د.دروش فاطمة فضيلة
جامعة المسيلة ،الجزائر
رغم اختلاف ظاهرة العنف وتباين مظاهرها بين المجتمعات، إلا أن البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية، يمكننا من معرفة ورصد النواة المركزية لنشأة هذه الظاهرة وقياس درجة حدتها . هذه النواة من شأنها توفير الشروط الموضوعية لتفاقم الظاهرة وانتشارها واستمرارها. ومن ناحية أخرى، فان معرفة الأسباب تمكننا من وضع إستراتيجية عقلانية ، قابلة للتطبيق أي لوضع آليات الوقاية والحد من التداعيات السلبية والخطيرة .
وفي تحديد المفهوم ،نميز من المنطلق بين عنف الحياة وعنف الموت ،العنف من اجل الحياة منسق ،بنائي ،نضالي أما عنف الموت فهو هدام يؤدي إلى الانتحار ،القتل ،العنصرية ،الاغتصاب وسوء المعاملة.وتحمل الأساطير اليونانية القديمة هذه الدلالة فتقدس العنف من اجل الحب والحياة وتدين العنف الناتج عن الكراهية والأنانية.1
وقد ينطبق مفهوم العنف في صورته الايجابية مع بعض المواقف التي أوجد التاريخ فيها المجتمع الجزائري. ويعد التحليل السوسيولوجي لظاهرة العنف من التحليلات الأكثر قبولا.انطلاقا من المفهوم السوسيولوجي،إذ يعرف العنف باعتباره ظاهرة اجتماعية أي حتى وإن سلمنا بكونه غريزي عند الإنسان إلا أنه على خلاف ما هو عند الحيوان، فهو مهذب ومصقول اجتماعيا.ومنه فان علم الاجتماع يؤكد على كون التربية والثقافة وكذلك العلاقات الاجتماعية السياسية تلعب دورا هاما في جعل بعض الأفراد أو الشعوب أكثر ميلا إلى استخدام العنف من غيرهم.ومثاله الولايات المتحدة الأمريكية أين ترتفع درجات استخدام العنف، إذ تشير الإحصائيات أنه مابين 1979ـ 1991سجلت 50000جريمة قتل عمدي بالسلاح . وتنتشر الظاهرة في الأوساط التربوية إلى درجة لجوء الإدارات وضع أجهزة مراقبة الأسلحة في المدارس. وتفسر هده الظاهرة إلى طبيعة نشأة الولايات المتحدة والتي نشأت بعد حروب ضد الهنود ثم الاصطدامات بين الفلاحين والموالين ثم بين الشمال والجنوب ،وبين البيض والسود 2 . ومع ذلك يفسر علماء الاجتماع في أمريكا ،العنف بالعوامل المادية كارتفاع معدلات الفقر والعوزويرتبط مباشرة بالأوساط الهامشية أكثر من ارتباطه بالعامل البنائي وهذا ما تؤكده التحقيقات الميدانية .
وتجعلنا بعض الأطروحات اليوم نعتقد بتماثل الوضع بين الجزائر والولايات المتحدة، فمن التفسيرات ما يبعث إلى الاعتقاد بأن العنف أصبح يشكل سمة من سمات البناء الاجتماعي.
وقد أعاد الباحثين فتح ملف قضية سمة العنف لدى الجزائري ،بالرجوع إلى بداية الثلاثينيات ومدرسة الأطباء النفسانيين تحت إشراف الدكتور” أنطوان بورو” الذي وجه كل اهتماماته إلى إثبات جنوح الجزائري بدرجة عالية إلى العنف والعدوانية .
ومن هذا المنطلق تطرح السوسيولوجيا التساؤل التالي: هل العنف وإقصاء الآخر دون هوادة عامل من العوامل المؤسسة للثقافة الجزائرية ،أي بمعنى آخر هل الجزائريون يجنحون إلى العنف أكثر من الحوار العقلاني لتجاوز اختلافاتهم؟
وتبرر الأحداث شرعية هذا التساؤل، فالعنف حقيقة اجتماعية تعرفها كل المؤسسات:الأسرة، المدرسة، الجامعة، الملاعب ، الشارع.ومع ذلك نؤكد على العوامل الموضوعية التي أوجدت الظاهرة وجعلتها تبدو صفة ملازمة للمجتمع،وعليه نفضل طرح إشكالا يبدو أكثر موضوعية كأن نتساءل : ما الذي يميز ظاهرة العنف في الجزائر عن غيرها من المجتمعات؟ ما هي الميكانزمات أو الآليات التي تساهم في انتشاره وتزيد من حدته وتفاقمه ؟ لمناقشة هذا الإشكال سنستند إلى ثلاثة مصادر: سوسيولوجيا الجزائر،سوسيولوجيا العنف ثم الرواية كمرجع معرفي شرعي. ونفترض أن أهم العوامل التي تميز العنف في المجتمع الجزائري عن غيره والمرتبطة عضويا وآليا بصيرورة التحولات الاجتماعية التي عرفتها الجزائر ونلخصها في صنفين من العوامل : عوامل بنائية تكوينية وأخرى متعلقة بخيارات سياسية أثبتت نتائجها ،عدم نجاعتها .
العوامل البنائية التكوينية:ونعني به الخصوصية التاريخية ولا يعني ذلك ربط بروز العنف بلحظة تاريخية معينة بل ما تحمله لحظات متعاقبة من صفات تجعلها تترسخ وتطبع البناء. فخاصية التراكم تجعل الحدث يتحول إلى ظاهرة عمومية وتلقائية ومن ثم تعيد إنتاج نفسها.
ولعل أهم لحظة تاريخية طبعت البناء الاجتماعي وجعلته يسن قوانين لاستعمال العنف هي:
1 مرحلة الهيمنة الكولونيالية التي عملت على تجريد السكان من ممتلكاتهم وضربهم في هويتهم فما قساه الجزائري في هذه الحقبة الزمنية ،يعد حدثا منفردا من نوعه وهذا ماأكده أحد الضباط الفرنسيين” إن الحرب التي نقوم بها اليوم في الجزائر حرب استثنائية ،فلا تتبع فيها القواعد المقررة في الحروب الكبرى والصغرى والانضباط بين الجنود قليل والتكوين العسكري يكاد يكون مفقودا وكل ضابط يتصرف كما يريد ……خلال سنوات تحول الجيش إلى جيش جرار من جنود ليس لهم هدف سوى تدبير عمليات السلب والنهب وشن حملات الإرهاب.3
فالاستعمار الفرنسي استعمل كل الوسائل الردعية لإخضاع الشعب الجزائري ،لم يترك له الخيار فإما المقاومة وإما الفناء . نقرأ في رواية ابن هدوقة غدا يوم جميل” يبرر النائب العام محاكمة المساجين المتمردين :يطلب أن يصدر أحكاما بالأعمال الشاقة والنفي إلى كيان عقابا لهؤلاء العصاة وردعا لمن تحدثه نفسه بالخروج عن القانون .” “فرنسا لا ترحم السجون كلها مفتوحة …كل يوم تفتح مراكز جديدة ومحاجر جديدة .”4
يفسر عالم الاجتماع التونسي المنصف الوناس الذي يؤكد على مرجعية العنف في الجزائر إلى طبيعة الاحتلال الفرنسي في قوله أن العلاقة التي سادت بين الدولة والمجتمع في الجزائر منذ ما يناهز القرنين اتسمت بطابع عطائي متبادل امتد طوال مئة وثلاثين سنة من الاستعمار الفرنسي المباشر وثلاثين سنة من عمر الدولة والمجتمع و يؤكد على أنه عنف مخطط ومنظم يندرج في إطار علاقة الفعل والفعل المضاد. مما جعل العنف يطبع البناء الاجتماعي كسمة ملازمة.5
وعليه و انطلاقا من المفهوم السوسيولوجي الذي اعتمدناه ،نقول أن الجزائري كأي إنسان تستيقظ فيه غريزة العنف كوسيلة للدفاع عن الذات من أجل البقاء في مواجهة الخطر.ومن ناحية أخرى فان مواجهة الخطر بالمقاومة والتمسك بالأرض يعد حالة صحية وليست بالمرضية .
2العامل الثاني يتمثل في صعوبة المحيط (المناخ والتضاريس) وهنا إشارة إلى سكان الجبال والأرياف الذين يشكلون الأغلبية مقارنة مع سكان المدن.وهذا العامل كذلك لا يخص الجزائر لوحدها بل يفسره القانون الاجتماعي القائل بتأثير البيئة على الفرد والجماعة .وهذا ما استخلصه عبد الرحمن ابن خلدون عندما قارن بين الحضر والبدو “وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع…وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم ،لا يكلونها إلى سواهم ..فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق …قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ .6″
ويدعم هذا القانون ما تم إدراكه في العامل الأول من استعداد دائم للمواجهة والمقاومة عند الشعور بالخطر. وفي المناطق الجبلية يجابه السكان الأخطار الطبيعية كالفياضانات والزلازل” فالوادي الذي يشثق البلدة الى نصفين كل سنة ،يهدد أهلها ولا يمتلكون إزاءه غير رفع الأيدي الى السماء ” هدا الوضع يؤدي بالأفراد الى التنازع حول أبسط الأشياء.” المساكين يتقاتلون وذلك لأتفه الأسباب …الماء احتكره فلان ،أغنام فلان أكلت قمحي ” . 7
3 العامل الثالث يتمثل في صلابة النظام الاجتماعي التقليدي :
إن ما يميز المجتمع التقليدي صلابة بنياته وقوة مؤسساته بحيث يبدو وكأن الفرد غير موجود أو أن وجوده مقيد بالأعراف والتقاليد والتصورات التي يفرضها المجتمع.وهذا ما يجعل المجتمع يتحرك وفق آليتين ،الآليات السوسيولوجية القوية المتحكمة في الأفراد والتي تعود في جزء كبير منها إلى البنيات الاجتماعية العتيقة في مجتمعات بطيئة التطور والآليات الثقافية الموضوعية المؤطرة للوعي الجماعي والفردي والتي تقوم بدورها بتصليب البنيات التقليدية وتزوديها بطاقة مقاومة عوامل التغيير .وهاتان الآليتان متفاعلتان وتسند كل منهما الأخرى في اتجاه إعاقة إمكانات الانبثاق التلقائي للفرد ككيان حر ومستقل وفاعل .
البنيات الاجتماعية التقليدية المؤطرة للفرد في مجتمع تقليدي في طور التحول هي بنيات القرابة وما يرتبط بها من علاقات ومواقع (التراتب والخضوع )والبنيات القبلية بتصنيفاتها ومواقعها من الثروة والقوة والنفوذ والبنيات الدينية (المدنس والمقدس). 8
و يستثني عالم الاجتماع التونسي نجيب بوطالب في دراسته حول القبيلة في المغرب العربي الجزائرمن تأثيرات المعطى القبلي لكون شبكة علاقاته قد تمزقت بفعل الاستعمار في قوله أن أغلبية الأحداث السياسية والعسكرية والدينية التي تطبع الصراعات في بلدان الجنوب تحركها نوازع ما تحت وطنية كالقبيلة والاثنية والطائفية . ولكن يستثني الجزائر من هذا القانون الاجتماعي في قوله” إذا كان المغرب يتميز بثقل الحضور القبلي مما جعله يمثل مخبرا قبليا فان الجزائر لم تبنى على هذا المعطى لما حدث للمجتمع الجزائري من تدمير سوسيولوجي بفعل عمليات الاحتلال والاستيطان.إن عمليات التحطيم العنيف للبنى الاجتماعية في الجزائر خلال فترة الاحتلال سعيا إلى اختراق النسيج الاجتماعي ،أدت إلى ردات فعل عنيفة .9
إن النظام القبلي والمجتمع التقليدي قد يقلل من قابلية الفرد للممارسة العنف لما يمكن أن يقدمه له من حماية وشعور بالانتماء ولكن من ناحية أخرى يؤدي هذا الانتماء والاندماج داخل الجماعة إلى استعمال العنف المقنن المنظم كما رأيناه في العامل الأول أي حين عند الحاجة أي أو إذا جاء الخطر من خارج العشيرة .
وليس المجتمع التقليدي وحده عرضة للمخاطرة بل يشير عالم الاجتماع الألماني ألريك باك ulrich beck إلى كون المجتمعات ما بعد الحداثة أي الغربية تعاني من إخطار عديدة لايمكن تفاديها و يصيغ معادلة المخاطرة في المجتمع ما بعد الحداثة كما يلي :الافتقاد منظم والضبابية ديمقراطية la pénurie est hiérarchique,le smog est démocratique
ينجم عن هده المعادلة نتائج خطيرة على مستوى الغذاء، الصحة والبيئة.بالاضافة الى احداث فراغ سياسي واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية .10
ولكن لا يختلف اثنان في كون الدين يشكل العمود الفقري في المجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات التقليدية .وقد استند عليه لتفعيل لحظات تاريخية عديدة. وباعتباره النخاع في العمود فقد أوشك استغلاله في سنوات التسعينيات أن ينسف بوجود المجتمع.فابسم الدين أعلنت حربا راح ضحيتها الآلاف ودمرت المؤسسات الاقتصادية وشلت جميع القطاعات. ويكشف كل من الروائي طاهر وطار وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي في كتاباتهم الروائية أن الدين وحده النواة الرئيسية في ثقافة هذا المجتمع ولذلك فكل من يريد السيطرة عليه يمسه في دينه .”ان الشعب الجزائري لا سلاح ثقافي له سوى دينه “.11
أما عالم الاجتماع صلاح فيلالي فيشير إلى استثماره من طرف جبهة التحرير الوطني والتي استعملت الإسلام كوسيلة لربح التأييد الشعبي الواسع واستغلته بطريقتين ،استغلته قصد تجنيد الجماهير ضد الاستعمار الفرنسي من جهة وعزل الأحزاب أو الحركات الوطنية التي رفضت الالتحاق بالثورة عن الجماهير من جهة أخرى .12
4العامل الرابع متصل ومنبثق عن النظام التقليدي ونقصد به النظام الأبيسي وشبكة علاقاته المبنية على قانون الشرف ،الاعتزاز والمفاخرة وتفضيل شجاعة البدن على الذكاء والثقافة. هذه العوامل من شأنها أن تغذي الاستعداد إلى استعمال وشيوع العنف في المجتمع الجزائري.هده الخاصية تمتاز بها كل المجتمعات التي تحافظ على بنياتها التقليدية وبالدرجة الأولى المجتمعات العربية والتي توصف بأنها مجتمعات السلطة الأبوية المتمسكة بقيم وعادات وتقاليد السلطة الذكورية وإلغاء وجود الآخر .إن إلغاء الآخر أي من هو خارج حدود العشيرة والقبيلة هو ما يفسر المثل الشعبي : أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب.
ويطلق الباحث سليمان مظهر على حركية هذا النظام مفهوم العنف الرمزي .فمعطيات عديدة تشهد أن العنف الرمزي خاصية سوسيولوجية في الجزائر،في الوسط العائلي ،المؤسساتي والسياسي.ويذكر سيلمان مظهر أمثلة عديدة تدل على انتشار اللاتسامح واللاتجانس في البيئة الاجتماعية على كل المستويات. 13
بدل التجديد والإبداع والخلق يعمل المجتمع على إعادة إنتاج عناصره التقليدية ،ليبقى المجتمع محافظا على صيرورته .فمنذ الاحتلال ،تشكلت الجماعة والعشيرة لمجابهة العدو ثم ظهرت كنوع من المجموعات المتحالفة وتستمر في الحضور في شكل جديد محافظة على وظائفها مما يفسرظاهرة الجهوية والزبونية و التي تستمد قوتها وفعاليتها من المؤسسات الحديثة التي أسسها الاستعمار بعد 1830 كالوزارات والإدارات والمستشفيات والمدارس.
هذا النمط المعيشي منسق ابتداء من العائلة وشبكة العلاقات وهو يعمل على تأدية دور نفسي اجتماعي.فالفرد عاجز عن مواجهة المشاكل والتحكم في الصعوبات التي تربك حياته اليومية وهو عاجز عن خلق قوة التجديد لعدم تمكنه من الحصول على الوسائل الضرورية لإرضاء حاجياته ومن ثم يندمج في الجماعة التي تمكنه من قضاء مصالحه ولكنها بدورها تدخله في دائرتها وتحاصره بقيمها الثقافية والدينية وتربطه بشبكة علائقية محكمة .ومنه فان العنف البيئي يتمثل في إحداث وإعادة إنتاج الاعتماد والانتماء وتصبح هده العملية كآلية سوسيولوجية في كل الأوساط ،الأسرة ،في العمل . ويصبح الأفراد يشاركون آليا في إنتاج مشاكلهم التي يعانون من جراءها. يتألمون ويعون ذلك ولكنهم عاجزين عن الخروج من الدائرة لأنهم يرفضون التعرف عليها. 14
وهذه الجدلية الذهنية المعقدة يمكن أن نفهمها باللجوء إلى لغة الرواية إذ يذكر واسيني الأعرج في رواية ذاكرة الماء، بعض الحالات المنغمسة في هذا النظام ،تشارك في سلبياته وتشتكي منه كحا