بكري علاء الدين
يشير الأصل الاشتقاقي لكلمة الأنتروبولوجية anthropology إلى الاستخدام اليوناني القديم المؤلف من مقطعين هما: anthropos ويعني الإنسان، واللاحقة logie وتعني العلم والأصل. وقد وردت صفة «الأنتروبولوجي» أول مرة في كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو[ر]. غير أن المعنى القديم لهذه الكلمة: «المتكلم على الإنسان» (النَّمَّام) أو الثرثار، يختلف تماماً عمّا آل إليه مصطلح الأنتروبولوجية أو «علم الإنسان» فيما بعد. واتخذت هذه الكلمة مع الفيلسوف مالبرانش Malebrancheمعنى لاهوتياً هو: إسقاط صفات الإنسان على الله أو «التشبيه». وقد عرّف أحد تلاميذ ديكارت، وهو الطبيب بيرديونيس، الأنتروبولوجية أنها العلم الذي يقودنا إلى معرفة الإنسان على صعيد علم النفس والتشريح، وذلك في نهاية القرن السابع عشر.
ظلت معاني استخدام هذه الكلمة متنوعة، فصارت بعد ذلك بمئة عام تعني مع كَنت في كتابه «الأنتروبولوجية» معرفة الإنسان بوصفه مواطناً عالمياً، أما المعنى النهائي لهذا المصطلح فقد بدأ يستقر في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ليصبح علماً مستقلاً يعتمد في دراسة الإنسان المناهج السائدة في العلوم الإنسانية، تلك المناهج التي صارت تطمح في القرن التاسع عشر إلى اعتماد الدقة العلمية التي تتمتع بها العلوم البحتة مثل الرياضيات والفيزياء.
إن دراسة الإنسان بوصفه ابن الطبيعة بمعزل عن أي مرجعية دينية أو فلسفية تعني أن الإنسان وضع نفسه موضع التحليل والبحث، فانقلب من ذات تتفحص موضوعات العالم الخارجي إلى موضوع تتفحصه ذات واعية مسلحة بالعلم والتجربة.
إن تشعب الميادين التي خاضتها الأنتروبولوجية وتنوع الأحوال التي أحاطت بنشأتها وساعدت على تكوينها يجعل أمر تعريفها غاية في الصعوبة. فالحدث الأساسي الذي أسهم في تمهيد الأرض الخصبة لولادة هذا العلم الجديد وازدهاره هو الكشوفات الجغرافية الكبرى وما رافقها من روح المغامرة والرحلات الاستكشافية التي صارت تميز العالم الغربي الاستعماري التوسعي والتبشير الديني، يضاف إلى ذلك رومانسية القرن الثامن عشر في أوربة وما نجم عنها من تصعيد لقيمة الإنسان. فالطموح العلمي لاكتشاف قوانين صارمة تخضع لها الأشياء ومنها الإنسان وعلاقاته الاجتماعية غدا المناخ العلمي السائد في القرن التاسع عشر، خاصة مع ازدهار علوم الآثار ودراسات ما صار يسمى بـ «الشعوب البدائية» و«الذهنية البدائية» في كتابات علماء الفلسفة والطبيعة والاجتماع والإتنولوجية[ر] التي توجت بظهور أول نظرية متكاملة على يد لامارك J.P.La Marck في مطلع القرن التاسع عشر. وقد ساعدت الثورة الفرنسية على تطوير صورة الإنسان عن نفسه. وبازدهار الموسوعية والجمعيات العلمية بدأت حقبة جديدة في الدراسات الأنتروبولوجية. فقد تأسست في باريس «الجمعية الإتنولوجية» عام 1839، وتبعتها بعد سنوات جمعيتان مُماثلتان في كل من أمريكة وإنكلترة. ثم بدأت المجلات المتخصصة بالانتشار في فرنسة وألمانية. وأخيراً أسس بروكا «الجمعية الأنتروبولوجية» في باريس عام 1859.
وليس من تعريف متفق عليه للأنتروبولوجية، ويعود السبب في ذلك إلى وجود تيارين أساسيين للأنتروبولوجية: التيار الأنغلوسكسوني والتيار الفرنسي. يضاف إلى هذا الخلاف المرتبط بالمدارس الفكرية صعوبة أخرى هي التنوع في الأهداف النظرية والمناهج والوثائق المتعلقة بدراسة الشعوب. لذلك يصعب العثور على تعريف يحمل معنىً اتفاقياً مقبولاً من العلماء كافة. لكن إلقاء نظرة سريعة على الحقول التي تشملها الدراسات الأنتروبولوجية كفيل بأن ينوب عن التعريف المفقود.
أول ما يتبادر إلى الذهن في الدراسات الأنتروبولوجية هو دراسة «المجتمعات البدائية» من أجل إعادة بناء تصور تاريخي قريب من الحقيقة عن تطور الإنسانية، ورصد المراحل التي مر بها الإنسان قبل أن يبلغ المستوى الحضاري الراهن. وقد تنبه العلماء الغربيون أنفسهم في النصف الثاني من القرن العشرين على مخاطر العرقية المركزية لمثل هذه النظرة التطورية لأنها تجعل من الإنسان الغربي مقياساً مطلقاً. إلا أن أكثر ما يتفق مع الاختصاص المركزي للأنتروبولوجية هو دراسة الخصائص الجسمية للإنسان دراسة علمية ضمن عالم الحيوان.
فقد ظهر بعد انحسار النظريات العرقية وسقوطها مفهوم توحيدي للإنسان يؤكد أن البشر يشتركون جميعاً بأصل واحد. وفي الاتجاه نفسه سارت الأبحاث التي عالجت الظواهر العامة للثقافة من أجل اكتشاف أبسط القوانين التي تتحكم في العادات والطقوس التي تسود المجتمعات ولبلوغ أعلى درجة ممكنة من التجريد العلمي.
إن التعقيد الإبستمولوجي للموضوع ناجم عن أن فرعاً علمياً ما لا يحيط بمفرده بمجمل المساحة المعرفية للأنتروبولوجية، ولا تكفل الإحاطة التكاملية بكل الفروع رأب الصدع الناجم عن اختلاف المناهج والمدارس، ذلك أن «طبيعة الإنسان»، موضوع البحث، ليست شيئاً ثابتاً على الدوام. كما أن طرح الأسئلة وإعادة صوغ الأجوبة رهن بالتقدم العلمي. أضف إلى ذلك أن الإجابات التقليدية ذات الطابع اللاهوتي والفلسفي مازالت تُعايش إجابات ذات طابع إيديولوجي متغير.
وباختصار فإن الأنتروبولوجية هي العلم الذي يدرس الخصائص الإنسانية الجسدية والنفسية والذهنية، آخذاً في الحسبان ثقافة البشر في الزمان والمكان، وذلك في سبيل استخلاص الأنساق والنماذج السائدة في كل مجتمع إنساني، بمراعاة مستوى التقدم التقني والإدراك العقلي لأفراد هذا المجتمع، ورصد إنجازاته ومعتقداته ووسائل اتصاله من اللغة التي يتحدث بها الناس إلى الرموز والطقوس المتوارثة عبر الأجيال. وقد ساعد تراكم المعطيات العلمية والبحوث الميدانية على زيادة التخصص في الأنتروبولوجية، فبرزت الأنتروبولوجية الثقافية، وكان الفرنسيون يطلقون عليها اسم الإتنولوجية. وظهرت في إنكلترة اختصاصات فرعية عن تعقد الأنتروبولوجية الاجتماعية، مثل الأنتروبولوجية الدينية والاقتصادية والسياسية.
إلا أن أكثر التخصصات التصاقاً بموضوع الأنتروبولوجية والذي أعطى الأنتروبولوجية بعدها الأساسي هو الأنتروبولوجية الطبيعية. فلقد أسهم تطور التشريح المقارن في ترسيخ الفكرة القائلة بإمكانية دراسة الإنسان بغض النظر عن الخلفية الدينية والفلسفية السائدة التي كانت تمنحه صفة القداسة. وخضع الجسم الإنساني لمعايير المنطق العلمي بوصفه كماً قابلاً للدراسة والقياس، فازدهرت المورفولوجية الخارجية والداخلية للإنسان (قياس العظام وقياس الجمجمة) إضافة إلى الإحاطة بأدق التفصيلات التي قادت لاحقاً إلى الدراسة المجهرية والنسيجية. وتندرج تحت هذه الدراسة الطبيعية للإنسان الأنتروبولوجية الخاصة بوظائف الأعضاء ودراسات النمو والتمثل والزمر الدموية والخصب. ويقتحم العلم ميداناً جديداً مذهلاً هو الاستنساخ[ر] الذي لا يُعرف كيف سيتعامل معه الإنسان في المستقبل القريب. كذلك لا يمكن فهم الدراسات الأنتروبولوجية من دون التركيز على الدراسات الميدانية التي قام بها مؤسسو التيارات والمدارس التي ظهرت في هذا العلم. وقد وضع مالينوفسكي في كتابه المشهور «بحارة غرب المحيط الهادىء الجسورون» عام 1922 أسس المنهج الخاص بالدراسات الميدانية، فقد ركز على ضرورة بقاء الباحث الميداني عاماً كاملاً مع أفراد القبيلة التي يدرسها، وأن يظل بينهم ويندمج بهم ليتابع حياة الجماعة من الداخل. كما أوصى أن يتعلم الباحث لغة الجماعة المدروسة. ورأى أن المشاركة في الحياة اليومية للجماعة تساعد على فهم المعاني الرمزية أو الضمنية لسلوك الأفراد.
تطورت موضوعات الأنتروبولوجية وتنوعت مناهجها بعد انحسار ظاهرة الاستعمار القديم. وما إن أخذت الدول المستعمَرة بالاستقلال حتى صار بوسع النخب المثقفة فيها الاهتمام بالعلوم الاجتماعية والدراسة الأنتروبولوجية لبلدانهم. كذلك عكف المستعمِرُ القديم على دراسة ظواهر جديدة في المجتمع الغربي تركزت حول مشكلات الصحة والهجرة والتربية، وتخلصت إلى حد كبير من عقدة المركزية الأوربية.
ورافقت حركات التحرر عملية مراجعة للدراسات الاستشراقية، خاصة في الوطن العربي، إذ جرى الرد المنظم على أطروحات المستشرقين لإعادة الاعتبار إلى الشخصية التراثية. أما في مجال الأنتروبولوجية فقد برز عدد كبير من الباحثين في الأقطار العربية، وظهر وعي جديد بأهمية الأفكار الأنتروبولوجية المبثوثة في كتب التراث العربي الإسلامي. وتنبه عدد كبير من جيل المستشرقين الجدد والباحثين العرب على أهمية مؤلفات المسعودي ككتاب «مروج الذهب» والبيروني ككتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، وفيه تحليل وتقويم لعلوم الهند وثقافتها في القرن العاشر الميلادي ولم يدرس هذا الكتاب المهم بما فيه الكفاية حتى اليوم.
إلا أن أهم المفكرين العرب الذين يمكن أن يُعْثَر في كتاباتهم على مبادئ تطورية يخضع لها المجتمع وقوانين تخضع لها الدول هم ابن سينا وابن رشد والمؤرخ ابن خلدون الذي تحدث في مقدمته عن العلاقة بين البداوة والحضارة، كما بيّن أعمار الدول، وتقليد المغلوب للغالب، فجرد من دراسته التاريخية أنماطاً ثابتة يمكن أن تخضع لها المجتمعات في كثير من المناطق في العالم. أما مبدأ «العصبية» لدى ابن خلدون فقد أصبح من المفاتيح الأساسية لفهم المجتمعات العربية قديماً وحديثاً، وساعد بعض المستشرقين على إنجاز دراسات قيمة في هذا الموضوع. ومما تجدر ملاحظته الربط المتين في مقدمة ابن خلدون بين الوسط الجغرافي وأحوال المجتمع. ومع أن نظرية «الأقاليم» بمفهومها القديم (الأقاليم السبعة) اختفت من الجغرافية الحديثة، فإن قيمة الملاحظة العلمية للعلاقة بين البيئة الطبيعية وتطور أحوال العمران تظل حية في الدراسات الاجتماعية.
تستطيع «الأنتروبولوجية الجديدة» nêo-anthropologie أن تفتح آفاقاً أوسع في احترام خصوصية الثقافات الإنسانية وتقديرها وحمايتها. إن فكرة النسبية الثقافية التي أخذت في الانتشار، والاعتقاد الراسخ بأنه لا توجد ثقافات أعلى وثقافات أدنى بل ثقافة للإنسان يغنيها التنوع داخل الوحدة ويرفعها العلم إلى درجة العالمية، يُساعدان على دعم التثاقف acculturation وتعميقه بين الشعوب. إن التقدم المستمر للعلم يسقط النظريات العرقية التسلطية ويرفع من شأن الإنسان ويعزز كرامته.
مراجع
ـ عاطف وصفي، الأنتروبولوجية الاجتماعية (دار المعارف بمصر، 1967).
ـ عاطف وصفي، الأنتروبولوجية الثقافية (دار المعارف بمصر، 1975).
ـ حسين فهيم، «قصة الأنتروبولوجية»، سلسلة عالم المعرفة، رقم 98 (الكويت 1986).
ـ فؤاد إسحاق الخوري، مذاهب الأنتروبولوجية وعبقرية ابن خلدون (بيروت 1992).
المصدر: الموسوعة العربية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 763
الرابط: http://arab-ency.com.sy/ency/details/162