موقع أرنتروبوس

الأبعاد الأنثروبولوجية والثقافية لمنطقة طـــرارة بالجزائر

د. مراد مولاي الحاج*

ملخص المداخلة

ظل المجتمع الريفي الجزائري محل اهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية، فجل الدراسات المنجزة إبان التواجد الاستعماري، عالجت الخصائص البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذا المجتمع. لا نستغرب من إنجاز هذه الأعمال من طرف الفئات المثقفة والإدارية الفرنسية التي عاشت بالمناطق الحضرية في المدن الجزائرية. فالانتماء الجغرافي والاجتماعي لبعض هؤلاء الإداريين إلى هذه المناطق، كان له دور في دفعهم  على القيام بأعمال ودراسات مونوغرافية للمجتمع الجزائري الذين يرون أنفسهم جزءا منه.

فالحياة البسيطة والغنية بمميزاتها ودلالتها الاجتماعية في الريف الجزائري والمناطق الجبلية شكلت اللبنة الأساسية لكل المحاولات والدراسات المنجزة والتي عادة ما كانت تنشر في المجلات والمواثيق ومن بينها المجلة الإفريقية ووثيقة جمعية الجغرافيين وعلم الآثار لمنطقة وهران. وبالتالي تعتبر منطقة طرارة  من بين المناطق التي نالت حصتها في هذه الدراسات والاهتمامات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية.

نحــاول من خلال هذه المداخلة الإحاطة ببعض من هذه الدراسات.

مقدمـة

سميت منطقة طرارة بهذا الاسم انتساباً إلى السلسلة الجبلية التي تعرف بها هذه المنطقة، والتي تعد امتداد للسلسلة التلية التي تطل على البحر الأبيض المتوسط. تقع هذه المنطقة في أقصى شمال الغربي الجزائري ، وهي متصلة إدارياً بولاية تلمسان.

أظهرت لنا الإحصائيات لسنة 1998[1]، أن عدد سكان المنطقة كان يساوي 245.170 ساكن على مساحة تقدر ب 1823.19 كلم2، وهذا ما يعطينا متوسط كثافة سكانية يساوي 134 ساكناً في الكلم2. إلا أن طبيعة تضاريس المنطقة جعلت منها أن تكون مسرحاً لعدم تكافؤ توزيع السكان على المنطقة، فنجد بعض المناطق تزيد كثافة سكانها عن 300 ساكن في الكلم 2. وخاصة المناطق الشمالية المحيطة بالمدينتين (أو ما يسمى المحور الغزوات-ندرومة) المعروفتان بتطور نوع من الأنشطة  الاقتصادية منذ التواجد الاستعماري، كما ما زالت تعد هاتين المدينتين أهم المدن في المنطقة نظراً لتوسع عمرانهما وكذا نشاطهما الصناعي والتجاري.

بينما تعرف المناطق الغربية والشرقية لمنطقة طرارة تدني في كثافة سكانها، فقد تصل إلى 80 ساكن في الكلم2، وهذا نظراً لتضاريس هذه الجهات التي تمتاز بأراضي جبلية غير صالحة للزراعة. مما أدى بسكان هذه الجهات إلى الهجرة إلى المدن المجاورة أو في كثير من الأحيان إلى فرنسا.

تعتبر منطقة طرارة من المناطق التي عانى سكانها، ولمدة طويلة، من الفقر وتدني مداخل نشاطهم الزراعي نظراً لطبيعة الأراضي الزراعية، هذا ما شجع الكثير من الأسر الطرارية إلى إرسال أبناءها نحو فرنسا بحثاً عن الرزق وبالتالي الخروج من مأزق الفقر ومساعدة الأهل ، الذي مكث في البلاد، عن طريق بعث الهدايا والمساعدات المالية، كلما أتيحت فرص للقيام بذلك. و حتى سنوات السبعينات كانت أغلب العائلات الريفية تقوم بأعمال حرفية مثل صناعة بعض الأدوات الفلاحية أو بعض الأواني الطينية لتسوقها بمدينة ندرومة أو الغزوات.

كما عملت بعض العائلات على زراعة بعض الحقول الصغيرة من أجل تلبية حاجاتها اليومية. ومن جهة أخرى ففي المناطق الحضرية، كانت أغلب الفئات الاجتماعية تقوم بالأعمال الحرفية كالنسيج والنجارة مثلا بمدينة ندرومة، والتي أصبحت تعرف أزقتها ودروبها بأسماء الحرفيين وتخصصاتهم مثل درب الحدادين  وفي مدينة الغزوات، استطاع البعض من السكان ممارسة الصيد البحري أو العمل في الميناء لشحن البضائع، أو العمل في معامل تصبير السمك. إن هذا الواقع يكشف لنا الظروف المزرية التي كان يعيش فيها سكان هذه المنطقة فقد لا تتعدى حياتهم نشاطات بسيطة قائمة على عدم استقرار الدخل وتدني القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية.

ظل المجتمع الريفي الجزائري محل اهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية، فجل الدراسات المنجزة إبان التواجد الاستعماري، عالجت الخصائص البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذا المجتمع. لا نستغرب من إنجاز هذه الأعمال من طرف الفئات المثقفة والإدارية الفرنسية التي عاشت بالمناطق الحضرية في المدن الجزائرية. فالانتماء الجغرافي والاجتماعي لبعض هؤلاء الإداريين إلى هذه المناطق، كان له دور في دفعهم  على القيام بأعمال ودراسات مونوغرافية للمجتمع الجزائري الذين يرون أنفسهم جزءا منه.

فالحياة البسيطة والغنية بمميزاتها ودلالتها الاجتماعية في الريف الجزائري والمناطق الجبلية شكلت اللبنة الأساسية لكل المحاولات والدراسات المنجزة والتي عادة ما كانت تنشر في المجلات والمواثيق ومن بينها المجلة الإفريقية ووثيقة جمعية الجغرافيين وعلم الآثار لمنطقة وهران. وبالتالي تعتبر منطقة طرارة  من بين المناطق التي نالت حصتها في هذه الدراسات والاهتمامات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية.

إلا أن هذا الاهتمام بالتحولات الاجتماعية والثقافية للمنطقة، قد لا ينقطع مع ذهاب أولئك الباحثين الذين وجدوا إبان المرحلة الاستعمارية، وإنما التحولات التي عرفتها  المنطقة منذ الاستقلال وخاصة ابتداء من سنوات السبعينات شجعت باحثين سوسيولوجين وأنثروبولوجيين آخرين، في انجاز أعمال أكاديمية وهذا للوقوف على تلك التحولات التي عرفتها المنطقة.

فبالإضافة إلى عامل الهجرة التي عرفت به المنطقة نحو فرنسا، والذي كان له لا محال نوع من التأثير على التركيبة الاجتماعية والثقافية لسكان  المنطقة، فقد نجد تصنيع المنطقة، عن طريق تنصيب مؤسسات صناعية حديثة، من أهم العوامل المؤثرة على الحياة اليومية لسكان المنطقة.

1-المسار التاريخي، الاجتماعي والاقتصادي لمنطقة طرارة

إن تطرقنا لدراسة منطقة طرارة ميدان بحثنا، جعلنا لا نمر مر الكرام على بعض الدراسات الاجتماعية التي قام بها بعض الدارسين إبان التواجد الاستعماري. فأغلب هذه الدراسات، تعتبر السند العلمي الذي بإمكانه أن يثري موضوع بحثنا هذا.

فعمدت هذه الدراسات إلى التطرق إلى التحولات التي عرفتها المنطقة عبر التاريخ مع التركيز على المعاينة التي كان يقوم بها هؤلاء الإداريون والذين أسهموا بهذه الأعمال التي نالت نوع من المصداقية في نقل الخصائص الاجتماعية والثقافية للمجتمع الطراري. ونظراً لغنى هذه الدراسات سنقوم بتلخيص بعض الأفكار التي جاءت بها هذه الدراسات، ومن بينها:

1.1ندرومة ومنطقة طرارة

يقدم لنا J. Canal   في الجزء الثالث من دراسة مونوغرافية لولاية تلمسان،  عملا ظل مصدرًا أساسيًا لكل الدراسات الاجتماعية اللاحقة والذي يحمل عنوان ندرومة ومنطقة طرارة، نشر في الجزء السابع من مجلة الجغرافيين والأركيولوجيين لمنطقة وهران سنة 1887.  يقدم في هذا العمل وصفا دقيقا لبيئة منطقة طرارة، فيؤكد عن طابعها الجبلي المجاور للبحر.

يتطرق كنال J. Canal إلى مسألة أصل سكان المنطقة ليبرز  ذلك التضارب والتناقض في الكتابات التي عالجت هذه المسألة، فهناك بعض  الإثنوغرافيين العسكريين الذين يقرون أن السكان المحليين هم من أصل بربري يعدون من أقدم سكان المنطقة، فنطقهم ولغتهم يظهران أنه لا وجود أي صلة لهؤلاء السكان لا مع المجتمعات ذات العرق السامي ولا بالمجتمعات  الأوروبية، ليستخلص أنهم كانوا يشكلون سكان البربر في العصر الروماني.  ومن هنا يرى كنال J. Canal أن هذا الطرح متناقض مع ما هو ملاحظ في المنطقة ومع كل الطروحات المتقدمة من طرف العديد من الملاحظين.

ونظرًا للجانب العقائدي للولي سيدُنا يوشع وكل الأساطير المرتبطة بهذا الولي، يرى بعض الدارسين للمنطقة أن أصل أهل المنطقة هم يهود أسلموا، كما تطرح بعض الفروض على أساس أن هؤلاء السكان، قبل مجيء الإسلام، تحولوا إلى مسيحيين إبان العصر الروماني.

يستعين جوزاف كنال    J. Canalبالملاحظة التي يقيمها لوصف ملامح الوجه للأنواع البشرية القاطنة بهذه المنطقة. ولإبراز هذا الطرح يواصل كنالJ. Canal.  الاستشهاد بأسماء بعض الأولياء الصالحين المتواجدين بالمنطقة كسيدي موسى، سيدي نون، سيدنا يوشع، سيدي إبراهيم، سيدي عسيى….وكذا أسماء بعض القرى المتواجدة في نفس المنطقة كقرية أولاد داود، أولاد إيشوا، أولاد هارون[2].

ويواصل كنال J. Canal الاستشهاد بأبحاث ميدانية قام بها باحثون عن طريق مقابلة عينة من السكان المحلّيين ليؤكد ويدعم فكرة أن العرب استطاعوا أن يفرضوا ديانتهم على السكان المحليين حيث لم يصبح يعرف المنتصر من المنهزم. فالدين الإسلامي استطاع أن يوّحد بين القبائل المتواجدة بالمنطقة. فحسب كنال J.Canal: “فسبب الاستعمار الروماني وهجوم العرب وطرد المسلمين من إسبانيا، أدخلت شيئا فشيئا عناصر غريبة بالنسبة للسكان المحليين” [3].

وللاقتراب من خصائص الإنسان التراري، قام كنال J. Canal بإعطاء وصفا دقيقا لأسلوب حياة هؤلاء الأفراد. فالتراري هو ذلك الإنسان الراجل والجبلي الذي يمتاز ببنيته القوية والمتشبث بالأرض وخدمتها. فلا يقوم التراري ببيع أرضه إلا في حالات قصوى. يقدم كنال J. Canal سكان طرارة على أنهم يمتازون بالاستقرار ويعيشون في بيوت مبنية بالطين. يسكنون في أعالي الجبال وهذا للدفاع عن أنفسهم. ويزرعون السهول والتي تنعت بالعزيب (المكان الذي ينتقل إليه السكان في مواسم الحصاد والرعي) فعادة ما تكون هذه المناطق محل نزاع بين القبائل[4] إلا أن هذه المناطق قد تم تعميرها من طرف مالكها هذا بعد توفير الأمن من طرف السلطات الفرنسية، فشيدت منازل في هذا السهول دون هجر تام لمنازل المتواجدة في الجبال.

كما يقدم كنال J. Canal وصفا للمرأة الترارية على أنها تقوم بأعمال مماثلة للمرأة الريفية بفرنسا، تقطع مسافة طويلة بحثا عن الماء و الحطب، تخرج عارية الوجه، وتزرع الحقول وتربي الحيوانات، وتقوم بالحصاد إلى جنب الرجل. أما الشباب فينتقلون إلى مدن داخلية بحثا عن العمل ليرجعوا بعض الحصول على أموال قد تفيد العائلة في حياتها بالمناطق الريفية.

ويواصل كنال J. Canal تقديمه للمنطقة ليبرز أهم الصناعات التي تنتج والتي تعتمد على نوع من الخبرة العملية un savoir faire، وكذا استعمال المواد الأولية من الطين والخشب والدوم لتصنع أدوات ومستلزمات تلبي حاجيات الإنسان التراري وتوجه المنتجات الزائدة لتباع في السوق. أما الفلاحة تعتبر مصدر رزق أغلب سكان منطقة طرارة والذين يهتمون بزراعة الشعير والقمح والأشجار المثمرة من تين ولوز،  الخ. وأهم الأدوات المستعملة في زراعة الأرض هو المحراث العربي.

ومن أجل زراعة هذه الحقول يرجع مالكي الحقول إلى تشغيل بعض الفلاحين على أن تقدم لهم جزء من المحصول مقابل العمل المبذول، أو يتم تقديمها إلى الخماس الذي يعمل في الأرض ويؤخذ خمس الناتج الزراعي. أما العاملون في مواسم الحرث والحصاد فتقدم لهم أجور في نهاية العمل على أساس أن التفاوض حول العمل والأجور يتم مناقشتهما يوميا. “في مدينة ندرومة، تتم العمليات الخاصة بتوظيف العمال اليوميين في الساحات والطرقات العمومية، أين يلتقي الموظفين والعمال اليوميين منذ طلوع الفجر”[5]

ونظرا لاستقرار السكان بهذه المنطقة يركز كنال J.Canal على الممارسات الدينية منذ العصور الأولى فقد مورس الدين اليهودي والمسيحي ليأتي الإسلام لتتقبله قبائل طرارة ولينتشر مع الدولة الموحدية.  فانتشرت  زوايا عديدة لتصل سبع زوايا وهي  الزاوية القادرية،  العيساوية، الكرزازية،  الطيبية، الشاذلية، السنوسية، والزيانية. وهكذا فكل القرى أصبحت تملك مساجد  فندرومة عاصمة طرارة كانت تتواجد بها 10 مساجد.

2.1طرارة  من  خلال  دراسات  أخرى:

لقد تم نشر دراسات أخرى في مجلة الجغرافيين والأركيولوجيين لمنطقة وهران من قبل مهتمين بالمنطقة ومن بينهم   [6]Emile Janier   و    [7]Robert Tinthoin. فالعمل الذي  قدمه جانيه حاول من خلاله أن يقدم  دراسة إثنوغرافية وهذا للبحث عن بقايا الثقافة البربرية بالمنطقة. لقد إعترف جاني Emile Janier بعدم قدرته على الإجابة على كل المشاكل المطروحة للدراسة على أساس غياب دراسات سوسيولوجية للمنطقة ومن هنا يقول جاني Emile Janier : “قد أعجبنا بماضي  المنطقة أكثر من حاضرها”[8]

قسم جاني Emile Janier عمله إلى أربع محاور وهي: دراسة أهم الحوادث التي يمكن أن تشكل ذاكرة المنطقة ، الدلالات ومعنى الأسماء التي أعطيت للمنطقة عبر تاريخ  المنطقة، ما هي الأمور التي يجب معرفتها لفهم تاريخ المنطقة وأخيرا ما هي الأساطير الخاصة بالسلطان الأسود المتداولة بين سكان المنطقة.

أما تنتوان Tinthoin,  فقد لا يختلف عمله عن العمل الذي قدمه جوزاف كنال J.Canal ، فقد استطاع أن يؤكد ما جاء به هذا الأخير في مسألة أن بالمنطقة هناك نوع من استقرار السكان وأن تواجدهم بهذه المنطقة قد يرجع إلى بداية القرن الحادي عشر ويعتمد تانتوان على المؤرخين العرب وخاصة البكري لإظهار أن السكان  شكلوا تجمعات صغيرة بطرارة أقاموا بها منازل ومساجد منتصبة في وسط الحقول الضيقة بندرومة وتونت (الغزوات) وميناء هنين والقرية الكبيرة ترنانة بمنطقة جبالة.

يرى تنتوان Tinthoin,  أن في سنة 1839 قام الإداريون لمكاتب العرب بتعداد مائة قرية بطرارة ليشكلوا قبيلة ب4000 منزل منتصبة في الجبال. فيشبه تنتوان Tinthoin,   هذه القرى بتلك الموجودة بجرجرة في القبائل أو الأطلس البليدي أو الظهرة أو بني سنوس[9].

كما يقدم تنتوان Tinthoin,  وصفا مماثلا لذلك الوصف المقدم من طرف جوزاف كنال J.Canal ،على أن للإنسان الطراري ارتباط شديد بالأرض والعمل  الفلاحي ، والرعي،  والحياة القروية, وأن له نوع من المعرفة في التعامل مع  الماء وصناعة الأدوات اللازمة للحياة اليومية. ويقوم تنتوان Tinthoin,  عن طريق عمله هذا بحصر ووصف أهم الحرف المنتشرة بمنطقة طرارة وندرومة ليبين الخصوصية الثقافية  والحرفية للمنطقة. كما يقوم بإظهار دور السلطات الفرنسية في تحديث المنطقة عن طريق بناء مدارس بالمنطقة ليصل عدد التلاميذ المسجلين سنة 1938 إلى 800 تلميذ.[10] وكذلك لانتشار نوع من المناطق الحضرية لتصبح ندرومة لها صبغة مدينة إسلامية و الغزوات مدينة أوروبية بميناء أصبح مركز تموين المدن الداخلية كمدن وجدة، تلمسان ومغنية

3.1- نمور ( جامع غزوات ): دراسة مونوغرافية

قام لبدور Francis Llabador  بدراسة مونوغرافية لمدينة الغزوات[11] مدعمة بصور من الواقع  معتمداً عن تجربته البيوغرافية والمكانة الاجتماعية التي كانت تمتاز بها عائلته، نظرًا للمراكز التي مر بها والده الذي كان حاملا لشهادة الليسانس في الحقوق ومراسلا لجريدة  l’écho d’oran ثم رئيس بلدية الغزوات سنة 1939.

إن العمل الذي قام به لبدور Francis Llabador يعتبر بحق عملا علمياً استطاع من خلاله أن يمس كل جوانب الحياة بمدينة الغزوات، من دراسة البيئة، الحياة الاجتماعية والممارسات الدينية بالمنطقة والمعتقدات كما عالج المسار التاريخي للمدينة. فقد يعد عملا إثنوغرافياً وأنثروبولوجياً لمدينة عرفت مرور عدة شعوب وإثنيات من البربر والرومان، واليهود،والعرب حتى مجيء الفرنسيين لتمتزج وتشكل عناصر ثقافية جديدة جعلت المنطقة  تعرف فوارق ثقافية ولغوية بينها وبين السكان القاطنين في مدينة ندرومة والتي لا تبعد عن مدينة الغزوات إلا ببعض الكيلومترات ما يعادل 18 كلم.

حاول لبدور Francis Llabador الكشف عن تاريخ المنطقة وخصوصياتها الاجتماعية والثقافية. فيعترف أن هذا العمل ليس بالسهل وإنما تطلب منه زيارة العديد من المكتبات في العاصمة و وهران وكذا مصالح الأرشيف بوهران وكل الوثائق المتعلقة بالمدينة والمتواجدة في البلدية. كما استعان بالجرائد الرسمية والمنشورات الخاصة بالحكومة. وفضّل الاعتماد على قصص المؤرخين والعسكرين الذين مروا بالمدينة. بالإضافة إلى هذه الأساليب المنهجية في دراسة المنطقة، اعتمد على الملاحظة المباشرة للمجتمع الذي ينتمي إليه وأخذ صور من الواقع.

ويعترف لبدور Francis Llabador بكل المساعدات التي قدمت له من طرف مجتمع البحث وكذا التشجيعات التي تلقاها من طرف Alfred Bell ، والملاحظات المقدمة من طرف    Robert Tinthoin بصفته رئيس مصلحة الأرشيف بوهران.

من بين المسائل التي عالجها لبدور Francis Llabador التاريخ السياسي لمدينة الغزوات حيث يشير إلى أن أو انتخاب للمجلس البلدي تمّ يوم 02ماي 1869 ،وبمشاركة السكان المحليين في إدارة هذا المجلس البلدي. كما عرف عدد الممثلين للسكان المحلّيين في المجالس البلدية تطوراً مع مرور الزمن.

أما التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها المنطقة فعالجها لبدور    Francis Llabador  ليبرز تلك المميزات الديموغرفيا الناتجة عن تعمير المنطقة وتحضرها عن طريق بناء مرافق إدارية وهياكل تجارية ومصالح خاصة بالنشاط المهني التجاري للميناء. كما شيدت مدارس لتعليم الأطفال، فأول مدرسة للذكور بنيت في ديسمبر من سنة 1849 ومدرسة للإناث في سنة 1850.

ومن النشاطات المهنية التي عرفتها المنطقة يركز لبدورFrancis Llabador على مهنة الصيد ودور الميناء في خلق فرص للعمل للسكان المحلّيين. وأن الصيد البحري استطاع أن يطور نوعاً من المعامل الخاصة بتصبير السمك والتي تزايد عددها مع مرور الزمن ولتصبح مركز لتشغيل العدد الهائل من النساء والأطفال.

الحياة الدينية المعتقدات والطقوس، كانت هي الأخرى حاضرة في عمل لبدور    Francis Llabadorليتطرق إلى ظهور الديانة الكاثوليكية وتنصيبها في يوم 26 فبراير 1847 وأنها تواجدت بالمدينة قبل بناء الكنيسة من طرف الدولة سنة 1865 –1867. أما الديانة الإسلامية فهي ممارسة من طرف السكان المحلّيين وأن هناك مساجد مبنية في كل أحياء المدينة، ويقدم لبدور Francis Llabador وصفا دقيقا لكل قاعات الصلاة والمساجد و الأدوار التي كانت تقوم بها هذه المساجد في تعليم الأطفال القرآن.

ثم يقدم لنا وصفا دقيقا ومدعما بصور لكل الأولياء الصالحين ومواقعهم والممارسات الدينية والاعتقادات المرتبطة بها. فحاول الكشف عن كل الطقوس الشعبية والخاصة في الممارسات التي تقوم بها النساء عند زيارة أضرحة الأولياء الصالحين وإعطاء نوع من التخصص لكل ولي صالح في معالجة مرض من بين الأمراض ، “فقد لعب الأولياء دوراً كبيراً في الحياة الخاصة وحتى السياسية للسكان المحليين” [12]

يرى لبدور    Francis Llabador أن بلدية الغزوات هي من بين أصغر البلديات مساحات فيها ثلاثة أولياء صالحين لهم قبب مصبوغة بالبياض جدّ جذابة للسواح. ويعطي تفسير لغوي لكل التسميات الخاصة بكل مواقع هؤلاء الأولياء الصالحين من القبة، الحويطة، الحوش، البيت الضريح، المرابط، الزاوية، المقام…

2 النشاطات الاقتصادية بمنطقة طرارة:

لقد أفادتنا الدراسات التي قام بها الباحثون الأوروبيون للمنطقة في أخذ فكرة عن النشاطات التي عرفت بها المنطقة. فطبيعة التضاريس التي تمتاز بها هذه المنطقة، جعلتها منطقة تصعب فيها الحياة، نظراً لعدم خصوبة الأرض الفلاحية وتقلص المساحات الزراعية. فكانت هذه المنطقة، مثلها مثل المناطق الجبلية الأخرى في الجزائر، مصدر هجرة الآلاف من الأفراد نحو أوروبا وخاصة فرنسا. وذلك من أجل البحث عن رزق مستقر ومستوى معيشي أرقى. بينما ظلت العائلات الماكثة بالمنطقة تصارع الحياة لتقوم بزراعة مساحات زراعية صغيرة باستعمال وسائل عمل جد بسيطة، كما كانت للحرف التقليدية دوراً في كسب الرزق لفئات اجتماعية أخرى.

تتمثل الحرف التقليدية في تلك الصنائع التي كانت تقوم بها العائلة الطرارية والتي وجدت مادتها الأولية من المحيط التي تعيش فيه. فتصنع أدوات منزلية من الخشب والطين، كما تقوم بنسج الألحفة باستعمال مادة الصوف، وتنتج منتجات من استغلال المواد الغابية مثل الدوم والحلفاء. فكل هذه المنتجات كانت تهدف من ورائها العائلة الطرارية الحصول على قيمة مالية عن طريق تسويقها في الأسواق المجاورة.

كما أن تلك الحياة الريفية التي كانت تمتاز بها المنطقة، والتي كانت عادة ما تحتاج إلى بعض مستلزمات الحياة من أفرشة وملابس أو العمل على تجديد وسائل الإنتاج الصالحة للأعمال الزراعية وتربية المواشي، عملت على تطور نوع من الصناعات التقليدية بمدينة ندرومة·. فعرفت مدينة ندرومة بتطور نوع من الصناعات التقليدية التي تستطيع أن تُموّن العالم القروي. إلا أن تصنيع المنطقة عمل على الحد من انتشار هذه الصناعات، فتمّ تنصيب مؤسستين صناعيتين بهذه المدينة، وهي مؤسسة تحويل الخشب، ومؤسسة النسيج (سنقوم بتحليل هذا الموضوع فيما بعد).

أما مدينة الغزوات، وكما سبقنا أن رأينا في الدراسات السابقة للمنطقة، فعرفت نوعاً من صناعات تصبير السمك، والتي انطفأت مع تنصيب مصنع الزنك والذي تمّ تنصيبه على أرضية مطلة على البحر كانت تأوي أكثر من أربع عشرة معمل لتصبير السمك. إلا أن حرفة الصيد البحري بمنطقة الغزوات ظلت وما زالت تعد من أهم الحرف التي استطاعت أن تبتلع عدداً كبيراً من الأيدي العاملة التي عانت من البطالة.

فالصيد البحري بمدينة الغزوات يعتبر إرثا اقتصادياً، مهنياً وثقافياً ورث عن المعمرين لتداوله الأجيال أب عن جد، كما يعتبر  الصيد البحري أحد القطاعات التي ساهمت في خلق مناصب شغل لعدد كبير من أفراد المنطقة.

سمحت العوامل الجغرافية للمنطقة أن تجعل من مدينة الغزوات فضاء لتطور نشاطات اقتصادية منذ السنوات الأولى من الاستيطان الفرنسي. فتم إنجاز ميناء لشحن السلع نحو الدول الأوروبية منذ السنوات الأولى من الاستعمار. فالدراسات المونوغرافية التي أنجزها المعمرون عن المنطقة ، تدل على الأهمية التجارية لهذا الميناء.


[1] لمزيد من الاطلاع حول التعداد  السكاني الخاص بمنطقة طرارة أنظر، الجدول رقم  4، في الملحق –أ-

[2] Cf. J. Canal, “Monographie de l’arrondissement de Tlemcen” in in Bulletin de la Société Géographique et Archéologique d’Oran, tome 7, 1887: p80

[3] ibid.

[4] ibid., p.83.

[5] ibid, p.90.

[6] Emile Janier, « Nemours et sa région » in B.S.G.A.O, n°227-228, 1949-1950 :1-41

[7] Robert Tinthoin, « Les Trara : etude d’une région musulmane d’Algérie », in Bulletin de la Société Géographique et Archéologique d’Oran, T. LXXIII, pp 217-309.

[8] Emile Janier, op.cit. p.2

[9] Robert Tinthoin,  op.cit. p241.

[10] Ibid, p.280.

[11] F. Llabador, Nemours  (Djemâa- Ghazaouet) : Monographie illustrée, la Typo-Litho et          Cârbonal,1948.

[12] Ibid, p.475

Exit mobile version