إيوجينو باربا من لحام إلى مؤسس أنثروبولوجيا المسرح
عواد علي
في العام 1961 سافر المسرحي الإيطالي إيوجينو باربا إلى بولندا للدراسة في مدرسة مسرح الدولة، لكنه ترك الدراسة بعد عام واحد وانضم إلى مختبر المخرج البولندي الشهير جيرزي غروتوفسكي، صاحب اتجاه المسرح الفقير في مدينة “غدانسك”، ومكث يعمل معه ثلاث سنوات.
جذب المسرح الشرقي التقليدي، بتقنياته وجمالياته وطقوسه، إيوجينو باربا، مثلما جذب أقرانه المسرحيين الغربيين: مايرهولد، أنطونان آرتو، لوينيه بو، برتولد بريشت، غروتوفسكي، بيتر بروك، وريتشارد ششنر.
وجاء اهتمامه بهذا المسرح، بتأثير من غروتوفسكي الذي شكلت رقصات الكاثاكالي واليوغا قاعدة لتمارينه “السايكوفيزيقية” على مدى سنوات عديدة، لكنه اعترف لاحقا بأن الجماليات الفلسفية في المسرح الشرقي غريبة تماما عنه.
وبعد خمس سنوات من إنتاجه مسرحية “شاكونتالا”، عام 1960، للشاعر والكاتب المسرحي الهندي كاليداسا (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) لاحظ أن الطبيعة غير المرنة للعلامات الهيروغليفية في المسرح الهندي، قد منعت الممثلين الغربيين من فهمهم لأدوارهم.
وللتعرّف على هذا المسرح زار باربا الهند عام 1963، واطلع هناك على مسرح “كاثاكالي” (معناه الحركة التي تحكي قصة، أي الحكاية الممثلة)، وهو نوع من المسرح الراقص معروف في الجنوب الغربي للهند وله أصول دينية، ويُعد خلاصة تجمع بين أنواع الرقص الديني والرقص الشعبي الذي كان معروفا في كل مقاطعة من المقاطعات، ويشكل نموذجا للمسرح الشرقي التقليدي.
وحفّزه إعجابه بهذا المسرح إلى كتابة مقال طويل عنه نُشر في إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة والدنمارك، وذلك ضمن توجهه في البحث المسرحي الذي عرف بـ”أنثروبولوجيا المسرح”، كما دونه في كتابه “مسيرة المعاكسين”، وغيره من الكتب.
مؤلفات غزيرة
عندما عاد باربا إلى أوسلو عام 1964، أراد أن يصبح مديرا للمسرح المحترف، لكن بسبب كونه أجنبيا لم يكن موضع ترحيب في هذا المسرح، فتوثقت علاقته مع الكاتب المسرحي النرويجي ينس بجرنيبوي وجمع عددا من المسرحيين الشبان الذين لم يجتازوا اختبار القبول في مدرسة مسرح الدولة بأوسلو، وكوّن منهم فرقة اسمها “مسرح أودين”.
وأخذ يتدرب معهم في ملجأ مضاد للغارات الجوية، وعرضت الفرقة تجاربها في النرويج والسويد وفنلندا والدنمارك. ودفعت نجاحاتها بلدية بلدة هولستيبرو الدنماركية إلى دعوتها في وقت لاحق لإنشاء مختبر للمسرح، وقدمت لها مزرعة قديمة ومبلغا صغيرا من المال، وخلال اثنين وأربعين عاما بلغ عدد إنتاجات الفرقة 65 إنتاجا.
وأصدر باربا مجموعة مؤلفات تُرجمت إلى لغات عديدة من بينها العربية، أبرزها “زورق من الورق”، “المسرح: العزلة- الحرفة- والثورة”، “أرض الرماد والماس”، “26 رسالة من جيرزي غروتوفسكي إلى إيوجينو باربا”، “سر فن الأداء”، “معجم المسرح الأنثروبولوجي”، “نحو مسرح ثالث”، “مسيرة المعاكسين: أنثروبولوجيا المسرح”، “ما وراء الجزر العائمة”، “الإخراج والدراماتورجيا”، و”حرق البيت”. وجاءت كل هذه المؤلفات كمدونات لتجارب باربا وهو يؤسس لمسرحه الثالث الذي عدّه المقترح البديل للمسرح التقليدي والمسرح الطليعي.
في العام 1979 أسس باربا المدرسة الدولية لأنثروبولوجيا المسرح، ومُنح الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات في بولندا وكوبا وإنكلترا. وحصل على جوائز عديدة منها: جائزة الأوسكار الدانماركية، جائزة نقاد المسرح في المكسيك، جائزة بيرانديللو، جائزة سنينغ من جامعة كوبنهاغن، وجائزة أكاديمية الفنون المسرحية في هونغ كونغ.
يعرّف باربا أنثروبولوجيا المسرح بأنها “دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حالة العرض المسرحي، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم بالحياة اليومية”، ذلك لأن الممثل يستخدم جسده في الحياة اليومية المعتادة بنوع من التقنية المشروطة بثقافته ووضعه الاجتماعي وطبيعة مهنته، في حين يستخدمه في العرض المسرحي بطريقـــة أخرى، وتقنية مختلفة كليا.
ويسمي باربا النوع الثاني من الاستخدام بالتقنية الخارجة عن المعتاد، ويرى أن المسافة التي تفصل بين التقنيتين في الغرب غالبا ما تكون غير واضحة وغير مدركة، في حين يوجد اختلاف واضح بينهما في الهند مقرّ به وله اصطلاحاته: “لوكادهارمي” و”تاتيادهامي”.
ويكمن الاختلاف في أن التقنية اليومية تتبع عادة مبدأ بذل الجهد الضئيل، أي بمعنى الحصول على النتيجة القصوى من خلال توظيف أدنى حدّ من الطاقة. لكن في التقنية الخارجة عن المعتاد يحدث العكس، إذ تعتمد على البذخ في الطاقة، لذلك يعبّر المتلقون في المسرح الياباني عن شكرهم للممثلين في نهاية العرض بعبارة “أنت متعب”، إشارة منهم إلى أن الممثل الذي أثار اهتمامهم وأمتعهم وترك تأثيره فيهم متعب لأنه لم يوفر شيئا من طاقته، بل فاض في استخدامها.
رغم ارتباط ظاهرة أنثروبولوجيا المسرح بـباربا، فإن ثمة من يذهب إلى أنها نشأت وتطورت، جنبا إلى جنب مع الأنثروبولوجيا بوصفها علما، في أوروبا وأميركا، نتيجة لأزمة ثقافية وأخلاقية لا يمكن فصلها عن التطور الحضاري وظهور الاستعمار، فقد دفعت هذه الأزمة باتجاه البحث عما هو أصيل ونقي وبدائي إما في أصول الحضارة الغربية في بداية تشكلها، أو في الحضارات الأخرى.
أزمة ثقافية وأخلاقية
انطلاقا من هواجس اكتشاف الآخر، والعودة إلى الأصول والأصالة والمثاقفة قدمت تساؤلات حول ثوابت الجماليات الغربية، وتشكلت نواة للانفتاح الثقافي بين الشعوب، ومحاولات لتغذية المسارح المختلفة بتجارب الآخرين.
ومع ذلك يمكن القول، تناغما مع أطروحات إدوارد سعيد حول الاستشراق، ومع مقاربات الناقد الهندي روستم بهاروشا، إن اهتمامات بعض المسرحيين الغربيين، ومنهم باربا، بالمسرح الشرقي تستند إلى منظور استشراقي يزيّف، في العديد من الحالات، الجوهر الروحي والفلسفي للتراث الذي يشكل مرجعا لذلك المسرح.
بل إن بعض تجارب باربا تقوم على نوع من “الهجنة” التي تتناغم وسياق العولمة، كما في عرضه “إيغو فاوست”، مثلا، الذي وظّف فيه عددا من الفرق الموسيقية التي ترافق الأداء بعزف حي يمزج بين الأنماط الموسيقية الهندية واليابانية، وتستخدم أحيانا قرع الطبول الأفريقية، بذريعة أنها تمثل مقترحا لمسرح كوني تنصهر فيه الهويات الفرعية والأجناس الفنية الممثلة لشعوب مختلفة، ويشكّل نوعا من التقاء الثقافات وتمازجها. وهو في الحقيقة مسرح يخفي تحت قشرته الخارجية نزعة مركزية غربية، ومنظورا ثقافيا كولونياليا.
المصدر: العرب
https://t.ly/0JxKl