتاريخ الفكر الأنثروبولوجي في أوروبا وأمريكا يستطيع أن يقف على شيء من النمطية التي أخذت تُشكّل ملامح التجربة الفرنسية في مقابل البريطانية أو الأمريكية، أو حتى الألمانية على سبيل المثال.
من المؤكد أن التفوق على المستوى المعرفي الإبستيمولوجي في المجال الأنثروبولوجي كان له علاقة بتطورات داخلية خبرتها فرنسا وبريطانيا وأمريكا وألمانيا، كل منها على حدة، ولكن لابد من البحث عن علاقة ذلك التفوق بالاقتصاد السياسي للمعرفة والسلطة، سواء على مستوى كل دولة على حدة، أو على الصعيد العالمي آنذاك. لنأخذ على سبيل المثال التفوق في مجال الهيمنة الكولوينالية لكل من بريطانيا وفرنسا في مقابل الهيمنة الأمريكية أو الألمانية، ومدى ما أتاحه ذلك من مقدرة على وضع مجتمعات وثقافات متفرقة، في العالم القديم والجديد معاً أمام عددٍ من الدراسات الحقلية الأنثروبولوجية، وما نتج عنها من مفاهيم ونظريات أنثروبولوجية لعبت دورها، ليس على صعيد إعادة صياغة نظرية المعرفة في المجال الأنثروبولوجي الضيق، وإنما حتى على المستوى الفلسفي والفكري العام.
الأمر الملاحظ في تلك التجارب، وهذه ملاحظة واحدة من جملة ملاحظات عديدة، هو اختلاف كل تجربة عن الأخرى في الطريقة التي تم بموجبها رفد نظرية المعرفة في الفكر والفلسفة الأنثروبولوجية، فأصبح كما لو كان هناك طريق بريطاني، وآخر فرنسي، وأمريكي، وألماني، وغيره؛ هنا يكمن المأزق الدنماركي، الذي سنأتي على ذكره. فالطريق البريطاني كان عادة ما يقود الأنثروبولوجيين البريطانيين، كما هو الحال عند إدوارد إيفانز بريتشارد، وإرنست غيلنر، وريموند فيرث، وميري دوغلاس، وإدموند ليش، في الانطلاق من الواقع الإثنوغرافي، أي في معايشة واكتشاف الأفكار والفلسفات المجردة كما هي قائمة وممارسة في الواقع والحياة اليومية في ثقافات ومجتمعات بسيطة ومتفرقة من العالم، ثم التوصل من خلالها، أي من خلال تلك الوقائع الاجتماعية والثقافية الإثنواغرفية المعيشية، إلى رؤى وتعميمات فكرية إنسانية تقترب من نضوج التجارب الفردية لأولئك الأنثروبولوجيين ومن الرؤى والمفاهيم الفلسفية العامة، وبالتالي من إعادة إنتاج نظرية المعرفة.
أما التجربة الفرنسية، فكانت ولا تزال، تختلف في مسارها التاريخي عن نظيرتها البريطانية. لنلقِ هنا نظرة متفحصة على تجارب أنثروبولوجيين فرنسيين مثل: كلود ليفي ستروس، لويس دومون، مارسيل موس، موريس غودلييه، وبيير بورديو، ونحاول أن نكتشف معالم نمط متشابه ومتكرر، فماذا نكتشف؟ أن تجربة هؤلاء جميعاً كانت عادة ما تنطلق من مخاض أصحابها وانشغالهم بصياغات ومفاهيم فلسفية، أو أنها نتاج الأكاديميات التي ينتمون إليها أو المحيط الفكري والفلسفي الذي يعيشه الشارع الفكري الفرنسي، أي الشارع بوصفه مؤسسة هنا. وقد حمل كل هؤلاء الأنثروبولوجيين عدتهم من تلك المفاهيم والأفكار الفلسفية إلى الحياة اليومية في تلك المجتمعات والثقافات غير الأوروبية، وذلك في محاولة منهم للوقوف على السياق المحلي الذي يعاد فيه إنتاج تلك المفاهيم والأفكار الفلسفية. ووفقاً لذلك ذهب كلود ليفي ستروس إلى هنود البرازيل، ولويس دومون إلى الهند وموريس غودلييه إلى بولونيزيا، وبيير بورديو إلى الجزائر، ومارسيل موس إلى الإسكيمو. وبعد ذلك، أي عندما عاد هؤلاء جميعاً إلى الأكاديمية الفرنسية، أصبح لكل منهم تجربته الحقلية الأنثروبولوجية، أي الفلسفة هنا كما هي معايشة وممارسة، وهو الأمر الذي مكَّن كل منهم متفرداً من المساهمة في إعادة إنتاج نظرية المعرفة والفلسفة.
أما التجربة الأمريكية فيمكن القول انها قد اشتقت طريقاً شبيهاً بالطريق البريطاني حتى الستينيات من القرن الماضي، ثم بدأت منذ ذلك اقتفاء الطريق الفرنسي. لذا فقد غلب على الأنثروبولوجيين الأمريكيين الأوائل مثل: فرانز بواز، الفرد كروبير، مارغريت ميد، روث بندكيت، وكلايد كلوكهون، ليزلى وايت، وآخرين، الاستغراق في التجربة الإثنوغرافية الميدانية والخروج منها بمفاهيم ونماذج نظرية في مجال الأنثروبولوجيا حصراً. أما الجيل الثاني والثالث، فقد لعب دوراً من خلال ممارسة الفكر والفلسفة، في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وفكرية شبيهة بتلك التي أحدثها الفرنسيون، نذكر منهم على سبيل المثال: كليفرد غيرتز، جورج ماركوس، جيمس كليفرد، فيكتور تيرنر، أريك وولف، طلال أسد، جيمس فرنانديس، وآخرين. فلكل من هؤلاء تجربته الأنثروبولوجية التي مكنته من الإسهام في إعادة صياغة مفاهيم وأفكار فلسفية في غاية الأهمية. ولعل نظرة سريعة على تجربة التيار الفلسفي لما بعد الحداثة، والنقد، والنقد الأدبي، جديرة بأن تظـهر لنا حيوية هذا الإسهام الفلسفي، أي الانطلاقات من المعيشي واليومي على الصعيد الأنثروبولوجي.
اللافت للنظر إن التجربة الأسكندنافية بصورة عامة، والدنماركية على الوجه الأخص، فعلى الرغم من اختلاف السياق التاريخي لاقتصادها السياسي في إنتاج المعرفة الأنثروبولوجية، وذلك من حيث أن الدنمارك وان كانت قد ارتبطت بالتجارة البحرية الخارجية والاتصال والهجرة إلى العالم الجديد، فإنها لم تتمكن، مثلما تمكنت دولة أوروبية أخرى مثل هولندا أو بريطانيا وفرنسا أو حتى ألمانيا وإيطاليا، من التوسع والهيمنة الكولونيالية، لذا ظلت تجارب الاتصال بالثقافات والمجتمعات الأخرى في حدود الاتصال التجاري وفضول التعرف واكتشاف الآخر الثقافي في إفريقيا وآسيا والشرق عموماً.
وهكذا كانت الأنثروبولوجيا الدنماركية، حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أسيرة التراث والتجربة الألمانية المرتكزة على دراسة التاريخ الثقافي والجغرافيا الاجتماعية، الهادفة إلى اكتشاف أثر الحتميات الجغرافية والثقافية والتاريخية في الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات والثقافات الإنسانية من حيث تفاوتها وتراتبيتها، وبالتالي «تفوق» إحداها على الأخرى. وعليه، فقد ظلت الدراسات الأنثروبولوجية الدنماركية أسيرة الإثنولوجيا والمتاحف، ولعل ذلك يعكس محدودية تأثير الفلسفة والفكر الاجتماعي الفرنسي والبريطاني على الأنثروبولوجيا الدنماركية، بقدرما كان للفكر الفلسفي الألماني من تأثير وتفوق. والحصيلة، أو المأزق هنا، هو تفوق التجربة الدنماركية الأنثروبولوجية في دراسة الثقافات المعاصرة وخاصة جانبها المادي، حيث كان من بينها مثلاً الخلاصات الهامة التي تم التوصل إليها أركيولوجياًّ في الحفريات التي تمت في الثقافات القديمة في الشرق. ففي مقابل متقنيات إثنوغرافية، تم جمعها ودراستها من مجتمعات إفريقية وآسيوية متفرقة، أوضحت جوانب هامة من الثقافة المادية، بل ربما حيوية كما أوضحت عراقة المجتمعات والثقافات التي تنتمي إليها، ضعفاً بل وندرة في الأعمال الأنثروبولوجية وخلاصتها النظرية حول تلك المجتمعات والثقافات. وكان ذلك سبباً لغياب سماع الصوت الدنماركي في المجال الفكري الأنثروبولوجي الدائر آنذاك في الأكاديميات الغربية، سواء في بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا، حيث كانت السيادة للخطاب الأنثروبولوجي المعاصر.واستمرت الحالة الدنماركية على هذا المنوال حتى عهد قريب.

* قام الكاتب بدراسة وتحليل الدراسات الأنثروبولوجية الدنماركية لكل من هني هانسن، وكلاوس فرديناند، وبول أولسن، وأخرى عن بيتر لينهاردت، كلاً على حدة، لمزيد من الاطلاع، راجع: «عبدالله عبدالرحمن يتيم، الأنثروبولوجيون الدنماركيون في الخليج العربي: هني هانسن نموذجاً، 2005؛ المرة والنعيم في ترحالهم الأخير، 2003؛ بحثاً عن الموسيقى في البحرين: تجربة من الدنمارك، 2004، مشيخات شرق الجزيرة العربية: رؤية أنثروبولوجية بريطانية، 2003».

Exit mobile version