موقع أرنتروبوس

إبستيمة التفسير

epis_2

يقول أصدقاؤنا أن إمكانية التفسير ممكنة ! وهذا توقع إبستيمولوجي مبني على أن هناك حقيقة موضوعية يمكن للعقل عبر الحس تناولها كما هي !

إذا إفترضنا أن الواقع الخارجي موجود ، وإمكانية التحصيل المعرفي منه وعنه متوفرة عبر الوسائط الحسية ، فهذا يعني أن القدرة على التوصيف هي الممكنة !

وبتعبيرات أصدقائنا في العلوم الإجتماعية/الإنسانيات توصيف الظاهرة هو البداية ، وإعتباره المنتهى لن يقدم لنا جديداً ! بل سيحوّل العلم (علم أصدقائنا الخفيف بالطبع) إلى قراءة عميقة يمكن للعامي أن يقوم بها ! فلا معنى عندها للتخصص !

تخصصنا – يقولون – هو من يقدم تفسيراً للبنية الكامنة ! هو الذي يقدم تحليلاً للمنظومة الذهنية والمجتمعية !

هذا ما يقوله أصدقاؤنا … ويلوكون خبرياتهم على أساسه … ويبرّرون أبحاثهم ودرجاتهم العلمية ، على أساس أنهم الأجدر في قيادة الشعب نحو فهم الكامن واللاواعي في بنيته الذهنية وشخصيته الوطنية !

قس على هذا ، الخبريات التي تدور حول الجندر مثلاً !

لقد قرأت منذ فترة عدة أبحاث «حديثة» حول موضوع الجندر … فلم أجد فيها إلا تأكيده كسردية ، يخوض فيها مؤلفوها وُحُول ما هو موجود ، ويُسقطون عبر نظريات منجزة «هناك» تفسيراتهم حولها ! ثم … لا شيء !

العنف ضد المرأة ، التمايز الجندري ، المنظومة البطركية !

و… لا شيء !

هم يؤكدون عبر دراسات ميدانية أن التمايز والإختلاف موجود وواقعي … هو موجود وواقعي لأن لدينا القدرة على التحقق الملموس المحسوس له !

الحوار السابق ليس وهمياً ! هو واقع من يحاول أن يسأل … لذا أسأل :

  1. هل الدراسة الميدانية تستقي وقائعها من الميدان أم من فرضيات مسبقة وضعها الباحث عن الميدان ؟!
  2. هل تشرّب الباحث القراءات النسوية قبل الميدان أم بعده ؟!
  3. هل يعرف باحثنا ما تريده النساء ؟ وما يريده الرجال ؟! دون أن يدّعي مقدرته العجيبة على القيادة ، وعلى إستبطان مكامن رغباتهم دون درايتهم بها !

هو يعتبر نفسه «تنويرياً» يعلم ما لا يعلمون ، وعلى هذا الأساس ينصّب نفسه حامياً لهن/لهم ، ويقدم أفكاره كطوق نجاة وحيد !

صديقنا/أصدقاؤنا يُسقطون على مجتمعهم ما يظنونه الأفضل له ! دون أن يسألوا أنفسهم أفضل لمن ؟! وأفضل لماذا ؟ وهل أثبتت التجربة صحة تفضيلاتهم ؟ وأساس المعايرة ذاته ، كيف تم إعتماده ؟

أوضّح : إذا قلتَ أن التجربة الفلانية بالبلد العلاني نجحت ، فهل قدرت على الإحاطة بكافة العناصر ؟ وإذا قلت أن هذا ما قام به «الغرب» ونجحت تجربته، فهل «الغرب» واحد أم متعدد ؟ وما هي الدولة «الغربية» التي تعاير بلدك معها ؟ وهل درستها أنت …؟ أم أن هذا ما يقوله الآخر عن نفسه ؟! وهل تثق بالتغيير المبني على أقوال الآخر الذي يُضمر لك كـ«مستعمَرة» سابقة ، كل الود والمحبة والرغبة الحقيقية في تقرير مصيرك الخاص !

وأوضّح : أنت في قراءتك الجندرية لا تختبر واقعاً معرفياً خاصاً ، بل تُسقط واقعاً سردياً نظرياً ، فتلوي معه وعبره وله حقيقة المجتمع !

مجموع الدراسات التي إطلعتُ عليها ، لم تعطني جديداً ! فما هو الجديد الذي أبحث عنه ؟!

ببساطة ، أريد توصيفاً موضوعياً لما نتكلم عنه ! وأريد حلاً معقولاً ومقبولاً وضمن مهلة زمنية … ولا أريد تفسيرات أو تحليلات لأنها ببساطة غير ممكنة!

وهنا أعود إلى ما بدأت به ، التفسير الذي يظن أصدقاؤنا أنه ممكن ، وناجز…

«مالينوفسكي» عندما ذهب في رحلته إلى جزر التروبرياند ، وكتب ما كتبه حولها ، جل ما فعله كان وصف وقائع «غريبة» شاهدها ! وعندما «فسّر» نظام «الكولا» ، إعتمد على إسقاطات معرفية يخضع هو لها ! لا على ما يفهمه ويعايشه أصحاب الجزر حول مجتمعهم وعن حياتهم !

هل من معنى لتفسيراته ؟! أم أنها «تقشير» أعمق فتوصيف لعملية تبادل ، ثم إعطاءها إسماً ! هذا دون أن نخوض في عنصريته التي تُسقط حتى موضوعية توصيفاته !

ما هو التفسير إذن ؟

عندما نشرب شاياً محلى ، نصفه بأنه حلو المذاق ! ثم نقول أن علة الحلاوة هي السكر مثلاً ! ثم نصف السكر بأنه يحلّي الشاي (وغيره) ! لكن هل يمكن تفسير لماذا السكر حلو ؟! سيتنطّع كيميائي بالقول أن التركيبة الفلانية هي التي تعطي الطعم الحلو ، وعلى أساسها قدرنا على تشكيل مركبات مصنعة مُحَلِّية . هذا تفسير أم توصيف ؟!

هو توصيف على درجة أعمق ، فقط !

السؤال لماذا السكر حلو ؟ لا يمكن الإجابة عليه بالمركب الكيميائي ! لأننا سنتناسل منه سؤالاً آخراً ولماذا هذه التركيبة تعطي مذاقاً حلواً …؟!

العلم «الصلب» هنا ، يقول : لا شأن لي … هذا بحث فلسفي ! فلماذا يظن العلم «الخفيف» أنه قادر على التفسير ؟!

طيب … سيهتاج أصدقاؤنا ويقولون : وهل تدّعي الفلسفة إمكانية الإجابة…؟!

لكن هذا .. حديث آخر …




ملاحظة : نشرتها مسبقاً على مدونتي على هذا الرابط .

Exit mobile version