ذكرى جميل محمد حسين*
المًقدمـة :
ارتبط ظهور الدرس الانثروبولوجي في العراق تاريخيا بالدكتور شاكر مصطفى سليم الذي درس في جامعة لندن وحصل منها على درجة الدكتوراه عن اطروحته المعروفة (الجبايش) ويعد د. شاكر سليم أول من حاول تقريب هذا الحقل من الطلبة ومن عوام الناس أيضا حين ألقى سلسلة محاضرات جمعها فيما بعد تحت عنوان (محاضرات في الأنثروبولوجيا) ونشرها عام 1959 في بغداد.
على امتداد ستة قرون ظلت الانثروبولوجيا لصيقة بعلم الاجتماع سواء على مستوى التدريس او الكتابة التعريفية الا ان ذلك لم يمنع او يحول دون تطورها واتساع مجالات اهتمامها واقبال الطلبة على موضوعاتها فاصبح قسم الاجتماع في كلية الاداب / جامعة بغداد يوفر للطلبة فرصة الحصول على شهادة بمستويات البكلوريوس والماجستير والدكتوراه (الى ماقبل سنوات قليلة) بل ان قسما خاصا بالانثروبولوجيا انشئ بكلية الاداب بالجامعة المستنصرية وهو تطور لافت يعكس الاهمية التي حظي بها العلم ، على ان ذلك كله لم يكن يمضي على طريق من حرير لان العلم _اي علم _ لايمكن ان ينمو وان يتقدم ويثمر الا اذا وجد بيئة تتوفر فيها التسهيلات المناسبة وفي مقدمة ذلك المؤسسات والمراكز العلمية وفرص النشر ومنابر النقاش والحوار والمؤتمرات وغيرها ومن المؤسف القول ان علوم الانسان والمجتمع لم تجد في العراق مثل هذه البيئة وان اساتذة وطلبة هذه العلوم يغتربون عنها وترهقهم مشاعر العجز عن الابداع فيها.
في هذه الـدراسة نؤسس لقضيتين رئيستين :
أولهما : اننا في هذه المرحلة ، وفي ضوء مخرجات نصف القرن الذي مضى وعقد من هذا القرن مازلنا لم نفك الاشتباك بين الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع ، واذا كان ذلك بمثابة نتيجة فرضت على مسيرة العلمين ، فان هذه الدراسة تستند الى رؤية مفادها ان من غير العملي اقامة تمييز يجعل كلا من العلمين معزولا عن الاخر .
ثانيها : ان هناك اشكالات مهمة تواجه الانثروبولوجيا وينبغي النظر اليها بموضوعية وصراحة والعمل على ايجاد حلول مناسبة لها .
في سياق القضيتين المشار اليهما كان لابد من التدليل على ان القرابة بين العلمين هي تحصيل حاصل حتى في دول اخرى وان الاصرار على القطيعة التامة بينها هو نوع من الانتقائية ؟ التي لا تنسجم مع منطق العلم والعقلانية . ان وجود اقسام مستقلة للانثروبولوجيا قد يكون دليلا على نشاط اساتذتها لكنه بالتأكيد لايكفي وحده بل لابد من اثبات فرضية مفادها ان الانثروبولوجيا في العراق قد اصبح تعبير عن حاجة حقيقة للمجتمع العراقي في ضوء تحولاته الراهنة.
اولا – الانثروبولوجيا وجدل العناوين :
لكي يقدم الدكتور قيس النوري تصوراته عن مدارس الانثروبولوجيا فانه يرى ان بدايات هذا العلم ترجع الى هيرودوتس (484-429 ق.م) وهو مؤرخ يوناني سمي ابو التاريخ ويعد الاب الاول للأنثروبولوجيا ([1]). وفي كتابه عن طبيعة المجتمع البشري يقول ان : الانثروبولوجيا : هي كلمة اغريقية تعني (علم الانسان)، فالأنثروبولوجيا غير المنظمة ترجع الى عهد اليونانيين القدامى الذين نشطت رغبتهم في دراسة علم الأثار والاثنوغرافيا بحكم اتصالهم بالجماعات (الهمجية) و(البربرية)([2]).
يقول (الدكتور شاكر مصطفى سليم) ان الانثروبولوجيا تعرف تعريفات مختلفة وتوصف بأوصاف عديدة ويكاد كل كتاب انثروبولوجي ان يأتي بتعريف جديد . فهو (علم الانسان) و(علم الانسان وافعاله وسلوكه) و (علم الجماعات البشرية وانتاجاتها) و(علم الحضارات والجماعات البشرية) و(وعلم الانسان من حيث هو كائن طبيعي واجتماعي) وقد يوصف هذا العلم بانه (علم ما اهملته العلوم الاخرى)([3]). ان مثل هذه التعاريف لاتفضي الى اي عنوان محدد ، حتى حين نقرأ تعريفا لعالمة شهيرة في هذا الحقل وهي مارغريت ميد التي تقول : نحن نصف الخصائص الانسانية البايولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الازمان وفي سائر الاماكن ونحلل الصفات البايولوجية والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة كما نهتم بوصف وتحليل النظم الاجتماعية والتكنلوجية ونعنى ايضا ببحث الادراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته …. الخ([4]).
اقول حتى لو نظرنا وتأملنا في هذا التعريف سنجد انفسنا بأزاء حقل يفتقر الى الحدود الدنيا للوضوح والتميز. في بداية قاموسه المعروف عرف الدكتور شاكر مصطفى سليم الانثروبولوجيا تعريفا بسيطا يبدو انه كان محل رضا من بعض المتخصصين.
أذ يقول الدكتور سليم ان: الانثروبولوجيا علم دراسة الانسان طبيعيا واجتماعيا وحضاريا .
تتكون الانثروبولوجيا المعاصرة – من وجهة النظر البريطانية – من الانثرو- الطبيعية والانثروبولوجيا الاجتماعية التي تضم الانثرو الحضارية كفرع من فروعها والانثرو التطبيقية والأثنولوجيا ([5]).
يذهب اخرون ان التقصي المعجمي يظهر تقاطع – ان لم نقل تداخل – عدة مصطلحات : السوسيولوجيا، الاثنوغرافيا ، الاثنولوجيا ثم الانثروبولوجيا .
يذكر الدكتور حسين فهيم – تبعا للتقاطعات الواضحة بين الاثنولوجيا والاثنروغرافيا ان مايدرجه الامريكيون تحت عبارة الانثروبولوجيا الثقافية يصطلح الفرنسيون على الاشارة اليه بالاثنولوجيا او الاثنوغرافيا في بعض الاحيان وهم يدرسونها تحت مظلة علم الاجتماع.
اما الانكليز فقد اختاروا تسمية اخرى هي الانثروبولوجيا الاجتماعية ونظروا اليها بوصفها علما قائما بذاته .
يرى اخرون ان السوسيولوجيا تصبح تخصصا للاثنوغرافيا على حد تعبير ليفي شتراوس غير ان اخرين يعتقدون بان الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع يختلفون في مجال ابحاثهما فالأولى تدرس المجتمعات المتجانسة اما الثانية فتدرس المجتمعات المعقدة([6]) .
ماهي وجهة النظر السائدة في العراق ؟
من الاجابات الواضحة في الادبيات العراقية ما اورده الدكتور قيس النوري بالقول : تكاد العلوم الاجتماعية والانسانية تشترك في ظاهرة مركزية واحدة تتمثل في القلق التنظيري والمنهجي الذي يجعل اساليب البحث فيها غير مستقرة ومثيرة للجدل ومراعاة للانقسام ، فقد انقسم الباحثون منذ نصف قرن بين متعصب للتوجه الثقافي Cultural Approach كونه ضمن الامبريقية وموضوعية البحث بينما فضل اخرون التوجه الاجتماعي Social Approach الذي رأوا فيه ضمانة اكبر للسيطرة الميدانية ومع ذلك فان النوري اذ ينتقد طريقة (الملاحظة بالمشاركة) كأداة لجمع البيانات في الدراسات الحقلية يلجأ الى عالم الاجتماع الفرنسي بييربورديو الذي انتقد المنهجية الأثنوغرافية من خلال مهاجمة تعبير الملاحظة بالمشاركة وما يصحبه من ايحاءات نرجسية طموحة وغير واقعية مما دعاه الى طرح مفهوم (الموضوعاتية بالمشاركة) منتهيا الى ان بورديو شدد على وحدة الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع داعيا الى تسوية وموائمة وجهات نظرهما واهدافهما المركزية كما اثنى بورديو على اعمال ليفي شتراوس داعما النموذج البنيوي المعدل الذي طرحه بديلا عن الرؤى الشكلية الجامدة للبنيويين الكلاسيكيين البريطانيين فضلا عن دور شتراوس في دفع الفرنسيين الى التخلي عن مصطلح اثنولوجي وتبني مصطلح انثروبولوجي بديلا عنه([7]). غير ان الدكتور متعب مناف يبدو في حال تفضيل لثنائية الانثروبولوجيا / الاثنولوجي مع انه في الوقت ذاته يشير الى ان دراسات الانثروبولوجيين – الاثنولوجيين اثرت في نظرائهم اذ اقتربت الاثنولوجيا التي لم تقف عند حدود دراسة المجتمعات المختلفة / التأريخية الى دراسة ( اثنو انثروبولوجيا ) او في الأقل ثقافية انثروبولوجية ويرى الدكتور مناف ان الدراسات الانثروبولوجية تدخل في نزاع مع السوسيو لوجيا حين يتعلق الامر بدراسة المجتمعات المصنعة([8]). بالمقابل كان الدكتور شاكر مصطفى سليم يستخدم مصطلح الانثروبولوجيا بالترادف مع مصطلح الاثنولوجيا حين يشير الى الحاجة الملحة الى القيام بكثير من الدراسات الانثروبولوجية لان بلدنا يزخر بعدد كبير من المجتمعات والشعوب المتأخرة([9]).
كل ما تقدم يظهر حقائق جلية لعل أهمها :
ان الادبيات الانثروبولوجية تظهر تداخلا معقدا بين المصطلحات ويبدو من خلال مراجعة تلك الادبيات ان تقاليد كل بلد (بريطانيا و امريكا مثلا) رسخت توجهات معرفية معينة قد لاتتطابق مع توجهات – البلد آلاخر ، على سبيل المثال ان الانثروبولوجيا الاجتماعية وتحت تأثير رادكيف براون حاولت ان تكون علم اجتماع مقارن تدخل ضمن مجالاتها الاثنولوجيا وعلم الاجتماع بوصفهما مجالين معرفيين اساسيين . وفي فرنسا فان الانثروبولوجيا الاجتماعية والاثنولوجيا اصبحتا مرادفين لأثنولوجيا المدينة واثنولوجية الريف وفي بعض الجامعات الامريكية هناك رفض لهذا التقسيم مع التأكيد من قبل هذه الجامعات على ان الانثروبولوجيا الاجتماعية تدرس المجتمع من خلال وظائفه الحيوية ومن خلال نزاعاته وصراعاته وتغيراته وقد وضعت هذه الجامعات كذلك تمييزا بين الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية مؤكدة على ان الاخيرة تهتم بالأعمال الابداعية والفنية وكذلك بالرموز كالأساطير والطقوس الدينية و التقسيم الطبقي و الايديولوجيات([10]).
اننا في اي مراجعة لهذه الادبيات نجد ان كبار اساتذة العلم يركزون على الصلة الوحيدة بين الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع . وفي اعتقادنا ان التجربة الاجتماعية للإنسان وتكوينه البايولوجي تقود علوم الانسان والمجتمع ( الانثروبولوجيا – علم الاجتماع – علم النفس – البايولوجي خاصة) الى مدخل منهجي ومعرفي مركب ومتكامل .
ثانيا – المرجعيات العلمية للانثروبولوجيا في العراق:
1-في التاريخ :
من مقولات علم اجتماع المعرفة ان المجتمع الانساني هو البيئة التي تظهر وتنمو فيها الافكار المختلفة ايا كان قربها او بعدها عن العلم اذ من الصعب احيانا ان تفض التداخل المعقد بين العلم واللاعلم او بين العلم والفلسفة. واذا كان هناك ثمة ربط بين العلم والابستمولوجيا والتاريخ فان هناك ايضا ربط بينهما وبين التحليل اللغوي والسايكلوجي والسوسيولوجي والانثروبولوجي([11]). في العراق نلاحظ هذا التداخل بين عدد من علوم الانسان والمجتمع في لحظة تأريخية فارقة تجسدت في العقد الخامس من القرن الماضي وهي لحظة تقع خارج المفهوم العرضي للصدفة لتعبر عن واقع معين سادت مؤشراته في العراق آنذاك وليس من المبالغة التأكيد على ان تلك العلوم وخاصة السوسيولوجيا والانثروبولوجيا كانت بمثابة مخرجات لتحولات عميقة شهدها المجتمع العراقي أفضت حتى الى تغيير النظام السياسي عام 1958.
بدأ أول تداخل بين عدد من علوم الانسان والمجتمع ومنها الانثروبولوجيا في البدايات الاولى لعقد الخمسينيات اذ صدر عام 1950 كتاب في علم الاجتماع تضمن فصولآ انثروبولوجية عديدة منها على سبيل المثال : نظرية الجنس وتعدد الاجناس وتصنيفها والجنس والحضارة والتطور الاجتماعي فضلا عن فصول عن الحضارة . والحضارة والتقدم وغيرها([12]) ، وما ان عاد الرعيل الاول من الطلبة الذين تلقوا علومهم في أمريكا وبريطانيا حتى شهد العراق إزدهاراً في ادبيات العلوم الاجتماعية تمثلت بأول خطاب سوسيولوجي قدمه الدكتور علي الوردي عن شخصية الفرد العراقي سنة 1951 . عُين الوردي في كلية الآداب سنة 1950 و غالبا ما يرتبط تأسيس قسم الاجتماع والانثروبولوجيا باسمه وبجهوده. كان الدكتور علي الوردي مهتما بالجانب الميداني قدر إهتمامه بالجانب النظري ويمكن القول انه كان انثروبولوجيا بقدر ما كان سوسيولوجيا وقد عمل على تنويع التخصصات مقترحا ان يكون قسم/علم الاجتماع من ثلاثة فروع لم تكتمل حينها، بل اكتملت فيما بعد ، وهي فروع الاجتماع والخدمة الاجتماعية ثم الانثروبولوجيا . لقد أراد الوردي بالخدمة الاجتماعية وضع نواة لفروعها الثلاث (خدمة الفرد وخدمة الجماعة وتنظيم المجتمع) فيما أراد بالانثروبولوجيا التأكيد على الدراسة الميدانية للمجتمعات المحلية الريفية والحضرية مع البحث لإيجاد حلول لمعالجة المشكلات([13]).
من المعلوم ان كلية الملكة عالية كانت قد ضمت في مناهجها مادة علم الاجتماع منذ سنة 1948([14]). بل ان اياد القزاز يذكر ان علم الاجتماع درس بصورة غير منتظمة منذ سنة 1920و1930 و 1940.
ان بين الكتب التي ترجمت كتاب ماكيفر المعروف ( المجتمع المحلي ) عام 1930. ويرى القزاز ان العقد الخامس من القرن العشرين كان بمثابة نقطة تحول في نمو علم الاجتماع في العراق اذ ظهر كعلم مستقل ومتخصص .
نتيجة لعملية الدمج التي حدثت عام 1969 تم دمج علم الاجتماع بقسم الخدمة تحت اسم
(قسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية) . وحين يشير القزاز الى الانثروبولوجيا يذكر انه في مقالته يشير الى العلمين (الاجتماع والانثروبولوجيا) لأسباب نظرية وعملية. عمليا لأنه هناك عدد اقل من الانثروبولوجيين* ونظريا لان التماثل بين العلمين يفوق في اهميته الاختلافات القائمة بينهما كما ان هذه الاختلافات غالبا ماتكون غير دقيقة .
على العموم – يضيف القزاز – يهتمان بنفس المجموعة من المتغيرات المستقلة والبناء الاجتماعي والسلوك والتكيف الاجتماعي([15]) .
في عام 1955 تم تثبيت بدء التاريخ الرسمي للانثروبولوجيا في العراق اذ حصل الدكتور شاكر مصطفى سليم في ذلك العام على الدكتوراه من جامعة لندن عن اطروحته (سكان دلتا الفرات ) التي نشرت من قبل نفس الجامعة عام 1962 واصدرتها جامعة بغداد عام 1970 تحت عنوان (دراسة انثروبولوجية لقرية في اهوار العراق)([16]).
خلال فترة الستينيات كان هناك عالم الانثروبولوجيا العراقي الاستاذ الدكتور قيس النوري الذي حصل على الدكتوراه عام 1964 عن اطروحته ( الصراع والمثابرة : الاستيعاب الثقافي للعراقيين الكلدان) وهي دراسة ميدانية عن الكلدان الذين نزحوا من الموصل الى ديترويت([17]). ومن علماء الانثروبولوجيا الاخرين الذين كان لهم حضورهم في مسيرة هذا العلم الاستاذ الدكتور علاء الدين جاسم الذي حصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة عن اطروحته للماجستير (الراشدية) وهي ايضا دراسة ميدانية لقد سار علم الاجتماع والانثروبولوجيا في العراق على طريق واحد وطوال عقود من الزمن كان الدرس الانثروبولوجي متصلا بالدرس السوسيولوجي ، وعلى الصعيد المؤسسي كان هناك في قسم الاجتماع ذاته قسم للانثروبولوجيا واخر للخدمة الإجتماعية.
فيما ظل علم الاجتماع متداخلا مع الخدمة الاجتماعيه في كلية التربية للبنات. ومع ان قسما للانثروبولوجيا تأسس في الجامعة المستنصرية (كلية الاداب) فان معظم اساتذته تلقوا في الاصل تعليما سوسيولوجيا ومع غياب الدراسات الميدانية فان الطابع العام للدرس الانثروبولوجي يظل نظريا.
2- الهويــة :
هل الانثروبولوجيا في العراق على وجه الخصوص هوية تميزها عن علم الاجتماع ؟ اقصد بالهوية هنا ما يرادف النموذج المعرفي (ابرادايم) الذي يجعل حقلا علميا معينا مميزا بموضوعه ومناهجه ومضامينه المعرفية عن اي علم اخر مقارب له. في الماضي كان التمييز بسيطا وشائعا وهو ان الانثروبولوجيا تدرس المجتمعات البدائية او البسيطة فيما يدرس علم الاجتماع المجتمعات المعقدة.
يذكر بعض الباحثين البريطانيين والامريكان ان المناقشات المبكرة حول هذا الموضوع نجدها في كتابات رادكليف براون ( المنهج في الانثروبولوجيا الاجتماعية ) وان معظم الذين ناقشوا الفرق بينهما ركزوا على اهتمامات الحقلين ومناهج العمل اكثر مما ناقشوا الموضوعات النظرية فالأنثروبولوجيا الاجتماعية بالمقارنة مع علم الاجتماع ركزت على المجتمعات الصغيرة الامية باستخدام الملاحظة المركزة والمباشرة للسلوك الاجتماعي فيما استخدم علماء الاجتماع الاستبانات لدراسة عينات كما درسوا الوثائق المحلية([18]).
في العراق قام الانثروبولوجيون الرواد ( قيس النوري وعلاء الدين جاسم وقبلهما شاكر مصطفى سليم ) بدراسات ميدانية للحصول على درجاتهم العلمية لكنهم ما ان عادوا الى العراق حتى تراجع حماسهم الميداني واتجهوا نحو الدراسات النظرية .
إذا كان لأولئك الرواد حجة في ذلك فان لمن جاء بعدهم العتب ، الرواد وفروا لطلابهم المواد الدراسية التي يحتاجونها في قاعاتهم خاصة وان عددهم ( الرواد ) قليل بالمقارنة مع عدد أساتذه علم الاجتماع.
اليوم يحصل معظم طلبة الدراسات العليا – الماجستير – في الانثروبولوجيا على شهاداتهم بناءا على دراسات أجروها على قرى او مجتمعات محلية صغيرة – مع استثناءات قليلة – وفي الغالب يكون اولئك الطلبة من سكان تلك المجتمعات المحلية و بالتالي يعتقدون انهم بذلك يستوفون شروط الدراسة الحقلية .
صحيح ان ميزة الانتماء الى تلك المجتمعات تنطوي على تسهيلات كثيرة لعل في مقدمتها اللغة ومعرفة جانب من تاريخ المجتمع وتوزيع السلطة فيها ومؤسساته الرئيسة فان شبهة التأثير الذاتي تظل قائمة .
لذلك يلاحظ المتابع ان كثير من عناوين الأطاريح التي تصنف على انها (انثروبولوجية ) هي في الواقع اقرب الى السوسيولوجيا الى حد تبدو معه المسافة بين العلمين ضيقة جدا .
ان النقص في عدد اساتذة الانثروبولوجيا ادى في النهاية الى الغاء مرحلة الدكتوراه في هذا المجال منذ اكثر من ثلاث سنوات بل ويتفق كثيرون على ان بعض اساتذة الاجتماع مازالوا يوفرون لأساتذة الانثروبولوجيا بعض الدراسات والادبيات المهمة ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مساهمات الدكتورة لاهاي عبد الحسين والدكتور متعب مناف([19]). بل اننا – على صعيد التدريس نجد لأساتذة الاجتماع حضورا في الدرس الانثروبولوجي . وحين نراجع عناوين الأطاريح التي كتبت في قسم/علم الاجتماع نلاحظ ان عددا منها كان بأشراف اساتذة اجتماع ولايرجع ذلك الى قلة اساتذة الانثروبولوجيا فقط بل الى حقيقة ان العلمين متداخلين([20])، اذ ازداد عدد الانثروبولوجيين في الثمانينيات فكان هناك الدكتور خالد الجابري والدكتور مجيد عارف والدكتور قحطان الناصري وغيرهم .
ان الكلام عن هوية محددة لعلم الانثروبولوجيا في العراق يبدو شديد المبالغة وفي اعتقادنا ان ذلك يرجع الى اسباب عديدة اشرت الى بعضها ومنها ايضا ان اساتذة الانثروبولوجيا انفسهم لم يترددوافي تدريس علم الاجتماع بل انهم مثل الدكتور علاء الدين جاسم وصفوا انفسهم بعبارات مثل (مدرس الاجتماع والانثروبولوجيا) وكما اشرف اساتذة الاجتماع على أطاريح في مجال الانثروبولوجيا كان العكس واردا ايضا . من جانب اخر لا نجد في المنتج الانثروبولوجي العراقي كتابات يحاول اصحابها رسم ملامح الانثروبولوجيا ذات طابع يأخذ بالاعتبار خصوصية المجتمع العراقي او العربي او الاسلامي بل ان معظم المنتج الذي بين ايدينا هو قي الواقع ترجمات للأدبيات الغربية بالمقابل كان الدكتور علي الوردي ومنذ مطلع الستينيات – حين شارك في مؤتمر بالقاهرة عن ابن خلدون – قد دعا الى اقامة علم اجتماع عربي وهي دعوة اصبحت واضحة في الخطاب السوسيولوجي العربي في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين كما انها كانت شعارا ومفردة رئيسة في جدول اعمال العديد من المؤتمرات العربية([21]) ، واذا كان الاجتماعيون قد اسسوا جمعية لهم واصدروا مجلة باسمهم فان الانثروبولوجيين لم يكن لهم مثل هذا النشاط المهم الذي يمكن من خلاله بلورة رؤية انثروبولوجية ذات خصوصية ، ذلك لان العلم ليس مجرد ابحاث وترجمات بل هو ايضا ( مؤسسة اجتماعية ) ذات تنظيم و شبكة من القيم والمعايير.
ان ما نقوله عن الانثروبولوجيا لايحرر علم الاجتماع من الاعباء والمعوقات المذكورة ، فالعلم ابن بيئته وهو نتاج مايتاح له من فرص وإمكانات مادية وفنية، وعليه فان مأزق الانثروبولوجيا، هو الوجه الاخر لمأزق علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية ولذا فان على اساتذة العلمين مضاعفة جهودهم وخاصة بعد غياب وتقاعد معظم الرواد والجيل الذي تلاهم . غير ان علينا ايضا ان لانحمل هذا الجيل من الاساتذة والباحثين لوحدهم مسؤولية اي اخفاق اذ ان العوامل التي تؤثر على وضع العلوم الاجتماعيه تتراكم في العادة على مدى زمني طويل وتخلق عقبات لا يمكن تجاوزها بين عشية وضحاها فهي بحاجة الى جهود مستدامة قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد تبدا من التحديد الصريح الدقيق للمشكلات([22]) .
الخلاصة :
ان فريقاً للأبحاث بقيادة الدكتور فالح عبد الجبار اشار الى ان المحدد الاقوى الذي حكم تصنيف العلوم الاجتماعية هو دمجها في حقل واحد وقد نتج هذا عن رؤية الى البعد العلمي لهذه الحقول من دون قيمتها المعرفية او النظرية ولذلك كانت الانثروبولوجيا جزءا من علم الاجتماع([23]). مع ذلك كله – اذا أردنا ان نغض النظر عن ملابسات العلاقة بين علم الاجتماع و الانثروبولوجيا في العراق فهل نستطيع ان نقنع انفسنا بان تجربة العراق افرزت اتجاها سوسيو – انثروبولوجيا مميزا؟ .
في الواقع يحتاج هذا السؤال الى وقفة طويلة سنجد لها مساحة للنقاش في الصفات الأتية .
ثالثا : اشكالات تواجه الانثروبولوجيا في العراق :
لاشك ان علوم الانسان والمجتمع في العراق ظهرت منقطعة الى حد كبير عن تراثها الفكري والاسلامي – باستثناء الجهد المهم الذي بذله الدكتور علي الوردي للعودة الى الجذور الخلدونية –وبناء على هذا فإن مسيرتها لم تؤدي حتى الان الى اكتساب هوية مميزة تفي بحق الخصوصية الوطنية. على اننا لكي لا نكون متشائمين نقول ان كل اشكال تواجهه هذه العلوم – ومنها الانثروبولوجيا – قابل للتجاوز وان الفكر النقدي المنتج يستطيع ان يوجد اجراءات وحلول تعدل مسيرة العلم وتنميته منهجيا ونظريا.
1-لعل اول إشكال منهم هو الفصام بين النظري والميداني :
ان هذا الاشكال بالذات يبين ان الانثروبولوجيا في العراق تراجعت الى حد كبير والدليل ان الدكتور شاكر مصطفى سليم الذي قام بدراسة ( الجبايش ) عام 1953 بناءا على اقامة دراسة في قرية الجبايش استغرقت حوالي تسعة اشهر اراد ان يثبت مبدأ مهما له قيمته العلمية والخصوصية للانثروبولوجيا وهو الاقامة الدراسية Fieldwork لمدة لاتقل في العادة عن سنة واحدة وقد تطول الى سنتين او اكثر مؤكدا ان ذلك احد شروط المدارس الحديثة في الانثروبولوجي([24]). وقد حاول الدكتور سليم منذ أواخر عقد الخمسينيات من القرن الماضي ان يعرف طلبة الانثروبولوجيا بأهمية الاقامة الدراسية بمفهومها الحديث معرفا بتجربة برونسلاف مالينوفسكي في جزر تروبرياند وهي جزر صغيرة في الجنوب الشرقي لغينيا الجديدة حيث اقام فيها ذلك العالم مابين عامي 1914 – 1918([25]) .
من المؤسف ان دعوة الدكتور سليم لم تلقَ مايكفي من قوة وعقلانية الاستجابة فظلت معظم الدراسات في الانثروبولوجيا نظرية تستهدف نقل ادبيات الاخرين ولا نكران لحقيقة ان كثيرأ من رسائل الماجستير وخاصة في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي اعتمدت مبدأ الدراسة او الاقامة الحقلية على نحو متفاوت.
كذلك فان تجربة الدكتور علاء الدين جاسم في دراسته لكل من الراشدية وقرية شثاثه, وهما اطروحتاه للماجستير والدكتوراه تبدو مميزة من زاوية الاقامة الدراسية. الا ان الوضع الحالي وهو امتداد لما يقرب من عقدين يظهران الهوة بين التنظير والميدان عميقة ، او ان الدراسات الميدانية تفتقر الى مبدأ الاقامة الدراسية بالصورة النموذجية المطلوبة ولذلك اعتقد ان على الاساتذة الانثروبولوجيا ان يراجعوا وان يقيموا بوضوح وموضوعية مستوى الدراسات الميدانية ومتطلباتها المنهجية والنظرية . ولعل من الانصاف القول ان ظروف المجتمع العراقي – والامنية منها بصورة خاصة – غالبا ماكانت تعطل الاجراءات الميدانية او تحد منها . كذلك فان معظم اساتذة الانثروبولوجيا انشغلوا بالتدريس والبحث النظري وهم في ذلك لايختلفون كثيرا عن اساتذة علم الاجتماع.
2 – ضعف الدور المجتمعي لعالم واستاذ الانثروبولوجيا .
العلم ليس محدودا بقاعة الدرس وفي اعتقادي ان النتاج العلمي – النظري خاصة – للأستاذ الجامعي هو احد معايير تقويم دوره في مجتمعه اذ ان عليه ايضا ان يمارس دوره في مجالات المجتمع المختلفة التي تحتاج الى تخصصه . كان اساتذة علم الاجتماع سباقون للعمل في كثير من دوائر الدولة وخاصة في وزارات مثل العمل والشؤون الاجتماعية والهجرة وحقوق الانسان وغيرها غير اننا لا نجد لأساتذة الانثروبولوجيا مثل هذا الحضور .
يمكن تفسير ذلك من زاويا عديدة لعل أولها : ان مفهوم (الانثروبولوجيا) يبدو غامضا سواء لدى متخذي القرار او لدى عموم المواطنين وهذا يعني – من وجهة الآخر – أن اساتذة الانثروبولوجيا انفسهم لم يبذلوا مايكفي من الجهد للتعريف بعلمهم ففي هذا الحقل لم يظهر (وردي) يحول مادته الى نوع من الثقافة الشعبية .
لقد بقيت الانثروبولوجيا نخبوية ، وحتى حين يعين خريج الانثروبولوجيا في دوائر وزارة العمل مثلا فانه يمارس دور الباحث الاجتماعي الذي لا يختلف عن دور خريج علم الاجتماع او الخدمة الاجتماعية واذا كنا نستطيع ان نشير الى اسماءِ كثيرٍ من اساتذة علم الاجتماع ممن خدموا في دوائر رسمية كباحثين اومستشارين فإننا لانجد الاسماء قليلة لأساتذة أنثروبولوجيين . يلاحظ ان بعض الباحثين يركز على الدور التدريسي وعلى الدور البحثي للأستاذ الاكاديمي لكنه يهمل الاشارة الى الدور المجتمعي ([26]).
3- الموقف غير المشجع للدولة :
ان اي نهضة علمية حقيقة ومؤثرة لايمكن ان تكون نتاج جهود فرد او حزب . بل هي بالضرورة نتاج جهود رسمية لعل في مقدمتها التمويل وايجاد القواعد التشريعية اللازمة والحوافز ومعايير العقاب والثواب. وخلافا لعلوم مثل الاقتصاد والقانون ، والى حد اكبر العلوم الطبيعية نجد ان علوم الانسان والمجتمع عامة و الانثروبولوجيا خاصة لا تحظى بدعم حكومي واضح . ولقد كان لعلم الاجتماع – ومعه بعض العلوم الاخرى كعلم الاجرام والقانون الجنائي – فرصة انشاء مركز وطني للبحوث في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية – الغي في أواسط الثمانينيات – وفي السنوات الاخيرة انشى مركز اخر في الوزارة ذاتها لكنه كما يبدو غير مؤهل .اما الانثروبولوجيا فلم تجد لها مكانا واضحا في هذه المؤسسات ، بل انها حتى في مؤسسة علمية كبرى لم تجد مثل هذا المكان المميز أيضا .
قد يكون هذا جزء من إهمال الدولة العراقية للعلم ([27]).، الا انه ايضا يعكس ضعف مباشرة اساتذة هذا الحقل في اقامة مؤتمرات وندوات والمشاركة في البرامج التلفزيونية والفضائيات.
4 – الافتقار الى المراجعة التقويمية للمنتج الانثروبولوجي :
لم يكتب عن مسيرة الانثروبولوجيا في العراق بقدر ما كتب عن علم الاجتماع على قلته ايضا فلم نجد مراجعة لأطاريح الانثروبولوجيا ( الماجستير والدكتوراه ) يمكن ان تشخص مواطن الخلل المنهجي او المعرفي واذا كنا نجد رسائل للماجستير عن اساتذة علم اجتماع مثل د. حاتم الكعبي و الدكتور عبد الجليل الطاهر الى جانب الكثير الذي كتب عن الوردي فإننا لا نجد سوى اطروحة واحدة عن الدكتور شاكر مصطفى سليم فلم يكتب أحد عن منجز الدكتور قيس النوري أو علاء الدين جاسم أو خالد الجابري. كذلك لم يقم أحد اساتذة الانثروبولوجيا بمراجعة نقدية لتوجهاتها النظرية او لموضوعات الأطاريح التي درست فيها . ان لمثل هذه المراجعة ضرورتها بعد اكثر من ستة عقود من بداية الدرس الانثروبولوجي في جامعة بغداد وبعد اكثر من أربعة عقود من منح درجة الماجستير في الانثروبولوجيا ، اذ انها – اي تلك المراجعة – ستشخص الخلل وترسم خارطة طريق جديدة .
5 : الاشكال المؤسسي :
في العراق اليوم هنالك ما نسميه ( هيمنة سوسيولوجية ). اذ ليس هناك سوى قسم واحد للانثروبولوجيا في الجامعة المستنصرية (كلية الاداب ) . اما في قسم علم الاجتماع بكلية الاداب فان الدراسة تنقسم الى ثلاثة فروع هي : علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية والانثروبولوجيا ابتداءاً من الصف الثالث ، كان القسم يمنح درجتي الماجستير والدكتوراه ، ثم الغيت درجة الدكتوراه لقلة الاساتذة و محدودية التخصصات المتاحه في فروع الانثروبولوجيا حاليا.
ان سؤالا مهما يطرح نفسه اليوم هل نؤسس اقساما مستقلة للانثروبولوجيا ام تبقى على صلتها المؤسسية بعلم الاجتماع ؟
الوجه المؤسسي الآخر ان اساتذة الانثروبولوجيا لم يوفقوا حتى اليوم بتشكيل بيئة اجتماعية مؤسسة لعلاقاتهم المهنية والشخصية مثل (جمعية او رابطة) تمكنهم من ايجاد فرص للحوار والنقاش وطرح مشكلات المجتمع ودور علمهم في ايجاد الحلول لها([28]) .
ان ثنائية : اجتماع / انثرو تنعكس على جهد التدريسيين فهم غالبا يترددون بين العلمين مع ضمور واضح لحدود التخصص .
الجانب الاخر يتعلق بسؤال مهم : ما الادوار المؤسسية التي نطمح ان يقوم بها خريجو حقل الانثروبولوجيا . هل هو التدريس، ام البحث الاجتماعي في مؤسسات الرعاية الاجتماعية او مجرد التوظيف ام المشاركة في انشطة اجتماعيه اخرى( مثل منظمات المجتمع المدني ؟) ان اسئلة مهمة كهذه ينبغي ان تطرح لتحديد وظيفة العلم ومخرجاته الواقعية فليس المهم ان نقبل كذا عدد من الطلبة بل المهم ان نعرف اين تكون مجالات نشاطاتهم كمتخصصين في هذا الحقل .
6 – اشكال ضعف التواصل مع مراكز انتاج المعرفة :
في العالم اليوم كثير من المجلات المتخصصه بالفروع المتعددة للانثروبولوجيا فضلا عن مراكز البحوث الى جانب مايصدر عن المؤتمرات من توجيهات وما يلقى من على منابرها من البحوث وما تشهده من مناقشات لكننا وخاصة بعد عام 1990 حيث خضوع العراق للحصار الدولي الشامل كادت صلتنا العلمية بتلك المراكز ان تنقطع وهذه القطيعة لا تتعلق بالانثروبولوجيا فقط بل تتعداها الى كل علوم الانسان والمجتمع فقد كان الدكتور قيس النوري من اكثر اساتذة الانثروبولوجيا تواصلا مع المراكز العلمية ولم يخلفه احد حتى الان ولعل ذلك هو الذي جعل ادبياتنا فقيرة ، وجعل اكثر الطلبة يكررون عبارات البنائية الوظيفية من دون استيعاب حقيقي لمضامينها ومناهجها ودون احاطة بالتطورات التي شهدتها كذلك يلاحظ المتابع ان مكتباتنا فقيرة وان المجلات العلمية المتخصصة غائبة عن رفوفها ولذا نستطيع القول اننا طوال اكثر من عقدين من الزمن انقطعنا عن مراكز انتاج العلم وان علينا ان نحل هذا الاشكال عن طريق حركة واسعة للترجمة والمشاركة في الدوريات العلمية وكذلك المشاركة في المؤتمرات المهمة وتمكين الطلبة من الاتصال وزيارة مراكز البحث العلمي ذات الصلة .
7 – الاشكال المعرفي :
هل للانثروبولوجيا في العراق هوية اليوم ؟.
اعتقد ان مسيرة هذا العلم في العراق افصحت عن ثلاثة توجهات او منظورات غير منقطعة عن بعضها الأول الاتجاه الذي تبناه الدكتور شاكر مصطفى سليم وهو البنائية الوظيفية (البريطانية) والثاني الاتجاه الذي تبناه الدكتور قيس النوري وهو الانثروبولوجيا الحضارية وان كان في احد كتبه يقول انه (يتبنى مفهوم البناء الاجتماعي بشكل غير متطرف كأساس مفيد لعرض الظواهر المختلفة وتحليلها في المجتمع بوصفها ترتبط وتتبادل التأثير فيما بينها )([29]). الا انه يعود فيقول انه ( لا يوافق على موقف الوظيفيين الذين احالوا المنهج الوظيفي الى فلسفة ايديولوجية متعصبه مفتقرة الى مقومات المرونة والاجتهاد الفكري ) وتفهم بالنتيجة ان د.قيس النوري يرى ضرورة اللجوء الى منهج الديناميكية الحضارية ([30])
الاتجاه الثالث يمثله الدكتور علاء الدين جاسم وهو الاتجاه السوسيو- انثروبولوجي . اذ ان الدكتور يتكلم عن (علم اجتماع المقارن؟) قائلا ان دراسة النظرية في علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا (علم الاجتماع المقارن؟) شرط ضروري لنمو المعرفة السوسيولوجية التي تمكننا من استقراء الواقع وتحليل العلاقات والنظم والانساق والظواهر ([31]) .
ان الاتجاه السوسيو – انثروبولوجي يسد النقص الذي يمكن ان يظهر من حقلي علم الاجتماع وعلم الانسان. فهناك قضايا لا يستطيع اي منهما لوحده من انتظامها وعليه فان من المهم تجاوز ثنائية (الحقلين) الى حقل واحد فمثلا في اتجاه سوسيو – انثروبولوجي في دراسة المجتمع ([32])، ان البحث عن هوية معرفية لا يتطلب بالضرورة الالتزام بواحد من الاتجاهات المشار اليها وخاصة في ضوء التحولات المعاصرة للانثروبولوجيا بل قد يتطلب الامر تشكيل رؤية مرجعية مركبة تأخذ في اعتبارها تداخل مختلف الحقول والحاجة الى تفسيرات متعددة للظواهر المختلفة .
الخـاتمـة :
من المستحيل قراءة مسيرة علم الانثروبولوجيا في العراق في ضوء المتاح من الوقت لهذه الدراسة ولذلك آثرنا ان نبدأ برؤية عامة تعكس حقيقة ان العناوين التي تزدحم بها ادبيات الانثروبولوجيا تعبر عن درجة من الفوضى الاصلاحية و غموض الاطر المرجعية التي ربما تجاوزتها الدوائر العلمية في بعض المجتمعات الا ان ظلالها القاتمة مازالت ملقاة على هوية العلم في العراق.
ان مراجعة تلك المسيرة تطلبت العودة الى التاريخ الذي ابتدأ حوالي منتصف خمسينيات القرن الماضي مقترنا بجهود رواد مثل الدكتور علي الوردي و الدكتور حاتم الكعبي و الدكتور شاكر مصطفى سليم وقد كان للأخير فضل البدء بأولى خطوات مسيرة العلم من خلال منجزات علمية مهمة كان اولها اطروحته الجبايش ثم القاموس المهم الذي اصدرته له جامعة الكويت.
لم يكن من الانصاف ان نتغاضى عن جهود استاذين كبيرين هما الدكتور قيس النوري والدكتور علاء الدين جاسم اذ انه معظم الانثروبولوجيين العاملين اليوم هم من الذين تتلمذوا على ايديهما في قسم (علم الاجتماع الأم) الذي مازال حتى اللحظه الحاضنة الرئيسة للانثروبولوجيا في العراق رغم تأسيس قسم للانثروبولوجيا في كلية الاداب بالجامعة المستنصرية.
ان تأسيس ذلك القسم وما واجهته الدراسة الانثروبولوجية في قسم علم الاجتماع بكلية الاداب جامعة بغداد جعلنا نطرح اسئله ضرورية عن علاقة الانثروبولوجيا بعلم الاجتماع وما اذا كان من المفيد انقطاعهما عن بعضها او توأمتهما كحقلين يكمل أحدهما الاخر كذلك مررنا على ماأسميناه الاشكاليات التي تعيق الدرس الانثروبولوجي في العراق نأمل ان تكون الدراسة مفيدة كمادة للحوار والمناقشة وليس على اساس ان الاراء التي وردت فيها من المسلمات . شاكرين لبيت الحكمة مبادرته المهمة ودوره في تطوير العلوم الاجتماعية في بلد يحتاجها اشد الاحتياج.
الهوامش
[1]). د. قيس النوري : مدارس الانثروبولوجيا ، بغداد ، جامعة بغداد ، 1991، ص15
[2]). د. قيس النوري : طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعيه ، ج1، بغداد ، مطبعة اسعد ، 1970، ص5.
[3]). د.شاكر مصطفى سليم : محاضرات في الانثروبولوجي ، بغداد ، مطبعة العاني ، 1959، ص32.
[4]). محمد الخطيب : الانثروبولوجيا الثقافية ، دمشق ، علاء الدين ، 2008، ص11.
[5]) . د. شاكر مصطفى سليم : قاموس الانثروبولوجيا ، الكويت ، جامعة الكويت ، 1981 ، ص56.
[6]). الزهرة ابراهيم : الانثروبولوجيا والانثروبولوجيا الثقافية ، دمشق ، 2009، ص19-20 و ص15.
([7]. د.قيس النوري : اتجاهات انثروبولوجية معاصرة في منهج بورديو ، دراسة في مجلة مقابسات ، بغداد ، جمعية النهوض الفكري، العدد(1) تشرين اول ، 2005 ص183 ومابعدها.
[8].) د. متعب مناف : الاثنولوجيا والقرن العشرين والقادم ، دراسة في مجلة مقابسات ، بغداد، جمعية النهوض الفكري ، العددان (11-12) 2009 ، ص2.
([9]. د. شاكر مصطفى سليم : أهل الجبايش ، دراسة من كتاب محاضرات في الانثروبولوجي ، بغداد، مطبعة العاني 1959 ، ص 5.
([10] مصطفى تيلوين : مدخل عام في الانثروبولوجيا ، الجزائر العاصمة ، منشورات الاختلاف ، 2011 – ص 33-35 .
[11]). د. شحاتة صيام : علم اجتماع المعرفة وصراع التأويلات من العقلانية الى جدل الذات ، القاهرة ، دار ميريت ، 2005 ، ص19
[12]) عبد الفتاح ابراهيم – دراسات في علم الاجتماع ، بغداد ، مطبعة الرابطة ، 1950 ، صفحات متعددة.
[13]) محمد عيسى الخاقاني ، مئة عام مع الوردي ، لندن ، دار الحكمة ، 2013 ، ص64-65 .
[14]) عبد الرزاق الهلالي ، معجم العراق ، بغداد ، مطبعة النجاح ، 1953 – ص260.
[15]). راجع دراسة اياد القزاز:
El-Qazzaz A, Notes on the state of sociology in Iraq – the national review of social sciences –No.2 – V.7 1970-P.177
[16]) د. لاهاي عبد الحسين : مستقبل علم الاجتماع في العراق ، التحديات وآفاق الحل ، دراسة في مجلة اضافات ، صدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع ، العدد (25) شتاء ، 2014 ، ص19
[17]) المصدر نفسه ، ص18.
[18]). Gould J and kolb W.L , A Dictionary of the Social Sciences N.Y. the free press – 1964-p.646
[19]) ينظر على سبيل المثال ، ترجمة الدكتورة لاهاي عبد الحسين لموضوع (اعادة بناء تاريخ النظرية الانثروبولوجيه) ، توماس أ.ح. ايركسون وفين أس نيلسون – مجلة اضافات العدد ( 22)ربيع 2013 .
وينظر ايضا : د. متعب مناف – الاثنوبولوجيا والقرن العشرين – مجلة مقابسات – العددان (11-12) – 2009.
[20]) وينظر : د. خالد حنتوش : النتاج البحثي في قسم الام لعلم الاجتماع في العراق ، دراسة تحليلية احصائية لما انتج في دراسات العليا 1972 – 2011 قسم الاجتماع ، 2012 ، ص21 وما بعدها.
([21] د. حميد الهاشمي : على الوردي والتأصيل الخلدوني لعلم الاجتماع في الوطن العربي ، دارسة في مجلة : اضافات ، بيروت ، الجمعية العربية لعلم الاجتماع ، العدد (19) – صيف 2012 ، ص41-42.
[22]) فريق ابحاث ، وضع العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية ، مسح – تقييم – افاق التطور معهد الدراسات الاستراتيجية ، اربيل/بيروت 2007 ، ص7-8.
[23]) المصدر نفسه ، ص45.
([24] د. شاكر مصطفى سليم : الجبايش ، دراسة انثروبولوجية لقرية في اهوار العراق ، بغداد مطبعة العاني ، 1970 ، ص (ز)
([25] د. شاكر مصطفى سليم : علم الانثروبولوجي ، تأريخه و مدارسه ، دراسة في كتابه المعنون : محاضرات في الانثروبولوجي ، بمصدر سابق – ص44-45.
([26] وينظر مثلا : د. معن خليل عمر – رواد علم الاجتماع في العراق – بغداد – دار الشؤون الثقافيه – 1990 ص9-10.
([27] يراجع بشأن هذا الموضوع ، فريق ابحاث ، وضع العلوم الاجتماعيه ، مصدر سابق ، ص136-137.
([28]عبد الحكيم خالد الحسبان : الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الاردن – دراسة في : احمد موسى بدوي واخرون – مستقبل العلوم الاجتماعيه في الوطن العربي ، بيروت مركز دراسات الوحدة العربيه ، 2014 ، ص241.
([29]د. قيس النوري : طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعيه ، ج1 ، مصدر السابق ، ص ب .
([31] د. علاء الدين جاسم البياتي : علم الاجتماع بين النظرية والتطبيق ، بغداد دار التربية 1975، ص5 .
([32] د. محمد عبده محجوب ، مقدمة في الاتجاه السوسيو – انثروبولوجي ، الاسكندرية ، الهيئه المصرية العامة للكتاب ، 1977، المقدمة.
قائمة المراجع
- الزهرة ابراهيم – الانثروبولوجيا الثقافية – دمشق – الناياء – 2009
- اياد القزاز EL-Qazzaz,A – Notes on the state of sociology in Iraq – nati > Rev . of soc. sciences – No.2-V.7-1977
- د. حميد الهاشمي – علي الوردي و التأصيل الخلدوني لعلم الاجتماع في الوطن العربي – مجلة اضافات – تصدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع – العدد (19) صيف 2012 .
- د. خالد حنتوش – النتاج البحثي في القسم الأم لعلم الاجتماع – قسم الاجتماع 2012 .
- د. شاكر مصطفى سليم – محاضرات في الانثروبولوجي – بغداد ، مطبعة العاني 1959 .
- د. شاكر مصطفى سليم – الجبايش – دراسة انثروبولوجية لقرية قي اهوار العراق – بغداد – مطبعة العاني – 1970.
- د. شاكر مصطفى سليم – قاموس الانثروبولوجي – الكويت – 1981 .
- شحاتة صيام – علم اجتماع المعرفة وصراع التأويلات – القاهرة – دار ميريت 2005 .
- عبد الرزاق الهلالي – معجم العراق – بغداد مطبعة النجاح – 1953 .
- عبد الفتاح ابراهيم – دراسات في علم الاجتماع – بغداد – مطبعة الرابطة 1950 .
- د. علاء الدين جاسم – علم الاجتماع بين النظرية والتطبيق – بغداد – دار التربيه – 1975 .
- فريق ابحاث – وضع العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية – معهد الدراسات
الاستراتيجية – اربيل / بيروت / 2007 . - د. قيس النوري – مدارس الانثروبولوجيا- بغداد جامعة بغداد 1991 .
- د. قيس النوري – طبيعة المجتمع البشري في ضوء الانثروبولوجية الاجتماعية – ج1 – بغداد – مطبعة اسعد – 1971 .
- د. قيس النوري – اتجاهات انثروبولوجية معاصرة – قراءة في منهج بورديو – دراسة في مجلة مقابسات – بغداد – جمعية النهوض الفكري العدد (1) تشرين اول – 2005 .
- د. لاهاي عبد الحسين – مستقبل علم الاجتماع في العراق – مجلة اضافات– العدد (25) – شتاء 2014 .
- د. متعب مناف – الاثنولوجيا والقرن العشرين والقادم – مجلة مقابسات – العددان (11-12) 2009 .
- محمد الخطيب – الانثروبولوجيا الثقافية – دمشق – علاء الدين -2008 .
- مصطفى تيلوين – مدخل عام في الانثروبولوجيا – الجزائر – منشورات الاختلاف – 2011 .
- د. معن خليل عمر – رواد علم الاجتماع في العراق – بغداد – دار الشؤون الثقافية 1990.
*استاذ علم الاجتماع – الجامعة المستنصرية
المصدر: مجلة دراسات اجتماعية، 14